الصفحة 177
وهذا نقد لا يثبت للنقد، لأن الرازي قد اعترف في المثال الذي أورده، أن بعض مشيخة قريش قد أنفوا رياسة أسامة، اعتقاداً منهم بأفضليتهم، أو بوجود من هو أفضل منه، مع أنهم بذلك قد عصوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم هم راجعوا أبا بكر في أمر سياسة أسامة بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفي هذا ما يدل على أن رياسة المفضول يمجها الذوق والعرف العام، هذا فضلاً عن أن ما ذكره الرازي لتبرير إمامة المفضول متهافت كذلك، لأنه إذا كان تواضع الأفضل يسهل انقياد الرعية للأمير المفضول، فإنه من ناحية أخرى، يشجع المفضول الذي تقل درجته في الفضل - إلى حد الفسق - أن يغلب على أمر المسلمين بالقوة، مستنداً إلى تواضع الأفضل، أو سكوته على الحق، وهذا ما تم بالفعل في أمر الخلافة منذ تولاها الأمويون.

والواقع أن متكلمي أهل السنة وفقهاءهم، لم يسلموا بجواز إمامة المفضول، مستندين إلى أصل من أصول الدين، ولكنهم جوزوا ذلك، إما تبريراً لسلطان الخلفاء، ولخلع الصفة الشرعية على خلافتهم، وإما على سبيل معارضة آراء خصومهم من الشيعة، ليس إلا.

ولعل هذا إنما يبدو واضحاً - كل الوضوح - إذا رجعنا إلى رأي ابن حزم وموقفه العجيب من الإصرار على جواز إمامة المفضول، زاعماً أن معرفة الأفضل لا يمكن الوصول إليها، إلا بالظن، والظن لا يغني من الحق شيئاً، ثم إن قريشاً قد كثرت وطبقت الأرض من أقصى الشرق إلى أقصى

____________

<=

وعمر بن الخطاب وأبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم، وذهبت أخرى إلى أنه جعل أبا بكر وعمر فقط، واقتصرت ثالثة على عمر بن الخطاب، وذهبت رابعة إلى أنه جعل في هذا الجيش أبا بكر وعمر وأبا عبيدة وسعد بن أبي وقاص (السيرة الحلبية 3 / 227)، مغازي الواقدي 3 / 1118، ابن الأثير: الكامل في التاريخ 2 / 334، تاريخ الطبري 3 / 226، محمد أبو زهرة:

خاتم النبيين 2 / 1215، الندوي: السيرة النبوية ص 347).

الصفحة 178
الغرب، ولا سبيل إلى معرفة الأفضل من قوم هذا مبلغ عددهم بوجه من الوجوه، وبدهي أن هذا إنما يستند إلى أن الإمامة باختيار.

وأما تبريز سلطة الخلفاء، فيتضح من قول ابن حزم: يكفي بطلان هذا القول (إمامة الأفضل) إجماع الأمة كلها على بطلانه، فإن جميع الصحابة ممن أدرك ذلك العصر، أجمعوا على صحة إمامة الحسن أو معاوية، فلو كان ما قاله القاضي أبو بكر الباقلاني (ت 403 هـ‍) حقاً - في وجوب الأفضل - لكانت إمامة الحسن ومعاوية باطلة (1).

وهكذا ينكر ابن حزم أن معاوية قد استولى على أمر هذه الأمة قهراً، وبالسيف، وصدق الإمام الحسن البصري، حيث يقول - فيما يروي الإمام الطبري وابن الأثير وغيرهم - أربع خصال كن في معاوية، لو لم يكن فيه منهن، إلا واحدة، لكانت موبقة، إنتزاؤه على هذه الأمة بالسفهاء، حتى ابتزها أمرها، بغير مشورة منهم، وفيهم بقايا الصحابة، وذو الفضيلة، واستخلافه ابنه بعده سكيراً خميراً، يلبس الحرير، ويضرب بالطنابير، وادعاؤه زياداً وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، الولد للفراش، وللعاهر الحجر، وقتله حجراً، ويلاً له من حجر - مرتين (2).

ودخل سعد بن أبي وقاص على معاوية، فقال: السلام عليك أيها الملك، فغضب معاوية فقال: ألا قلت السلام عليك يا أمير المؤمنين؟ قال: ذاك إن كنا أمرناك، إنما أنت منتز (3).

وأما سيدنا الإمام الحسن - خامس الراشدين - فما جاء هنا، إنما هو رأي ابن حزم الأندلسي، وأما من بايعوه، فقد كانوا يعتقدون أنه أفضل الناس - بعد

____________

(1) أحمد صبحي: المرجع السابق ص 158 - 159.

(2) تاريخ الطبري 5 / 279 (دار المعارف - القاهرة 1979)، ابن الأثير، الكامل في التاريخ 3 / 487.

