وهذا معناه أن البعض الآخر من أسانيدها لا غبار عليه ولا مجال للكلام فيه.
أهل البيت: الأمة، أو المتقون:
إن البعض الذي يقوى في نظره: أنه لا فرق بين «آل البيت»، و«أهل البيت»، قال:
قيل: إن آل البيت يشمل جميع أمة محمد (صلى الله عليه وآله).. هذا قول أصحاب محمد، ومالك، وغيرهم(1).
وقيل: المراد أهل البيت الحرام، وخصوص المتقين من الأمة(2). وقد قال سبحانه: (إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَ الْمُتَّقُونَ)(3).
وقد يجد هؤلاء فيما روي عن واثلة بن الأسقع ما يوجب دعم مدعاهم هذا، حيث روي عن واثلة:
____________
(1) راجع: منهاج السنة ج4 ص21 والمواهب اللدنية ج2 ص122.
(2) راجع: الميزان (تفسير) ج16 ص310 ومجمع البيان ج8 ص356 وتأويل الآيات الظاهرة ج2 ص456 وراجع: مرقاة الوصول ص107 ومنهاج السنة ج4 ص21.
(3) سورة الأنفال الآية34.
فقال واثلة: وأنا؟
فقال له (صلى الله عليه [وآله] وسلم): وأنت.
فقال واثلة: إنها لأوثق عملي عندي، أو ما هو قريب من هذا(1).
ونقول:
إن ذلك لا يصح، وذلك لما يلي:
1 ـ قد تقدم أن المراد بالبيت في الآية الشريفة بيت النبوة، لا البيت. الحرام، ولا غير ذلك.
____________
(1) راجع: جامع البيان ج22 ص6 وفتح القدير ج4 ص280عنه، وعن ابن أبي شيبة، وأحمد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه، وسير أعلام النبلاء ج3 ص385 والصواعق المحرقة ص142 و227 والعمدة لابن بطريق ص34 وتفسير القرآن العظيم ج3 ص483 و484 والسنن الكبرى ج2 ص152 وذخائر العقبى ص23 و24 وشواهد التنزيل ج2 ص39و40و45و47 ومشكل الآثار ج1 ص337 والمعتصر من المختصر ج2 ص267 والمواهب اللدنية ج2 ص122 والبرهان (تفسير) ج3 ص331 وينابيع المودة ص108 و229 و294 ومجمع الزوائد ج9 ص167 والسيرة النبوية لدحلان ج2 ص300.
2 ـ إن الحديث عن البيت الحرام في آية قرآنية، لا يلزم منه أن يكون المراد بـ «أهل البيت» في آية التطهير هو ذلك.
3 ـ إن هذا اجتهاد في مقابل النص الصريح والصحيح عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، الذي عين فيه لنا «أهل البيت» ونص عليهم.
4 ـ إنه ـ لو صح ـ فإنما قال له: وأنت من أهلي. لا من أهل بيتي. تماماً كما قال (صلى الله عليه وآله) لأم سلمة.. وقد تقدم وجود فرق ظاهر بين التعبيرين..
5 ـ لقد رويت رواية واثلة هذه بنحو آخر، لم يذكر فيها: قول واثلة المنقول آنفاً، ولا جواب النبي المتقدم له. فراجع مصادر رواية حديث الكساء.
6 ـ وفي بعض النصوص: أنه حين دعا (صلى الله عليه [وآله] وسلم) لأهل بيته بإذهاب الرجس عنهم والتطهير لهم (ولم يقرأ الآية) قال له واثلة: يا رسول الله وأنا؟ قال: وأنت(1).
وذلك يعني: أنه طلب من النبي (صلى الله عليه وآله) أن يدخله في الدعاء، لا في
____________
(1) مصادر ذلك كثيرة فراجع على سبيل المثال شواهد التنزيل ج2 ص39 و46 والمستدرك للحاكم ج3 ص44 ومجمع الزوائد ج9 ص167 وتفسير جامع البيان ج22 ص6 والسنن الكبرى ج2 ص152 وعن الطبراني في المعجم الكبير ج1 ص126.
