الصفحة 92
إقليمين متباعدين، ففيه وجهان عند الشافعية، أصحهما ما عليه الجمهور بطلان بيعتهما، وثانيهما: ما ذهب إليه أبو إسحاق الإسفراييني، واختاره إمام الحرمين، صحة بيعتهما جميعاً، لأنه قد تدعو الحاجة إلى ذلك - كما كانت الخلافة الأموية في الأندلس، والفاطمية في مصر والمغرب، مع قيام الخلافة العباسية في العراق -.

هذا وقد اختلف العلماء فيما إذا انفرد واحد بشروط الإمامة، هل تثبت إمامته بمجرد تفرده بها من غير عقد بيعة؟ ذهب فريق من العلماء إلى انعقاد إمامته - وإن لم يعقدها له أهل الحل والعقد - لأن المقصود من الاختيار، إنما هو تمييز من يستحق الولاية، وقد تميز هذا بصفته، وهذا ما نقله الماوردي عن بعض علماء أهل العراق.

على أن هناك من يرى أنها لا تنعقد، إلا بعقد أهل الحل والعقد، لأن الإمامة عقد، فلا يصح إلا بعاقد، كما لو انفرد واحد باستجماع شرائط القضاء، فإنه لا يصير قاضياً حتى يولي، وهو ما عليه جمهور الفقهاء، وعليه اقتصر الرافعي والنووي، المعتمد على ترجيحهما (1).

2 - الطريق الثاني: العهد:

كان الطريق الثاني من الطرق التي تنعقد بها الإمامة هو العهد، وهو أن يعهد الخليفة المستقر إلى غيره، ممن استجمع شرائط الخلافة بالخلافة بعده، فإذا مات العاهد انتقلت الخلافة بعد موته إلى المعهود إليه، ولا يحتاج مع ذلك إلى تجديد بيعة من أهل الحل والعقد، ولذلك حالتان:

الأولى: أن يعهد الخليفة بالخلافة من بعده إلى واحد فقط، فيجب الاقتصار عليه، والأصل في ذلك ما روي من أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه

____________

(1) القلقشندي: المرجع السابق ص 46 - 48.

الصفحة 93
في مرضه الذي مات فيه، دعا عثمان بن عفان - وهو يومئذ كاتبه - فقال له:

أكتب، قال: ما كتب؟ قال: أكتب، هذا ما عهد أبو بكر، خليفة رسول الله، آخر عهده بالدنيا، وأول عهده بالآخرة، أني أستخلف عليكم، ثم رهقته عينه فنام، فكتب: عمر بن الخطاب، ثم استيقظ أبو بكر فقال: هل كتبت شيئاً؟

قال: نعم، كتبت عمر بن الخطاب، فقال: أما إنك لو كتبت نفسك، لكنت لها أهلاً، ولكن اكتب: استخلفت عليكم عمر بن الخطاب، فإن بر وعدل، فذلك ظني به، وإن بدل أو غير، فلا علم لي بالغيب، والخير أردت بكم، ولكل امرئ ما اكتسب من الإثم، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

ثم دخل عليه عمر فعرفه ذلك، فأبى أن يقبل، فتهدده أبو بكر، رضي الله عنه، وقال: هاتوا سيفي، فقبل، ثم خرج عمر من عنده فدخل عليه طلحة، فبكى ولامه على تولية عمر، فانتهره أبو بكر، وقال: والله إن عمر خير لكم، وأنتم شر له، أتيتني وقد وكفت عينك تريد أن تصدني عن ديني، وتردني عن رأيي قم لا أقام الله رجلك (1).

هذا وقد اشترط العلماء لصحة الإمامة بالعهد شرطين: أحدهما أن يكون المعهود إليه مستجمعاً لشرائط الإمامة في وقت العهد، حتى لو كان المعهود إليه صغيراً، أو فاسقاً عند العهد، بالغاً عدلاً عند موت العاهد، لم يصر بذلك العهد إماماً، بل لا بد من مبايعة أهل الحل والعقد له بالخلافة.

وأما الشرط الثاني فهو أن يقبل المعهود إليه العهد، فلو امتنع المعهود إليه من القبول بويع غيره، وكأنه لا عهد.

____________

(1) أنظر عن استخلاف أبي بكر عمر بن الخطاب (تاريخ الطبري 3 / 428 - 430، الكامل في التاريخ لابن الأثير 2 / 425 - 426، تاريخ اليعقوبي 2 / 136 - 137، تاريخ ابن خلدون 2 / 903 - 904 (دار الكتاب اللبناني - بيروت 1983)، ابن كثير: البداية والنهاية 7 / 20، ابن عبد ربه:

العقد الفريد 5 / 20 - 21 (بيروت 1983) حسن إبراهيم: تاريخ الإسلام السياسي 1 / 211 - 212 (القاهرة 1964)، محمد حسين هيكل: الفاروق عمر 1 / 88 - 90 (القاهرة 1963).