(3) تاريخ اليعقوبي 2 / 217.

الصفحة 179
أبيه الإمام علي - وهو صحيح ما في ذلك من ريب.

وعلى أية حال، فإن أهل السنة والشيعة لا يحتدون في الجدل طويلاً حول إمامة الأفضل بسبب قوة منطق الشيعة في دعواهم، فضلاً عن أن موقف أهل السنة نفسه، لا يبدو واضحاً، هذا إلى أن جواز إمامة المفضول، أمر لا يبرره منطق أو دين، وإن وجد له تبرير من مقتضيات الواقع، أو حوادث التاريخ، وليست هذه هي التي تملي على الفقهاء والمشرعين أصول الأحكام.

على أن الجدل إنما يشتد ويحتد بين أهل السنة والشيعة حول المفاضلة بين الصحابة، ولا سيما الخلفاء الراشدين، وهو أمر ذو صلة وثيقة بوجوب إمامة الأفضل.

وتذهب الشيعة - بكل فرقها - إلى أن الإمام علي بن أبي طالب، إنما هو أفضل الصحابة أجمعين، وأنه يزيد فضلاً على أبي بكر، ومعارضة أهل السنة لدعوى الشيعة في أفضلية الإمام علي - رضي الله عنه، وكرم الله وجهه في الجنة - إنما تنطوي على تسليم منهم بوجوب إمامة الأفضل، ومن هنا استقر رأي الأشاعرة على أن ترتيب الخلفاء في الفضل، إنما هو ترتيبهم في الخلافة (أبو بكر - عمر - عثمان - علي)، وقد نادى بهذا الرأي - الإمام أبو الحسن الأشعري (260 هـ‍/ 874 م - 324 هـ‍/ 1935) والإمام أبو حامد الغزالي (450 - 505 هـ‍)، ولم يكن هذا الرأي منهما عن اجتهاد مبعثه الحيدة التامة في المفاضلة، بقدر ما هو اعتبار أن ما جرى، فيما يتعلق بالخلافة الراشدة، لا بد أن يكون قد تم في اعتبارهم، وفقاً لوجوب إمامة الأفضل.

ثم يخلص الأستاذ الدكتور أحمد محمود صبحي إلى أن القاعدة العامة عند أهل السنة، إنما هي وجوب إمامة الأفضل، وأن جواز إمامة المفضول، ليس إلا استثناء تقتضيه الضرورة القصوى، وأن إمامة الخلفاء الراشدين قد جرت وفقاً لهذه القاعدة، وأن تبريرهم الاستثناء، وتجويزهم إمامة المفضول، لم يكن

الصفحة 180
إلا للدفاع عن الأمر الواقع، منذ أن ولي الأمر معاوية بن أبي سفيان (1).

هذا وترى الشيعة أن الإمام يجب أن يكون عالماً بما آل إليه الحكم فيه، والذي يدل: أن الإمام إمام في سائر أمور الدين، ومتولي الحكم في جميعه - جليله ودقيقه، ظاهره وغامضه - كما يجب أن يكون عالماً بجميع أحكام السياسة والشريعة (2).

هذا فضلاً عن أن يكون الإمام أشجع من في رعيته، ويدل على ذلك: أنه ثبت أنه رئيس عليهم، فيما يتعلق بجهاد الأعداء، وحرب أهل البغي، وذلك متعلق بالشجاعة، فيجب أن يكون أقواهم حالاً.

هذا إلى جانب أن يكون أعقل قومه، وأن لا يكون قبيح الصورة، ينفر الناس منه، هذا إلى جانب أن يكون منصوصاً عليه (3).

ولما كانت هذه الشروط جميعها لا بد من توافرها في الإمام، وأنها غير متوفرة، إلا في آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، فلذلك كانت الإمامة لهم، وفيهم دون غيرهم (4).

ولعل من الجدير بالإشارة هنا أن الخلافة أو الإمامة الفاطمية (358 - 567 هـ‍/ 968 هـ‍- 1171 م) إنما هي خلافة دينية وراثية تقوم على أسس المذهب الشيعي الإسماعيلي، وتستند إلى أساسين: - الأول: هو العلم اللدني أو الإلهي، الموروث عن النبي صلى الله عليه وسلم، عن طريق الإمام علي عليه السلام، ثم أولاده من بعده، ثم إلى الفاطميين.

____________

(1) أحمد صبحي، المرجع السابق ص 160 - 161.

(2) الطوسي: تلخيص الشافي ص 245 (النجف 1965).

(3) نفس المرجع السابق ص 274.

(4) نبيلة عبد المنعم داود: المرجع السابق ص 316.

