مقدمة المؤلف
الحمد لله الذي اصطفى محمدا بالرسالة واختاره للدلالة، وارتضى عترته الطاهرة للإمامة، وخصهم بالزعامة والكرامة، وحباهم من الفضائل ما يقصر عن شأوه الأواخر والأوائل، وميزهم بالعلم الذي استمد من ينبوع فيضه، فعجزت الأفكار عن إدراك مدي تلك المنحة، وحد ذلك الفيض. والصلاة والسلام على تلك الصفوة المنتقات من بريته، محمد والأئمة الهداة من عترته.
وبعد فقد سبق أن كتبت عن الإمام الصادق عليه السلام كتاباً جمّ العناوين وكان منها عنوان في عامة، وان السابقين من أجلة العلماء، الذين كتبوا عنه عليه السلام، يذكرون في باب علمه النوادر من الأجوبة البديعة والنكات الغامضة في الفقه وغيره، وإنما هي بأجوبة عالم فطن اشبه، واين هذا من علم الإمام؟
ولما كنت لا ارى ذلك شيئاً ذا بال من الإمام، الذي أستمد فرات علمه من منبع الرسالة، المستمد من علم العلام جل شأنه ولما كنت وأمثالي نجهل حقيقة الرسالة والإمامة، ولا نعرف إلا شيئاً منهما بالاثر الخالد من العلم الغمر والفضائل المعجزة، اقتصرت في ذلك الباب
وإني لعلى علم بأن هذا البحر لا يبلغ فكري قعره، ولا يصل فهمي إلى شاطئه ولو عرفنا قدر علم الإمام لعرفنا حقيقته ومبلغ صفاته. ولو اهتدينا إلى كنهه، لوصلنا إلى معرفة من جعل الإمامة بتلك الوسامة، ورفعها إلى سمك لا نبصره ولا نصل ـ ولو بجناح العقاب ـ إلى سمائه.
ولما كان هذا الجهل لقصور في الملكة والإدراك، فلا يحول دون التفكير في مبلغ ذلك البحر العجاج، والخوض فيه بقدر ما تصل إليه حواسنا من معرفته بالآثار، ودون التحرير لما تهتدي إليه أفكارنا القاصرة، وإلا لسقط التكليف في معرفة الإمامة وتشخيص الإمام، بل وعرفان الرسالة من تقمص بأبرادها، بل ومن نصب ذلك العلم للإهتداء والمنار للدلالة.
ولا غرو ولو كنت القاصر عن بلوغ الغاية، والمتعثر في هذا الفجاج لبعد المقصد وطول الشقة، ولا أجدني عند الفكرة في ذلك العلم أو من اتصف به من تلك العصابة الزاكية إلا كراكب في زورق وسط بحر متلاطم الموج، لا تبلغ الرشا عمقه، ولا ترى العين ساحله.
راجياً منه جل شأنه، وبمن خصهم بتلك المزايا السامية والهبات الجليلة، أن يمدّ لي يدَ الرحمة، لينقذني من تلك اللجج المتلاطمة، وأنا على هدىً وسبيل نجاة، إذ ليست ضالتي المنشودة إلا خدمة الأئمة من أهل البيت، وطلب مراضيه تعالى فيهم.
محمد الحسين المظفر
مقدمات أمام البحث
1 ـ إنّ المراد بالإمام ها هنا: هو الحجة على العباد، ومن وجبت معرفته وطاعته، وحرم جهله وعصيانه. وكانت ميتة الجاهل به ميتة جاهلية، وهم: علي وأولاده الأحد عشر من الحسن إلى ابن الحسن الغائب المنتظر، عليهم من الله تعالى أزكى التحية وأفضل السلام.
أما الأنبياء السابقون، فليسوا الآن من محل الإبتلاء لنا لندخل في البحث. وأما نبينا الأكرم صلى الله عليه وسلم، فإنه يشمله البحث لكونه إماماً أيضاً. وسنشير إلى علمه قبل البحث في علم أوصيائه.
2 ـ إن المراد من العلم الحضوري أو الإرادي والإشائي، هو: ما كان موهوباً من العلاّم سبحانه، ومستفاضاً منه بطريق الإلهام، او النقر في الأسماع، أو التعليم من الرسول، أو غير ذلك من الأسباب. وهذا العلم اختص به الإمام دون غيره من الأنام.
وليس المراد من العلم ها هنا ما حصل بالكسب من الإمارات والحواس الظاهرية والصنايع الإكتسابية، لاشتراك الناس مع الإمام في هذا العلم، لأنه تابع لاسبابه الإعتيادية، وهذا لا يختص بأحد. وهو بخلاف الأول، إذ لا يمنحه علام الغيوب إلا لمن أراد واصطفى.
3 ـ إن علم الله تبارك اسمه قديم وسابق على المعلومات، وهو
فلا ينبغي أن يتوهم ذو بصيرة بأنهم مشاركون له تعالى في هذه الصفة وأن القول بالحضوري من الشرك او الغلو، لاختلاف العلمين في الصفة.
على أنّ علمه تعالى ذاتي، وعلمهم عرضي موهوب وممنوح منه جل شأنه. فلم يبق مجال لدعوى اتحاد العلمين بتاتاً.
4 ـ إنّ المراد من العلم في المقام هو العلم في الموضوعات الخارجية الجزئية الصِّرفة، لا العلم في الموضوعات للأحكام الكلية. لأن جهل الإمام بها نقص في رتبته وحطّ من منزلته، وإنّ بيانها من خصائصه ووظيفته، ولا العلم في الأحكام، لأن الإمام لابد وأن يكون علمه فيها حضورياً إذ لا يجوز أن يسئل عن حكم لم يكن علمه لديه حاضراً، وإلا لم يكن الحجة على العباد، بل ولبطلت إمامته.
5 ـ إنّ الكلام في علم الإمام يشمل العلم بالساعة والاجال والمنايا وغيرها مما ظاهره استئثاره به تعالى، والتي يجمعها قوله جل شأنه: (إن الله عنده علم الساعة وينزّل الغيث ويعلم ما في الأرحام. وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت)، لأن النصوص الخاصة صريحة في أن الله تعالى أطلعهم على هذا
علم النبي صلى الله عليه وسلم
قبل أن نبسط الكلام في علم الإمام، نسطر كلمة موجزة في علم الرسول صلى الله عليه وسلم. لأن علم الرسول هو المنبع وعنه الصدور.
