الصفحة 102

ونقول:

1 ـ إن بعض ما ذكرناه في الإجابة على الوجه السابق آت هنا.

2 ـ إن كون لفظ «البيت» كلياً لا يصح بحسب مصطلح أهل العلم.

3 ـ إن القرينة القطعية قد دلت على أن النساء لسن مرادات له تعالى في آية التطهير.

4 ـ إن هذا التوجيه لا يجدي، فإن الظاهر هو: أن المراد بـ «البيت» ـ كما ألمحنا إليه ـ ليس هو بيت السكنى وإلا فإن القضية قد حدثت في بيت أم سلمة، أو عائشة، أو زينب، فلماذا منعها من الدخول تحت الكساء، ولم يرض باعتبارها من «أهل البيت»؟! فالمقصود هو بيت النبوة.

وقد قلنا: إنه تعالى حين تحدث في نفس الآية عن بيت سكنى الأزواج، قد جاء بلفظ الجمع، مضافاً إليهن، فقال تعالى: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ)(1) ثم قال بعدها: (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ)(2).

ولكنه في آية التطهير قد جاء بلفظ «البيت» محلى بألف ولام العهد. فلو كان المراد به بيت سكنى الأزواج، لكان المناسب الإتيان بلفظ

____________

(1) سورة الأحزاب الآية 33.

(2) سورة الأحزاب الآية 34.


الصفحة 103
الجمع، كسابقه ولاحقه، لا الإفراد بلام العهد.

أضف إلى ما تقدم: أنه قد كان لعلي (عليه السلام) بيته الذي يسكن فيه، وهو غير بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فلو كان المراد بيت السكنى، فإن دخول علي وفاطمة والحسنين (عليهم السلام) يحتاج إلى إثبات، مع أن دخولهم في مدلول الآية لا ريب فيه.

ولو سلمنا: أن المراد هو بيت السكنى فقد تقدم جوابه قبل صفحتين في الإيراد الرابع على القول بالتغليب. فراجع..

وأما إرادة العشيرة من كلمة «البيت» فقد قلنا أكثر من مرة: إنه لا يصح لأن العباس وعقيلاً وأبناءهما وغيرهم ليسوا من «أهل البيت» بلا ريب مع أنهم عشيرة الرسول، والعباس أقرب نسباً إلى النبي (صلى الله عليه وآله) من علي (عليه السلام).

احتمالات لها ما يبررها:

قد يقال: يستفاد من نسبة البيوت إلى الزوجات، لا إلى النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، أن في نسبتها إليه شرفاً عظيماً، ولا يريد الله أن يخص النساء بهذا الشرف.

هذا بالإضافة إلى أنه تعالى قد أراد أن يظهر التمايز فيما بين الزوجات، وبين «أهل البيت» النبوي الحقيقيين، وهم أهل الكساء (عليهم السلام)، فلا يتصور أحد: أنهن وأولئك بمنزلة واحدة بالنسبة إليه (صلى الله عليه وآله). بل أهل بيته

الصفحة 104
منه وإليه. وليس كذلك زوجاته اللواتي لم يرض حتى بنسبة البيت الذي هنّ ساكنات فيه إلى رسوله (صلى الله عليه وآله).

الثالث: لفظ (أهل) مذكَّر:

وقد يقال أيضاً: إن التذكير للضمير إنما هو باعتبار لفظ «أهل»، وقد قال الله سبحانه: في قصة الملكين لزوجة إبراهيم: (أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ)(1).

وقال تعالى: (قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا)(2) والقائل هو موسى لامرأته.

وكما يقول الرجل لصاحبه: كيف أهلك؟ يريد زوجته. فيقول: هم بخير(3).

ونقول:

إن ذلك لا يصح لعدة أمور، هي التالية:

1 ـ إن لفظ الأهل يذكر ويؤنث، كما نص عليه الزمخشري في

____________

(1) سورة هود الآية 73.

(2) سورة القصص الآية 29.

(3) راجع: فتح القدير ج4 ص279 ونوادر الأصول ص266 والجامع لأحكام القرآن ج14 ص183 ومختصر التحفة الاثني عشرية ص150 ونظرية الإمامة ص182 عن التحفة الاثني عشرية.


الصفحة 105
تفسير آية: (هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا)(1).. فكان الأولى هنا الجري على سياق الآيات، وإيراد الضمير مؤنثاً أيضاً.

