وذلك يعني أنهم قد حصلوا على الطهارة التامة بالفعل، فاستحقوا منه هذه العناية التامة وهذا التكريم العظيم فاختصاصهم بهذه العناية الإلهية يتضمن إخباراً صادقاً وشهادة إلهية(1) بأنهم حاصلون على مزية الطهر، ونفي الرجس، دون كل من عداهم، إلى درجة العصمة التي صرح بها الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) ـ مستشهداً بهذه الآية «آية التطهير» بالذات حيث قال: «فأنا وأهل بيتي مطهرون من الذنوب»(2).
وفي دعاء عرفة يقول الإمام زين العابدين (عليه السلام): «وطهرتهم من الرجس والدنس تطهيراً بإرادتك، وجعلتهم الوسيلة»(3).
وكلام الأئمة (عليهم السلام) في أن الله تعالى قد أذهب الرجس عن «أهل البيت» وطهرهم تطهيراً فعلاً كثير جداً، لا مجال لاستقصائه، فراجع أدعيتهم، ومجادلاتهم مع المنكرين لفضائلهم وغيرها(4).
____________
(1) وقد نص على أنها تضمنت شهادة إلهية بالطهارة أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطابه لأبي بكر في أمر فدك فراجع: علل الشرايع ج1 ص191 والاحتجاج للطبرسي ج1 ص123 وتفسير القمي ج2 ص156 و157.
(2) ستأتي مصادر هذه الحديث في أواخر هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
(3) راجع الصحيفة السجادية الدعاء رقم47.
(4) راجع: آية التطهير في أحاديث الفريقين، المجلد الأول والثاني.
التطهير لا يشمل النساء:
وبعد: وقد اتضح من جميع ما قدمناه أن آية التطهير لا تشمل زوجات رسول الله ولا تنطبق إلا على أهل الكساء، إذ انها قد دلت على عصمة «أهل البيت» (عليهم السلام) من كل ذنب، والفقرات المتعلقة بنساء النبي (صلى الله عليه وآله)، قد قررت إمكان صدور الذنب منهن.
بل وتوقع وقوعه من بعضهن أيضاً، كما ربما يشير إليه الوعيد بمضاعفة العذاب ضعفين، وقوله تعالى: (لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ) ثم علق ذلك على التقوى فقال: (إِنِ اتَّقَيْتُنَّ) وأوضح من ذلك وأقربه إلى التوبة، قوله تعالى: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ).. وهي الآية التي كان المسلمون يواجهون بها عائشة حين خرجت لحرب علي (عليه السلام).
ولبيان ما نرمي إليه في توضيح المراد من الآية، نقول:
أن كلمة «إنما» تثبت ما نفته «ليس» عند الزجاج وغيره، كقوله تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ)، ومتعلق التطهير، وهو الرجس، مطلق محلى بـ «أل الجنسية» فالآية تفيد نفي ماهية جنس الرجس بنحو العام الاستيعابي المجموعي عن «أهل البيت».
كما أن المقام مقام تشريف وتكريم، ويقصد فيه التأكيد التام، ولأجل ذلك نراه تعالى قد نص على التطهير بعد ذكره إذهاب الرجس، مصدّراً بأداة الحصر، ثم أكده بالمصدر الذي هو مفعول مطلق، وهو كلمة «تطهيراً»
كل ذلك ليفيد ـ على حد تعبير السمهودي: أن إرادته تعالى، منحصرة على تطهيرهم، ثم أكده بما يدل على أن طهارتهم طهارة كاملة، وفي أعلى مراتب الطهارة(1).
وكل ما ذكرناه لا يتناسب مع القول بأن الإرادة في الآية المتعلقة بإذهاب الرجس مجرد إرادة تشريعية قد دل عليها بمفهوم الموافقة حسبما تقدم بيانه، فيكون المعنى أن الله سبحانه يريد من «أهل البيت» تشريعاً أن لا يفعلوا ما فيه رجس والسبب في أن ذلك لا يتناسب مع ما ذكرناه هو: أن الله سبحانه وتعالى يريد للبشر جميعاً أن يعملوا بالتكاليف والأحكام، ولا يرضى منهم بالتخلف ولو في مورد واحد، ولا ينحصر ذلك في زوجات النبي (صلى الله عليه وآله)، ولا في «أهل البيت» (عليهم السلام)، فلا يبقى مبرر لهذا الحصر، وذلك التأكيد، ولا معنى للتشريف والتكريم، وإفادة امتيازهم عن كل احد، بأمرٍ لا اختصاص لهم به.
