وقال الأعمش: ما زال الحسن البصري (2) يعي الحكمة، حتى نطق بها، وكان إذا ذكر عند الإمام أبي جعفر محمد الباقر بن علي بن الحسين، قال: ذاك الذي يشبه كلامه كلام الأنبياء (3).
3 - الطور الثالث: طور العصبية الجامحة:
وهي ضربان: عصبية عروق تستند إلى الأنساب، وعصبية مذاهب تستند إلى الأفكار.
____________
(1) الباقوري: مع القرآن ص 16 - 18.
(2) الحسن البصري: هو الحسن بن أبي الحسن يسار البصري أبو سعيد، وهو ابن مولى من ميسان أحضر إلى المدينة وقت الفتح، وقد ولد الحسن بالمدينة 21 هـ(642 م) ونشأ في وادي القرى ثم انتقل إلى البصرة، وقد عرف سبعين من رجال غزوة بدر، وروى عن عدد منهم، وأكثر مروياته عن أنس بن مالك، وكان يعلن رفضه لبيعة يزيد بن معاوية، وهو القائل أربع خصال كن في معاوية لو لم يكن فيه منهن إلا واحدة كانت موبقة: انتزاؤه على هذه الأمة بالسفهاء، حتى ابتزها أمرها، بغير مشورة منهم، وفيهم بقايا الصحابة وذو الفضيلة، واستخلافه ابنه بعده سكيرا خميراً، يلبس الحرير، ويضرب بالطنابير، وادعاؤه زياداً، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الولد للفراش، وللعاهر الحجر، وقتله حجراً، ويلا له من حجر، مرتين.
هذا ويعد أهل السنة الحسن البصري منهم، ويراه المعتزلة معتزلياً، فمؤسسا الاعتزال - واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد - تلميذاه، كما أنه مال إلى القول بحرية الإرادة، وكان ورعه ذا أثر في الاتجاه الصوفي في علم الكلام، وانظر عن مصادر ترجمته (طبقات ابن سعد 7 / 156 - 178، الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 1 / 2 / 40 - 42، الفهرست لابن النديم ص 37 - 38، 183، حلية الأولياء 2 / 131 - 161، طبقات الفقهاء للشيرازي ص 68 - 69، تهذيب التهذيب لابن حجر 2 / 263 - 270، المعتزلة لابن المرتضى ص 18 - 24، وفيات الأعيان 2 / 69 - 73، شذرات الذهب 1 / 136 - 138، الأعلام للزركلي 2 / 242، تذكرة الحفاظ ص 71 - 72، ميزان الاعتدال 1 / 254)، كما قدمت عنه عدة دراسات، أهمها، 1 - عبد الرحمن الجوزي: فضائل الحسن البصري - القاهرة 1350 هـ، 2 - عبد الغني المقدسي: أخبار الحسن البصري، 3 - إحسان عباس: الحسن البصري - القاهرة 1952 م.
أما آثاره: فأهم ما ينسب إليه: 1 - تفسير القرآن، 2 - القراء. 3 - رسالة في القدر.
4 - فضائل مكة. 5 - فرائض. 6 - رسالة في التكاليف. 7 - شروط الإمامة. 8 - وصية النبي لأبي هريرة. 9 - الاستغفارات المنقذة من النار. 10 - الأسماء الإدريسية. 11 - الأخبار المتفرقة.
(3) حلية الأولياء 2 / 147.
1 - فأما عصبية العروق:
فإنها فطرة في النفس الإنسانية، ومن أجل هذا لم يقاومها الإسلام، مقاومة تقضي عليها، وإنما كان شأنه معها، كشأنه مع سائر الأمور الفطرية، يقوم فيها ما أعوج، وينهنه منها ما غلا، وشاهد ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يتسنم الشرف من بيته وقبيلته وقومه، وذلك حيث يقول:
إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم (1).
فالاعتزاز بالعصبية فطرة لم يقاومها الإسلام، وإنما قاوم الظلم الناجم عنها، حتى تستقيم الحياة على ما ينفع الناس.
غير أن العرب - بما فيهم من فضائل فطرية، ظاهرتها فضائل الدين - لم يستطيعوا الاحتفاظ طويلاً بهضم نفوسهم، وقهر شهواتهم، فنزعوا إلى الاستعلاء بالعروق، والاستطالة بالأنساب، فلما مهد الإسلام لهم سبل النعمة، ومكن لهم من السلطان، استغلظت بينهم الفتن، وضرب بعضهم رقاب بعض، حتى خيم عليهم الفناء، وكانت السنة المألوفة في صدر الإسلام، أن تكون كتائب الجيش من القبائل العربية، وأن يكون أمراؤها من ساداتها.