2 ـ إن اللفظ قد يكون مفرداً ومعناه مثنى وقد يكون معناه جمعاً.. وتارة يلاحظ المعنى وأخرى يلاحظ اللفظ، وقد جمعها الشاعر في كلمة «كلا»، حيث راعى لفظها تارة، ومعناها أخرى، حين قال في وصف جوادين يتسابقان:


كلاهما حين جدّ الجري بينهماقـد أقلعا وكِـلا أنفيهمـا رابـي

والأمر ها هنا كذلك، فإن لفظ «الأهل» في الآية مفرد، وإن كان معناه الجمع، فهل الأولى مراعاة ذلك أيضاً؟ فلماذا إذاً أتى بضمير الجمع، وقال: عنكم، ويطهركم، ولم يراع جهة الإفراد، فيرجع الضمير إليه كذلك؟!.

3 ـ إن كلمة «أهل» في آية التطهير تابعة لكلمة «عنكم»، والتابع لا يؤثر في المتبوع لا تذكيراً ولا تأنيثاً.

والقول: بأن كلمة عنكم أيضاً تابعة لـ«أهلٍ» آخر منتزع من النساء.

لا يصح، إذ لو صح لاقتضى أن تكون الضمائر السابقة في الآية أيضاً بالتذكير، مع أنها كلها قد جاءت بالتأنيث. فما هو وجه العدول في

____________

(1) الآية في سورة النساء/75. وكلام الزمخشري في الكشاف ج1 ص535.


الصفحة 106
ذيل الآية إلى التذكير؟!(1).

4 ـ أما بالنسبة لآية: (رَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ)، فإنما يقصد بها الذكور، وهم أهل بيت إبراهيم، ودخول المرأة فيهم ربما يكون للتغليب والتجوز، فالقياس عليه في غير محله. لأن التغليب مع قيام القرينة عليه مما لا ينكره أحد.

وهكذا الحال بالنسبة لقوله تعالى: (قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا).

وكذا يقال بالنسبة لقول الرجل لصاحبه: كيف أهلك يريد زوجته، فيقول: هم بخير. فإنه مما قامت القرينة على تعيين المراد منه. ومع وجود القرينة، لا يوجد إشكال، ولا هو محل كلام أو جدال.

5 ـ هذا بالإضافة إلى وجود فرق في الاستعمال: بين أهل الرجل وأهل بيت الرجل، فإن إطلاق كلمة «أهل» على الزوجة، لا يلزم منه صحة إطلاق كلمة «أهل البيت» عليها.

وقد تقدم في روايات حديث الكساء، أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد نفى أن تكون أم سلمة من «أهل البيت»، ولكنه قرر: أنها من أهله.

6 ـ بل ربما يكون دخول زوجة إبراهيم في «أهل البيت» في قوله

____________

(1) ذكر الأجوبة الثلاثة المتقدمة السيد محمد علي القاضي في حاشيته على جوامع الجامع ص372

الصفحة 107
تعالى: (رَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ)، من جهة أنها كانت ابنة عم إبراهيم (عليه السلام)(1). فهي داخلة في «أهل البيت» من جهة النسب لا من حيث كونها زوجة. ولا أقل من الشك في ذلك.

هجوم مضاد: لا مجال لمخالفة السياق:

وبعد أن استدل البعض بالدلالة السياقية على إرادة زوجات النبي (صلى الله عليه وآله) من الآية، ولم ير في اختلاف الضمائر الموجودة في الآية الشريفة أيّ محذور، قال: «فذِكْر حال الآخرين بجملة معترضة، بلا قرينة ولا رعاية نكتة، ومن غير تنبيه على انقطاع كلام سابق وافتتاح كلام جديد، مخالف لوظيفة البلاغة التي هي أقصى الغاية في كلام الله تعالى، فينبغي أن يعتقد تنزهه عن تلك المخالفة»(2).

ونقول:

إن هذا الكلام صحيح في حد نفسه، ولكن قد ظهر أن المناسبة موجودة. وهي أن الله تعالى قد أمر ونهى نساء النبي، من أجل الحفاظ على بيت النبي (صلى الله عليه وآله) نفسه، وإبعاد العيب عنه (صلى الله عليه وآله) وعن الخمسة أصحاب الكساء (عليهم السلام) وذلك تشريفاً له (صلى الله عليه وآله) ولهم وتكريماً، وإعلاءً لشأنهم (عليهم الصلاة والسلام)، ولأجل أن مصلحة الإسلام والدعوة

____________

(1) راجع قصص الأنبياء للنجار ص100.