الصفحة 181
فالإمام الشيعي إذن، ليس شخصاً عادياً، وإنما هو فوق الناس، فهو المشرع، وهو المنفذ لا يسأل عما يفعل، لأنه معصوم من الخطأ، بسبب ما ورثه من علوم لدنية عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهناك نوعان من العلوم: علم الظاهر، وعلم الباطن، أي ظاهر القرآن وباطنه، وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم، الإمام علي بن أبي طالب هذين النوعين من العلوم، فأطلعه على خفايا الكون، والسر المكنون من هذه العلوم، وكل إمام ورث هذه العلوم لمن جاء بعده، ولهذا كان الإمام معلماً أكبر.

والثاني: الوصية أو النص على ولاية العهد، والخلافة الفاطمية - شأنها شأن أية خلافة شيعية - إنما ترى أن الإمام علي يستحق الخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم عن طريق الكفاية، فضلاً عن النص عليه بالاسم.

ومن ثم فإن الإمامة ليست من المصالح العامة التي تفوض إلى نظر الأمة، وإنما هي ركن الدين والإسلام، ولا يمكن للنبي صلى الله عليه وسلم، أن يتركها للأمة، بل كان عليه تعيين إمام لهم معصوماً من الخطأ، وأن الإمام علي بن أبي طالب، هو الإمام الذي عينه النبي صلى الله عليه وسلم، بعده، ويستشهدون على ذلك بحديث الغدير والموالاة والمنزلة وغيرها من الأحاديث.

ومن هنا نشأت فكرة الوصية، ولقب الإمام علي بالوصي، بينما لقب من جاء بعده من الأئمة بلقب الإمام، ومرتبة الوصاية أعلى من مرتبة الإمامة، وأقل من مرتبة النبوة، ثم انتشرت الوصية بين الشيعة، فقالوا: إن الإمامة تنتقل من الآباء إلى الأبناء، وليس من الأخ إلى الأخ - بعد أن انتقلت من الحسن إلى الحسين - فالأب ينص على ابنه في حياته، وليس بالضرورة أن يكون الابن الأكبر، فالإمام يستطيع أن ينص على أي ابن له، فهذا أمر يخصه وحده، لأنه يتلقى علمه من الله عز وجل (1).

____________

(1) أحمد مختار العبادي: دراسات في تاريخ المغرب - الإسكندرية 1968 ص 53 - 54،

=>


الصفحة 182
ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن القرآن الكريم، إنما قد أجمل الخطوط العامة لأصول الحكم الإسلامي، الذي هو أهل لحفظ وحدة المسلمين ودوام هدايتهم إلى الصراط المستقيم، وتجنيدهم أبداً في معركة التقدم والرقي، وصونهم من الزيغ والضلال.

ثم جاءت السنة النبوية، ففصلت ما أجمله القرآن، وتلك قاعدة عامة في تشريع الأحكام الإسلامية: القرآن يقرر أصل الحكم ويجمله، والسنة تفصله وتنفذه، والتفصيل في هذا الأمر، إنما هو تعيين الكف ء لمنصب الإمامة بعد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليكون مرجع المسلمين وقدوتهم، في صراط الإسلام المستقيم.

ومن هنا يتبين أن منصب الإمامة لا يتعين إلا بأمر إلهي، فالإمام - بصفته مرجع المسلمين، ومنعقد طاعتهم وقدوتهم في أمر الدين والدنيا - يجب أن يكون حامل علم النبي صلى الله عليه وسلم، علم الوحي والأوامر الإلهية، فمنصبه في توجيه المسلمين ورعايتهم خطير.

وقد عرفنا أين آلت الإمامة، وكيف أصبحت؟ لما فوض المسلمون أمر اختيار الإمام إلى أنفسهم، حتى تقمصها الخلعاء والفساق والفجار والجهلة والسفاكون، وأصبحت الخلافة وراثة كسروية قيصرية (1).

روى البخاري في صحيحه (باب هلاك أمتي على يد أغيلمة سفهاء)، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا عمرو بن يحيى بن سعيد بن عمرو بن سعيد قال: أخبرني جدي قال: كنت جالساً مع أبي هريرة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، ومعنا مروان، قال أبو هريرة: سمعت الصادق المصدوق يقول: هلكة

____________

<=

وانظر عن الخلافة الفاطمية (عطية مشرفة: نظام الحكم بمصر في عصر الفاطميين - القاهرة 1948 ص 68 - 82).

(1) السيد هاشم محسن الأمين: مقدمة كتاب: الإمام علي بن الحسين والخلافة الإسلامية ص 8.

الصفحة 183
أمتي على يدي غلمة من قريش، فقال مروان: لعنة الله عليهم غلمة، فقال أبو هريرة: لو شئت أن أقول بني فلان وبني فلان لفعلت، فكنت أخرج مع جدي إلى بني مروان، حين ملكوا بالشام، فإذا رآهم غلماناً أحداثاً، قال لنا: عسى هؤلاء أن يكونوا منهم، قلنا: أنت أعلم (1).