ولأجل ذلك نجد عدداً من العلماء، قد قال: إن الإرادة في آية التطهير هي إرادة تكوينية، يستحيل انفكاكها عن تحقق المراد، فيستحيل لحوق الرجس بهم، وانفكاك الطهارة عنهم(2).
____________
(1) راجع نص عبارة السمهودي في ينابيع المودة ص109.
(2) راجع في كون الإرادة تكوينية، وغير ذلك من خصوصيات ذكرناها: متشابه القرآن ومختلفه ج2 ص52 والتبيان ج8 ص308 ومجمع البيان ج8 ص357
=>
ونحن نوافقهم على ذلك ولكننا نخالفهم في قولهم بأن الإرادة تكوينية..
توضيح حول اختيارية العصمة:
وبعد أن اتضح: أن الإرادة الملحوظة في الآية أولاً وبالذات والمصرح بها بكلمة «يريد»، هي الإرادة التشريعية، ولكنها منبثقة عن إرادة أخرى تكوينية متعلقة بنفس التطهير لـ«أهل البيت» (عليهم السلام)، والتي ينتج عنها حقيقة: أنهم (عليهم السلام) معصومون من الذنوب بالفعل ـ نعم بعد وضوح ذلك ـ فإن السؤال الذي يلح بالإجابة عليه هنا هو: هل هذه العصمة اختيارية؟ أم أنها مخلوقة فيهم، بصورة جبرية! بحيث لا يمكنهم التخلف عن الخير، ولا التصدي لفعل الشر تكويناً؟!.
والجواب:
إنه لا شك في أن العصمة من الذنب وغيره(1) اختيارية، وليس فيها
____________
<=
والبحار ج35 ص233 وتأويل الآيات الظاهرة ج2 ص456 والأصول العامة للفقه المقارن ص149 و150.
(1) قد أوضحنا في كتابنا الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)، بعد الحديث عن غزوة بدر: أن العصمة عن السهو والخطأ والنسيان اختيارية أيضاً، فضلاً عن العصمة عن الذنوب والقبائح.
إن الله تعالى هو الذي يفيض الوجود على الناس، وعلى أفعالهم ولكن العباد هم الذين يختارون أفعالهم ويبادرون إليها. والله لا يبخل بإفاضة الوجود عليهم وعليها.
فآية التطهير تفيد:
أنه تعالى قد علم أن الأئمة لا يختارون إلا ما شرعه الله ويرضاه.
وذلك بسبب ما زودهم الله تعالى به من استعدادات ذاتية، وملكات نفسانية، وتوفيقات إلهية، وإمدادات غيبية. وبسبب أن عقولهم راجحة وفطرتهم معتدلة، وميزاتهم متوازنة وبسبب معرفتهم بما هو حق وباطل، وبما هو حسن وقبيح، بجلال الله وعظمته، وقدرته وسائر صفاته جل وعلا، نعم بسبب ذلك كله يسعون إلى نيل الكمالات، وإلى الحصول على أسمى الدرجات، والله لا يبخل عليهم لتنزه ساحته عن البخل، فيفيض عليهم من نعمه ويغمرهم بفيض كرمه على قاعدة:
(وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ)(1).
(وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ
____________
(1) سورة محمد (صلى الله عليه وآله)، الآية /17.
إذن، فالله سبحانه إذا كان يعلم: أنهم لا يختارون، إلا ما هو حسن وجميل، وما هو حق، وصلاح وفلاح، وأنه سوف يستجيب لإرادتهم تلك باستمرار ولن تتعلق إرادته التكوينية إلا بهذا النوع من الأفعال المرضية، والمحبوبة له تعالى، فيصح أن يخبرنا تعالى ـ بواسطة مفهوم الموافقة في الآية الكريمة، كما تقدم ـ عن أنه سوف لن يريد بالإرادة التكوينية إلا إذهاب الرجس والتطهير لهم.