(2) مختصر التحفة الاثني عشرية ص149.


الصفحة 108
تقتضي ذلك، وتفرضه.

أما القرينة الصارفة عن هذا الظهور، فهي الروايات الصحيحة والصريحة المتقدمة، بالإضافة إلى قرائن أخرى تأتي إن شاء الله تعالى.

هذا كله، عدا عن أنه لا مخالفة للسياق في الآية حسبما أوضحناه، فلا نعيد.

التطهير، وإرادة النساء:

وبعد.. فإنه إذا كان النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، مشمولاً لآية التطهير كما يقول به جمهور العلماء والمحققين، وكما نصت عليه الروايات المتقدمة لحديث الكساء.

وفرضنا: أن الخطاب في الآية متوجه إلى النبي (صلى الله عليه وآله) أيضاً ـ تغليباً كما سبق وادعاه البعض ـ فإن الأمر يصبح أكثر إشكالاً.

وذلك لأن الخطاب السابق واللاحق إن كان متوجهاً إلى النبي أيضاً ولزوجاته، فإنه يلزم أن يكون (صلى الله عليه وآله) مأموراً بالقرار بالبيت، وعدم التبرج، وهو ممن يضاعف له العذاب ضعفين، ويؤتيه الله أجره مرتين، وهو واضح الفساد.

مع ملاحظة: أن الضمائر السابقة واللاحقة خاصة بالإناث.

وإن كان (صلى الله عليه وآله) ليس مشمولاً للخطاب السابق واللاحق، لزم اختلاف السياق، وكون الله تعالى قد كان يخاطب جماعة، ثم غيّر أسلوب خطابه

الصفحة 109
من ضمير الإناث إلى الذكور؛ للتبدل الحاصل في من يخاطبهم..

أضف إلى ما تقدم: أن إذهاب الرجس والتطهير للنساء إنما هو بالمباشرة، لأنه إنما يحصل بامتثالهن ما صدر إليهن من أوامر وزواجر. أما تطهير النبي (صلى الله عليه وآله) فهو بنحوٍ آخر، أي ثانياً وبالعرض أي بواسطة عدم العيب له بسبب نسائه؛ لأن الطهر له ليس بواسطة المذكور في الآيات من عدم التبرج والقرار في البيوت الخ، ليكون طهراً بالمباشرة بسبب ذلك.

فيكون قد استعمل التطهير، وإذهاب الرجس في نحوين مختلفين تمام الاختلاف، من دون جامع ظاهر بينهما ولا يصح ذلك على نحو الاستقلال، كما يقوله كثيرون..

وحتى لو كان المراد هو تطهير النبي (صلى الله عليه وآله) بالمباشرة عن الأرجاس التي تناسبه كرجل، فإنه يرد عليه: أن ذلك لم يذكر في الآيات؛ فاستعمال التطهير وإذهاب الرجس المذكور في الآيات بالنسبة إلى النساء وفي أمور أخرى لم تذكر بالنسبة للنبي أيضاً مما لا يساعد عليه الكلام، ولا يمكن فهمه ولا تفهيمه لأحد.

ترتيب القرآن والدلالة السياقية:

وقد نجد البعض يحاول أن يورد على القول؛ بأن سياق الآيات يوجب القول بأن زوجاته (صلى الله عليه وآله) هن المرادات في آية التطهير.

بأن القرآن قد نزل تدريجاً، ولم يترتب في الجمع حسب ترتيبه في النزول.


الصفحة 110
وقد كان الرسول (صلى الله عليه وآله) يعين المواضع التي ينبغي أن توضع فيها الآيات النازلة، فيقول: ضعوا هذه الآية في سورة كذا، وضعوا تلك في سورة كذا. فقد يكون الرسول وضع آية: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ..). في هذا الموضع من آيات الخطاب لنساء النبي (صلى الله عليه وآله)، من أجل صيانة القرآن عن أن تناله يد الخيانة، بالتصرف والتحريف. إذ لو لم يفعل الرسول ذلك لوجد الآخرون أنفسهم أمام إحراجات كبيرة فيما يختص بأمر الإمامة، وموقعها، وخصائصها، من الطهارة والعصمة، حينما يواجهون النص القرآني الصريح في هذا المجال.