وبمرور الأيام أصبح تعيين الخليفة في يد خدم البلاط ومماليكه وإمائه وجواريه، بيدهم الحل والربط، يعبثون بمصائر الإسلام والمسلمين، رهناً بشهواتهم، والخليفة لعبة مبتذلة في أيديهم، يختارونه اليوم ويخلعونه غداً، ويبايعونه الساعة، ويسلمونه أو يقتلونه بعد ساعة.

هذا ومن حمل كتاب الله، وعلم نبيه من آل البيت، خائف يترقب، أو محبوس يتعذب، أو شريد غريب عن أهله ودياره، وأعداء الإسلام يقتطعون أرضه قطعة قطعة، ويقتلون أهله جماعة جماعة.

فاكتمال الدين إذن، إنما كان في التبليغ، تبليغ الرسالة كاملة، فيها تبيان كل شئ يحتاج المسلمون إلى تبيانه وفيها معالم الصراط المستقيم إلى الفوز العظيم، أعني اكتمال الدين ظل نظرياً، لم يتشخض في واقع المسلمين.

وأما تفصيل السنة النبوية، لما أجمله القرآن في موضوع الإمامة، فقد حصل في حادثين عظيمين من حوادث السيرة النبوية الشريفة، الأول: يوم غدير خم، والثاني: أيام المرض الذي توفي النبي صلى الله عليه وسلم، فيه، وفي كلا الحادثين كان التشديد باتباع أهل البيت وموالاتهم (2).

ففي حديث الغدير يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كنت مولاه، فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله (3).

____________

(1) صحيح البخاري 9 / 60 (2) الإمام علي بن الحسين والخلافة الإسلامية ص 8 - 10.

(3) أنظر عن روايات مختلفة للحديث الشريف (ابن حنبل: فضائل الصحابة 2 / 598 - 599،

=>


الصفحة 184
ثم هناك حديث الثقلين، روى الإمام مسلم في صحيحه بسنده عن زيد بن أرقم قال: قام فينا خطيباً بماء يدعى خماً، بين مكة والمدينة، فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ وذكر، ثم قال: أما بعد، ألا أيها الناس، فإنما أنا بشر، يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين، أولهما، كتاب الله، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به، فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال: وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي (1).

رواه الإمام أحمد في المسند (2)، والبيهقي في السنن (3)، والدرامي في سننه (4)، والمتقي في كنز العمال (5)، والطحاوي في مشكل الآثار (6).

وروى الترمذي في صحيحه بسنده عن سعيد والأعمش عن حبيب بن ثابت عن زيد بن أرقم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به، لن تضلوا بعدي، أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا على الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيها (7).

____________

<=

السيوطي: تاريخ الخلفاء ص 169، المستدرك للحاكم 2 / 129، 3 / 110، 116، 371، 533، كنز العمال 1 / 48، 6 / 83، تهذيب الخصائص للنسائي ص 50 - 54 مسند الإمام أحمد 1 / 84، 88، 118، 2307119، 4 / 368، 370، 372، 5 / 347، الرياض النضرة 2 / 226) (وسنشير إلى هذا الحديث الشريف بالتفصيل في مكانه من هذه الدراسة).

(1) صحيح مسلم 15 / 179 - 180 (بيروت 1981).

(2) مسند الإمام أحمد 4 / 366.

(3) سنن البيهقي 2 / 148، 7 / 30.

(4) سنن الدرامي 2 / 431.

(5) كنز العمال 1 / 45، 7 / 103.

(6) مشكل الآثار 4 / 368.

(7) صحيح الترمذي 2 / 308، وانظروا روايات أخرى للحديث الشريف (صحيح الترمذي 2 / 308، 5 / 163، كنز العمال 1 / 48، 6 / 390، ابن حنبل: فضائل الصحابة 1 / 171، 172 - 2 / 602،

=>


الصفحة 185
ويقول المحدث الفقيه ابن حجر الهيثمي (909 - 974 هـ‍) أن لحديث الثقلين هذا طرقاً كثيرة، وردت عن نيف وعشرين صحابياً، وله طرق كثيرة، وفي بعض تلك الطرق أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ذلك (الحديث) في حجة الوداع في عرفة، وفي أخرى أنه قاله في المدينة في مرضه، وقد امتلأت الحجرة بأصحابه، وفي أخرى أنه قاله في غدير خم، وفي أرى أنه قاله بعد انصرافه من الطائف ولا تنافي، إذ لا مانع من أنه كرر عليهم ذلك في كل تلك المواطن وغيرها، اهتماماً بشأن الكتاب العزيز، والعترة الطيبة الطاهرة (1).

ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن أساس الخلاف في الإمامة بين الشيعة الإمامية وأهل السنة أمران.

أحدهما: - أن الإمام عند الإمامية ينال الخلافة بالوراثة أو بالوصاية النبوية، على حد تعبيرهم، أما غيرهم فيرون أن الإمامة تكون بالبيعة والحكم بالفعل، وجمهور المسلمين لا يعتبرون حكم الملوك كعبد الملك وأولاده، والسفاح والمنصور وأولادهم وذريته، خلافة نبوية، بل يعتبرونها خلافة ملك، والخلافة النبوية لم تتحقق إلا في الخلفاء الراشدين الأربعة رضي الله عنهم، ويأخذون في ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم الخلافة بعدي ثلاثون، ثم تصير ملكاً عضوضاً أي يعض عليه بالنواجذ (2).

ولست أدري لم بدأ العلامة أبو زهرة (محمد أحمد أبو زهرة 29 مارس 1898 م - 12 أبريل 1974 م) الملك الغضوض ب‍ عبد الملك بن مروان (65 - 86 هـ‍/ 685 - 705 م) وأولاده من بني أمية، ثم أبو العباس السفاح (132 - 136 هـ‍/ 750 - 754 م) وأبو جعفر المنصور (136 - 158 هـ‍/ 754 -

____________

<=

المسند 3 / 14، 17، 26، 59، 4 / 371، معجم الطبراني الكبير 3 / 63، 3 / 200، مجمع الزوائد 5 / 181 - 182، 9 / 7163 164، 165، تهذيب الخصائص للنسائي ص 50 - 51، المستدرك للحاكم 3 / 109، 148، أسد الغابة 2 / 13).

(1) ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 7 / 7 - 8 (دار الفكر - بيروت 1386 هـ‍/ 1966 م).

(3) ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 7 / 12، وانظر آراء أخرى في نفس الكتاب 7 / 7 - 21.

الصفحة 186
77 م) وأولاده، من بني العباس، مع أن بداية الملك العضوض إنما كانت على يد معاوية بن أبي سفيان (40 - 60 هـ‍/ 660 - 680 م) - طبقاً لنص الحديث الشريف، فضلاً عن أحداث التاريخ، هذا إلى أن معاوية نفسه - كما أشرنا من قبل - إنما كان يقول: أنا أول الملوك، وأن سعد بن أبي وقاص، رضي الله عنه، إنما كان يحييه بالملك، وليس بإمرة المؤمنين، هذا إلى أن شيخ الإسلام ابن تيمية، إنما أطلق عليه لقب الملك، وتابعه في ذلك ابن كثير، بل إن ابن كثير يقول والسنة أن يقال لمعاوية ملك، ولا يقال له خليفة لحديث سفينة الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم تكون ملكاً عضوضاً.

ولعل من الأهمية بمكان الإشارة هنا إلى عدة أمور، اتصلت بالإمامة عند الشيعة، وهي العصمة والتقية والرجعة والمهدي والبداء والجفر ومصحف فاطمة.

- العصمة:

لعل من الجدير بالإشارة - بادئ ذي بدء - أن الناس قد اختلفوا في معصوم من هو؟

فقال قوم: المعصوم هو الذي لا يمكنه الإتيان بالمعاصي، وهؤلاء هم الأقلون أهل النظر، واختلفوا في عدم التمكن كيف هو؟

فقال قوم منهم: المعصوم هو المختص في نفسه أو بدنه أو فيهما، الخاصية تقتضي امتناع إقدامه على المعاصي.

وقال قوم منهم: بل المعصوم مساو في الخواص النفسية والبدنية لغير المعصوم، وإنما العصمة هي القدرة على الطاعة، أو عدم القدرة على المعصية، هذا قول الأشعري نفسه، وإن كان كثير من أصحابه قد خالفوه فيه.

وقال الأكثرون من أهل النظر: بل المعصوم مختار، متمكن من المعصية طاعة.


الصفحة 187
وهناك تفسيران للعصمة:

أحدهما: أنها أمور يفعلها الله تعالى بالمكلف، فتقضي ألا يفعل المعصية اقتضاء غير بالغ إلى حد الإيجاب، وفسروا هذه الأمور، فقالوا: إنها أربعة أشياء، أولها: أن يكون لنفس الإنسان ملكة مانعة من الفجور، داعية إلى العفة، وثانيها: العلم بمثالب المعصية، ومناقب الطاعة. وثالثها: تأكيد ذلك العلم بالوحي والبيان من الله تعالى. ورابعها: أنه متى صدر عنه خطأ من باب النسيان والسهو، لم يترك مهلاً بل يعاقب وينبه، ويضيق عليه العذر.