7 ـ هذا، ومن الطريف هنا أن نذكر: أن بعض الأخوة قد احتمل أن يكون (صلى الله عليه وآله) قد أجاب واثلة على سبيل الاستفهام والإنكار، لا القبول والإقرار، وذلك بقرينة أنه (صلى الله عليه وآله) قد أخرج زوجاته عن أن يكن من «أهل البيت».
وهذا إنما يصح في صورة كون واثلة لم يلتفت إلى طريقة الاستفهام في كلام النبي (صلى الله عليه وآله) أو أنه فهم ذلك لكنه أراد أن يتجاهل ذلك ويجعل لنفسه فضيلة ليست ثابتة له..
8 ـ إن واثلة يجر النار إلى قرصه، وهو متهم في هذه الرواية، التي لم يروها أحد سواه.. والذي هو آخر الصحابة موتاً بدمشق(1). ولم يكن من أهل الطهارة أو الاستقامة. فقد كان من أعوان بني أمية، وقد رويت عنه أحاديث كثيرة في فضل معاوية، حكم عليها الحفاظ بالبطلان والوضع(2).
فهل لم يستجب الله دعاء النبي (صلى الله عليه وآله) فيه؟ أم أن الرواية مكذوبة؟
إن كل مؤمن منصف وحاذق لا بد أن يقول بأن الرواية مكذوبة وينزه ساحة النبي (صلى الله عليه وآله) عن أن يدعو لأمثال هؤلاء ثم لا يستجيب الله تعالى له..
____________
(1) راجع: تهذيب التهذيب ج11 ص101.
(2) راجع: اللآلي المصنوعة ج2 ص419 و417 والغدير ج5 ص308.
الفصل الرابع
بيت العنكبوت
بداية:
لعل هناك أناساً فوجئوا بصراحة الآية في دلالتها على طهارة أصحاب الكساء من كل رجس وقبيح؛ وذميم، فعملوا المستحيل من أجل إجهاض دلالتها على ذلك، وأثاروا حولها ما أمكنهم من شبهات وتشكيكات تستهدف مضمونها في دلالتها على عصمة «أهل البيت» (عليهم السلام)، وإبعادها عن أن تكون قادرة على تسجيل أي امتياز، أو خصوصية، يمكن أن تؤهل هؤلاء الصفوة لمزايا قد توقع هؤلاء الناس في إحراجات قوية، وتفقدهم القدرة على التبرير لكثير من الأمور التي يُلزمون بها أنفسهم، أو ألزمهم بها أسلافهم، حتى شب عليها الصغير، وهرم عليها الكبير.
ولكن محاولاتهم تلك قد جاءت أوهن من بيت العنكبوت، وأوهى من الطحلب، حين يتشبث به الغريق، المشرف على التلف.
فأقرأ ـ فيما يلي ـ أقاويلهم الغريبة، واستمع إلى ترهاتهم وأضاليلهم العجيبة:
هل آية التطهير تفيد العموم:
قالوا: «إن قوله تعالى: (لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ) لا يفيد العموم؛ لكون المعرف بلام الجنس في سياق الإثبات.
وأجيب بأن الكلام في قوة النفي، إذ لا معنى لإذهاب الرجس إلا رفعه، ورفع الجنس يفيد نفي أفراده»(1).
وقد اعترف بذلك ابن تيمية فقال: «لفظ الجنس عام يقتضي: أن الله يذهب جميع الرجس، فإن النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم) قد دعا بذلك، وأما قوله: وطهرهم تطهيراً فهو سؤال مطلق بما يسمى طهارة، وبعض الناس يزعم: أن هذا مطلق فيكتفى بفردٍ من أفراد الطهارة، ويقول مثل ذلك في قوله: فاعتبروا يا أولي الأبصار ونحو ذلك.
والتحقيق: أنه أمرٌ بمسمى الاعتبار الذي يقال عند الإطلاق، كما إذا قيل: أكرم هذا، أي افعل معه ما يسمى عند الإطلاق إكراماً، وكذلك ما يسمى عند الإطلاق اعتباراً. والإنسان لا يسمى معتبراً إذا اعتبر في قصة وترك ذلك في نظيرها، وكذلك لا يقال: هو طاهر أو متطهر، أو مطهر،
____________
(1) البحار ج35 ص236.