وعلى هذا فالسياق لا يكافئ الأدلة الصحيحة والصريحة عند تعارضهما، لعدم الوثوق حينئذٍ بنزول الآية في ذلك السياق. بل لابد من ترك فحوى السياق ـ لو سلم ظهورها فيما زعموا ـ والاستسلام لحكم تلك الأدلة القاطعة. وذلك لا ينافي البلاغة، ولا يخل بالإعجاز(1).

أو قد يكون عثمان أو غيره قد جعل آية التطهير في هذا الموضع، ظناً منه أن نساء النبي (صلى الله عليه وآله) هن المعنيات بها، واجتهاداً في الترتيب.

ومن المعلوم: أنه قد وقع اختلاف كثير في ترتيب المصاحف،

____________

(1) راجع: الكلمة الغراء في تفضيل الزهراء (مطبوع مع الفصول المهمة) ص213 / 214 وراجع: الصراط المستقيم ج1 ص185. والميزان (تفسير) ج16 ص312. وراجع: الأصول العامة للفقه المقارن ص158.


الصفحة 111
حتى اصطلح الناس على مصحف عثمان، وقد رووا: أنهم حين جمعوا القرآن فقدوا آية من سورة الأحزاب، فوجدوها عند خزيمة بن ثابت(1).

بل من الممكن أن يكونوا قد وضعوا آية التطهير في سياق مخاطبة النساء؛ لبعض مصالحهم الدنيوية. وقد ظهر من الأخبار عدم ارتباطها بقصتهن، فالاعتماد في هذا الباب على النظم والترتيب في غاية البطلان(2).

وربما يجدون في قوله تعالى: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ)، على انسجامها واتصالها، لو قدر ارتفاع آية التطهير من بين جملها، ما يؤيد ذلك(3).

أضف إلى ذلك: وجود أخبار تدل على سقوط آيات كثيرة، حتى من سورة الأحزاب التي هي مورد البحث، فلعله قد سقط من قبل الآية وبعدها آيات لو ثبتت لم يفت الربط الظاهري بينها(4).

ونقول:

إننا وإن كنا نوافق على أن القرآن ليس مرتباً على حسب النزول، إلا

____________

(1) راجع: إحقاق الحق للتستري ج2 ص570 والبحار ج35 ص234 وراجع أيضاً: الميزان (تفسير) ج16 ص234 ولكن كلامه مطلق هنا.

(2) البحار ج35 ص234.

(3) الميزان (تفسير) ج16 ص312.

(4) البحار ج35 ص234.


الصفحة 112
أننا لا نستطيع قبول سائر ما ذكروه هنا. وذلك للأسباب التالية:

1 ـ إن ما دلّ على أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان هو الذي يعين مواضع الآيات، لا يدل على أنه (صلى الله عليه وآله) قد تصرف حتى في أجزاء الآية الواحدة، كما هو الحال هنا؛ لأن آية التطهير جزء من آية، وليست آية مستقلة، وهل يعقل أن يكون (صلى الله عليه وآله) قد لفق بين جزء آية وجزء آية أخرى؟! إن نظير ذلك لم يُنقَل إلينا ولا ادعاه أحد. ومجرد الاحتمال لا يكفي.

2 ـ ما ذكروه من أن من الممكن أن يكون التحريف قد نال القرآن بعد وفاة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، لا يصح، فإن سور القرآن وآياته كانت معروفة بأسمائها ومحفوظة ومكتوبة لدى العشرات من الصحابة منذ عهد النبي (صلى الله عليه وآله)، الذي كان قد وظّف كُتّاباً يكتبون القرآن، ويعملون على حفظه وضبطه بإشراف مباشر منه (صلى الله عليه وآله).

3 ـ إن تصرف النبي (صلى الله عليه وآله) في القرآن إن كان بالشكل الذي يوجب حجب دلالة آية عن معناها المقصود فهو غير معقول، لأن ذلك بذاته يكون تحريفاً للقرآن وتضييعاً للحق، ويجعل الناس معذورين بالمخالفة، ويكون لهم الحجة بعد الرسل.

وإن كان لم يوجب ذلك، فلا مجال ولا مبرر للتصرف المذكور، ولا يصح ما قصد إليه من صيانة القرآن من التحريف، ويبقى المحذور الكبير المقتضي للتحريف قائماً بالفعل.