قالوا: فإذا اجتمعت هذه الأمور الأربعة، كان الشخص معصوماً عن المعاصي لا محالة، لأن العفة إذا انضاف إليها العلم، بما في الطاعة من سعادة، وما في المعصية من شقاوة، ثم أكد ذلك تتابع الوحي إليه وترادفه، وتظاهر البيان عنده، وتمم ذلك خوفاً من العقاب على القدر القليل، حصل من اجتماع هذه الأمور حقيقة العصمة.

وثانيهما: - العصمة لطف يمتنع المكلف عند فعله من القبيح اختياراً، وقد يكون ذلك اللطف خارجاً عن الأمور الأربعة المعدودة، مثل أن يعلم الله تعالى أنه إن أنشأ سحاباً، أو أهب ريحاً، أو حرك جسماً، فإن زيداً يمتنع عن قبيح مخصوص اختياراً، فإنه تعالى يجب عليه فعل ذلك، ويكون هذا اللطف عصمة لزيد، وإن كان الإطلاق المشتهر في العصمة، إنما هو لمجموع ألطاف يمتنع المكلف بها عن القبيح مدة زمان تكليفه (1).

وترى الشيعة الإمامية أن الأنبياء لا تجوز عليهم الكبائر ولا الصغائر، لا عمداً ولا خطأ، ولا سهواً، ولا على سبيل التأويل والتشبيه، وكذلك قولهم في الأئمة (2).

____________

(1) شرح نهج البلاغة 7 / 7 - 8.

(2) شرح نهج البلاغة 7 / 12، وانظر آراء أخرى 7 / 7 - 21.

الصفحة 188
وهكذا رأت الشيعة الإمامية أن العصمة واجبة للإمام، قال ابن بابويه القمي في رسالته للصدوق (ص 108 - 109): اعتقدنا في الأخبار الصحيحة عن الأئمة أنها موافقة لكتاب الله، متفقة المعاني، غير مختلفة، لأنها مأخوذة من طريق الوحي عن الله سبحانه وتعالى (1).

وقال المجلسي: أصحابنا الإمامية أجمعوا على عصمة الأنبياء والأئمة من الذنوب الصغيرة والكبيرة، وعمداً وخطأ ونسياناً - قبل النبوة والإمامة وبعدهما، بل من وقت ولادتهم، إلى أن يلقوا الله تعالى، ولم يخالف في ذلك إلا الصدوق محمد بن بابويه وشيخه ابن الوليد، فإنهما جوزا الإسهاء، من الله تعالى، لأن السهو الذي يكون من الشيطان في غير ما يتعلق بالتبليغ وبيان الأحكام (2).

وقال الطوسي: لا يجوز عليهم - أي على الأئمة - السهو والنسيان فيما يؤدونه عن الله تعالى، أما غير ذلك، فإنه يجوز أن ينسوه أو يسهون عنه، مما لم يؤد ذلك إلى الإخلال بكمال العقل، وكيف لا يجوز عليهم ذلك، وهم ينامون ويمرضون، ويغشى عليهم، والنوم سهو، وينسون كثيراً من متصرفاتهم أيضاً، وما يجري لهم فيما مضى من الزمان (1).

ومن المعروف أن سيدنا ومولانا وجدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما قد أوصى أمته بأهل بيته، وساواهم بالقرآن - كما في حديث الثقلين الذي أشرنا إليه آنفاً - وذلك لأن أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، سلالة الحسن والحسين، أبناء الزهراء والإمام علي، إنما هم بضعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، سيد الأنبياء، الذي اصطفاه الله من أطهر المناقب، وأعرق الأصول، وتعهدهم نوره في الأصلاب الطاهرة إلى الأرحام الطاهرة، من لدن آدم، حتى حملته أمه، ما تشعبت شعبتان إلا وكان

____________

(1) بحار الأنوار 25 / 350 - 351.

(2) التبيان 4 / 165 - 166.

الصفحة 189
رسول الله صلى الله عليه وسلم، في خيرهما شعبة، ولا افترقت فرقتان، إلا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، في أكرمهما فرقة، ومن ثم كان أهل بيت النبوة، سلالة النبي صلى الله عليه وسلم، أهل الحسب والنسب، والطهر والشرف، لا يلوثهم رجس، ولا ينالهم دنس، فلقد طهرهم الله - فضلاً منه وكرماً - ثم دعا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، فقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس، وطهرهم وتطهيراً.

ويقول العارف بالله محيي الدين بن عربي (560 - 638 هـ‍) في كتابه الفتوحات الملكية: ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، عبداً محضاً، قد طهره الله تعالى، وأهل بيته، تطهيراً، وأذهب عنهم الرجس قال الله تعالى: * (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً) * (1)، فلا يضاف إليه إلا مطهر، ولا بد، فإن المضاف إليهم هو الذي يشبههم، فما يضيفون لأنفسهم، إلا من له حكم الطهارة والتقديس، وأهل البيت هم المطهرون، بل هم عين الطهارة، فهذه الآية إنما تدل على أن الله تعالى قد شرك أهل البيت، مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، في قول الله تعالى: * (ليغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر) * (2).