الصفحة 94
هذا وقد اختلف في وقت قبول العهد، فقيل: بعد موت العاهد - كما يقبل الوصي الوصية بعد موت الموصي - والأصح أن وقته ما بين عهد الخليفة وموته، لتنتقل الإمامة عن العاهد إلى المعهود إليه مستقرة بالقبول.

هذا وقد اختلف العلماء في مدى جواز انفراد الخليفة بالعهد لولده أو والده، فذهب فريق إلى أنه ليس له الانفراد بذلك لواحد منها، بل لا بد من موافقة أهل الحل والعقد على صلاحية المعهود إليه للخلافة، لأن ذلك منه بمثابة التزكية ليجري مجرى الشهادة، وتقليده على الأمة مجرى الحكم، وهو لا يجوز أن يحكم لوالد أو ولد.

على أن فريقاً آخر، إنما أجاز ذلك، لأنه أمير الأمة، نافذ الأمر لهم وعليهم، فغلب حكم المنصب على حكم النسب، ولم يجعل للتهمة عليه في ذلك طريقاً.

وهناك فريق ثالث، أجاز له الانفراد بذلك للوالد - دون الولد - لأن الطبع إلى الولد أميل منه إلى الوالد، ولذلك كان ما يقتنيه في الأغلب مذخوراً لولده، دون الوالد.

وأما إذا كان المعهود إليه أخاً، أو ابن أخ، أو عماً أو ابن عم، أو أجنبياً، فيجوز العهد بالخلافة إليه، من غير استشارة أحد من أهل الحل والعقد (1).

والحالة الثانية: أن يتعدد المعهود إليهم، بأن يكونوا اثنين فأكثر، وهي على ضربين:

الأول: أن يجعلها الخليفة شورى بينهم، لم يقدم فيها أحداً منهم على الآخر، فيختار أهل الحل والعقد واحداً، أو يخرج الجميع أنفسهم من العهد ويبقى واحد منهم.

____________

(1) القلقشندي: المرجع السابق ص 48 - 55.

الصفحة 95
والأصل في ذلك ما رواه البخاري في صحيحه من حديث عمر بن ميمون الطويل، وفيه: قالوا: أوص يا أمير المؤمنين، استخلف، قال: ما أجد أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر أو الرهط الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو عنهم راض فسمى علياً وعثمان والزبير وطلحة وسعداً وعبد الرحمن، وقال:

يشهدكم عبد الله بن عمر، وليس له من الأمر شئ، كهيئة التعزية له...

ثم يقول: فلما انتهوا من دفنه (أي عمر) اجتمع هؤلاء الرهط، فقال عبد الرحمن: إجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم، فقال الزبير: قد جعلت أمري إلى علي، فقال طلحة: قد جعلت أمري إلى عثمان، وقال سعد: قد جعلت أمري إلى عبد الرحمن بن عوف، فقال عبد الرحمن: أيكما تبرأ من هذا الأمر، فنجعله إليه، والله عليه والإسلام، لينظرن أفضلهم في نفسه، فأسكت الشيخان، فقال عبد الرحمن: أفتجعلونه إلي، والله على أن لا ألو عن أفضلكم، قالا:

نعم، فإخذ بيد أحدهما فقال: لك قرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقدم في الإسلام، ما قد علمت، فالله عليك، لئن أمرتك لتعدلن، ولئن أمرت عثمان لتسمعن، ولتطيعن، ثم خلا بالآخر فقال له مثل ذلك، فلما أخذ الميثاق قال: إرفع يدك يا عثمان فبايعه، فبايع له علي، وولج أهل الدار فبايعوه (1).

والثاني: أن يعهد إلى اثنين فأكثر، ويرتب الخلافة فيهم بأن يقول:

الخليفة بعدي فلان، فإن مات فالخليفة بعده فلان، وهكذا، والأصل في ذلك رواية البخاري في صحيحه بسنده عن عبد الله بن سعيد عن نافع عن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، في غزوة مؤتة زيد بن حارثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر، فعبد الله بن رواحة (2).

____________

(1) صحيح البخاري 5 / 19 - 22 (دار الجيل - بيروت).

(2) صحيح البخاري 5 / 181 - 182.

الصفحة 96
قال الماوردي: وإذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم في الإمارة، جاز مثله في الخلافة (2).

3 - الطريق الثالث: القهر والاستيلاء:

من الطريق التي تنعقد بها الإمامة: القهر والاستيلاء، فإذا مات الخليفة، فتصدى للإمامة من جمع شرائطها، من غير عهد إليه من الخليفة المتقدم، ولا بيعة من أهل الحل والعقد، انعقدت إمامته، لينتظم شمل الأمة، وتتفق كلمتهم.