إن النبي صلى الله عليه وسلم بُعِثَ للعالم أجمع، وللخليقة التي على كرة المعمورة كافة، وما كانت شريعته لتعم البشر على اختلاف الألسنة، وتباين الطباع، وتغاير الألون، وتشاسع البلدان، إلا وهي صالحة لأن يكون نظامها العام الذي تنضوي تحت لوائه، والذي يوافق ك قطر، ويلائم كل جيل، ويجتمع مع كل لسان، من دون أن يكون لقطر أو جيل أو لسان ميزة على عداه (إنما المؤمنون إخوة)وليس لأخ فضل على أخيه، وإنما هم سواء في ذلك النظام العام. نعم إنما أقربهم إلى خالق السماء وبارىء النسيم منزلة، أطوعهم لامتثال أوامره، والإنتهاء عن زواجره (إن أكرمكم عند الله أتقاكم، وإن أولياؤه إلا المتقون).
وما كان ذلك الرسول مبعوثاً بتلك الرسالة العامة للبشر: أبيضهم وأسودهم، شريفهم ووضيعهم، قريبهم وبعيدهم. من دون أن
إن الهيمنة على الكرة بأسرها، وتعميم الشريعة للعالم أجمع، يتطلبان الكفاءة والمقدرة اللتين لا تكونان في العادة لبشر مهما كان له من العلم والقدرة، وقوة الفكر والمزاج، وإعتدال الطبايع.
إن الرسالة إصلاح للبشر وتسوية في الحقوق وعدل في الأمة ومن يرتدي هذه الحلة السماوية فلا يعدو أن يكون أهلاً للنهوض بهذه الأعباء الباهضة، وكيف يتبعث الله إنساناً بذلك العبء الثقيل، ولا يجعل فيه تلك القوى الجسيمة.
فلو كانت له السيطرة على أقصى البلاد التي لا تصل رسله إليها إلا بالشهور أو السنين، ولا تصل صرختهم إليه من ولاته ودعاته وجباته إلا بذلك الزمن البعيد، فكيف يكون عدله شاملاً وأمنه مستتباً، وفي يوم فيه عامله جائر وجابيه خائف وقاضيه ظالم، ولا تصله أخبارهم إليه ولا نجدته لهم ولا رفع الظلم عنهم والإنتصاف لهم من اولئك الخونة الجائرين إلا بعد إعلامه بالشأن، وإيقافه على الحال، وهو يتطلب ذلك الأمد الأبعد.
نعم، لا بد وأن يكون لصاحب هذه الدعوى وتلك السيطرة، من العلم من لدن العلام جل وعلا، ما يحيط بالجليل والحقير والكبير والصغير، فيما تأتي به الحوادث في تلك البلاد قربت أو بعدت، ليتسنى له أن يتدارك الحيف ويرفع اظلم وينتقم من أهل العدوان، عند أول زمن. ولولا هذا العلم المحيط، وتلك القدرة على التنفيذ، لكانت الرسالة ناقصة والإصلاح والعدل غير شاملين. فعلم الرسول بالعالم، وإحاطته بما يحدث فيه. وقدرته على تعميم الإصلاح للداني والقاص والحاضر والباد. من أسس تلك الرسالة العامة، وقاعدة لزومية لتطبيق تلك الشريعة الشاملة.
غير أن الظروف لم تسمح لصاحب هذه الرسالة أن يظهر للأمّة تلك القوى القدسية. والعلم الرباني الفياض. وكيف يعلن بتلك المواهب والإسلام غض جديد. والناس لم تتعرف تعاليم الإسلام الفرعية بعد..؟ فكيف تقبل أن يتظاهر بتلك الموهبة العظمى، وتطمئن إلى الإيمان بذلك العلم؟ على أن سلطته ما اجتازت الجزيرة، وشريعته لم تهيمن على العرب كافة. دون سواهم من الأمم. بل ولم يكن كل قومه الذين انضووا تحت لوائه من ذوي الإيمان الراسخ. وما خضع البعض منهم للسلطة النبوية إلا بعد اللّتيا والتي وبعد الترهيب والترغيب. بل وكان البعض منهم يبطن الكفر ويظهر الإسلام رهبة أو رغبة (وممن حولك من الأعراب رجال منافقون. ومن أهل المدينة مردوا على النفاق) إلى غير هؤلاء ممن لم يعرف منزلة النبوة ولا يقوى
وظيفة الخليفة
لما تجلّى لديك أن الرسول لابد وأن يتحلى بتلك الصفات السامية والمواهب الإلهية. ومن العلم والقوى العالية. اللذين يؤهلانه لأن يكون صاحب السلطتين الزمنية والروحية على الأرض كلها، وأن يكون إصلاحه وعدله مخيمين على البسيطة أجمع، مسيراً لشؤون العالم. من دون أن يعاني التعب في البعيد دون القريب، والجهد في القاصي دون الداني بل هو في ذلك كله على نهج واحد. وأن أمد الرسول منقضٍ مهما طال. وجب أن يكون له خليفة ينهض بجمع الناس، وتسييرهم تحت لواء واحد. وتطبيق نظام الشريعة عليهم، وقيامه بما قام به الرسول من إفشاء العدل والإصلاح. واستتباب الأمن.
فالخلافة وظيفة تنوب عن الرسالة وتنهض بعبئها الباهض. سوى مقام النبوة والتشريع، ولو لم يكن للخليفة تلك الملكة السامية القدسية السماوية، من العلم بما يحدث في العالم، ليسير بها على سنن العدل ومناهج الإصلاح، ومن القوى النفسية التي يستطيع بها على تمشية ذلك النظام الآلهي من دون ملل أو كلل. أو سأم وبرم، أو ميل لقريب وحبيب أو ميل على بعيد وغريب، لما حصل الغرض
وهل وقعت في هذه الحبائل إلا حين صفحت عن ذلك الطَّبن بأمور الدنيا والدين، وصافحت من هو في أمس الحاجة إلى الإرشاد والاصلاح وإقالة العثرات (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع. أمَّن لا يهدي إلا أن يهدى).
وخلاصة الكلام أن الخلافة تسيير لنظام الرسالة. ونهوض بعبئها من كافة الجهات، حذو القذة بالقذة، إلا ما كان من الوحي ومقام الرسالة الخاص.
ولو لم يكن في الأمة من يقوم بهذه المهمة العظمى، لذهب فضل
وهل أحد غير ذلك الخليفة خبير بالشريعة الحقة وقدير على تغذيتها؛ كما شاء الشارع وأراد الصادع..؟ وهل احد سواه يقوى على قمع الباطل وقطع حجج ذوي الضلال..؟
الخلافة وأهل البيت
لم نقصد بما سلف إثبات الخلافة لأهل البيت ونفيها عن غيرهم، وإنما أردنا البرهان على ما يجب أن يتصف به الخليفة، فلو استلزم هذا البيان حصرها فيهم، فليس مقصوراً بالأهل ومنظوراً بالبحث.