ثم كان الملك العضوض يتربص الدوائر بآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، الطاهرين المطهرين، ضرباً بالسيوف، وقعصاً بالرماح، وصلباً على الأعواد، يحدث ذلك كله - ويا للعجب - بين أسماع الأمة وأبصارها.
ولم تكن عصبيات العروق قد ماتت في أنفس المسلمين، من غير العرب، فبدأت تستيقظ عاقدة آملة، وأعتى الشرور، شر يزحف مدفوعاً بالحقد مزوداً بالأمل، وأي أمل آمل من آل البيت، يتخذهم الطامعون في السلطان، مسعر فتنة، كما اتخذ بنو أمية وتباعهم - أول عهد دولتهم بالحياة - قميص عثمان لسان فتنة، لا يجاريه في فصاحته وبيانه لسان.
____________
(1) صحيح مسلم 15 / 36، القسطلاني: المواهب اللدنية 1 / 13.
ومهما يكن هذا السلوك مصيباً أو مخطئاً، ومثوباً أو خاطئاً - على ما يختلف في ذلك المؤرخون - فليس هاهنا موضع الحكم عليه، ولا القضاء فيه، وكل ما نريد أن نقول هو: أن الحقد يذكر بالحقد، والشر يغري بالشر والمطامع عدوي.
ولما رأى المسلمون - من غير العرب - أن بني العباس كانوا يصدرون فيما يأخذون، أو يدعون، مع أبناء عمومتهم، عن عصبية قبلية، أو عن أهواء ذاتة راح زعماؤهم يفكرون في الحصول على السلطان، ولو أفضى ذلك إلى تقويض دولة بني العباس.
ولم يكن من اليسير أن تدعو أية عصبية غير عربية إلى نفسها، دعوة صريحة، فاتخذوا من آل البيت وسيلة إلى غايات بعيدة المدى، كثيفة الحجاب، والتف من حول هذه الدعوات كثيرون، بعضهم يدفعه إلى ذلك حب آل البيت، ورغبة في الانتصاف لهم، وبعضهم يدفعه حقد دفين، وغيظ كظيم، فهاجت الفتن هياجاً شديداً، واستوعبت كثيراً من أهل السياسة، وأهل العلم، فضلاً عن الأدباء والشعراء.
وفي نفس الوقت كانت الدولة العباسية تخبط خبط عشواء، فحيناً تصادف حقاً، وأحياناً تواقع باطلاً، حتى انتكث فتلها، وأجهز عليها عملها، وقامت
2 - وأما العصبية المذهبية:
فلقد انقسم المسلمون إلى مذاهب ثلاثة:
أهل السنة والشيعة والخوارج.
فأما مذهب أهل السنة: فخصيصته تظهر في أمرين، أولهما: ترتيب الخلفاء الراشدين من الفضل حسب ترتيبهم في الولاية، فهم في الذكر والفضل معاً على هذا الترتيب: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي.
وثاني الأمرين: أن ما وقع من السلف الصالح من قتال، إنما كان الدافع إليه الاجتهاد، وبذل الوسع في طلب الحق.
2 - وأما مذهب الشيعة:
فهو مذهب الذين يهوون هوى عترة النبي صلى الله عليه وسلم، ويوالونهم من أتباع أمير المؤمنين سيدنا الإمام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه، وكرم الله وجهه في الجنة - وابنيه - الإمام الحسن والإمام الحسين، عليهم السلام -.
والصورة المجملة لمذهب الشيعة - كما سنرى - أن الإمامة ليست من المصالح العامة التي تفوض إلى نظر الأمة، بل هي ركن الدين، وقاعدة الإسلام، وفي رأيهم أنه لا يجوز أن يغفل النبي صلى الله عليه وسلم، هذا الركن، ولا أن
____________
(1) الباقوري: مع القرآن ص 20 - 23.
3 - وأما الخوارج:
فإن أصح الناس نظراً، وأقواهم بياناً، لا يبلغ من صفتهم، ما بلغ الحديث المأثور: حدثاء الأسنان، تحقرون صلاتكم بصلاتهم، وصيامكم بصيامهم، يقرأون القرآن، لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين، كما يمرق السهم من الرمية (1).