تماماً كما هو الحال في الأنبياء الذين هم معصومون أيضاً، فإن الله لا يريد بالإرادة التكوينية إلا ما يختارونه هم.. وهم لا يختارون إلا ما هو خير وصلاح، وفلاح، ونجاح.
والسر في عدم اختيارهم إلا ما شرعه الله ويرضاه، أن الإنسان حيث يكون على درجة من الخلوص والصفاء، لم تنجسه الجاهلية بأنجاسها، ولم يرث عن سلفه إلا الخصال الحميدة، والمزايا الفريدة، وقد تهيأ له أن يتربى خير تربية، وحصل على أفضل المزايا الأخلاقية والإنسانية، وكان على درجة عالية من التعقل والوعي، والمعرفة بالله، وبشرائعه وأحكامه، مع سلامة في الفطرة، وتوازن في المزايا، ومع قوة في الإرادة، فإنه سوف لا يفكر في الإقدام على أي قبيح. بل هو سوف ينفر من ذلك، ويتأذى منه، مع أن له
____________
(1) سورة العنكبوت، الآية69.
ولكنه حيث يراه منافياً لإنسانيته، وموجباً للنقص والتلاشي لكمالاته وخصائص شخصيته؛ فإنه لا يقدم على ارتكاب ذلك الأمر القبيح مهما كانت الظروف، وأياً كانت الأحوال، تماماً كما (وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً)(1). مع قدرته تعالى على ذلك، والسبب هو منافاة ذلك لمقام ذاته الأقدس، ولكماله، وعدله، ولألوهيته سبحانه.
وكما لا يقدم الإنسان العاقل والمتوازن على شرب السم. وكما لا يقدم الطفل على وضع يده في النار، وكما لا تقدم الأم على ذبح ولدها، ولا على فعل كثيرٍ من الأشياء التي يرى الإنسان: أن فعلها مخل بكرامته، وبشخصيته.
فاتضح: أن مراد علمائنا من قولهم: إن الإرادة في آية التطهير تكوينية لا تشريعية هو ذلك، وليس المراد: أن العصمة مخلوقة فيهم بصورة إجبارية، بحيث يفقدون معها القدرة على المخالفة هنا، والموافقة هناك.
خروج الآية عن مورد البحث:
ونحن، وإن كنا قد قلنا، إننا قد لا نمنع من أن يكون ما أراده علماؤنا الأبرار (رضوان الله تعالى عليهم) صحيحاً، ولكننا أوضحنا أيضاً أننا نرى: أن للآية الشريفة التي هي مورد البحث منحى آخر، وأنها
____________
(1) سورة الكهف الآية49.
إننا نستفيد من إسناد الإذهاب والتطهير إلى الله سبحانه، في قوله: (يُذْهِبَ) وَ (يُطَهِّرَكُمْ) ثم من العدول في الآية عن التعبير بـ «يريد أن يذهب» إلى التعبير بـ (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ): أنه تعالى قد تعلقت إرادته أولاً وبالذات بإذهاب الرجس، وإبعاده. لا بإجبار «أهل البيت» وقهر إراداتهم ومنعها من التحرك نحو الرجس.
بل هو تعالى يريد أن يقذف بالرجس ويرمي به بعيداً عنهم (عليهم السلام)؛ فإن قربه منهم وقربهم منه مبغوض له تعالى، على حد قوله تعالى: (وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ)(1).
وقوله تعالى: (وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً)(2).
وثمة آيات عديدة أخرى تشير إلى ذلك.
فالله سبحانه قد أراد أن يبعد الرجس وكل العيب عن «أهل البيت»،
____________
(1) سورة الأنعام الآية151.
(2) سورة الإسراء الآية23.
خلاصة وتوضيح:
وآخر توضيح لنا هنا:
إن هناك إرادة تشريعية في الآية، وقد تعلقت بالأوامر والزواجر الموجهة إلى زوجات رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو ما تعلقت به كلمة: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ).
وهي منبثقة عن إرادة تكوينية تعلقت بإبعاد الرجس عنهم، والتطهير لهم. ونستفيد هذه الثانية بالدلالة عليها بمفهوم الموافقة المستند إلى الإشعار بها من خلال نسبة إذهاب الرجس والتطهير في قوله تعالى: (يُذْهِبَ عَنْكُمُ) و(يُطَهِّرَكُمْ) إلى الله سبحانه. لأن الفاعل لكلا الفعلين المذكورين إنما هو ضمير عائد للفظ الجلالة المتقدم في (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ).