الصفحة 113
إلا أن يقال: لا ريب في أن هذا الجزء من الآية الذي يصرح بتطهير «أهل البيت» (عليهم السلام) قد نزل مستقلاً في مناسبة قضية الكساء. ولكن النبي (صلى الله عليه وآله) قد وضع هذه الفقرة في ضمن آيات خطاب النساء بأمر من الله سبحانه وتعالى، من أجل تشريف أهل الكساء، وتفهيم الزوجات وغيرهن أنهن لسن في مستوى هذه الصفوة المطهرة، وهذا الكلام لا محذور فيه كما هو ظاهر..

4 ـ ولو سلمنا اختصاص الآية بالزوجات فمعنى ذلك أن يكون تصريح النبي (صلى الله عليه وآله) في حديث الكساء باختصاص الآية بأهل الكساء غير سديد فكيف ونحن نجده (صلى الله عليه وآله)، يصرّ في أكثر من مرة ـ على الظاهر ـ على خروج نسائه عن مفاد الآية الشريفة؟!

5 ـ لقد أثبتنا في كتابنا «حقائق هامة حول القرآن الكريم» ـ بصورة قاطعة ـ : أن القرآن سليم من أي تحريف أو تبديل فيه، وتحدثنا أيضاً عن ترتيب القرآن ونزوله. وغير ذلك من بحوث، فليراجعه من أراد.


الصفحة 114

الصفحة 115


الفصل الخامس

في نطاق الدلالة والاستدلال أيضاً





الصفحة 116

الصفحة 117

توطئة وتمهيد:

وبعد ما تقدم، فإننا استكمالاً للبحث، نورد هنا بعض ما أشير، أو تحسن الإشارة إليه، من لمحات قد يرى البعض: أنها تفيد في إثراء الفكرة وفي استجماعها للعناصر التي تزيدها قوة وتجذُّراً ورسوخاً، وتعطيها، إشراقة جمالية، لابد لها منها، مادام أن إهمالها سوف يعطي القارئ انطباعاً، ويثير فيه شعوراً بأن البحث مبتور وناقص، الأمر الذي ربما يفقده قسطاً من الثقة به، بجامعيته ويجعله يتردد في الغنى والاستغناء به.

أضف إلى ما تقدم: أن هذا هو ما تفرضه الأمانة العلمية، وتلزم به الوظيفة الشرعية، والوجدانية، حيث لابد من استكمال البحث، من جميع جوانبه، والوقوف على كل شاردة وواردة فيه، بحيث لا يبقى ثمة عذر لمعتذر، ولا حيلة لمتطلب حيلة.

فنقول:


الصفحة 118

آية التطهير متى نزلت؟:

قد يقال: إن الروايات المتقدمة، الدالة على أن النبي (صلى الله عليه وآله) بقي أشهراً، وفي بعضها: بقي إلى أن توفي، يأتي في كل يوم، أو عند كل صلاة إلى بيت فاطمة (عليها السلام)، ويقول: الصلاة الصلاة: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ..) ـ قد يقال ـ إن ذلك يدل على تأخر قضية الكساء، ومن ثم على تأخر نزول آية التطهير، إلى أواخر حياته (صلى الله عليه وآله).

مع العلم أن آيات خطاب النساء في سورة الأحزاب قد نزلت قبل ذلك بسنوات، وذلك حينما طلبت منه عائشة أموالاً، فنزلت آية التخيير، والتي هي أول آيات خطاب النساء في هذه السورة.

ونقول:

إن فعل النبي (صلى الله عليه وآله) المذكور وإن كان يقوي احتمال تأخر نزول الآية، ولكنه لا يكفي للاعتماد عليه في مجال الاستدلال. إذ أن الظاهر هو تكرار جمعه (صلى الله عليه وآله) لهم تحت الكساء من جهة كما أن هناك نصوصاً تقول: إنه (صلى الله عليه وآله) قد بقي من حين قضية الكساء إلى حين وفاته يأتي إلى باب فاطمة (عليهما السلام) ويقرأ الآية. فيمكن أن يكون قد حدث حديث الكساء بل ذلك هو الظاهر بعد ولادة الحسنين (عليهما السلام) بمدة سنة، أو سنوات. وعلى كل حال فلا شك في انسجام الآيات في سورة الأحزاب مع آية التطهير، وانسجامها أيضاً مع فقرات نفس الآية التي وقعت فقرات التطهير جزءاً

الصفحة 119
منها رغم أن حديث الكساء الثابت بصورة قاطعة يدل على أن فقرات التطهير قد نزلت منفصلة عن بقية فقرات الآية، التي هي جزء منها.