وقد كانوا من التنطع في القول والفعل والتفكير بالمنزلة التي يرثي لها الشامت، فلقد خرجوا على الإمام علي بعد واقعة التحكيم - وكانوا من قبل أصحابه وأنصاره في الجمل وصفين - واتخذوا لأنفسهم شعاراً، تستأسر له عواطف المسلمين، فذلك قولهم لا حكم إلا لله (2).
ويرد سيدنا ومولانا الإمام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه، وكرم الله وجهه في الجنة - على شعارهم هذا بقوله. كلمة حق يراد بها باطل، نعم إنه لا حكم إلا الله، ولكن هؤلاء يقولون: لا إمرة، وإنه لا بد للناس من أمير، بر أو فاجر، يعمل في إمرته المؤمن، ويستمتع فيها الكافر، ويبلغ الله فيها الأجل، ويجمع به الفئ، ويقاتل به العدو، وتأمن به السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوي، حتى يستريح بر أو يستراح من فاجر (3).
وشر ما في هؤلاء الخوارج من شر، أنهم كانوا يتأولون القرآن تأولاً يفسدون به نظام الأمة، ويشوهون به وجه الإسلام.
ومن أعجب زيغهم عن الحق، أنهم لا يتعرضون للمشركين بضر، لأن
____________
(1) أنظر روايات مختلفة للحديث الشريف (النسائي: تهذيب خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضي الله عنه ص 95 - 105 - بيروت 1983 م، سيرة ابن هشام 4 / 370.) (2) أنظر عن الخوارج (ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 4 / 132 - 278).
(3) شرح نهج البلاغة 2 / 307.
ومن أعجب زيغهم عن الحق أيضاً، أنهم كانوا يستحلون قتل أطفال المسلمين، يتأولون في ذلك قول الله تعالى - حكاية عن نوح عليه السلام - * (رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً * إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً) * (3)، فكانوا يستندون في قتل أبناء المسلمين إلى هذه الآية الكريمة، يتأولونها على أن هؤلاء الأطفال صائرون إلى الكفر والفجور، إذا بلغوا مبلغ الرجال، وبهذا يسوغ قتلهم.
وليس يعرف الناس منطقاً، أدخل في باب الخبل، وأنأى عن مقاصد الشريعة، وأشد حرباً لكتاب الله، من هذا المنطق الخبيث (4).
____________
(1) سورة التوبة: آية 6.
(2) أنظر أمثلة الكامل للمبرد 30 / 212، شرح نهج البلاغة 2 / 280 - 283.
(3) سورة نوح: آية 26 - 27.
(4) الباقوري: مع القرآن ص 43 - 44.
تاسعاً: إمامة المفضول
يقول ابن حزم: إن الخوارج والشيعة - ما عدا الزيدية - وقوم من المعتزلة، يذهبون إلى أنه لا تجوز إمامة أحد، إذا وجد من هو أفضل منه، قال أبو الحسن الأشعري: يجب أن يكون الإمام أفضل أهل زمانه في شروط الإمامة ولا تنعقد الإمامة لأحد، مع وجود من هو أفضل منه فيها - وإن أجاز بعض الأشاعرة عقد الإمامة للمفضول (1) -.
ويرى ابن حزم: أن عدم جواز عقد الإمامة للمفضول ليس صحيحاً، إذ لو كان صحيحاً، لما صحت إمامة أبداً، إذ لا يتيقن الفضل في أحد بعد الصحابة، مع توازي الناس في الفضل وتقاربهم، ثم يضرب ابن حزم مثلاً بقبيلة قريش في زمانه (أي في الفترة 384 - 456 هـ/ 994 - 1064 م)، فإنها قد كثرت، وطبقت الأرض من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، ومن أقصى المشرق إلى أقصى المغرب، فلا سبيل أن يعرف الأفضل من قوم هذا مبلغ عددهم، بوجه من الوجوه (2).
وأما أهل السنة والزيدية والمرجئة، وقوم من المعتزلة، فقد ذهبوا إلى إمامة المفضول، الذي في الناس أفضل منه، إذا كان المفضول قائماً بالكتاب والسنة، يقول ابن حزم: وهذا هو الصواب، إلا إذا كان الفضل في جميع الوجوه متيقناً، من الفضل البين والعلم - كما كان في أبي بكر (3).
وعلى أية حال، فهناك من يرى أنه لا يجوز إمامة المفضول بحال، ويفسق المفضول، إذا سبق الأفضل بالدعوة (4).