إن إمامة أهل البيت معتقد فرقة إسلامية، ذات العدة والعدد والعلم والعمل. ولها في هذا الميدان الحلبة والواسعة والحجج القويمة، من لدن أن وجدت الإمامة والخلافة حتى هذه الساعة.
ومهما كان الأمر، فإن الخليفة ـ كما قلنا ـ لابد وأن يتقمص بتلك الخلال الكريمة من العلم الذي لا يحصل في العادة بالكسب والتعلم؛ ومن القوى التي لا توجد عادة في إنسان قط وإن أمكن عقلاً، وإنما هو من الفيوضات الربانية والمواهب السماوية.
ومن لم تكن فيه تلك المنح، فلا يقدر على تأدية ذلك الواجب.
علم الإمام الحضوري
من طرق العقل
الطريق الأول:
الحضوري أنفع للأمة
لقد قامت الحجج النيرة والبراهين العقلية، على ان الرسول لا بد له من خليفة يجمع شمل الأمّة، لئلا تتفرق عن الحق، بعد اجتماعها عليه. وهل يجمع شملها إلا ذلك القائم مقام الرسول؟
كما دلت البراهين على أنّ الخليفة لابد وأن يتحلى بالصفات التي تؤهله لان يقوم مقام صاحب الرسالة، لئلا يعجز عن إدارة شؤون الأمّة، وعن دحض مزاعم أهل الأهواء الفاسدة، والعقائد الباطلة، بالبراهين القاطعة والحجج الحقة. فإن عجز عادت الأمَّة شيعاً وشعباً، ومللاً ونحلاً.
وكما دلت على أن يكون له من العلم، بمقدار ما يمكن أن يمتد إليه سلطانه، ويهيمن عليه نظام الشريعة. ولا يمكن أن يخيِّم العدل والإصلاح والأمن، وذلك النظام على كرة الأرض ما لم يكن لذلك القائم بالأمر علم بما يحدث في هاتيك البقاع والأصقاع.
ولا بد أن يكون علمه بالحوادث: كعلمه في سائر الفنون والاديان والمعارف والأحكام. وكيف لا يكون بهذه الصفة وهو الحجة على العالم، والمؤدي عن صاحب الدعوة، والقائم بوظيفته.
ولو كان جاهلاً ببعض تلك الشؤون، أو كلها، لما صلح لأن يؤدي عن الرسول، ويقوم مقامه، ويكون حجة الله على العالم، الذي يحتج به على أهل الملل والأديان، وذوي الأهواء والآراء، والأضاليل والأباطيل وكيف يحتج الله على عباده بذوي الجهل، ومن لا فقه له، ولا علم لديه؟ وان سئل عن شيء صمت، او نطق أعرب بقوله عن جهله.
وجملة القول أنّ الإمامة ضرورية للأمّة، وأنّ الأمام لا بد له من ذلك العلم الزاخر المستمد من ينبوع علم العلام تعالى.
ولو لم يكن في الأمّة إمام على هذه الصفة، لما قامت لله الحجة البالغة على خلقه بعد الرسول، إذ لا تقوم الحجة بذوي الجهل.
فإذا كان أهل البيت هم الأئمة حقاً والخلفاء صدقاً، فلا بد أن يكونوا علماء بكل شيء علماً حضورياً مما كان ويكون وما هو كائن، وفي كل فن وحكم وأمر. فلا يجوز أن يسأل الإمام عن شيء مهما كان، ولا يكون عنده علمه، ولا يحدث شيء وهو غير خبير به، لتكون لله تعالى به الحجة البالغة على خلقه، كما كانت لصاحب الرسالة.
ولولا الإمام لانقطع أثر الرسالة العظيم، ولم تلمس الناس جدواها الجليلة في العاجل والآجل. إلى غير هذا مما يستلزم إضعاف شأن الرسألة وعدم سراية نفعها.
وإذا أبت الظروف أن تسمح لذلك الأمام باظهار ما أودعه العلام
وإذا أضاعت الناس تلك المنفعة الجليلة من مخزون علم الإمام، وصالح إرشاده وجميل إصلاحه بإعراضهم عنه وإقبالهم على سواه. فلا يكون معنى ذلك أنه لا فائدة مهمة بعلمه، لأن الفائدة الجليلة إنما ضاعت بما اختاره الناس لأنفسهم. فإن من يضع على عينيه غشاوة لئلا يبصر القمر ونوره، فلا يعدم ذلك نور القمر، وإنما يعدم الإنتفاع بذلك النور بسوء ما اختار. ولولا هذه الإضاعة وتلك الغشاوة، للمسوا تلك الجدوى، ولاهتدوا بذلك النور.
نعم! لو كان الإمام صاحب السيف والصولجان، وكانت الوسادة مثنية له، لظهر علمه ناصعاً، تبصره كل عين، وتلمس آثاره كل يد. ولم يملك من أئمة أهل البيت عليهم السلام أزمة الأمور إلا أمير المؤمنين عليه السلام أربعة سنين وأشهراً. وأنت تعلم كيف لاقى من الأمة من النزاع والصراع والقراع. ومع ذلك فقد ظهرت له في هذه المدة الوجيزة من الفضائل والعلوم ما ملأ الخافقين. وهي وإن كانت غيضاً من فيض، إلا أنها أدهشت العقول وأحارت الألباب، حتى دعت بعض الضعفاء في البصائر إلى الغلوُّ فيه ورفعه عن مستوى البشر إلى منزلة الألوهية. فكيف تراهم لو أبدى جميع المكنون من علمه، والمخزون من حكمه وحكمه.
الطريق الثاني:
الحضوري أكمل في الرسالة والإمامة
إن الأكمل في الرسالة والإمامة أن تكون الصفات في الرسول والإمام أتم الصفات، ولا تكون أتمها ما لم يكن علمه حضورياً غير معلق على الإشاءة والإرادة، لأن العلم المعلق على الإشاءة كمال لا أكمل، وفضيلة لا أفضل.
الطريق الثالث:
الحضوري أسبغ في النعمة
إن إرسال الرسل والأنبياء، وإقامة الأئمة والأوصياء، من النعم التي أسبغها المولى تعالى على عبيده، والتي يجب أن يشكرها العباد دوماً، معترفين بفضلها مقرين بجزيلها. وهل الأجود في هذه النعم التي منّ بها اللطيف سبحانه على عبادة أن تكون على أتم حاله وأكمل صنعه وأحسن صبغته، مع قدرته جل شأنه على هذه الأتمية، وعدم المانع عن إيجادها على الصفة الأكملية والصبغة الأحسنية. أو تكون على صفة التمام والكمال لا الأتمية والأكملية.