نضيف إلى ذلك: إنه لو كان المراد بالآية الشريفة إذهاب بعض الرجس، لكان الحديث عن إذهاب الرجس فيها لغوياً؛ إذ لا يوجد إنسان مسلم أو كافر، إلا وهو طاهر من بعض الأرجاس.. بل لا يمكن أن يتلوث أحد بجميع الأرجاس إلا من حيث النية..
يريد بمعنى يحب:
ويقول البعض: إن قوله: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).
كقوله: (مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ).
وكقوله: (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ).
وكقوله: (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً).
فإن إرادة الله في هذه الآيات متضمنة لمحبة الله لذلك المراد، ورضاه به، وأنه شرعه للمؤمنين، وأمرهم به. ليس في ذلك أنه خلق هذا
____________
(1) منهاج السنة ج4 ص23.
ونقول:
1 ـ إننا لم نعهد في اللغة العربية الإرادة بمعنى الحب، إلا أن يكون ذلك على سبيل التجوز، وهو يحتاج إلى قرينة، وهي مفقودة سواء في آية التطهير أو في الآيات التي استشهد بها. بل القرينة موجودة على أنه تعالى قد استعمل الإرادة بمعناها الحقيقي، وأراد بها في الآيات المذكورة الإرادة التشريعية، لأنها وردت بعد الحديث عن سلسلة من التشريعات، كما هو الحال في سورة النساء، والمائدة، حيث قرر بعدها أن الله يريد بما شرعه، التسهيل على الناس.
كما أنه في الآية الأخيرة يريد أن يرشد الناس إلى طريق المؤمنين، فإن سيرهم على هذا الطريق سيكون سبباً في المغفرة والتوبة، وكذا الحال في آية التطهير، فإن الإرادة فيها تشريعية، كما أوضحناه. غاية الأمر أنها تكشف عن إرادة تكوينية أخرى. وهذا مفقود في الآيات الأخرى التي ذكرت آنفاً(2).
2 ـ إنه لا شك في أن الله سبحانه قد جاء بهذه الآية بهدف المدح والتشريف والتكريم الخاص بالرسول (صلى الله عليه وآله)، وأهل بيته كما بينه الرسول (صلى الله عليه وآله)
____________
(1) منهاج السنة ج4 ص20.
(2) هذا الذي قدمناه قد ذكره بعض الأخوةالأفاضل، وهو كلام جيد..
ومن الواضح: أن محبة الله للناس أن يعملوا بأحكام الشريعة ليست خاصة بالرسول (صلى الله عليه وآله) وبأهل بيته (عليهم السلام)؛ فلابد أن يكون للكلام في هذه الآية منحى يختلف عنه في الآيات التي ذكرها المستدل آنفاً. فلا يمكن أن يُجْعَل أحدهما شاهداً على المراد في الآخر.
3 ـ لا حاجة بنا إلى التذكير بما ذكرناه سابقاً من أن العصمة لا يلزم منها الإكراه والإجبار؛ فالآية تدل على حصول التطهير، وإذهاب الرجس لا محالة.
ولاشك في صدق إخبار الله تعالى. وتحقق ما أخبر به. ويكون ذلك كإخبارنا عن طلوع الشمس غداً، فإن ذلك لا يدل على أن لنا مدخلية أو تأثيراً في طلوعها، وإن كان ما اخبرنا به واقعاً لا محالة، استناداً إلى علته الخاصة به.
4 ـ لقد صرحت النصوص الكثيرة بأن النبي (صلى الله عليه وآله) مشمول لآية التطهير، وقد قبل ذلك العلماء والمحققون بصورة عامة (1)، بل لقد ادّعي
____________
(1) راجع فيما تقدم: تفسير القرآن العظيم ج3 ص485 وينابيع المودة ص294 والصواعق المحرقة ص141 والمواهب اللدنية ج2ص123 وفتح القدير ج4 ص279 وتهذيب تاريخ دمشق ج4 ص208 وإسعاف الراغبين (مطبوع بهامش نور الأبصار) ص108 وتفسير القمي ج2 ص193 / 194 والكشاف ج3 ص538 ومشكل الآثار ج1 ص232 ـ 239 والمعتصر من المختصر ج2
=>
فإذا كان الله سبحانه يريد أن يطهرهم بواسطة تكليف الزوجات بهذه الأحكام، فهل يعقل ـ والحالة هذه ـ أن لا يكون النبي (صلى الله عليه وآله)، وأصحاب الكساء الذين هم أهل بيته، قد حصلوا على الطهارة الذاتية قبل ذلك، وبعده؟!