على أن الزيدية (5) - رغم اعتقادهم بأفضلية الإمام علي بن أبي طالب على
____________
(1) البغدادي: أصول الدين - بيروت 1981 ص 293.
(2) ابن حزم: الفصل في الملل والأهواء والنحل 4 / 110 (دار الباز - مكة المكرمة 1957).
(3) ابن حزم: الأصول والفروع 2 / 292 (تحقيق محمد عاطف العراقي - القاهرة 1978).
(4) أحمد صبحي: المذهب الزيدي ص 49.
(5) الزيدية: هم أتباع الإمام زيد بن علي زين العابدين بن الإمام الحسين، وبعد استشهاد زيد انقسم
=>
كان علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، أفضل الصحابة، إلا أن الخلافة فوضت إلى أبي بكر لمصلحة رأوها، وقاعدة دينية راعوها، من تسكين ثائرة الفتنة، تطييب قلوب العامة، فإن عهد الحروب التي جرت في أيام النبوة كان قريباً، وسيف أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، من دماء المشركين من قريش لم يجف بعد، والضغائن في صدور القوم من طلب الثأر، كما هي، فما كانت القلوب تميل إليه كل الميل، ولا تنقاد له الرقاب كل الانقياد، فكانت المصلحة أن يكون القائم بهذا الشأن من عرفوه باللين، والتؤدة، و التقدم في السن، والسبق في الإسلام، والقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألا ترى أنه (أي أبو بكر) لما
____________
<=
تلاميذه إلى فرق، فجعلهم القاضي عبد الجبار ست فرق: هي الجارودية والسليمانية البترية
واليمانية والصباحية والعقبية (المغني في أبواب التوحيد والعدل 20 / 184 - 185 - القاهرة
1965) وذكر الرازي لهم ثلاث فرق هي: الجارودية والسليمانية والصالحية (اعتقادات فرق
المسلمين والمشركين ص 52 - 53)، وأما الأشعري فالرأي عنده أنهم ست فرق هم: الجارودية
والبترية والعقبية، ثم النعيمية، ولا يذكر اسم الفرقة الخامسة (والتي يرى أنها تتبرأ من أبي بكر
وعمر، ولا تنكر رجعة الأموات)، وأخيراً اليعقوبية (مقالات الإسلاميين 1 / 140 - 145)، وأما
النوبختي، فيقسمهم إلى الضعفاء والأقوياء (فرق الشيعة ص 57 - 58 - دار الأضواء - بيروت
1984 م)، على أن المسعودي إنما يذكر لهم ثماني فرق (مروج الذهب 3 / 220)، ويذكر
المقريزي خمس فرق هي: الجارودية والجريدية والبترية واليعقوبية والصباحية (خطط المقريزي
2 / 352 - 354).
ولا يذكر ابن تيمية (منهاج السنة 1 / 265) والبغدادي (الفرق بين الفرق ص 22 - 23)
والاسفراييني (التبصير في الدين ص 16 - 27) والشهرستاني (الملل والنحل 1 / 154 - 162) غير
ثلاث فرق هي: الجارودية والسليمانية والبترية، وانفرد ابن النديم يذكر فرقة القاسمية (الفهرست
ص 274)، وأما الملطي أقدم مؤرخي الفرق (ت 377 هـ/ 987 م)، فقد اعتبر الزيدية من جملة
الروافض بحجة طعنهم في عثمان، وإن كانوا يتولون أبا بكر وعمر، ثم قسمهم إلى أربع فرق
(التنبيه والرد ص 38 - 39، 156)، وانظر الزيدية وفرقها (الدكتور أحمد شوقي إبراهيم: الحياة
السياسية والفكرية للزيدية في المشرق الإسلامي - رسالة دكتوراه من قسم التاريخ - كلية الآداب
- جامعة المنيا - 1411 هـ/ 1991 م).
وعلى أية حال، فإن إمامة المفضول عند الزيدية، ليست قاعدة عامة تطبق في كل الأحوال، وإلا لسقط مبرر الخروج، وإنما قال به الإمام زيد لتبرير شرعية خلافة أبي بكر، ولإسقاط دعوى الطاعنين فيه، ومن المعروف أن أهل الكوفة والبصرة اشترطوا أن يتبرأ الإمام زيد من أبي بكر وعمر، حتى ينصروه، فأبى زيد، وقال: غفر الله لهما، ما سمعت أحداً من أهل بيتي تبرأ منهما، وإني لا أقول فيهما إلا خيراً، قالوا: فلم تطلب إذن بدم أهل البيت؟ فقال: إنا كنا أحق الناس بهذا الأمر، ولكن القوم استأثروا علينا به، ودفعونا عنه، ولم يبلغ ذلك عندنا بهم كفراً، قد ولوا فعدلوا، وعملوا بالكتاب والسنة.