لا يرتاب العقل في أنّه من كمال المنة في أن تكون النعمة أسبغ،
الطريق الرابع:
الحضوري أتم في القدرة
لا يشك العقل في أن الله جلت قدرته قادر على أن يجعل رسوله المصطفى وأوصياءه الأصفياء، على أكمل صنعة وأزكى نقيبة وأنفس صفة كما لا يرتاب في أنّ جعلهم على ذلك الكمال الأرفع والفضل الأسمى لا مانع يحجز دونه ولا حائل يقف أمامه.
فلأي شيء إذاً لا يجري الله سبحانه قدرته في صفوته من بريته على ذلك الصنع الأكمل والشأن الأفضل. حين لا مانع عن أجراء تلك القدرة الفضلى.
الطريق الخامس:
الحضوري أكمل في اللطف
إن إرسال الرسل، وجعل الحجج، وإقامة البيِّنات؛ لطف منه
والعقل، وإن لم يصل إلى جميع المصالح والحكم التي بنى عليها الحكيم تعالى أفعاله وصنايعه، إلا أنه على يقين لحسن الظن به سبحانه بأنه جل شأنه قد بنى سائر أعماله على الحكمة والصلاح، وأنَّ الأنسب بحكمته مع سعة قدرته أن تكون مصنوعاته وصنايعه على الوجه الأكمل وبيناته وآياته على النحو الأتم، وبنيانه على الأمتن الأقوى.
الطريق السادس:
الأولى في الإمام اختيار الأفضل
إن النفس ـ ولا سيما الحساسة ـ التي نقت من دون الفضائل، وتحلت بجميل الفضائل والتي تستطيع بتلك الملكة القدسية أن تغتنم كل فضيلة، لا ريب في أنها تطمح إلى أفضل السمات وأشرف
ولا ريب في أن الحضوري أفضل من الإرادي. وإذا كان اختيار الاول راجعاً إلى الرسول أو الإمام نفسه. فلم لا يختار الأكمل، ويريد الأفضل. وأي نفس قدسية وملكة فردوسية، لا تختار الأسمى محلاً والأعلى رتبة.
الطريق السابع:
الحضوري أبلغ في المثالية
إن صفات الرسول وأوصيائه مثال لصفات الجليل تبارك اسمه ولا شبهة في أنّ الأبلغ في المثالية أن تكون صفاتهم أكمل الصفات، وخصا لهم أفضل الخصال فالعلم الحضوري هو الأولى. لأنّه الأبلغ في المثالية.
وأما أن صفاتهم مثل لصفات الخالق تعالى، فهو ما يشهد له العقل والنقل.
أما النقل فكثير، ومنه قول امير المؤمنين علي عليه السلام: «نحن صنائع الله؛ والناس بعد صنائع لنا». وتحليله أن يقال: إن الله تعالى شأنه لما احب أن يعرف خلق الخلق ليعرف، ولما أحس البشر أنّ لهم خالقاً خلقهم، ومصوراً أوجدهم، أرادوا أن يعرفوه وكيف بعد أن اوصلهم الحس إلى وجود الخالق لهم لهم لا تندفع نفوسهم إلى عرفانه. والمعرفة أساس الإتصال بين الخالق والمخلوق.
فكان ظهوره جل وعز أكشف للسر وأجلى للغشاء. ولما استحال ظهوره تعالى بنفسه لزم أن يظهر لعباده بصفاته، ولقصور العقول عن الإحاطة بغالي تلك الصفات. ولتقريب الأمر إليهم عن كثب. خلق لهم بشراً منهم يمثل لهم تلك الصفات السامية لذاته تعالى بما اتصفوا به من جميل الخصال.
وهل يا ترى خلق خلقاً أفضل في الصفات وأجمل في الخصال من نبينا الأكرم وأوصيائه الأمناء، فكانوا أحق البشر في أن يمثِّلوا صفاته القدسية. ولولا هؤلاء لما حصل الغرض من خلق الخلق، لعدم معرفتهم به تكل المعرفة المطلوبة، بدون أن يكونوا ممثلين لصفاته، فلذا كان خلق الخلق لأجل اولئك الذين مثَّلوه، ليحصل بذلك عرفانه، فكان الناس الصنايع لأجلهم.
وأما العقل، فهو بعد أن أدرك أن لهذا العالم الملموس موجداً ابتدعه يلتمس الوصول إليه. والاهتداء إلى الوقوف عليه. وبالآثار يتعرف ذلك المبدع الموجد. وأقربها إلى حسه أن يكون له مثال يكشف عن
فإذا عرفنا بالآثار أنّ خاتم الأنبياء وأوصياءه النجباء أكلم العالم صفاتاً وأفضلهم أعمالاً. عرفنا أن المثالية فيهم أتم وهل الأجدر فيها أن تكون على الطراز الأعلى والسنام الأرفع. أم على وجه لا يخلو من قصور…؟ ترى أنّ العقل يتردد في أختيار الغرار الأفضل للتمثيل، والطراز الأتم للتعريف.
الطريق الثامن:
الحضوري أبلغ في الدلالة
إن الرسول الأمين وخلفاءه الأمناء؛ أدلاء على الموجد سبحانه، المتفضل بسوابغ النعم التي تفوت حد الإحصاء.
والدليل يجب ـ بحكم العقل ـ أن يكون صالحاً للقيام بوظيفته… وهل الأبلغ في الدلالة، والأمثل في الإشارة أن يكون الدليل على أحسن سمة وأفضل صفة، أو يكفي فيه أن يتحلى بمحاسن الخصال، وإن كان ثمة ما هو أرفع مقاماً، وأعلى منزلة؟
لا يشك العقل في أن الأجدر في الدليل أن يكون أعلى منزلة، إذا كان المدلول عليه لا يحيط به الوصف، ولا يصل إلى كنهه الحس، ليكون أقرب إلى الإشارة في تعريفه. واقدر على البيان في وصفه.
الطريق التاسع:
ذو العلم الحضوري أسلم عن الإنخداع
إذا لم تكن الضمائر متجلية للإمام، ولا الدفائن منكشفة له، جاز أن لا يعرف المؤمن من المنافق والسليم من السقيم. حينما يتساوى الجميع في المظاهر الجميلة، ويتنافسون في الأعمال الجليلة.
وما الذي ـ عند ذلك ـ يحجز عن انخداعه بذلك الجمال البارز، فيمنعه عن الوقوع في الأخطار، وإيقاع سواه في المهالك. كل ذلك ركونا إلى تلك الصور الجميلة، وإعتماداً على ذلك الحسن الفاتن.
وأما إذا كان علمه حضورياً فلا تخفى عليه دخائل الصدور وخبايا الزوايا فكيف يغتر بالجمال الظاهر، أو يفتتن بالبيان الساحر؟ فصاحب العلم الحاضر أسلم عن الإنخداع وأبعد عن الإفتتان.