وبعبارة أخرى: إن الله يريد بأوامره لزوجات النبي (صلى الله عليه وآله) أن يبعد العيب والنقص عن ساحة النبي (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته ـ ولو بهذا المقدار، فهل يتصور ان يكون النبي (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته غير مطهرين من الأدناس بالفعل؟!
5 ـ قد عرفنا: أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد قال في سياق حديثه عن آية التطهير، واستناداً إليها:
«فأنا وأهل بيتي مطهرون من الذنوب»(2).
____________
<=
ص266 و267 وراجع أيضاً: شواهد التنزيل ج2 ص81 و82 و86 و89 وترجمة الإمام الحسين (عليه السلام) لابن عساكر (بتحقيق المحمودي) ص67 ـ 69 ومناقب الإمام علي (عليه السلام) لابن المغازلي برقم338 والبحار، وجامع البيان وذخائر العقبى، وغير ذلك وآية التطهير في أحاديث الفريقين بمجلديه: الأول والثاني.
(1) راجع: جوامع الجامع (تعليقات السيد محمد علي القاضي) ص372.
(2) تقدمت مصادر هذا النص حين الكلام حول أدلة تعميم «أهل البيت» لبني هاشم. وستأتي أيضاً في الصفحات الثلاثة التالية.
هذا كله، عدا عن النصوص التي لا تكاد تحصى كثرة وقد ذكرها الأئمة (عليهم السلام) في احتجاجاتهم، وتعداد فضائلهم، وفي كثير من أدعيتهم. وهي تدل على أن الله سبحانه قد طهرهم وأذهب عنهم الرجس فعلاً لا أنه أحب ذلك(1).
هم صفوة ولهم العصمة:
لقد رأى البعض: أن آية التطهير لا تدل على عصمة «أهل البيت» بل هم صفوة، وليسوا بأهل عصمة، إنما العصمة للنبيين.
أما الأمر بالأخذ عنهم في حديث الثقلين؛ فإنما هو للأئمة منهم، ولا يشمل المسيء المخلط.
والمقصود: الاقتداء بالعلماء منهم، فإذا وجد العلم في غيرهم لزم الاقتداء بذلك الغير. وإنما أشار رسول الله (صلى الله عليه وآله) إليهم لأن العنصر إذا طاب، كان معيناً لهم على فهم ما يحتاج إليه، لأن طيب العنصر يؤدي إلى محاسن الأخلاق، وهي تؤدي إلى صفاء القلب ونزاهته، فيوجب كون النور أعظم، ويشرق الصدر بنوره، ويكون ذلك عوناً على درك ما
____________
(1) راجع: آية التطهير في أحاديث الفريقين بمجلديه: الأول والثاني.
ونقول:
إننا لا نستطيع قبول كل ما ذكره هذا الرجل، وذلك لما يلي:
1 ـ إن حديثه عن الأخذ عن خصوص الأئمة العلماء من «أهل البيت»، لا عن المسيئين الخ...
لا نرى له مبرراً؛ مادام أن آية التطهير لا تشمل حتى العلماء من بني هاشم، بل هي ناظرة إلى خصوص الصفوة والأئمة منهم، وقد بينهم الرسول (صلى الله عليه وآله) في حديث الكساء، وفي حديث: الأئمة بعدي اثنا عشر كلهم من قريش، وبالذات من بني هاشم. وقد ذكرهم الرسول (صلى الله عليه وآله) بأسمائهم واحداً بعد واحد، حسبما ورد في العديد من النصوص(2).
إذن فلا مجال بعد هذا للتعميم، ولا لإثارة الشبهات على النحو الذي ذكره آنفاً.