وأما إن لم يكن جامعاً لشرائط الخلافة، بأن كان فاسقاً أو جاهلاً، فالرأي - عند الشافعية - انعقاد إمامته، لأنها إن لم تنعقد، فكذلك أحكامه لا تنعقد، وفي هذا ما فيه من الإضرار بالناس، من حيث أن من يلي بعده يحتاج إلى أن يقيم الحدود ثانية، كما يستوفي الزكاة، ويأخذ الجزية ثانية.

على أن هناك وجهاً آخر للنظر، يذهب أصحابه إلى أن إمامته لا تنعقد، لأنه لا تنعقد له الإمامة بالبيعة، إلا باستكمال الشروط، فكذا بالقهر (2).

____________

(1) الماوردي: المرجع السابق ص 40.

(2) القلقشندي: مآثر الإنافة في معالم الخلافة 1 / 58 - 59 (الكويت 1964).

الصفحة 97

سادساً: طاعة الإمام

لا ريب في أن طاعة الإمام واجبة، قال الله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) *، فأمر الله تعالى بطاعة أولي الأمر، وهم ولاة الأمور، على ما ذهب إليه كثير من المفسرين (1).

ولعل من الأفضل هنا أن نشير إلى أهم الاتجاهات التي فسرت أولي الأمر بالحكام ولاة الأمور، جاء في تفسير المنار: وأما أولو الأمر، فقد اختلف فيهم، فقال بعضهم: هم الأمراء، واشترطوا فيهم ألا يأمروا بمحرم - كما في تفسير الجلال وغيره - والآية مطلقة، أي وإنما أخذوا هذا القيد من نصوص أخرى، كحديث لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وحديث إنما الطاعة في المعروف.

على أن هناك من يرى أن أولي الأمر، إنما هم العلماء، لكن العلماء يختلفون، فمن يطاع في المسائل الخلافية، ومن يعصى؟ وحجة هؤلاء أن العلماء هم الذين يمكنهم أن يستنبطوا الأحكام غير المنصوصة من الأحكام المنصوصة.

وقال الشيعة: إنهم الأئمة المعصومون ويذهب صاحب تفسير المنار إلى أن معنى أولي الأمر هم الذين يناط بهم النظر في أمر إصلاح الناس، أو

____________

(1) تفسير الطبري (8 / 495 - 499، تفسير ابن كثير 1 / 872 - 785، تفسير النسفي 1 / 232، تفسير القرطبي ص 1828 - 1833.

الصفحة 98
مصالح الناس، وهؤلاء يختلفون أيضاً، فكيف يؤمر بطاعتهم بدون قيد ولا شرط.

وقال الإمام محمد عبده (1266 - 1323 هـ‍/ 1849 - 1905 م) أن المراد بأولي هم جماعة أهل الحل والعقد من المسلمين، وهم الأمراء والحكام والعلماء ورؤساء الجند وسائر الرؤساء، والزعماء الذين يرجع إليهم الناس في الحاجة والمصالح العامة، فهؤلاء إذا اتفقوا على أمر - أو حكم - وجب أن يطاعوا فيه، بشرط أن يكونوا أمناء، وأن لا يخالفوا أمر الله، ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي عرفت بالتواتر، وأن يكونوا مختارين في بحثهم في الأمر، واتفاقهم عليه، وأن يكون ما يتفقون عليه من المصالح العامة، وهو ما لأولي الأمر سلطة فيه، ووقوف عليه، وأما العبادات، وما كان من قبيل الاعتقاد الديني، فلا يتعلق به أمر أهل الحل والعقد، بل هو مما يؤخذ عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فقط، ليس لأحد رأي فيه، إلا ما يكون في فهمه.

فأهل الحل والعقد إذن، إذا أجمعوا على أمر من مصالح الأمة، ليس فيه نص عن الشارع - مختارين في ذلك غير مكرهين عليه بقوة أحد ولا نفوذه - فطاعتهم واجبة، ويصح أن يقال: هم معصومون في هذا الإجماع، ولذلك أطلق الأمر بطاعتهم بلا شرط، مع اعتبار الوصف والإتباع المفهوم من الآية.

وذلك كالديوان الذي أنشأه عمر باستشارة أهل الرأي من الصحابة رضي الله عنهم، وغيره من المصالح التي أخذ بها برأي أولي الأمر من الصحابة، ولم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعترض أحد من علمائهم على ذلك.