بل تعلقت بإبعاد الرجس عنهم، بتوجيه الأوامر والنواهي لغيرهم إكراماً لهم، مع إبقاء إرادتهم حرة طليقة، من دون أدنى تعرض لها. بل قد صرف النظر عنها بالكلية، حسبما أسلفناه.
وآخر ما نشير إليه هنا هو أننا نلاحظ: أنه تعالى قد علق طهارة النساء على إرادتهن فقال: (إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا..) وقال:(إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ..).
ولكنه تعالى حين تحدث عن طهارة «أهل البيت»، فإنه قد جعل طهارتهم متعلقاً لإرادته هو سبحانه وتعالى، سواء الإرادة التشريعية، المصرح بها في قوله تعالى: (يُرِيدُ اللهُ) من خلال الأوامر الموجهة إلى النساء أو التكوينية المتعلقة بالتطهير وإبعاد الرجس عن «أهل البيت» (عليهم السلام)، والمدلول عليها بمفهوم الموافقة، مع الإلماح إليها بإسناد التطهير وإذهاب الرجس إليه تعالى.
الإمامة في آية التطهير:
ولا يفوتنا هنا التنبيه إلى أنه ربما يكون السر في إصرار البعض على
ويتأكد هذا الإحراج فيما يواجهونه من إصرار أكيد من قبل «أهل البيت» (عليهم السلام)، على أن الإمامة حق لهم، دون كل من سواهم، وقد شاع هذا الأمر عنهم وذاع، إلى حدٍ لا يمكن لأحد أن يرتاب أو أن يشكك فيه.
فإذا كانوا مطهرين بنص هذه الآية الشريفة، فلابد من قبول كل ما يقولونه وينقلونه حول هذا الأمر، وسواه، والتسليم والبخوع لهم فيه.. وذلك يعني وضع علامة استفهام كبيرة حول شرعية خلافة الآخرين.
وهذا ما لا يمكن لهؤلاء أن يتصوروه، أو أن يفكروا فيه، في أي من الظروف والأحوال.
ولأجل ذلك فلا مانع لدى هؤلاء من التلاعب بالآية القرآنية والتشكيك، والتصرف في دلالتها، كما لا مانع من ردّ الروايات المتواترة والصحيحة والصريحة، أو التمسّك في مقابلها بما هو أوهى من بيت العنكبوت، كما سنرى.
لا يمسّه إلا المطهرون:
وفي اتجاه آخر، فإننا نجد بعض العلماء يقول:
إننا إذا راجعنا تفسير آية: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لاَ يَمَسُّهُ إِلاَ الْمُطَهَّرُونَ)(1).
فإننا نجد: أن تفسيرها الذي هو الأقوى عند العلماء والأوفق بسياق الآيات: هو أن المراد بمس القرآن نيل معانيه، والوصول إليها، والوقوف عليها، وذلك لا يكون إلا للذين طهرهم الله سبحانه، وهم «أهل البيت» وأصحاب الكساء خاصة دون كل من عداهم..
ومعنى ذلك: هو أنهم حين جعلهم الله عدلاً للكتاب في حديث: إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً، كتاب الله وعترتي أهل بيتي. فإنما أراد بذلك أن يكونوا دون سواهم هم الذين يفسرون القرآن للناس، وأن يكونوا القائمين على دين الله، وتطبيق أحكامه، ونشر تعاليمه، وذلك هو ما يراد من الإمامة والخلافة بعده (صلى الله عليه وآله).
____________
(1) سورة الواقعة، آية77 / 79.
الفصل الرابع
الظهور السياقي بين الأخذ والرد
عود على بدء :
لقد اتضح مما تقدم: أن توجيه الخطاب لـ«أهل البيت» الذين هم أهل الكساء، ليس فيه مخالفة للسياق القرآني، بل هو موافق له، ومنسجم معه. دون أدنى لبسٍ، أو شبهة.