2 ـ وأما قوله: إنه لو وجد العلم عند غيرهم لزم الاقتداء بذلك الغير.
فهو مردود أيضاً، فإنه يتضمن الرد على الله ورسوله، بعد ان عينا له ولكل أحد مصادر المعرفة بصورة دقيقة وواضحة، وأنها هي القرآن،
____________
(1) ملخص من كتاب نوادر الأصول ص69.
(2) راجع كتاب منتخب الأثر، وغيره.
والله ورسوله أعلم بالعلماء الحقيقيين، الذين هم أعرف بأمور الدين والشريعة من كل أحد.. فإذا أخبرنا الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) بأن «أهل البيت» هم العلماء الحقيقيون فليس أمامنا إلا التسليم والرضا. وهذا هو ما حصل بالفعل، وحديث الثقلين هو أحد تلك النصوص التي أخبرنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) بواسطتها بذلك.
فإذا ما أردنا أن نأخذ من أحد، فإنما نأخذ منه إذا كان قد روى ذلك وأخذه عنهم، وتلمذ به عليهم، فهذا في الحقيقة أخذ منهم، لا أخذ من العلماء دونهم.
3 ـ وأما قوله إنما العصمة للنبيين. فهو عجيب منه:
أولاً: لأنهم هم الذين يقولون: إن الأمة معصومة، وأن الإجماع نبوة بعد نبوة(1).
____________
(1) المنتظم لابن الجوزي ج9 ص210 والإلمام ج6 ص126 والإحكام في أصول الأحكام للآمدي ج1 ص204 و205 وبحوث مع أهل السنة والسلفية ص27 عن المنتظم، عن أبي الوفاء بن عقيل، أحد شيوخ الحنابلة.
وثالثاً: هناك الحديث الذي رواه السنة والشيعة ويقول النبي (صلى الله عليه وآله) فيه، بعد تلاوته آية التطهير:
«فأنا وأهل بيتي مطهرون من الآفات والذنوب»(2).
وفي بعض المصادر أنه (صلى الله عليه وآله)، قال، بعد ذكره آية التطهير:
«فأنا وأهل بيتي مطهرون من الذنوب»(3).
ورابعاً: قد قلنا: إن آية التطهير تدل على عصمة «أهل البيت» على أتم وجه وأوضحه، لأن لازمها الأخبار والشهادة الإلهية بطهارتهم (عليهم السلام). وهو إخبار صادق من صادق بلاشك.
____________
(1) سليم بن قيس ص100 و101 وعنه في البحار ط حجرية ج8 ص223.
(2) البحار ج35 ص213 و214 عن تفسير فرات.
(3) الدر المنثور ج5 ص199 عن الحكيم الترمذي، وابن مردويه، والطبراني، وأبي نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل، وفتح القدير ج4 ص280 وشواهد التنزيل ج2 ص30 وكفاية الطالب ص377 والصواعق المحرقة ص142 وينابيع المودة ص15 ومرقاة الوصول ص107 والعمدة لابن بطريق ص42 وراجع: إسعاف الراغبين بهامش نور الأبصار ص108.
رد النقض على دلالة الآية على العصمة:
يقول البعض:
«.. غاية المقصود: أنهم محفوظون عن الذنوب بعد تعلق إرادة الله بذهابها. ولو كان المراد بالتطهير إزالة الذنوب جميعاً، للزم ذلك أهل بدر جميعاً، لقوله تعالى فيهم: (وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(1).
وقال تعالى: (لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ)(2).
فلو كانت الطهارة وإذهاب الرجز تفيد العصمة لكان الصحابة أولى بذلك؛ لأن في ذلك تمام النعمة المذكورة في الآية، ولا يتصور إتمام النعمة بدون الحفظ عن المعاصي، وشر الشيطان(3).
____________
(1) سورة المائدة الآية6.
(2) سورة الأنفال الآية11.
(3) راجع: مختصر التحفة الاثني عشرية ص153 ونظرية الإمامة ص182 و183.
ونقول:
إنها مغالطة واضحة، وذلك لما يلي:
1 ـ إن الحديث في آية الأنفال في قصة بدر إنما هو عن السبب في إنزال ماء المطر عليهم، حينما كانوا بحاجة إليه للتطهير، والوضوء والاغتسال، ونحو ذلك؛ كما هو صريح الآيات.