قالوا: فلم تقاتلوا هؤلاء إذن؟ قال: إن هؤلاء القوم (أي الأمويين) ليسوا كأولئك، إن هؤلاء ظلموا الناس، وظلموا أنفسهم وإني أدعو إلى كتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإحياء السنن، وإماتة البدع، فإن تسمعوا يكن خيراً لكم ولي، وإن تأبوا فلست عليكم بوكيل، فرفضوه وانصرفوا عنه، ونفضوا بيعته وتركوه، فلهذا سموا الرافضة من يومئذ، ومن تابعه من الناس على قوله سموا الزيدية.
وهكذا فإن الإمام زيد إنما قال بإمامة المفضول، لتبرير شرعية خلافة أبي بكر، فضلاً عن إسقاط دعوى الطاعنين فيه، ومن ثم فإن أئمة الزيدية - بعد الإمام زيد - إنما يقولون بوجوب إمامة الأفضل (1).
____________
(1) ابن كثير: البداية والنهاية 9 / 371، وانظر ابن الأثير: الكامل في التاريخ 5 / 242 - 234، تاريخ
الطبري 7 / 180 - 181، تاريخ ابن خلدون 3 / 99، 4 / 346، المقريزي: الخطط 2 / 439، ابن
العماد الحنبلي: 1 / 158 - 159، الأشعري: مقالات الإسلاميين 1 / 137، ابن تيمية: منهاج
السنة 1 / 171، 2 / 105، الذهبي: سير الأعلام النبلاء 5 / 390، المقدسي: البدء والتاريخ
6 / 50، الصفدي: الوافي بالوفيات، ابن عساكر: تاريخ دمشق 6 / 21، 26، ابن العبري:
=>
ويقول الجارودية من الزيدية: إن النبي صلى الله عليه وسلم نص على علي رضي الله عنه، بالوصف، دون التسمية، وهو الإمام بعده، والناس قصروا حيث لم يتعرفوا الوصف، ولم يطلبوا الموصوف، وإنما نصبوا أبا بكر باختيارهم، فكفروا بذلك، وقد خالف أبو الجارود (زياد بن أبي زياد) - زعيم الجارودية (2) - إمامة زيد بن علي في هذه المقالة، فإنه لم يعتقد هذا الاعتقاد (3).
____________
<=
مختصر تاريخ الدول ص 200 البغدادي: الفرق بين الفرق ص 34 - 36، الصبيان: إسعاف
الراغبين ص 22، الشهرستاني: الملل والنحل 1 / 162 - 163.
(1) القمي: كتاب المقالات والفرق ص 11 (هذا مع ملاحظة أن فرق الزيدية قد اختلفت في الصحابة
- بعد الإمام زيد - فالجارودية يطعنون في أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما، ويفسقونهما بل قال
بعضهم بكفرهما، والعياذ بالله، (الرازي: اعتقادات فرق المسلمين ص 52 - 53، الكتبي:
فوات الوفيات 2 / 37، القاضي عبد الجبار المغني 20 - 185) وبعضهم كان يتبرأ من عثمان
رضي الله عنه ويكفره (الأشعري: مقالات الإسلاميين 1 / 144 - 145، القاضي عبد الجبار:
المغني 20 / 184 - 185، الأصفهاني: مقاتل الطالبين ص 468) وبعضهم رضي بخلافة أبي
بكر وعمر، رضي الله عنهما، ولكنهم تهجموا على عثمان وكفروه، كما كفروا عائشة وطلحة
والزبير (النوبختي: فرق الشيعة ص 9، الأشعري: مقالات الإسلاميين 1 / 145، الشهرستاني:
الملل والنحل 1 / 164 - 165، القاضي عبد الجبار: المغني 20 / 184، الإسفراييني: التعبير في
الدين ص 17، الصفدي: الوافي بالوفيات 15 / 360، الجرجاني: التعريفات ص 107،
المقريزي: الخطط 2 / 352، المقدسي: البدء والتأريخ 5 / 133).