ويقول الإمام محمد عبده: إن النيسابوري سبقه إلى اعتبار أهل الحل والعقد هم أولو الأمر، فيقول: وإذا ثبت أن حمل الآية على هذه الوجوه غير مناسب، تعين أن يكون المعصوم كل الأمة، أي أهل الحل والعقد، وأصحاب الاعتبار والآراء، فالمراد بقوله وأولي الأمر، ما اجتمعت الأمة عليه.


الصفحة 99
وقول النيسابوري: أهل الحل والعقد، وأصحاب الاعتبار، هو بمعنى قول الأستاذ الإمام، الذي أدخل فيه أمراء الجند ورؤساء المصالح، وهذا هو المعقول، لأنه مجموع هؤلاء هم الذين تثق بهم الأمة، وتحفظ مصالحها، وباتفاقهم يؤمن عليها من التفريق والشقاق، ولهذا أمر الله بطاعتهم، لا لأنهم معصومون من الخطأ، فيما يقررونه.

ويلخص الرازي الآراء المأثورة عن علماء التفسير في أولي الأمر - وهي أربعة:

1 - الخلفاء الراشدون.

2 - أمراء السرايا، وهم قواد العسكر. خاصة عند عدم خروج الإمام على رأس العسكر.

3 - علماء الدين الذين يفتون ويعلمون الناس دينهم.

4 - الأئمة المعصومون (أئمة أهل البيت).

ويذهب الرازي إلى أن حمل أولي الأمر على الأمراء والسلاطين أولى - مما ذكر آنفاً - ويدل عليه وجوه:

الأول: أن الأمراء والسلاطين أوامرهم نافذة على الخلق، فهم في الحقيقة أولو الأمر، أما أهل الإجماع فليس لهم أمر نافذ على الخلق، فكان حمل اللفظ على الأمراء والسلاطين أولى.

والثاني: أن أول الآية وآخرها يناسب ما ذكرناه، أما أول الآية فهو أنه تعالى أمر الحكام بأداء الأمانات وبرعاية العدل، وأما آخر الآية فهو أمر بالرد إلى الكتاب والسنة فيما أشكل، وهذا إنما يليق بالأمراء، لا بأهل الإجماع.

والثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم، بالغ في الترغيب في طاعة الأمراء، فقال: من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصاني فقد

الصفحة 100
عصا الله، ومن عصى أميري فقد عصاني (1). وأياً ما كان الأمر، فالذي لا ريب فيه: أن الإمام - أو الخليفة - إنما هو أعظم ولاة الأمور، لعموم ولايته، فهو أحق بالطاعة، وأجدر بالانقياد لأوامره ونواهيه - ما لم يخالف أمر الشرع - سواء أكان عادلاً، أو جائراً.

روى البخاري في صحيحه (كتاب الأحكام) قول الله تعالى:

* (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) * حدثنا عبدان، أخبرنا عبد الله عن يونس عن الزهري، أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني (2).

وروى البخاري أيضاً بسنده عن عبيد الله عن نافع عن عبد الله بن عمر، رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: السمع والطاعة على المرء المسلم، فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية، فلا سمع ولا طاعة (3).

وروى البخاري أيضاً بسنده عن الجعد عن أبي رجاء عن ابن عباس يرويه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: من رأى من أميره شيئاً فكرهه فليصبر، فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبراً، فيموت، إلا مات ميتة جاهلية (4).

وروى البخاري أيضاً بسنده عن أبي عبد الرحمن عن علي رضي الله عنه قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية، وأمر عليهم رجلاً من الأنصار، وأمرهم أن يطيعوه، فغضب عليهم وقال: أليس قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم، أن تطيعوني؟ قالوا:

____________

(1) تفسير المنار 5 / 146 - 158 (الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة 1973).

(2) صحيح البخاري 9 / 77.

(3) صحيح البخاري 9 / 78.

(4) صحيح البخاري 9 / 78.

الصفحة 101
بلى، قال: عزمت عليكم، لما جمعتم حطباً، وأوقدتم ناراً، ثم دخلتم فيها، فجمعوا حطباً فأوقدوا فلما هموا بالدخول، فقام ينظر بعضهم إلى بعض، قال بعضهم: إنما اتبعنا النبي صلى الله عليه وسلم، فراراً من النار، أفندخلها، فبينما هم كذلك، إذ خمدت وسكن غضبه، فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: لو دخلوها، ما خرجوا منها أبداً، إنما الطاعة في المعروف (1).

وروى الإمام مسلم في صحيحه بسنده عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أطاعني فقد أطاع الله، ومن يعصني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني (2).

وفي رواية: من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني (3).

وروى مسلم في صحيحه بسنده عن أبي حازم عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك، ومنشطك ومكرهك، وأثرة عليك (4).

وروى مسلم في صحيحه بسنده عن شعبة عن أبي عمران عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر قال: إن خليلي أوصاني: أن أسمع وأطيع، وإن كان عبداً مجدع الأطراف (5).