فليس الكلام فيها ناظراً إلى التطهير من الذنوب والنقائص، كما هو الحال في آية التطهير لـ«أهل البيت» في سورة الأحزاب.
وكذا الحال بالنسبة للآية التي في سورة المائدة، فإنها إنما تتحدث عن السبب في تشريع الوضوء والتيمم، فالتطهير المراد هو الذي يناسب ذلك، وذلك بخلاف الآية التي في سورة الأحزاب، الناظرة إلى التطهير عن الرجس، وكل نقص لأناس بأعيانهم دون كل من سواهم.
2 ـ أما حديثه عن أولوية الصحابة بالعصمة فلا يصح لأن المراد في آية سورة المائدة هو تمام اللطف في محنتهم التي واجهوها مع أعدائهم حيث أنزل لهم الماء ليطهرهم به، وليثبت به أقدامهم وليس فيها أية إشارة إلى المعاصي والذنوب..
أما المراد برجز الشيطان، فهو وسوسته لهم بهدف إضعافهم وتشكيكهم بوعد الله لهم أو نحو ذلك..
3 ـ إن قوله: «إنهم محفوظون عن الذنوب بعد تعلق إرادة الله
متى تعلقت هذه الإرادة؟ فإن الآية لم تحدد لنا وقت تعلقها صراحةً. وليس من المعقول إرادة الطهارة من الرجس برهة من العمر غير محددة، فإن ذلك يحصل لكثير من الناس، بل لجميع الناس حتى الكافر منهم، فلا ضرورة بل لا معنى لتمجيد طهارة بهذا المقدار، بل يكون ذكرها لغواً..
كما أن التحديد للإرادة بوقت نزول الآية غير صحيح فإن الله سبحانه لم يكن ليرضى لأهل بيت النبوة بما هو بيت نبوة، بارتكاب الفواحش قبلها.
أضف إلى ذلك ما ذكره بعض الأخوة، من: أنه على هذا التقدير ـ لا يبقى لـ«أهل البيت» المقصود تكريمهم ومدحهم في الآية أية مزية، إذ أن كثيراً من هذه الأمة قد ارتكبوا المعاصي مدة من حياتهم، ثم تابوا وأصلحوا وطهروا من الرجس، ولو في آخر سنوات حياتهم..
وحديث ابن عباس المتقدم حول اختيار الله النبي (صلى الله عليه وآله) من الأمم والقبائل، والذي يقول: «فأنا وأهل بيتي مطهرون من الذنوب»، وغيره من النصوص يدلنا على أن طهارتهم منها قد كانت من ابتداء أمرهم(عليهم السلام)، حتى الانتهاء.
هذا بالإضافة إلى ما قدمناه من الوجوه العديدة التي استفدناها من نفس الآية، الدالة على عصمتهم (عليهم السلام) مطلقاً. فليراجع ذلك فيما سبق.
هل آية التطهير في قوة الشرطية:
والغريب في الأمر هنا: أننا نجد البعض في حين يقول: إن إرادة إذهاب الرجس في آية التطهير تكوينية، فإنه يعود، فيناقض نفسه، ويقول: إن الآية في قوة الشرطية.
وحاصل ما يريد أن يقوله هنا هو: أن الله سبحانه قد أراد تطهير «أهل البيت»، وإبعادهم عن كل رجس، وأراد ملازمتهم للتقوى والعمل الصالح. فأصدر لهم أوامر وزواجر لأجل ذلك، وهي ليست أوامر وزواجر امتحانية، بل هي لإيصالهم إلى الفضائل، وإبعادهم عن الرذائل.
فيكون هنا قضية شرطية مفادها: أنهم إذا امتثلوا الأوامر، واجتنبوا المناهي، فإن الله يذهب عنهم الرجس ويطهرهم تكويناً.
فالإرادة الإلهية مشروطة بالطاعة منهم.
وهذا نظير قولنا: أردنا أن يكون الماء رافعاً للعطش، فإن مجرد الإرادة لا تكفي لذلك، بل يشترط أن يشرب العطشان من هذا الماء. رغم أن رفع العطش يكون بالإرادة التكوينية(1).