(2) القمي: كتاب المقالات والفرق - تحقيق محمد جوار مشكور - طهران 1963 ص 11.
(3) الجارودية: نسبة إلى مؤسسة زياد بن أبي زياد المنذر العبدي (المتوفى فيما بين عامي.
150، 160 هـ767، 776 م)، ويكنى أبا النجم، ويقال له النهدي والقفي والكوفي، كان من أتباع
الإمام محمد الباقر وولده الإمام جعفر الصادق، رضي الله عنهما، ثم تركهما ولحق بالزيدية، ولقبه
الإمام الباقر سر خوبا وهو شيطان كان يسكن البحر، وقال عنه الإمام الصادق: إنه أعمى القلب
والبصيرة، ويصفه النسائي بأنه متروك وليس بثقة، والجارودية من أهم فرق الزيدية، وإن كانوا
هم أنفسهم مختلفين فيما بينهم، وينسبون إلى أئمة أهل البيت العلم اللدني، فطرة وضرورة قبل
التعليم، وأن العلم ينبت في صدورهم كما ينبت الزرع المطر، وأن الحلال حلال آل محمد،
والحرام حرامهم، والأحكام أحكامهم، وأن صغيرهم وكبيرهم في الظلم سواء، وأنهم يقولون
برجعة الإمام المنتظر (وانظر عن الجارودية. الشهرستاني: الملل والنحل 1 / 157 - 158،
=>
روى ابن عبد البر (368 - 463 هـ) في كتابه الإستيعاب في معرفة الأصحاب عن سلمان الفارسي، وأبو ذر الغفاري، والمقداد بن الأسود، وخباب، وجابر بن عبد الله الأنصاري، وأبي سعيد الخدري، وزيد بن أرقم - من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أول من أسلم، وفضله هؤلاء الصحابة على غيره (1).
وقد سبق الإمام ابن حنبل، ابن عبد البر (2) إلى ذلك.
____________
<=
البغدادي: الفرق بين الفرق ص 30 - 32، الأشعري: مقالات الإسلاميين 1 / 141 / 150،
النوبختي فرق الشيعة ص 55 - 57، ابن حجر العسقلاني: تهذيب التهذيب 3 / 386، القمي:
المقالات والفرق ص 70 - 72.
(1) الشهرستاني: الملل والنحل 1 / 157 - 158، البغدادي: الفرق بين الفرق ص 30، النوبختي:
فرق الشيعة ص 21، الأشعري: مقالات الإسلاميين 1 / 141، المقدسي: البدء والتأريخ
5 / 133، الإسفراييني: التبصير في الدين ص 16، ابن تيمية: منهاج السنة 1 / 265، الجرجاني:
التعريفات ص 64، ابن المرتضى القلائد ص 47.
(2) ابن عبد البر: أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي، إمام
عصره في الحديث والأثر، وما يتعلق بهما روى على كبار شيوخ عصره، وله مصنفات كثيرة
أهمها: 1 - الاستذكار لمذهب علماء الأمصار، فيما تضمنه الموطأ من معاني الرأي والآثار،
وقد شرح فيه الموطأ على وجهه، ونسق أبوابه. 2 - الإستيعاب: وفيه ترجمة للصحابة.
3 - جامع بيان العلم وفضله، وما ينبغي في روايته وحمله. 4 - الدر في اختصار المغازي
والسيرة 5 - كتاب العقل والعقلاء وما جاء في أوصافهم. 6 - كتاب في قبائل العرب
وأنسابهم، وغير ذلك من تواليفه.
وكان الحافظ ابن عبد البر، مع تقدمه في علم الأثر، وتبصره بالفقه ومعاني الحديث، له
بسطة في علم النسب، كما صنف بهجة المجالس وآنس المجالس في ثلاثة أسفار. هذا وقد
توفي ابن عبد البر يوم الجمعة، آخر يوم من شهر ربيع الآخرة، سنة ثلاث وستين وأربعمائة،
بمدينة شاطبة بشرق الأندلس، وهي نفس السنة التي توفي فيها الحافظ الخطيب أبو بكر أحمد بن
علي بن ثابت البغدادي، وكان حافظ الشرق، وابن عبد البر حافظ الغرب، وهما إمامان في علم
الحديث، وأما ولادة ابن عبد البر فكانت يوم الجمعة، والإمام، لخمس بقين من شهر ربيع
الآخر سنة ثمان وستين وثلاثمائة (وفيات الأعيان 7 / 66 - 72، شذرات الذهب 3 / 314 - 316،
عبر الذهبي 3 / 255، ترتيب المدارك 4 / 808).