الطريق العاشر:
لابد أن يكون علم السفير والشهيد حضورياً
إن النبي وخلفاءه الأئمة سفراء الله في الناس وأمناؤه على خلقه،
فلو كان علمه حضورياً، لحقَّ أنَّ يكون الشهيد على الأمَّة المخبر عما تعمله، والامين على العالم الناصح لهم، والسفير فيهم، والوسيط بينه تعالى وبينهم، والمبلغ عنه أحكامه تعاليمه، وعنهم الطاعة أو العصيان.
هذا بعض ما سنح في الفكر من تقريب العقل للحضوري؛ وتقديمه على الإشائي ولو أردنا بسط البحث، لكانت الأدلة أكثر.. وبما سبق كفاية.
هل هناك حكم عقلي معارض؟
إنا لو أطلنا التفكير في هذا الشأن، وأجلنا النظر في أطرافه، لم نجد برهاناً للعقل يدفع ما سلف، ويهدم أساس ذلك البناء الرصين.
نعم أقصى ما يمكن أن يدّعي نهوضه للمقاومة، أمور ثلاثة: ـ
الأول ـ أن العقل يستعظم ذلك المقام، ويستكبر تلك المنزلة، حتى يكاد أن يلحق ذلك الزعم بالغلو.
الثاني ـ لو كان علمهم حضورياً لا لتمست آثاره، وسمعت أخباره. وكيف تخفي مثل هذه الخلة العظيمة؟
الثالث ـ اية جدوى ملموسة، لو كانت لهم تلك الملكة النفسيّة. وهم لا يقوون على إعمالها؟ وأية فائدة محسوسة. إذا كانوا على تلك الصفة وهم لا يستطيعون أن يتظاهروا بها.
الجواب عن الأول
إن الإستعظام أو الإستبعاد ليسا من البراهين لتقوم بدفع ما سلف على أنًّ مثل الإستكبار لو فرض وقوعه من العقل. فهو عند أول نظرة، وحين عرض هذه الخلة. قبل الروّية والسير لما سجله العقل من الحجج وأتى به من الشواهد المقربة..
ولو فطن إلى أنّ الحضوري ممكن بنفسه لا مانع من اتصافهم به بل
وأما الغلو فلا مورد له. بعد ما أسلفنا بيانه في المقدمة الثالثة من الفرق بين علمه تعالى وعلم الإمام على تقدير كونه حضورياً.
الجواب عن الثاني
إن مشاهدة الأثر لذلك العلم الحضوري لا يختلف فيه إثنان. إلا من يريد الحط من مقام الأئمة ودفع تلك المنزلة من العصمة.
ومثل هؤلاء لا نقف معهم في مثل هذا الموقف. ولا نخوض وإياهم في مثل هذا البحث. ونكران المشاهدة مكارة محضة.
ومن أين ذهب بعض الضعاف في البصائر إلى القول بألوهيتهم لو لم يكن هناك ما يشاهدون من الآثار التي لم تتحملها عقولهم.
وهذه كتب الفضائل بين يديك تعطيك مثالاً صالحاً لذلك العلم. فكم أخبروا عما ات وعما هو فات. وكم حدَّثوا رجلاً عما ارتكب من فعل وعما نوى في نفسه، واختلج في صدره.
ولولا الإطالة لأتينا لكل إمام من ذلك طرفاً مستملحة. وإنَّ الكتب المعدة لسرد أحوالهم أشارت إلى شيء من تلك النوادر، وكفى منها: إرشاد الشيخ المفيد، وكشف الغمة، ومناقب ابن شهراشواب، وأصول الكافي في باب مواليدهم، وبصائر الدرجات والخرائج والجرائح وروضة الكافي، وجمع شطراً منها صاحب مدينة المعاجز.
الجواب عن الثالث
إن تلبُّسهم بتلك الخصال الكريمة وإن كان لنفع البشر، إلا أنّ الناس إذا انصرفوا عن نور الحق، وتسكعوا في وهدة الباطل، بسوء الإختيار منهم، فأي تقصير يكون لمن تقمَّص بذلك الخلق الكريم، إذا لم يجد مساغاً لإظهار علمه، وإبراز ما يحمل من الهدى والرشاد..؟
ولو صح مثل هذا النقض لبطلت النبوات والشرائع، لصفح النسا عن اولئك الهداة، وإعراضهم عن هاتيك الأحكام الآلهية. بل لبطل خلق الخلق، لأنّهم لم يعرفوا الحق كما يحق ولم يعبدوه كما يجب.
نعم! لو ثُنيت الوسادة لأولئك المرشدين لعرفت الناس منازلهم حقاً ولظهرت آثارهم واضحة. ولكن كيف يمكنهم أن يعلنوا بما تضم جوانحهم، والناس مصرة على الإعراض عنهم، وعدم الاهتداء بنورهم والإنتفاع بعلمهم؛ بل والسيوف مجردة فوق رؤوسهم، إن فاه أحدهم بمكنون علمه، أو أظهر كرامة، أو أقام حجة، لم يجد ما يشيم عنه ذلك الصارم، أو يقف دون حده.
حتى أن الباقر عليه السلام قال: «لو كانت لألسنتكم أوكية لحدثت كلَّ امرىء بما له وعليه..» وحتى قال الصادق عليه السلام لمؤمن الطاق: «يابن النعمان إن العالم لا يقدر أن يخبرك بكل ما يعلم..» إلى كثير من أمثال هذا.
فكانت المخاوف من جهة، وعدم تحمل الناس ذلك من جهة أخرى، إلى ما سوى هذه الجهات، صوارفاً فألهم في إبداء ما منحوا من تلك الكرامة.
البرهان النقلي
على علم الإمام الحضوري
إن النقل «كتاباً وسنة» يعارض حكم العقل بأنّ علم الرسول وأوصيائه حضوري، بل هو أصرح في الدلالة، وأظهر في المطلوب.
ما دل من الكتاب على علمهم الحضوري
لقد نطق الكتاب المجيد في عدة آيات بعلمهم الحضوري، نذكر منها بعض الآيات الكريمة، منها قوله تعالى: (ولا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم) إن النبيّ وخلفاءه الأئمة من الراسخين في العلم، الذين قرن الله جل شأنه علمهم بالتأويل بعلمه. فعلّمهم بالتأويل في عرض علمه. وكيف يعلمون التأويل وعلمهم غائب عنهم؟ وكيف يقرنهم جل شأنه في العلم بعلمه وعلمهم غير حاضر لديهم؟.
ومنها قوله سبحانه: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى) فقد دلت هذه الآية الكريمة على أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق إلا عن وحي وتعليم، من دون أن يذكر لذلك التعليم حدّاً، وللوحي قيداً، وإن الأئمة ورثة النبي صلى الله عليه وسلم في علمه وسائر فضائله.