ونزيد في توضيح هذا الأمر بالإشارة إلى بعض الخصوصيات، فنقول:
ألف: إن السياق إنما يكون دليلاً وحجة في صورة ما لو علم أن المتكلم بصدد بيان موضوع واحد، من مبدأ كلامه إلى نهايته؛ ليكون بعض كلامه قرينة على البعض الآخر. فإذا ورد ما يخالف ذلك، فإنه يكون مخالفاً للظهور السياقي، ويكون فيه ـ أحياناً ـ إخلال بالناحية البلاغية، والبيانية.
ب: وربما لا يكون المتكلم بصدد بيان أمر واحدٍ، وإنما هو يذكر أموراً متعددة ومختلفة. ومتخالفة في موضوعاتها وأحكامها، وإن كانت تدخل في نطاق غرض عام وجامع ـ يكون هو الجامع بين متفرقاتها،
ج: إن وحدة السياق لا تلازم وحدة الموضوع والحكم؛ فإن الأسلوب البياني قد يفرض التعرض لبيان بعض الحيثيات، التي لها مساس بما هو محط النظر، وإن اختلفت عنه في طبيعتها وماهيتها.
وقد روي عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: ليس شيء أبعد من عقول الرجال من القرآن؛ إن الآية لتكون أولها في شيء، وآخرها في شيء، وهو كلام متصل يتصرف على وجوه(1).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام): يا جابر، إن للقرآن بطناً، وللبطن ظهراً، وليس شيء أبعد من عقول الرجال منه: إن الآية لينزل أولها في شيء، وأوسطها في شيء، وآخرها في شيء، وهو كلام متصرف على وجوه(2).
ومن اللافت: أن المثال الذي قدمه الأئمة (عليهم السلام) في هذا الصدد هو نفس آية التطهير، التي هي موضع البحث، فقد روي عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال:
____________
(1) هذا المضمون موجود في البحار ج89 ص95 وراجع الوسائل ج18 ص142 و150 وتفسير العياشي ج1 ص12 والمحاسن للبرقي ص300.
(2) راجع: وسائل الشيعة ج18 ص150 وتفسير العياشي ج1 ص11.
(إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً). من ميلاد الجاهلية(1).
ولكن ذلك لا يعني: أن لا تكون هناك جامعة كلية وعامة تكون تلك الموضوعات المختلفة كلها داخلة فيها..
وبعد ما تقدم نقول:
قد ذكرنا في الفصول المتقدمة ما يوضح: أن آية التطهير هي من القسم المذكور في فقرة: «ألف» إذ أن الآيات قد جاءت لتخاطب النبي(صلى الله عليه وآله)، وتطلب منه أن يبلغ زوجاته بعض الأوامر والزواجر، بهدف الحفاظ على البيت النبوي الشريف.
ويمكن تطبيق القسم الثاني المذكور في الفقرة «ب» على آية التطهير أيضاً؛ إذا لاحظنا: أن الجامع العام وهو الحفاظ على «أهل البيت» (عليهم السلام)، استدعى إصدار أوامر ونواهي مختلفة للزوجات، مع أن الكلام متصل، وله سياق واحد.
____________
(1) تفسير العياشي ج1 ص17 والبحار ج89 ص110.
الالتفات والاعتراض:
ولو أننا قبلنا: أن الخطاب لم يكن موجهاً إلى النبي (صلى الله عليه وآله)، ولا لبيت النبوة والرسالة، بل كان موجهاً للنساء من أول الأمر.
فإننا نقول:
إن ذلك لا يوجب أن تكون آية التطهير خاصة، بل ولا حتى شاملة للنساء، إذ أن ثمة طريقين آخرين يؤديان إلى تخصيص الآية الكريمة بأصحاب الكساء، ولا يختل السياق القرآني، ولا يلزم التكذيب للرسول (صلى الله عليه وآله) في إصراره المتواصل على خروج النساء عن مفاد الآية. وهذان الطريقان هما:
1 ـ الالتفات:
فإن الالتفات هو من الأساليب البيانية، التي جرى عليها الناس في محاوراتهم.
وهو يعطي الكلام جمالاً، ورونقاً، وإشراقاً. وله أيضاً فوائد جليلة لأنه يشد السامع، ويثير انتباهه، ويجعله يتطلع لمعرفة هذا الجديد، وإلى سماع المزيد.