وروى مسلم في صحيحه بسنده عن يحيى بن حصين قال: سمعت جدتي تحدث أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، يخطب في حجة الوداع، وهو يقول: ولو

____________

(1) صحيح البخاري 9 / 78 - 79.

(2) صحيح مسلم 12 / 223.

(3) صحيح مسلم 12 / 223.

(4) صحيح مسلم 12 / 224.

(5) صحيح مسلم 12 / 225.

الصفحة 102
أستعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله، فاسمعوا له وأطيعوا (1).

وروى مسلم في صحيحه بسنده عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: على المرء المسلم السمع والطاعة، فيما أحب وأكره، إلا أن يؤمر بمعصية، فلا سمع، ولا طاعة (2).

وروى البيهقي في سننه بسنده عن مروان بن الحكم قال: سمعت عثمان وعلياً بين مكة والمدينة وعثمان ينهي عن المتعة، وأن يجمع بينهما - أي بين الحج والعمرة - فلما رأى ذلك علي أهل بهما جميعاً، فقال: لبيك اللهم عمرة وحجة معاً، فقال عثمان: تراني أنهى الناس عنهما، وتفعل أنت؟ فقال علي: لم أكن لأدع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقول أحد من الناس (3).

وروى مسلم في صحيحه بسنده عن زبيد عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعث جيشاً، وأمر عليهم رجلاً، فأوقد ناراً، وقال: أدخلوها، فأراد ناس أن يدخلوها، وقال الآخرون:

إنا قد فررنا منها، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال للذين أرادوا أن يدخلوها، لو دخلتموها، لم تزالوا فيها إلى يوم القيامة، وقال للآخرين قولاً حسناً، وقال:

لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف (4).

وروى مسلم أيضاً بسنده عن يحيى بن سعيد وعبيد الله بن عمر، عن عبادة بن الوليد بن عبادة عن أبيه عن جده قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وإلى أثرة علينا، وعلى أن

____________

(1) صحيح مسلم 12 / 225.

(2) صحيح مسلم 12 / 226.

(3) سنن البيهقي 5 / 22، محمد رواس قلعة جي: موسوعة فقه عثمان بن عفان - نشر جامعة أم القرى بمكة المكرمة ص 80 (مكة 404 أ / 1983 م).

(4) صحيح مسلم 12 / 226 - 227. وانظر: تفسير القرطبي ص 1830.

الصفحة 103
لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول بالحق، أينما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم (1).

وفي تفسير القرطبي: قال سهل بن عبد الله: لا يزال الناس بخير، ما عظموا السلطان والعلماء، فإذا عظموا هذين أصلح الله دنياهم وأخراهم، وإذا استخفوا بهذين فسد دنياهم وأخراهم (2).

وهكذا فإن من عصى الإمام فقد عصى الرسول، ومن عصى الرسول فقد عصى الله تعالى، ومن حارب الإمام، فقد حارب الله والرسول، وأجدر بمن حارب الله والرسول، أن يبوء بإثم عظيم، قال الله تعالى: * (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً * أن يقتلوا أو يصلبوا * أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم) * (3).

وروى أبو داود والنسائي في سننهما بسنده عن أنس بن مالك أن ناساً من عرينة قدموا المدينة فاجتووها، فبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في إبل الصدقة، وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها، ففعلوا فصحوا، فارتدوا عن الإسلام وقتلوا الراعي، وساقوا الإبل، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، في آثارهم، فجئ بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وسمر أعينهم، وألقاهم في الحرة، قال أنس: فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه عطشاً حتى ماتوا، ونزلت * (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله - الآية) * (4).

____________

(1) صحيح مسلم 12 / 227 - 228.

(2) تفسير القرطبي ص 1830 - 1831.

(3) سورة المائدة: آية 33. وانظر: تفسير القرطبي ص 2144 - 2155، تفسير المنار 6 / 291 - 304، تفسير ابن كثير 2 / 74 - 83، تفسير الطبري 10 / 243 - 289، تفسير النسفي 1 / 282 - 283.

(4) سنن أبي داود 4 / 130 - 131 (حديث رقم 4364، رقم 4369)، تحفة الأحوذي 1 / 242، سنن النسائي 7 / 93، تفسير ابن كثير 7 / 93،

الصفحة 104
والآية الشريفة جعلت المحاربين أربعة أنواع: محارب قتل فجزاؤه القتل، ومحارب قتل وسرق فجزاؤه الصلب، ومحارب سرق فجزاؤه القطع ومحارب أخاف السبيل، فجزاؤه النفي.