وهكذا طهر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالمغفرة، مما هو ذنب بالنسبة إلينا، لو وقع منه صلى الله عليه وسلم، لكان ذنباً في الصورة - لا في المعنى - لأن الذنب لا يلحق به على ذلك، من الله تعالى، ولا منا شرعاً، فلو كان حكمه حكم الذنب لصحبه ما يصحب الذنب من المذمة، ولم يكن يصدق قول الله تعالى: * (ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً) *.

ومن ثم فقد دخل الأشراف أولاد سيدة نساء العالمين - السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام - كلهم إلى يوم القيامة في حكم هذه الآية من الغفران، فهم المطهرون باختصاص من الله تعالى، وعناية بهم، لشرف محمد صلى الله عليه وسلم،

____________

(1) سورة الأحزاب: آية 33.

(2) سورة الفتح: آية 2.

الصفحة 190
وعناية الله سبحان وتعالى به، وبالتالي فينبغي لكل مسلم مؤمن بالله، وبما أنزله، أن يصدق الله تعالى في قوله: * (ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً) *، فيعتقد في جميع ما يصدر من أهل البيت - رضوان الله عليهم - أن الله تعالى قد عفا عنهم، ولا ينبغي لمسلم أن يلحق المذمة، ولا ما يشنأ أعراض من قد شهد الله تعالى بتطهيرهم، وإذهاب الرجس عنهم، ليس ذلك بعمل عملوه، ولا بخير قدموه، بل هو سابق عناية واختصاص إلهي، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم (1).

على أن هذا الشرف لأهل بيت النبوة، لا يظهر إلا في الدار الآخرة، فإنهم يحشرون مغفوراً لهم، وأما في الدنيا فمن أتى منهم حداً، أقيم عليه، لقوله صلى الله عليه وسلم: لو أن فاطمة بنت محمد سرقت، لقطعت يدها وقد أعاذها الله من ذلك، وطهرها تطهيراً (2).

وقصة الحديث الشريف - كما رواه ابن سعد في طبقاته، وابن الأثير في أسد الغابة، وابن عبد البر في الإستيعاب، وابن حجر العسقلاني في الإصابة - واللفظ لابن الأثير: روى عمار الدهني عن شقيق قال: سرقت فاطمة بنت أبي الأسد، فأشفقت قريش أن يقطعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلموا أسامة بن زيد، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: كل شئ، ولا ترك حد من حدود الله عز وجل، ولو كانت فاطمة بنت محمد لقطعتها، فقطعها (3).

ويذكر المقريزي (766 - 845 هـ‍) في كتابه معرفة ما يجب لآل البيت النبوي من الحق على من عداهم ما رواه الحاكم في المستدرك من حديث معاوية بن هشام عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن فاطمة

____________

(1) سورة الحديد: آية 21.

(2) ابن عربي: الفتوحات المكية 1 / 196 - 198.

(3) أنظر: أسد الغابة 7 / 218، الإستيعاب 4 / 386 الإصابة في تمييز الصحابة 4 / 380.

الصفحة 191
أحصنت فرجها، فحرم الله ذريتها على النار (1)، وما رواه الحافظ محب الدين الطبري في ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى، وأخرجه الملا في سيرته من حديث حصين بن عمران قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سألت ربي أن لا يدخل النار أحداً من أهل بيتي، فأعطاني ذلك.

وفي رواية - في مجمع الزوائد - عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاطمة رضي الله عنها: إن الله غير معذبك ولا ولدك - قال أخرجه الطبراني عن ابن عباس (2).

وفي كنز العمال: إن فاطمة حصنت فرجها، وإن الله أدخلها بإحصان فرجها وذريتها الجنة.

قال: أخرجه الطبري عن ابن مسعود (3).

وروى الخطيب البغدادي (392 - 463 هـ‍) بسنده عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ابنتي فاطمة حوراء آدمية، لم تحض ولم تطمث، وإنما سماها فاطمة لأن الله فطمها ومحبيها عن النار (4).

وذكره ابن حجر الهيثمي (909 هـ‍/ 1504 - 974 هـ‍/ 1567 م) في صواعقه، وقال: أخرجه النسائي (5).

ويقول المقريزي - نقلاً عن العلامة نجم الدين سليمان بن عبد القوي، المعروف بابن عباس الطوفي (657 - 716 هـ‍) (6) - في الإرشادات الإلهية في المباحث الأصولية - أن الشيعة قد احتجت بقول الله تعالى: * (إنما يريد الله

____________

(1) المستدرك للحاكم 3 / 152، حلية الأولياء 4 / 188، ميزان الاعتدال 9 / 202.