وقد استخدم القرآن هذا الأسلوب في كثيرٍ من الموارد، حتى في فاتحة الكتاب، كما تقدم، وكما يكون الالتفات من الغيبة للخطاب كما ورد في سورة الفاتحة، أو عكسه كذلك قد يكون من شخص لآخر كما
وحكمة هذا الالتفات في آية التطهير: هو الإشارة إلى أن تأديب الزوجات إنما هو من توابع إذهاب الرجس والدنس عن «أهل البيت»، وإكراماً لهم حتى لا يلحقهم بسببهن وصمة أو عيب(1).
2 ـ الاعتراض:
ولنا أن نعتبر قوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ..) جملة اعتراضية، إذا صححنا ورود الاعتراض في آخر الكلام، أو اعتبرنا الآيات سابقاً ولاحقاً كلها ذات وحدة واحدةً، جاءت الجملة الاعتراضية فيما بينها؛ للإشارة إلى حيثيات ودوافع الحكم الوارد في الفقرات السابقة واللاحقة.
وهذا الاعتراض ليس فقط قد جاء معقولاً ومقبولاً، بل هو راجح ومطلوب، بل ضروري أيضاً؛ لحكمة ونكتة، وهي بيان هذا الأمر الهام والخطير، أعني أن الإرادة الإلهية قد تعلقت بتطهير «أهل البيت»، ثم هو لبيان الفرق الشاسع بين أهل بيته الحقيقيين، وبين الزوجات اللواتي لا يصح توهم أنهن في مستوى أهل بيت النبوة في العصمة والطهارة.
وبعد هذا فإن الجمل الاعتراضية كثيرة في القرآن، وقد قال تعالى:
____________
(1) راجع: نفحات اللاهوت ص85، ودلائل الصدق ج2 ص72.
وقال تعالى: (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ)(2).
وقال تعالى: (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً..) إلى أن قال: (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ)(3).
وأمثال ذلك في القرآن ليس بعزيز.
مخالفة السياق لأجل القرينة:
ولنفترض: أن السياق القرآني يؤيد كون الخطاب للنساء، فإن رفع اليد عن الظهور السياقي، الذي هو أضعف الظهورات، لأجل وجود قرينة بل قرائن داخلية وخارجية على خلافه، ليس فيه أي محذور.
____________
(1) سورة يوسف الآية28 و29.
(2) سورة الواقعة الآية 76.
(3) سورة لقمان الآية13ـ 16.
وليراجع حول الالتزام بالاستطراد والاعتراض: تفسير القمي ج2 ص193 / 194 والكلمة الغراء (مطبوع مع الفصول المهمة) ص213 / 214 ونهج الحق (هامش) ص174.
السياق واختلاف الضمائر:
ومن القرائن الذي ذكرت على أنها توجب رفع اليد عن الظهور السياقي.
اختلاف الضمائر في الآية:
فيلاحظ هنا تذكير الضمير في آية التطهير، في: «عنكم» و «يطهركم»، مع أن الضمائر الواردة في السابق واللاحق هي ضمائر الإناث: «وقرن في بيوتكن» و «لا تبرجن» و «أقمن الصلاة» و «آتين» و «أطعن»، وغير ذلك(1).
____________
(1) راجع: التسهيل لعلوم التنزيل ج3 ص137 والكلمة الغراء (مطبوع مع الفصول المهمة) ص213 / 214 والتبيان ج8 ص38 والمواهب اللدنية ج2 ص123 عن زيد بن علي وكذا في البحار ج35 ص207 والبرهان (تفسير) ج3 ص319 ونفحات اللاهوت ص85 وهامش نهج الحق ص174 وتفسير
=>
واعتبره البعض الآخر: أنه يدل على عدم اختصاص آية التطهير بهن، على خلاف ما ادعاه عكرمة ونسب إلى غيره من اختصاص الآية بالنساء(1).
توجيهات لا تجدي:
وقد دافع القائلون بشمول الآية للنساء، واختصاص الخطاب فيها بهن، بوجوه:
____________
<=
القمي ج2 ص193 / 194 وفتح القدير ج4 ص279 ومشكل الآثار ج1 ص338 و339 والمعتصر من المختصر ج2 ص267 والصراط المستقيم ج1 ص185 ونوادر الأصول ص266 وإحقاق الحق للتستري ج2 ص566 والميزان (تفسير) ج16 ص310 وأضواء على متشابهات القرآن ج2 ص117 والأصول العامة للفقه المقارن ص158.