ونقول:
إن هذا الكلام عجيب وغريب حقاً:
____________
(1) راجع روح المعاني ج21 ص18.
فأولاً:
إن كونها إرادة تكوينية، ثم اشتراط ذلك بامتثالهم للأوامر والزواجر، غير ذي فائدة، لأن هذا هو معنى الإرادة التشريعية عندهم وحصول التطهير تكويناً بعد امتثال الأوامر والزواجر لا يضر في هذه الحقيقة شيئاً.
ثانياً:
قد تقدم منا توضيح: أن إرادة الله سبحانه وتعالى قد تعلقت بإبعاد الرجس عنهم، وهي إرادة لم تتعلق بأفعالهم هم، وليس لامتثالهم وعدمه أية مدخلية فيها.
لأن الأمر والنهي إنما توجه إلى الزوجات وهو متعلق لإرادة تشريعية تكشف عن إرادة شديدة وراسخة بأن يكونوا (عليهم السلام) مطهرين عن أي رجس في ذاتهم وتكشف عن وجود طهارة فعلية لتلك الذوات.
وإذا كان الله سبحانه يضاعف العذاب ضعفين لمن يرتكب ذنباً لمجرد أنه قريب منهم في السكنى والمعاشرة، فهل يمكن أن يرضى بلحوق الرجس بذواتهم أنفسهم؟..
ثالثاً:
لو قبلنا: أن آية التطهير، قد جاءت على سبيل الاعتراض، والاستطراد، فإن الجمل الاعتراضية، والاستطرادية، لا يمكن أن تكون شرطاً للكلام الذي تقع في ضمنه، إذ أن شرطيتها حينئذٍ تنافي
رابعاً:
قد تقدم: أن هذه الآية قد جاءت لتثبت لـ«أهل البيت» امتيازاً على غيرهم. وإذا كانت الإرادة فيها تشريعية، أو تكوينية مشروطة بالطاعة منهم، لم تكن مدحاً لأحد؛ فإن الله يريد للجميع أن يطيعوه، وهو تعالى يُذْهِب عن كل مطيع رجس ما يطيعه به. ولا يختص هذا الأمر بـ«أهل البيت» (عليهم السلام)..
خامساً:
إن هناك استدلالات كثيرة لـ«أهل البيت» (عليهم السلام)، بهذه الآية على حصول التطهير الفعلي لهم، ولم يعترض عليهم أحد: بأن الآية تشترط لتطهيركم أن تعملوا بالأوامر، وأن تنتهوا عن المناهي، ولعله لم يتحقق ذلك منكم.
فذلك يدل على أن الناس و«أهل البيت» (عليهم السلام) منهم قد فهموا القضية على النحو الذي قررناه، وحديث الثقلين يؤكد مرجعية «أهل البيت» في قضايا الدين. مما يعني أن ما يقولونه هو الصواب..
إثبات الرجس أو نفيه في آية التطهير:
ثم إننا في نفس الوقت الذي نجد فيه البعض يقول: إن الآية لا تدل على نفي الرجس.
نجد البعض الآخر يجد من نفسه الجرأة على القول: إنها تدل على
ولأجل ذلك كان لابد من إلماح بإيجاز ما استند إليه هؤلاء وأولئك، وإلى الجواب عنه.
فنقول:
ألف: تصريح الآية بنفي الرجس:
قال البياضي (رحمه الله) وغيره: «قالوا: (يريد) لفظ مستقبل، فلا دليل على وقوعه».
قلنا:
1 ـ دعا النبي (صلى الله عليه وآله) لهم به؛ ولا يدعو إلا بأمر ربه؛ فيكون مقبولاً؛ فيقع.
2 ـ مع أن صيغة الاستقبال قد جاءت للماضي والحال: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ)(1). (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ)(2). (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللهِ)(3).
____________
(1) سورة المائدة الآية91.
(2) سورة النساء الآية28.
(3) سورة الفتح الآية 15.
والنص موجود في الصراط المستقيم ج1ص184 وراجع: البحار ج35 ص236.