(2) مجمع الزوائد 9 / 202، كنز العمال 6 / 219.

(3) كنز العمال 6 / 219.

(4) تاريخ بغداد 12 / 331.

(5) الصواعق المحرقة ص 96.

(6) أنظر: ابن حجر العسقلاني: الدرر الكامنة من أعيان المائة الثامنة 2 / 249 - 252.

الصفحة 192
ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً) *، على أن أهل البيت معصومون، ثم على أن إجماعهم حجة.

وأما أنهم معصومون، فلأنهم طهروا، وأذهب الله عنهم الرجس والرجس اسم جامع لكل شر ونقص، والخطأ وعدم العصمة بالجملة شر ونقص، فيكون ذلك مندرجاً تحت عموم الرجس الذاهب عنهم، فتكون الإصابة في القول والفعل والاعتقاد، والعصمة بالجملة ثابتة لهم.

هذا فضلاً عن أن الله طهرهم، وأكد تطهيرهم بالمصدر، حيث قال:

* (ويطهركم تطهيراً) *، أي ويطهركم من الرجس وغيره تطهيراً، إذ هي تقتضي عموم تطهيرهم من كل ما ينبغي التطهير منه عرفاً، أو عقلاً أو شرعاً، والخطأ وعدم العصمة داخل تحت ذلك، فيكونون مطهرين منه، ويلزم من ذلك عموم إصابتهم وعصمتهم (1).

ثم أكد دليل عصمتهم من الكتاب والسنة في الإمام علي وحده، وفي فاطمة عليها السلام وحدها، وفي جميعهم.

أما دليل العصمة في الإمام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه، وكرم الله وجهه في الجنة - فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم، لما أرسله إلى اليمن قاضياً، ثم قال:

يا رسول الله، كيف تبعثني قاضياً، ولا علم لي بالقضاء؟ قال: اذهب، فإن الله سيهدي قلبك، ويسدد لسانك، ثم ضرب صدره وقال: اللهم اهد قلبه، وسدد لسانه (2).

وروى الإمام أحمد في فضائل الصحابة (2 / 699 - 700) بسنده عن سماك عن حنش عن علي قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى اليمن، قال: فقلت:

____________

(1) المقريزي: فضل آل البيت - معرفة ما يجب لآل البيت النبوي من الحق على من عداهم - القاهرة 1973 ص 35 - 36.

(2) مسند الإمام أحمد 1 / 111، 149.

الصفحة 193
يا رسول الله، تبعثني إلى قوم أسن مني، وأنا حدث لا أبصر القضاء، قال:

فوضع يده على صدري، وقال: اللهم ثبت لسانه، واهد قلبه، يا علي، إذا جلس إليك الخصمان، فلا تقض بينهما، حتى تسمع من الآخر، ما سمعت من الأول، فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء، قال: فما اختلف على قضاء بعد، أو ما أشكل على قضاء بعد. وفي رواية أخرى - في فضائل الصحابة أيضاً (2 / 580 - 581) عن الأعمش عن عمر وبن مرة عن أبي البختري عن علي قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، وأنا شاب، فقلت: يا رسول الله تبعثني إلى قوم أقضي بينهم، ولا علم لي بالقضاء؟ فقال: أدن، فدنوت، فضرب يده على صدري، فقال: اللهم اهد قلبه، وثبت لسانه، قال: فما شككت في قضاء بين اثنين.

قالوا: قد دعا له بهداية القلب، وسداد اللسان، وأخبره بأن سيكونا له، ودعاؤه مستجاب، وخبره حق وصدق، ونحن لا نعني بالعصمة إلا هداية القلب للحق، ونطق اللسان بالصدق، فمن كان عنده للعصمة معنى غير هذا، أو ما يلازمه فليذكره (1).

وأما دليل العصمة في السيدة فاطمة عليها السلام، فقوله صلى الله عليه وسلم: فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها (2)، والنبي صلى الله عليه وسلم، معصوم، ومن ثم فبضعته - أي جزؤه - والقطعة منه، يجب أن تكون معصومة.

وهناك قصة أبي لبابة الذي ربط نفسه في عمود من عمد المسجد النبوي الشريف، بسبب ما فاه به ليهود بني قريظة، عندما سألوه: أينزلون على حكم محمد، قال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه إنه الذبح، إن لم تفعلوا، وقد أقسم أن لا يطلقه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى الإمام السهيلي بسنده عن الإمام علي زين

____________

(1) المقريزي: المرجع السابق ص 36 - 38.

(2) الحديث الشريف له صيغ مختلفة (أنظر: صحيح البخاري 5 / 28، 5 / 36، 7 / 47، صحيح مسلم 16 / 2 - 4.