ومنها قوله عز شأنه: (ولا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول) ولا شك في أنّ نبِّينا الاكرم ممن ارتضاه تعالى للإطلاع على غيبه، بل الأخبار في تفسير هذه الآية الكريمة صريحة بهذا. وهل العلم الحضوري إلا الإطلاع على الغيب؟ وهل المستبعد المستعظم
ومنها قوله تبارك وعلا: (وتعيها أُذُنٌ واعية) وقد جاء في تفسيرها إنّ الأُذن الواعية هي أُذن أمير المؤمنين عليه السالم وأنّها وعت ما كان وما يكون.
ومنها قوله عز وجل: (إذا جئنا من كل أُمّة بشهيد) وقوله تعالى شأنه: (وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد) إلى غيرهما من الآيات المصرّحة بوجود الشاهد على الأمّة يوم البعث والحساب، وقد فسرت بالنبي صلى الله عليه وسلم وأوصيائه الأمناء. وكيف يكونوا الشهداء على الناس، وهم لا يعلمون شيئاً من حالهم، ولا يدرون بما يعملون..؟ وهل يكون الشاهد إلا الحاضر المطَّلع..؟
ومنها قوله تعالى: (بل هو آيات بينات في صدور الذين أتوا العلم) وقد صح أنَّهم هم المقصودون بهذه الآية. ولو لم يكن علمهم حاضراً، لما صدق عليهم أنَّهم أوتوا العلم. وكيف يكون ثابتاً في صدورهم وهم لا يعرفونه؟ وهل يكون غير الموجود ثابتاً؟
وقوله تعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء) فبهذا نفهم انّه صلى الله عليه وسلم عالم بكلِّ شيء، ولا يكون ذلك إلا بالحضوري. وما انتهى إليه صلى الله عليه وسلم فقد انتهى إليهم.
إلى غير هذه الآيات البينات، مما يشهد لذلك العلم الحاضر.
ما دلّ من الحديث على علمهم الحضوري
لقد صرحت الأخبار، وأنبأت بوضوح، بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم والأئمة من ولده، من ذلك العلم الحاضر… ونورد طرفاً منها في ضمن طوائف.
الطائفة الأولى:
الأئمة خزنة العلم والحجة البالغة
صرّحت طائفة من الأحاديث بأنّ الأئمة من أهل البيت عليهم السلام خزنة علم الله وعيبة وحيه، وأنّهم الحجة البالغة على من دون السماء ومن فوق الأرض (1).
إن علم الله سبحانه لا يحصيه حاسب، ولا يحصره كاتب. وهل يكون الخازن جاهلاً بما في الخزانة والعيبة؟ وهل هو إلا كناية عن استيداعه تعالى علمه أوعية صدورهم، وغياب قلوبهم.
وكيف يحجب الله تعالى علمه عن حجته؟ وكيف تكون تلك الحجة بالغة؟ وليس لديها علم بالحوادث والأعمال، لتكون مخبرة لهم عما يعملون عند الإعجاز والكرامة.
وإن عموم العلم المخزون عندهم شامل لكل أمر من حكم أو موضوع كلي أو جزئي.
____________
(1) الكافي: كتاب الحجة، باب إنّ الأئمة عليهم السلام ولاة الله وخزنة علمه، وباب إن الأئمة أركان الأرض، إلى غيرهما من الأبواب.
الطائفة الثانية:
علمهم بما في السماء والأرض
صرحت هذه الطائفة من الأحاديث بأنّ الله سبحانه أجل وأكرم من أن يفرض طاعة عبد يحجب عنه علم سمائه وأرضه (1).
وهذه فوق صراحتها بالمطلوب دلّت على أنَّ حجب علم السماء والأرض عن الإمام مما يستلزم النسبة لله بما ينافي كرمه وجلالة شأنه.
بل لو حجب ذلك العلم عنه لما صحَّ لأن يكون مفترض الطاعة. وكيف تكون طاعته مفروضة، وليس لديه علم ما يسأل عنه.
الطائفة الثالثة:
إن الأئمة هم الراسخون في العلم والذين أوتوا العلم
نطقت هذه الطائفة من الأحاديث بأنّ الراسخين في العلم الذين علموا تأويل القرآن، والمقرون علمهم بالتأويل بعلمه جل شأنه: هم الأئمة من أهل البيت، وأنّهم هم الذين قال الله تعالى عنهم في محكم فرقانه: (آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم) (2).
____________
(1) الكافي، كتاب الحجة، باب أنّ الأئمة يعلمون علم ما كان وما يكون وأنّه لا يخفى عليهم شيء صلوات الله عليهم.
(2) الكافي، باب أن الراسخين في العلم هم الأئمة، وباب أنَّ الأئمة قد أوتوا العلم وأثبت في صدورهم.
كيف يا ترى شأو العلم يقرن الجليل تبارك وعلا بعلمه؟ وكيف يا ترى شأنهم والله تعالى يخبر عنهم بأنَّهم الراسخون في العلم، وأنَّهم أوتوه وأثبت في صدورهم؟.
ولو أمكن وصف علمهم بأعلى وأرفع من الحضوري لكان في هذه الأحاديث المفسرة لتلك الآيات الكريمة، مجال لذلك الوصف. وإنما نسمي علمهم بالحاضر لقصورنا عن إدراك وصف أسمى منه بل ولجهلنا لحقيقة ذلك العلم.
الطائفة الرابعة:
الأئمة معدن العلم ووارثوه
أنبأت هذه الطائفة: بأنَّ الأئمة عليهم السلام شجرة النبوة، وبيت الرحمة، ومعدن العلم، ومختلف الملائكة، وموضع الرِّسالة، وورثة العلم يورثه بعضهم بعضاً (1).
وهل يريد المرء بالإفصاح عن علمهم الحضوري بأجلى من هذا البيان وأظهر من هذا المفاد؟ وكيف يكونون معدناً للعلم، ولا علم يحضر هذا المعدن؟ وكيف يتوارثون العلم، والمتوارث شيء غير موجود؟
ولو ادعي أنّها تختص بالعلم بالأحكام وموضوعاتها الكلية، فلا نجد مبرراً لهذه الدعوى، واللفظ عام والعموم أليق بتلك
____________
(1) الكافي، باب إنّ الأئمة عليهم السلام معدن العلم وشجرة النبوة ومختلف الملائكة، وباب إنّ الأئمة عليهم السلام ورثة العلم يورث بعضهم بعضاً العلم.
الطائفة الخامسة:
الأئمة ورثة علم النبي صلى الله عليه وسلم
نطقت هذه الطائفة بأنّ الأئمة عليهم السلام ورثة علم النبي صلى الله عليه وسلم وأنّ النبي صلى الله عليهم وسلم ورث جميع علوم الأنبياء والرسل وأولي العزم (1).