وقال بعض الفقهاء: لا توزيع في هذه العقوبات، وللإمام أن يحكم بأية واحدة، حسبما يراه من المصلحة، وإن كانت لهم فئة يرجعون إليها، كانوا بغاة، ولهم أحكام خاصة.

ثم ذكر سبحانه وتعالى في الآية التالية مباشرة: أنه من تاب من قبل القدرة عليه، فقد عفا الله عنه، ومن ثم فيلزم الإمام أن يدعوهم إلى طاعته، قبل أن يبدأهم بالقتال، وقد فعل ذلك سيدنا ومولانا الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكرم الله وجهه في الجنة، مع من خرجوا عليه من الحروريين (خوارج)، بل ومن خرجوا قبلهم، من أهل الجمل وصفين (1).

ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن هناك من العلماء من لم يفرق بين طاعة الأمير، في غير معصية الله، وبين استذلال الأمير للناس وقهرهم، وربما كان الأفظع والأدهى من ذلك ما نقرأه من تبرير لتسلط هؤلاء على الأمة، حتى انبرى بعضهم لتبرير مواقف بعض الحكام الظلمة، بل لا يجيز الخروج على الفاسق، كما فعل حجة الإسلام الإمام الغزالي (450 - 505 هـ‍/ 1058 - 1111 م)، وأبو بكر محمد بن الحسن بن فورك (ت 406 هـ‍) - المتكلم الأصولي -.

هذا وقد جوز ابن فورك بعثة من كان كافراً، وقال الغزالي في المنحول

____________

(1) تفسير ابن كثير 2 / 81 - 82، محمد بيومي طهران: الإمام علي بن أبي طالب 1 / 148 - 149، (دار النهضة العربية - بيروت 1990 م).

الصفحة 105
في الأصول: والمختار ما ذكره القاضي، وهو أنه لا يجب عقلا عصمتهم (أي الأنبياء)، إذ لا يستبان استحالة وقوعه بضرورة العقل ولا بنظره، وليس هو مناقضاً لمدلول المعجزة، فإن مدلول صدق اللهجة، بما يخبر عن الله تعالى، لا عمداً ولا سهواً، ومعنى التنفير باطل، فإنا نجوز أن ينبئ الله تعالى كافراً، ويؤيده بالمعجزة.

وقال بعض الحشوية: إن نبينا صلى الله عليه وسلم، كان كذلك، لقوله تعالى: * (ووجدك ضالاً فهدى) * (1).

وكان من نتائج ذلك أن تقرأ في كتبنا نحن المسلمين: تسمع وتطيع، وإن ضرب ظهرك وبطنك، وأخذ مالك، وأن الخلافة تنعقد بالقهر

____________

(1) ذهب قوم من المرجئة، وابن الطيب الباقلاني من الأشعرية، ومن اتبعه، إلى أن الرسل غير معصومين، إلا من الكذب في التبليغ، فإنه لا يجوز عليهم، وذهبت طائفة إلى أن الرسل لا يجوز عليهم كبيرة من الكبائر أصلاً، وجوزوا عليهم الصغائر.

وذهب جمهور أهل الإسلام - من أهل السنة والمعتزلة والشيعة والخوارج - إلى أنه لا يجوز البتة أن يقع من نبي أصلاً معصية عن عمد، لا صغيرة ولا كبيرة، ويقول ابن حزم: إنه يقع من الأنبياء السهو بغير قصد، ويقع منهم أيضاً قصد الشئ، يريدون به وجه الله، والتقريب منه، فيوافق خلاف مراد الله، إلا أنه سبحانه وتعالى، لا يقرهم على شئ من هذين الوجهين أصلاً، بل ينبههم إلى ذلك ويظهر ذلك لعباده ويبين لهم.

ويقول في المواقف وشرحه: أجمع أهل الملل والشرائع على عصمة الأنبياء من تعمد الكذب، فيما دل المعجز على صدقهم فيه، كدعوى الرسالة وما يبلغونه عن الله، وأما سائر الذنوب فهي إما كفر أو غيره، فأما الكفر فأجمعت الأمة على عصمتهم منه، وأما غير الكفر، فإما كبائر أو صغائر، وكل منهما إما عمداً، وإما سهواً، أو على سبيل الخطأ في التأويل، فجوزه الجمهور - إلا الجبائي -، وأما سهواً، فهو جائز اتفاقاً، واستثنى أكثر المعتزلة الصغائر الخسيسة، وهي ما يحكم على صاحبها بالخسة ودناءة الهمة، فإنها لا تجوز أصلاً - لا عمداً ولا سهواً - هذا كله بعد الوحي.