وروى الهيثمي في مجمع الزوائد عن ابن مسعود قال: قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، سبعين سورة، وختمت القرآن على خير الناس، علي بن أبي طالب عليه السلام، (رواه الطبراني في الأوسط).
وعن عقبة بن سعد العوفي قال: دخلنا على جابر بن عبد الله - وقد سقط حاجباه على عينيه فسألناه عن علي، قال - فرفع حاجبيه بيده - فقال: ذاك من خير البشر - أخرجه أحمد في المناقب.
وروى الإمام أحمد في الفضائل بسنده عن عكرمة عن ابن عباس قال:
سمعته يقول: ليس في آية القرآن * (يا أيها الذين آمنوا) *، إلا وعلي على رأسها وأميرها وشريفها، ولقد عاتب الله أصحاب محمد في القرآن، وما ذكر علياً إلا بخير (1).
قال: وذكره المحب الطبري في الرياض النضرة، والذخائر (2).
وعن ابن عباس، رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما مررت بسماء، إلا وأهلها يشتاقون إلى علي بن أبي طالب، وما في الجنة نبي، إلا وهو يشتاق إلى علي بن أبي طالب.
قال: أخرجه الملا في سيرته.
وفي شرح نهج البلاغة: والقول بتفضيل الإمام علي - رضي الله عنه،
____________
(1) الإمام ابن حنبل: فضائل الصحابة 2 / 646، 2 / 654.
(2) الرياض النضرة: 2 / 292.
وكان الزبير من القائلين به في أول الأمر، ثم رجع، وكان من بني أمية قوم يقولون بذلك، منهم خالد بن سعيد بن العاص، ومنهم عمر بن عبد العزيز (1).
روى ابن الكلبي فقال: بينا عمر بن عبد العزيز جالساً في مجلسه، دخل حاجبه، ومعه امرأة أدماء طويلة، حسنة الجسم والقامة، ورجلان متعلقان بها، ومعهم كتاب من ميمون بن مهران إلى عمر، فدفعوا إليه الكتاب، ففضه فإذا فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم، إلى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز، من ميمون بن مهران، سلام عليك ورحمة الله وبركاته، أما بعد، فإنه ورد علينا أمر ضاقت به الصدور، وعجزت عنه الأوساع (جمع وسع، وهو الطاقة)، وهربنا بأنفسنا عنه، ووكلناه إلى عالمه، لقول الله عز وجل * (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم، لعلمه الذين يستنبطونه منهم) * (2).
____________
(1) الرياض النضرة 2 / 274، ذخائر القربى ص 89.
المحب الطبري: الرياض النضرة في مناقب العشرة 2 / 292 (طنطا 1372 هـ/ 1953 م)، وانظر في الباب أحاديث أخرى (فضائل الصحابة 2 / 616، 2 / 663، 2 / 711 - 712، المسند 1 / 157، صحيح الترمذي 5 / 29، كنز العمال 6 / 216، 7 / 102، المستدرك للحاكم 3 / 138، تهذيب الخصائص ص 29 - 31، تحفة الأشراف 7 / 353، الرياض النضرة 2 / 279 - 280.
(2) سورة النساء: آية 83.
وإن الزوج يقول: كذبت، وأثمت، لقد بر قسمي، وصدقت مقالتي، وإنها امرأتي - على رغم أنفك، وغيظ قلبك - فاجتمعوا إلي يختصمون في ذلك، فسألت الرجل عن يمينه، فقال: نعم، قد كان ذلك، وقد حلفت بطلاقها: أن علياً خير هذه الأمة، وأولاها برسول الله صلى الله عليه وسلم، عرفه من عرفه، وأنكره من أنكره، فليغضب من غضب، وليرض من رضى.
وتسامع الناس بذلك، فاجتمعوا له، وإن كانت الألسن مجتمعة، فالقلوب شتى، وقد علمت - يا أمير المؤمنين - اختلاف الناس في أهوائهم، وتسرعهم إلى ما فيه الفتنة، فأحجمنا عن الحكم، لتحكم بما أراك الله، وإنهما تعلقا بها، وأقسم أبوها أن لا يدعها معه، وأقسم زوجها أن لا يفارقها، ولو ضربت عنقها، إلا أن يحكم عليه بذلك حاكم لا يستطيع مخالفته، والامتناع منه فرفعناهم إليك يا أمير المؤمنين، أحسن الله توفيقك وأرشدك.