فهذه الطائفة أخبرتنا بأنّ علم العالم كلّه وصل إليهم، واجتمع عندهم فكل ما كان للأنبياء والرسل وأوصيائهم من علم فهو قد انتهى إليهم وورثوه منهم. وهل بعد هذا العلم الذي كان عليه كافة الرسل وصار لديهم يبقى مجال لان يقال بأنَّ علمهم ليس بحاضر، بل حضوره تابع للإشاءة، فإذا لم يكن حاضراً لديهم فأي شيء، ورثوه إذاً؟
الطائفة السادسة:
إن لديهم جميع الكتب ويعرفونها على اختلاف ألسنتها
أخبرت هذه الطائفة بأنّ عند الأئمة عليهم السلام جميع الكتب السماوية،
____________
(1) الكافي، باب الأئمة عليهم السلام ورثوا النبي صلى الله عليه وآله وجميع الأنبياء والأوصياء.
إن في الكتب علم الأول والآخر والسالف والحاضر، وعلم الأحكام والحوادث والمنايا والبلايا وكل شيء، فليت شعري هل يقرءون تلك الكتب وهم يجهلون ما يقرءون، أو يعرفون بعضاً وينكرون بعضاً..؟ إنَّ هذا لشيء عجاب.
الطائفة السابعة:
الأئمة يعلمون الكتاب كله
صرّحت هذه الطائفة من الأحاديث بأنَّ الأئمة يعلمون ما في القرآن المجيد كلِّه، حتى قال الصادق عليه السلام: «والله إنّي لأعلم كتاب الله من أوله إلى آخره، كأنه في كفي فيه خبر السماء وخبر الأرض، وخبر ما كان وخبر ما هو كائن، قال الله عز وجل: (فيه تبيان كل شيء) (2).
وهل يطلب الباحث أثراً بعد عين، أفترى أنّه أراد من العلم بكتاب الله الذي فيه تبيان كل شيء، من خبر السماء والأرض، وما كان أو هو كائن، هو العلم بالأحكام أو موضوعاتها لا الحوادث والاعمال، وما وقع أو يقع من شؤون العالم. وهل يجوز لذي علم أو ذوق أن يحمل هذا البيان على ذلك القصد؟ وهل أصرح من هذا
____________
(1) الكافي: باب إن الأئمة عليهم السالم عندهم جميع الكتب التي نزلت من عند الله… الخ.
(2) الكافي: باب إنّه لم يجمع القرآن كله إلا الأئمة وأنّهم يعلمون علمه كله. ولا يخفى أنّه أراد الإستشهاد بمعنى الآية دون لفظها، ولفظها قوله تعالى: (ونزلنا عليك القرآن تبياناً لكل شيء).
الطائفة الثامنة:
عندهم جميع العلوم
أفصحت هذه الطائفة من الاحاديث عن سعة ذلك العلم الذي كان عند الأئمة الأمناء. فإنها أفادت: أن لله علمين: علم أظهر عليه ملائكته وأنبياءه ورسله، فما أظهر عليه ملائكته ورسله وأنبياءه فقد علمناه، وعلم أستأثر به فإذا بدا لله في شيء منه أعلمنا بذلك (1).
الله! ما اكبر منازلكم ايّها السادة الأوصياء عند رب السماء، وما ارفع مراتبكم أيّها الهداة عند خالق الأرض والسماوات: فقد رفعكم فوق منازل النبيين، وسما بكم على معارج المرسلين، حتى أطلعكم على ما استأثر به من العلم، واختصكم بما لم يظهر عليه أولي العزم من رسله… ولا أدري ما وراء هذا يراد من الحضوري؟ ولأي شيء بعد هذه الصراحة يصار إلى الاشائي؟.
الطائفة التاسعة:
يعلمون حتى بإنقلاب جناح الطائر
بيّنت هذه الطائفة من الأحاديث بأنّه ما ينقلب جناح طائر في الهواء إلا وعند الأئمة علم منه (2).
____________
(1) الكافي: باب إنّ الأئمة يعلمون جميع العلوم التي خرجت إلى الملائكة والأنبياء والرسل.
(2) كتاب عيون أخبار الرضا عليه السلام.
أوليس هذا صريحا في شمول علمهم حتى للجزئي من الحوادث، ووقوفهم على كل ما يقع ويكون، فوق ما وقع وكان.
الطائفة العاشرة:
إن الأئمة الشهداء على الناس
نطقت الأخبار العديدة بأنّ النّبي والأئمة عليهم السلام يكونون الشهداء على الناس يوم العرض والحساب. أترى يكون أحد شهيداً على أحد، وهو لا يعلم ما اقترف، ويخبر عما كان عليه وهو لا يدري ما عمل؟
هذا كله وهو بعض ما نطقت به الأحاديث وصرحت به الأخبار، إذ ليس الغرض الاستيفاء والاستقصاء، بل القصد عرفان ما كانوا عليه من ذلك العلم الزاخر. وإن كنا نجهل ما اتصفوا به، غير أنا تستظهر شيئاً أنبأت عنه أحاديثهم، ودلتنا عليه أعمالهم.
منابع علمهم
هناك أحاديث أخرى تشير إلى بعض المنابع التي يستقون منها غامر علمهم، ومنها يستفاد أن ذلك العلم المستقى لابد وأن يكون حاضراً لديهم في كل آن، وحاصلا عندهم في كل زمان، وهي على طوائف نشير إلى بعض منها.
أولاهن:
إن عندهم الإسم الأعظم
إنَّ الإسم الأعظم على ما أعربت عنه الأحاديث، على ثلاثة وسبعين حرفاً، وإنَّ الذين عندهم منه اثنان وسبعون حرفاً!، وحرف واحد استأثر به الجليل تعالى. وما كان عند «آصف» إلى حرف واحد منه، وقد أحضر به عرش بلقيس بأسرع من طرفة عين. وكان آدم عليه السلام أكثر الأنبياء عليهم السلام حظوة به، وما كان عنده إلا خمسة وعشرون حرفاً (1).
إنا وإن لم ندر ما الإسم الأعظم؟ وكيف يكون على ثلاثة وسبعين حرفاً؟ إلا أنَّنا نفهم من هذا البيان خطر شأنهم وكبر مقامهم وسعة علمهم حتى أنّ الله سبحانه سمى ذلك الحرف الذي كان عند «آصف» علماً من الكتاب، فكيف بمن كان لديه جميع حروفه؟.
ثانيهن:
إنَّ عندهم آيات الأنبياء عليهم السلام
ومن تلك المصادر لعلوم الأئمة الفياضة وقدرتهم الباهرة، وآيات
____________
(1) الكافي: باب ما أعطي الأئمة عليهم السلام من اسم الله الأعظم.