وجوامع الجامع ص372 تعليقات السيد محمد علي القاضي (في الهامش) ونظرية الإمامة ص182 عن المناظرات للكاظمي ص9 وراجع أيضاً: الجامع لأحكام القرآن ج14 ص182 / 183 والصواعق المحرقة ص141 وينابيع المودة ص294.
(1) الفصل الأول، فقرة: الآراء والاجتهادات.
الأول: التغليب:
قالوا: إن الضمير المذكور قد ورد في الآية على سبيل التغليب، للمذكر على المؤنث(1).
ونقول:
إن هذا غير تام.
أولاً:
لأن التغليب إنما يصار إليه، حيث يحرز عدم الخصوصية لأي من الطرفين أو الأطراف في نظر المتكلم، وحيث يعلم بأنه يريد شمول الحكم للجميع، مع عدم وجود قرينة على الخلاف.
وفي مورد البحث: ليس فقط لا نحرز أنه يريد شمول الحكم، بل هناك العديد من القرائن والشواهد على التمييز فيما بين الأطراف.
ويكفي في ذلك ما ذكرناه من روايات صحيحة وصريحة في انحصار المراد من «أهل البيت» في أصحاب الكساء، مع تصريح طائفة
____________
(1) راجع: المواهب اللدنية ج2 ص123 وتهذيب تاريخ دمشق ج4 ص208 والسنن الكبرى ج2 ص150 وراجع: التبيان ج8 ص308 / 309 والتفسير الكبير ج25 ص209 وغرائب القرآن (مطبوع بهامش جامع البيان) ج22 ص10 والجامع لأحكام القرآن ج14 ص183 وكلام ابن روزبهان ضمن كتاب دلائل الصدق ج2 ص64 وضمن إحقاق الحق ج2 ص564.
ثانياً:
قال العلامة المجلسي:
«إن مخاطبة الزوجات مشوبة بالمعاتبة والتأنيب، والتهديد، ومخاطبة «أهل البيت» محلاّة بأنواع التلطف، والمبالغة في الإكرام. ولا يخفى بعد إمعان النظر المباينة التامة في السياق بينها وبين ما قبلها، وما بعدها»(2).
ثالثاً:
قد تقدم ما يفيد وجود إشكال في أصل صدق عنوان: «أهل البيت» على الزوجات، حتى مع افتراض أن يكون المراد بالبيت هو بيت السكنى، مع أنه افتراض باطل كما اتضح في الفصول السابقة.
رابعاً:
لو فرضنا أن المراد هو بيت السكنى، فإننا نقول ـ كما يتضح من ملاحظة بعض روايات حديث الكساء ـ إن المراد به خصوص البيت الذي جمع رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيه أهل الكساء، حيث نزلت الآية الشريفة فيهم. وتكون الألف واللام هنا في كلمة: «البيت» للعهد الخارجي. وإلا
____________
(1) التبيان ج8 ص308 / 309.
(2) البحار ج35 ص235.
خامساً: وأخيراً..
قد تقدم: أن السياق يؤيد ويؤكد كون المراد بـ «أهل البيت» خصوص أهل الكساء. ولا حاجة إلى دعوى التغليب، ولا إلى غيرها.
تنبيه واحتراز:
إن محط النظر في الرد والقبول إنما هو التغليب بالنسبة إلى زوجات النبي (صلى الله عليه وآله) وانضمامهن إلى أهل الكساء وعدمه. أما تغليب الذكور على الإناث بالنسبة إلى أهل الكساء أنفسهم، لكون فاطمة (عليها السلام) فيهم، فلا إشكال في كونه حاصلاً، ومراداً له تعالى، حسبما صرحت به الروايات المتواترة.
الثاني: عموم لفظ «أهل البيت»:
الوجه الآخر الذي ذكروه دفاعاً عن قولهم بشمول الآية للزوجات، وتوجيه اختلاف الضمائر تذكيراً وتأنيثاً، هو: أن لفظ «البيت» كلي، يطلق على الجمع(1).
____________
(1) راجع: نظرية الإمامة ص182 وراجع: مختصر التحفة الاثني عشرية ص151.