وأما احتمال أن تكون آية التطهير قد نزلت قبل ولادة الحسنين (عليهما السلام) ثم لما وُلِد الحسنان (عليهما السلام) صار يجمعهم تحت الكساء ويقرأ الآية فقد يقال إنه بعيد، وليس هناك ما يؤيده.. غير أن الظاهر أن حديث الكساء قد تكرر منه (صلى الله عليه وآله) في أكثر من مرة.

ومن الممكن أن تكون هذه الآية قد نزلت أكثر من مرة أيضاً تبعاً لذلك. بهدف التعريف بـ «أهل البيت» المقصودين فيها، حتى لا يبقى عذر لمعتذر.

ولعله تبعاً لتكرر قضية الكساء كان (صلى الله عليه وآله) قد كرر المجيء إلى بيت فاطمة عند كل صلاة، أو في كل غداة، وكان يستمر في كل واحدة مدة، ثم في المرة الأخيرة استمر على ذلك حتى توفاه الله تعالى.. كل ذلك بهدف إزاحة أية علة، وإبعاد أية شبهة. إلى درجة أنه قد اضطر حتى من عُرف بانحرافه عن علي وأهل بيته إلى أن يعترف بصحة هذا الحديث الذي أجمع عليه المفسرون وغيرهم.

الآية نفسها تخرج الزوجات عن مدلولها:

قال بعض العلماء: «هل المراد من إذهاب الرجس عن «أهل البيت» هو دفع الرجس أو رفعه؟ فإن كان الأول، فالزوجات خارجات عن حكم

الصفحة 120
الآية؛ فإن أكثرهن ـ إن لم يكن كلهن ـ كن في الرجس قبل الإسلام.

وإن كان الثاني، فلا محيص من القول بخروج رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن حكم الآية، فإنه لم يكن فيه الرجس أصلاً، لا قبل البعثة ولا بعدها؛ باتفاق الأمة الإسلامية قاطبة.

مع أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) داخل في حكم الآية قطعاً بالاتفاق، فلا يمكن القول بخروج رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن حكمها.

فثبت الأول وانتفى الثاني، وخرجت الزوجات عن حكم الآية قطعاً»(1) انتهى.

وقد كان من المناسب لهذا الكاتب أن يضيف إلى ذلك: أن بعض نساء النبي (صلى الله عليه وآله) ـ كعائشة ـ كانت بعد نزول الآية تبغض أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى حد أنها كانت لا تحب أن تذكره بخير أبداً، كما قاله ابن عباس(2)، مع وجود النهي القاطع من رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن بغضه (عليه السلام).

____________

(1) تعليقات السيد محمد علي القاضي الطباطبائي على جوامع الجامع (هامش) ص372 على ذلك الكتاب.

(2) الطبقات الكبرى ج2 ص232 ومسند أحمد ج6 ص34 و228 والجمل للمفيد ص82 / 83 وأنساب الأشراف (قسم حياة النبي (صلى الله عليه وآله)) ص544 / 545 وراجع: الإرشاد للشيخ المفيد ص107. ومختلف الكتب التي تتحدث عن صلاة أبي بكر بالناس.


الصفحة 121
كما أنها قد خرجت عليه، وهو إمام زمانها، الذي قال فيه رسول الله.

(صلى الله عليه وآله) حربك حربي(1)، وقتل بسبب ذلك ألوف من المسلمين الأبرياء. وخالفت بذلك أمر الله سبحانه لها بالقرار في بيتها.

هذا كله عدا عن تظاهرها هي وحفصة على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، حتى أمرهما الله تعالى بالتوبة من ذلك وخاطبهما تعالى بقوله: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا)، ثم ضرب الله لهن مثلاً، بامرأة نوح وامرأة لوط.

فكل ذلك يدل على أنها لم تكن محط نظر الآية الشريفة أعني آية التطهير، وإلا لكانت قد حفظت نفسها عن الوقوع في تلك المزالق والمهالك، كما هو معلوم.

فلسفة الدخول تحت الكساء :

قال الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين (رحمه الله) تعالى:

«ثم غشّاهم ونفسه بذلك الكساء، تمييزاً لهم عن سائر الأبناء، والأنفس، والنساء.

فلما انفردوا تحته عن كافة أسرته، واحتجبوا به عن بقيّة أمته، بلّغهم الآية، وهم على تلك الحال، حرصاً على أن لا يطمع بمشاركتهم أحد من الصحابة والآل، فقال مخاطباً لهم، وهم معه في معزل عن كافة

____________

(1) ينابيع المودة ص55 و130 والمناقب للخوارزمي ص76.