قال: فجمع عمر بن عبد العزيز بني هاشم وبني أمية، وأفخاذ قريش، ثم قال لأبي المرأة: ما تقول أيها الشيخ؟
قال: يا أمير المؤمنين، هذا الرجل زوجته ابنتي، وجهزتها إليه بأحسن ما يجهز به مثلها، حتى إدا أملت خيره، ورجوت صلاحه، حلف بطلاقها كاذباً ثم أراد الإقامة معها.
فقال له عمر: يا شيخ، لعله لم يطلق امرأته، فكيف حلف؟ قال الشيخ:
سبحان الله، الذي حلف عليه لأبين حنثاً، وأوضح كذباً، من أن يختلج في
فقال الزوج: ما تقول؟ أهكذا حلفت؟ قال: نعم، فقيل: إنه لما قال نعم، كاد المجلس يرتج بأهله، وبنو أمية ينظرون إليه شزراً، إلا أنهم لم ينطقوا بشئ، كل ينظر إلى وجه عمر.
فأكب عمر ملياً ينكت الأرض بيده، والقوم صامتون، ينظرون ما يقوله، ثم رفع رأسه فقال:
ثم قال للقوم: ما تقولون في يمين هذا الرجل؟ فسكتوا، فقال:
سبحان الله، قولوا، فقال قائل من بني أمية: هذا حكم في فرج، ولسنا نجترئ على القول فيه، وأنت عالم بالقول، مؤتمن لهم وعليهم، قل ما عندك، فإن القول ما لم يكن يحق بالملأ، ويبطل حقاً، جائز علي في مجلسي، قال: لا أقول شيئاً.
فالتفت إلى رجل من بني هاشم، من ولد عقيل بن أبي طالب، فقال له:
ما تقول فيما حلف به هذا الرجل يا عقيلي؟ فاغتنمها فقال: يا أمير المؤمنين، إن جعلت قولي حكماً، أو حكمي جائزاً، قلت، وإن لم يكن ذلك فالسكوت أوسع لي، وأبقي للمودة، قال: قل وقولك حكم. وحكمك ماض.
فلما سمع ذلك بنو أمية قالوا: ما أنصفتنا يا أمير المؤمنين، إذ جعلت الحكم إلى غيرنا، ونحن من لحمتك، أولي رحمتك، فقال: أسكتوا، أعجزاً ولؤماً، عرضت عليكم ذلك آنفاً، فما انتدبتم له، قالوا: لأنك، لم تعطنا ما أعطيت العقيلي، ولا حكمتنا كما حكمته.
فقال عمر: إن كان أصاب وأخطأتم، وحزم وعجزتم، وأبصر وعميتم،
فقال عمر: أحسنت وأوصبت، فقل ما سألتك عنه، قال: يا أمير المؤمنين، بر قسمه، ولم تطلق امرأته، قال: وأني علمت ذلك.
قال: أنشدتك الله يا أمير المؤمنين، ألم تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لفاطمة عليها السلام - وهو عندها في بيتها عائد لها - يا بنية ما علتك؟ قالت:
الوعك يا أبتاه - وكان علي غائباً في بعض حوائج النبي صلى الله عليه وسلم - فقال لها:
أتشتهين شيئاً؟ قالت: نعم أشتهي عنباً - وأنا أعلم أنه عزيز، وليس وقت عنب - فقال صلى الله عليه وسلم: إن الله قادر على أن يجيئنا به، ثم قال: اللهم ائتنا به مع أفضل أمتي عندك منزلة.
فطرق علي الباب، ودخل ومعه مكتل، وقد ألقى عليه طرف ردائه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما هذا يا علي؟ قال: عنب التمسته لفاطمة، فقال: الله أكبر، الله أكبر، اللهم كما سررتني بأن خصصت علياً بدعوتي، فاجعل فيه شفاء بنيتي، ثم قال: كلي على اسم الله يا بنية فأكلت، وما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى استقلت وبرأت.
فقال عمر: صدقت وبررت، أشهد لقد سمعته ووعيته، يا رجل، خذ بيد امرأتك، فإن عرض لك أبوها، فأهشم أنفه، ثم قال: يا بني عبد مناف، والله ما نجهل ما يعلم غيرنا، ولا بنا عمي في ديننا، ولكنا كما قال الأول: -
قيل: فكأنما ألقم بني أمية حجراً ومضى الرجل بامرأته.