وأما قبل الوحي، فقال الجمهور: لا يمتنع أن يصدر عنهم كبيرة، وقال أكثر المعتزلة: تمتنع عليهم الكبيرة، لأن صدورها يوجب النفرة، وهي تمنع من إتباعه، فتفوت مصلحة البعثة (أحمد أمين: ضحى الإسلام 3 / 229 - القاهرة 1368 هـ‍/ 1949، ابن حزم: المرجع السابق 4 / 2 وما بعدها، شرح المواقف باختصار 3 / 204 وما بعدها).

الصفحة 106
والاستيلاء، ولو كان الأمير فاسقاً، أو جاهلاً، أو أعجمياً، ولا يحد الإمام حد الشرب، ولا ينعزل بالفسق والفجور (1).

وروى الفقيه الأندلسي أحمد بن محمد بن عبد ربه (246 - 228 هـ‍/ 860 - 940 م): أمر بعض الخلفاء رجلاً بأمر، فقال: أنا أطوع لك من الرداء، وأذل لك من الحذاء.

وقال آخر: أنا أطوع لك من يدك، وأذل لك من نعلك، وهذا قاله الحسن بن وهب لمحمد بن عبد الملك الزيات.

وقال الخليفة العباسي المنصور (136 - 158 هـ‍/ 754 - 775 م) لمسلم بن قتيبة: ما ترى في قتل أبي مسلم (الخراساني)؟ قال: * (لو كان فيهما آلها إلا الله لفسدتا) * (2)، قال: حسبك أبا أمية (3).

وروى الإمام الطبري والحافظ ابن كثير وابن الأثير: وفد عمرو بن العاص إلى معاوية - ومعه أهل مصر - فقال لهم عمرو: انظروا، إذا دخلتم على ابن هند، فلا تسلموا عليه بالخلافة، فإنه أعظم لكم في عينه، وصغروه ما استطعتم، فلما قدموا عليه، قال معاوية لحجابه: إني كأني أعرف ابن النابغة، وقد صغر أمري عند القوم، فانظروا إذا دخل الوفد فتعتعوهم أشد تعتعة (إزعاج)، تقدرون عليها، فلا يبلغني رجل منهم، إلا وقد همته نفسه بالتلف، فكان أول من دخل عليه رجل من مصر، يقال له ابن الخياط فدخل، وقد تعتع، فقال: السلام عليك يا رسول الله، فتتابع القوم على ذلك، فلما خرجوا

____________

(1) الشيخ مهدي السماوي: الإمامة في ضوء الكتاب والسنة - الجزء الأول - القاهرة 1397 / 1977 ص 34 - 35، محمد مهدي الأصفى: الإمامة في التشريع الإسلامي ص 121 - 122.

(2) سورة الأنبياء: آية 22.

(3) أحمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسي: العقد الفريد - تحقيق الدكتور مفيد محمد قميحة - الجزء الثاني - دار الكتب العلمية - بيروت 1983 ص 9.

الصفحة 107
قال لهم عمرو: لعنكم الله، نهيتكم أن تسلموا عليه بالإمارة، فسلمتم عليه بالنبوة (1).

وروى ابن الأثير عن جويرة بن أسماء قال: قدم أبو موسى الأشعري على معاوية في برنس أسود، فقال: السلام عليك يا أمين الله، قال: وعليك السلام، فلما خرج، قال معاوية: قدم الشيخ لأوليه، والله لا أوليه (2).

وروى الفقيه ابن عبد ربه الأندلسي في عقده الفريد: قال العتبي: دخل رجل على عبد الملك بن مروان (65 - 86 هـ‍/ 685 - 705 م)، فقبل يده، وقال:

يدك يا أمير المؤمنين أحق يد بالتقبيل، لعلوها في المكارم، وطهرها من المآثم، وإنك تقل التثريب، وتصفح عن الذنوب، فمن أراد بك سوءاً جعله الله حصيد سيفك، وطريد خوفك (3).

وغالى بعض الولاة في مدح الخلفاء إلى درجة الكفر والفسوق، فالحجاج الثقفي (40 - 95 هـ‍/ 660 - 714 م) - أحد جبابرة أمراء الدولة الأموية - كان يفضل الخليفة عبد الملك بن مروان، على النبي صلى الله عليه وسلم، حتى أنه خاطب الله تعالى أمام الناس قائلاً: أرسولك أفضل - يعني النبي صلى الله عليه وسلم، أم خليفتك - يعني عبد الملك - (4).

وروى الحافظ ابن كثير بسنده عن المغيرة عن بزيغ بن خالد الضبي قال:

سمعت الحجاج يخطب فقال: رسول أحدكم في حاجته، أكرم عليه أم خليفته في أهله؟ فقلت في نفسي: لله على أن لا أصلي خلفك صلاة أبداً، وإن وجدت

____________

(1) تاريخ الطبري 5 / 330 - 331، ابن الأثير: الكامل في التاريخ 4 / 11، ابن كثير: البداية والنهاية 8 / 152.