الصفحة 122
الناس: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(1)».

وكلامه هذا (رحمه الله) تعالى، هو الحق الذي لا محيص عنه، ولا مفر ولا مهرب منه. ولا يصح ما قاله الدهلوي المعروف بتعصبه المقيت، ومجانبته للحق والصواب حيث عكس الأمر، وحاول التمويه والتشويه، حين قال:

«إنما يدل التخصيص بالكساء على كون هؤلاء المذكورين مخصصين، إذا لم يكن لهذا التخصيص فائدة أخرى ظاهرة. وهي هنا دفع مظنة عدم كون هؤلاء الأشخاص في «أهل البيت»، نظراً إلى أن المخاطب فيها هن الأزواج فقط»(2).

ونقول:

إن هذا الكلام لا يصح، وذلك لما يلي:

1 ـ قد عرفنا في الفصل الثاني من هذا الكتاب أنه (صلى الله عليه وآله) قد أخرج أم سلمة، وعائشة، وزينب عن أن يكنّ في جملة «أهل البيت».

2 ـ قد عرفنا: أن صدق عبارة «أهل البيت» على الزوجات غير

____________

(1) الكلمة الغراء في تفضيل الزهراء (مطبوع مع الفصول المهمة) ص205 وراجع الأصول العامة للفقه المقارن ص156.

(2) مختصر التحفة الاثني عشرية ص152.


الصفحة 123
واضح، بل لقد أنكره زيد بن أرقم.

ويستفاد ذلك أيضاً من استفهام بعض الزوجات وسؤالهن الرسول (صلى الله عليه وآله) عن ذلك.

3 ـ لماذا حرص النبي (صلى الله عليه وآله) على إدخال خصوص أصحاب الكساء في أهل بيته، ولم يدخل العباس، ولا عقيلاً، ولا أولادهما، ولا غيرهم من أقاربه.

4 ـ إن إرادة الزوجات من آية التطهير، وخطابهن بها، لا يناسب سياقها، حسبما قدمناه مشروحاً فيما سبق من فصول.

إلى غير ذلك مما تقدم وسيأتي مما يوضح بصورة قاطعة: أن كلام الدهلوي ما هو إلا مكابرة فاشلة، لا تستند إلى أساسٍ علمي صالح. فكلام الإمام شرف الدين هو الأولى، والأعلى.

لو كانت الآية في الزوجات:

ومما يوضح هذه القضية ما روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) من أنه قال:

لو سكت رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلم يبين مَن أهل بيته، لادّعاها آل عباس، وآل عقيل، وآل فلان، وآل فلان، ولكن الله أنزل في كتابه تصديقاً لنبيه: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ الخ)(1).

____________

(1) الكافي نشر مكتبة الصدوق ج1 ص287 وراجع: تفسير فرات ص110 وتفسير العياشي ج1 ص250 والبحار ج35 ص211.


الصفحة 124
وهناك قضية ذكرها لي علامة جليل، قال أنها جرت للعلامة الأميني (رحمه الله) تعالى. وهي باختصار:

أنه (رحمه الله) اجتمع مع بعض علماء أهل السنة، فبادره ذلك العالم بسؤال عن آية التطهير، فيمن نزلت؟. أفي زوجات النبي؟. أم في غيرهن؟.

أجابه العلامة الأميني بسؤالٍ مفاده:

إنه لو كانت آية التطهير قد نزلت في الزوجات، ولهن فيها أدنى نصيب، فهل ترى أن أم المؤمنين عائشة تترك هذا الأمر، فلا تكتبه على جبهة جملها «عسكر» الذي ركبته في حرب الجمل، حيث كانت تحرّض الناس على القتال ضد علي (عليه الصلاة والسلام)؟.

فأجاب ذلك الرجل بالإيجاب.

فرحم الله العلامة الأميني، وسقياً ورعياً لذلك العالم المنصف، فإن عائشة كانت بأمسّ الحاجة إلى أمثال هذه الحجج، لاسيما في مقابل أخي الرسول، ووصيّه، الذي هو مع الحق والحق معه، يدور معه حيث دار.

واللافت: أن أكثر من واحدة من نساء النبي (صلى الله عليه وآله) قد صرحت بنزول الآية في أصحاب الكساء، بل قد صرحن بأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد أخرجهن من الآية وعنها.