وهذا ما يعرفنا بأنّ الأئمة منحوا من العلم والفضل والقدرة ما يعجز عن وصفه البيان حتى كان لديهم جميع كتب الأنبياء وعلومهم وآياتهم فأيّ وجه بعد هذا للتردد فيما كان لديهم من العلم، ومقدار ذلك الغامر منه؟
ثالثهن:
ما عندهم من الجفر والجامعة
ومصحف فاطمة وما يحدث بالليل والنهار
وهذه إحدى المنابع لعلومهم الزاخرة، وقد أنبأت هذا الطائفة عن بيان هذه المنابع. فإنّ أبا بصير يقول: دخلت على أبي عبدالله عليه السلام فقلت: جعلت فداك: إنّي أسألك عن مسألة. ها هنا أحد يسمع كلامي؟ فرفع أبو عبدالله ستراً بينه وبين بيت آخر فأطلع فيه ثم قال: يا أبا محمد سل عما بدا لك. قال: جعلت فداك إنَّ شيعتك يتحدثون أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله علّم علياً عليه السلام ألف باب يفتح له من كل باب ألف باب؟ فقال أبو عبدالله: يا أبا محمد علَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً عليه السلام ألف باب يفتح له من كل باب ألف باب. قال أبو بصير فقلت: هذا والله العلم.
ثم أنَّ الصادق عليه السلام لما رأى استعظام أبي بصير هذا المنبع
____________
(1) الكافي: باب ما عندهم من آيات الأنبياء عليهم السلام.
ثم ذكر: إنَّ عندهم الجفر، وأنّه وعاء من أدم فيه علم النبيين والوصيين وعلم العلماء الذين مضوا من بني إسرائيل.
ثم ذكر أنّ عندهم مصحف فاطمة، وأنّه مثل القرآن ثلاث مرات ثم قال عليه السلام: إنّ عندنا علم ما كان وعلم ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة.
وفي كل هذا يقول أبي بصير مبتهراً ومستعظماً: هذا والله العلم، والصادق عليه السلام يقول: إنَّه لعلم وليس بذلك، فقال له أبو بصير: جعلت فداك فأي شيء العلم؟.
قال عليه السلام: ما يحدث بالليل والنهار، الأمر بعد الأمر، والشيء بعد الشيء، إلى يوم القيامة (1).
إنّنا وإن لم ندرك حقيقة هذه المنابع، وقدر هذه المواد، إلاّ أنَّنا نفهم من هذا البيان أنَّهم رُزقوا من العلم ما لا مزيد عليه إلى ما شاء الله جل شأنه، وأنَّه لو يسمح لنا البيان بأن نعرفه بأكثر من الحضوري، وأوسع من الحصولي، لوسمناه به.
____________
(1) الكافي: باب فيه ذكر الصحيفة والجفر والجامعة ومصحف فاطمة عليها السلام.
وهل بعد هذا يصح أن يقال في علمهم: إنَّه مبني على الإشاءة، وموقوف على الإرادة؟ وأما إشرافه عليه السلام على البيت ورفع الستر في هذه الرواية لا ليعلم هل فيه أحد، فيكون منافياً للحضوري، بل ليطمئن أبو بصير بخلو البيت من السامع.
ولقد أوجزنا بنقل الأحاديث التي دلت على سعة علومهم، وحضورها لديهم، لأننا لا نريد استقصاء ما جاء عنهم في هذا الباب، فإن الغرض الأوحد أن نعرف ما كانوا عليه من العلم، ولا نعرفه عن طريق النقل، إلا بما عرَّفوه لنا وأبانوه من ذلك المكنون في أوعية صدورهم.
وبما أوردناه يحصل الغرض المطلوب والضالة المنشودة. وإن كان ما أوردناه قطرة من غيث وغرقة من بحر، مما جاء عنهم في ذلك من الأخبار، وظهر من الآثار.
الأدلة النقلية المعارضة
ربما يقال بأنّ هناك أدلة يستفاد منها تضييق تلك الدائرة الواسعة المزعومة، وحصرها في مجال دون ذلك المجال المفروض. وهو أنَّ علمهم، وإن كان زاخر العباب بعيد القطر. إلا أنَّه لم يكن حاضراً لديهم، حاصلاً عندهم. ساعة بساعة وحيناً بحين. وإنما يكون حضوره بالأمر إذا شاءوا علم ذلك الأمر. وحصوله بالشيء إذا أرادوا أن يعلموا ذلك الشيء، ولم يكن العلم منهم سابقاً على الإشاءة. حاضراً قبل الإرادة. وعليه الكتاب والسنة.
الكتاب
ما دل من الكتاب على إن علمهم ليس بحاضر:
إن من تدبَّر الكتاب المجيد، واستقصى سوره، وجد فيه آيات عديدة تدل على إنَّ نبيَّنا صلى الله عليه وسلم، بل والأنبياء عليهم السلام كافة لا يعلمون الغيب. وليس لهم من العلم إلا ما علّمهم العلاّم جل شأنه.
والأئمة من أهل البيت عليهم السلام ليسوا بأولى من النبي بذلك. إذ أقصى ما نقول في علمهم أنَّه ورثوه عن النبي صلى الله عليه وسلم.وأنّه انتهى إليهم ما كان يعلمه صلى الله عليه وآله من جميع العلوم.
فمع تلك الآيات الكريمة قوله تعالى: (وعنده مفاتح الغيب لا
ومن تلك الآيات البينات قوله تبارك وعلا: (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء) فهذه وإن دلت على أنَّه تعالى يجوز أن يشرف عباده على علمه. إلا أنّها دلت على إنَّ العباد قاصرون عن الإحاطة بعلمه. ولو كان علمهم حاضراً لأحاطوا بعلمه سبحانه.
ومنها قوله تعالى شأنه: (سنقرئك فلا تنسى) فقد دلت هذه الآية الكريمة على انَّ النسيان سائغ عروضه على النبي صلى الله عليه وسلم ولو كان حاضر العلم لما جاز نسيانه، ولا إحتاج إلى لفته، بأن يكون متنبهاً لما يقرأ عليه حتى لا ينسى.
ومنها قوله عز وجل: (قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله) فهذه الآية صريحة بإنحصار علم الغيب بالله جل شأنه. ولو كانوا حاضري العلم لاشتركوا معه سبحانه بهذه الصفة، بل إنَّ النبي نفسه يعترف بأنّه لا يعلم الغيب، كما حكى عنه تعالى ذلك في قوله تبارك وعز: (ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير).. وهل بعد هاتين الآيتين من شبهة في إنَّ علم الغيب منحصر به تعالى، وأنَّ علمهم ليس بحاضر؟
ومنها قوله عز شأنه: (ومن حولك من الأعراب رجال منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق، لا تعلمهم نحن نعلمهم) وأي