(2) الكامل في التاريخ 4 / 12.

(3) ابن عبد ربه: العقد الفريد 2 / 7.

(4) المقريزي: النزاع والتخاصم فيما بين بني أمية وبني هاشم ص 27، رسائل الجاحظ ص 297.

الصفحة 108
قوماً يجاهدونك، لأجاهدنك معهم، زاد إسحاق: فقاتل في الجماجم حتى قتل.

وقال ابن كثير: فإن صح هذا عنه، فظاهره كفر، إن أراد تفضيل منصب الخلافة على الرسالة، أو أراد أن الخليفة من بني أمية، أفضل من الرسول صلى الله عليه وسلم (1).

بل إن الحجاج الثقفي، إنما بلغ به الفسوق والعصيان أن يسخر من المسلمين الذين يتشرفون بزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول: تباً لهم، إنما يطوفون بأعواد ورمة، هلا طافوا بقصر أمير المؤمنين عبد الملك، ألا يعلمون أن خليفة المرء، خير من رسوله (2).

وهناك خالد بن عبد الله القسري - والي مكة المكرمة على أيام الوليد بن عبد الملك (86 - 96 هـ‍/ 705 - 715 م) - وكان رجل سوء، كثيراً ما يقع في سيدنا ومولانا وجدنا الإمام علي بن طالب رضي الله عنه، وكرم الله وجهه في الجنة فلقد روى ابن الأثير في كامله، وابن الأثير في كامله، وابن فهد في إتحافه، في أحداث عام 89 هـ‍، ولي خالد بن عبد الله القسري مكة (عام 89 هـ‍) فخطب أهلها، فقال: أيها الناس، أيهما أعظم، خليفة الرجل على أهله، أو رسوله إليهم؟ والله لو لم تعلموا فضل الخليفة، إلا إن إبراهيم خليل الرحمن استسقاه فسقاه ملحاً أجاجاً واستسقاه الخليفة فسقاه عذباً فراتاً - يعني بالملح زمزم، وبالماء الفرات بئراً حفرها الوليد بثنية طوى، في ثنية الحجون، وكان ماؤها عذباً، وكان ينقل ماءها، ويضعه في حوض إلى جنب زمزم، ليعرف فضله على زمزم، فغارت البئر، وذهب ماؤها، فلا يدري أين هو اليوم (3).

____________

(1) ابن كثير: البداية والنهاية 9 / 146 - 147، سنن أبي داود 2 / 514 (القاهرة 1952).

(2) ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 15 / 242 (بيروت 1967 م).

(3) ابن الأثير: الكامل في التاريخ 4 / 536 (دار صادر - بيروت 1965 م)، وانظر: ابن فهد

=>


الصفحة 109
وروى المبرد (أبو العباس محمد بن يزيد) (207 - 210 هـ‍/ 285 - 286 هـ‍) في كتابه الكامل: أن خالد بن عبد الله القسري، لما كان أمير العراق في خلافة هشام بن عبد الملك (105 - 125 هـ‍/ 724 - 743 م) كان يلعن علياً، عليه السلام، على المنبر - تقرباً لنبي أمية - فيقول: اللهم العن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هشام، صهر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على ابنته، وأبا الحسن والحسين، ثم يقبل على الناس، فيقول: هل كنيت؟ (1).

ومن أجل هذا كله، ولأسباب أخرى كثيرة، جعل الإسلام الولاية أمانة، روى مسلم في صحيحه بسنده عن بكر بن عمرو عن الحارث بن يزيد الحضرمي عن أبي حجيزة الأكبر عن أبي ذر، قال: قلت يا رسول الله، ألا تستعملني؟

قال: فضرب بيده على منكبي، ثم قال: يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها (2).

وروى مسلم عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بيتي:

اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم، فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم، فارفق به (3).

وعن معقل بن يسار المزني قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من عبد يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت، وهو غاش لرعيته، إلا حرم الله عليه الجنة (4).

____________

<=

الهاشمي: غاية المرام بأخبار سلطنة البلد الحرام ص 204 - 205 (جامعة أم القرى 1986)، تاريخ الطبري 8 / 67 - 68، الذهبي: ميزان الاعتدال 1 / 633، سير أعلام النبلاء 5 / 429، ابن العماد الحنبلي: العبر في أخبار من غبر 1 / 162، ابن كثير: البداية والنهاية 10 / 20، ابن عساكر: تهذيب تاريخ دمشق 5 / 82.

(1) المبرد: الكامل ص 114 (طبع أوروبا)، شرح نهج البلاغة 4 / 57.

(2) صحيح مسلم 12 / 209 - 210.

(3) صحيح مسلم 12 / 212 - 213.

(4) صحيح مسلم 12 / 214.