ولم تدّع واحدة منهن دخولها بخصوصها، ولا دخول سائر

الصفحة 125
الزوجات في مفاد الآية، ولا في حديث الكساء.

أم سلمة تواجه التزوير الإعلامي:

وحين أخبر شهر بن حوشب أم سلمة عن النشاط الواسع، الذي كان يقوم به الأخطبوط الأموي، ومبغضو علي و«أهل البيت» (عليه السلام) ضده وضدهم، (صلوات الله عليهم) نجدها قد تصدت (رحمها الله تعالى)، للدفاع عن الحق، بإيمان وإخلاص، وقررت:

دخول علي وأهل بيته في مفاد آية التطهير، وخروج النساء عن مفادها.

مع أن البعض قد يجد فيما ذكرته (رحمها الله) ما يوجب الانتقاص لها، والتقليل من احترامها. ولكنها (رحمها الله) لم تكن لتعبأ بهذه الأحكام الجائرة، والناشئة عن نفوسٍ مريضة وحاقدة وشريرة..

يقول لها شهر بن حوشب: يا أم المؤمنين، إن أُناساً من قِبَلنا قد قالوا في هذه الآية «أشياء».

قالت: وما هي؟.

قلت: ذكروا هذه الآية: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) فقال بعضهم: في نسائه، وقال بعضهم في أهل بيته.

قالت: يا شهر بن حوشب، والله، لقد نزلت هذه الآية في بيتي هذا،

الصفحة 126
وفي مسجدي هذا. أقبل النبي (صلى الله عليه وآله) ذات يوم، حتى جلس معي في مسجدي هذا، على مصلاي هذا..

ثم ذكرت حديث الكساء، ونزول آية التطهير، وأنها طلبت أن تُدْخِلَ رأسها معهم، فقال لها (صلى الله عليه وآله) يا أم سلمة، إنك على خير(1).

عائشة تعتذر بما هو أقبح من ذنب:

وقد روى البيهقي وغيره، قال: سئلت عائشة عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقالت:

وما عسيت أن أقول فيه، وهو أحب الناس إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، لقد رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد جمع شملته على علي وفاطمة والحسن والحسين (عليها السلام)، وقال: هؤلاء أهل بيتي اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.

قيل لها: فكيف سرت إليه؟!.

قالت: أنا نادمة. وكان ذلك قدراً مقدوراً(2).

نحن لا نريد أن نعلق على هذا الحديث بشيء إلا أننا نقول:

____________

(1) شواهد التنزيل ج2 ص72 / 73.

(2) المحاسن والمساوي للبيهقي ج1 ص471 وراجع: شواهد التنزيل ج2 ص38 / 39 وتفسير نور الثقلين ج4 ص276 ومجمع البيان ج8 ص357 وراجع: البحار ج35 ص222 عن الطرائف ص30.


الصفحة 127
إن ما يثير الانتباه هنا أن أم المؤمنين تنحو باللائمة هنا على القدر الإلهي، وبذلك تكون قد برأت نفسها، أو فقل قد خففت من ذنبها إلى درجة كبيرة!!.

الجبر عذر المجرمين والجبابرة:

وما نريد أن ننبه إليه هنا هو: أن مسألة الجبر الإلهي قد استدل بها كثيرون لأمورٍ عجزوا عن إيجاد التبرير المعقول، والمقبول لها، فأحالوا الأمر على الله سبحانه، ووجهوا التهمة إليه مباشرة، حيث أمنوا من التكذيب، ومن أن يتصدى أحد للدفاع عنه تعالى.

وقد صدرت هذه الإحالات على الله سبحانه وتعالى، ودعاوى أن ما صدر منهم لم يكن لهم حيلة فيه، بل الله أجبرهم عليه، عن عدد من كبار الصحابة والحكام والسياسيين.

ونوضح ذلك هنا بقدر ما يسمح لنا به المقام، فنقول:

إن عقيدة الجبر، هي من بقايا عقيدة أهل الكتاب، وقد صرحت بها كتبهم المحرفة بصورة واضحة، فراجع: التوراة، والتلمود، والإنجيل أيضاً(1).

____________

(1) ذكر موارد ذلك يوجب تطويلاً على القارئ، وخروجاً عن الموضوع، ولذلك فنحن نكل تتبع ذلك في مصادره إلى القارئ إن وجد حاجة ماسة له.