الصفحة 194
العابدين بن مولانا الإمام الحسين، أن فاطمة الزهراء، عليها السلام، أرادت حله، حين نزلت توبته، فقال: أقسمت أن لا يحلني، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن فاطمة بضعة مني، فحلته، فصلى الله عليه وعلى فاطمة، فهذا حديث يدل على أن من سبها فقد كفر، وأن من صلى عليها فقد صلى على أبيها صلى الله عليه وسلم. وبدهي أنها معصومة مثله.

وأما دليل العصمة في آل البيت جميعاً - علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام - فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الترمذي بسنده عن أبي سعيد والأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن زين بن أرقم، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به، لن تضلوا أبداً، أحدهما أعظم من الآخر، كتاب الله، حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا على الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما (1).

وفي رواية عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، في حجته يوم عرفة - وهو على ناقته القصواء يخطب - فسمعته يقول: يا أيها الناس، إني تارك فيكم، ما إن أخذتم به لن تضلوا، كتاب الله، وعترتي أهل بيتي (2).

ورواه المتقي في كنز العمال وقال: أخرجه ابن أبي شيبة والخطيب في المتفق والمفترق عن جابر (3).

وروى الإمام أحمد في الفضائل بسنده عن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني تارك فيكم خليفتين، كتاب الله حبل ممدود، ما بين السماء والأرض، وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض (4).

____________

(1) صحيح الترمذي 2 / 308.

(2) صحيح الترمذي 2 / 308.

(3) كنز العمال 1 / 48، فضائل الخمسة 2 / 45.

(4) ابن حنبل: فضائل الصحابة 2 / 603.


الصفحة 195
وفي رواية عن أبي الجحاف عن عطية عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تركت فيكم ما إن تمسكتم به فلن تضلوا، كتاب الله، وأهل بيتي (1).

وأخرجه أحمد في المسند من طريق، عطية عن أبي سعيد، وأخرجه الترمذي (2) عن طريق الأعمش عن عطية أبي سعيد، ثم قرنه بقوله:

والأعمش عن حبيب بن ثابت عن زيد بن أرقم وعن طريق زيد بن الحسن القرشي الكوفي الأنماطي عن الإمام جعفر الصادق عن الإمام محمد الباقر عن جابر بن عبد الله مرفوعاً (3).

وروى مسلم في صحيحه بسنده عن زيد بن أرقم قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوماً فينا خطيباً بماء يدعى خماً بين مكة والمدينة فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ وذكر، ثم قال: أما بعد، ألا أيها الناس، فإنما أنا بشر، يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وإني تارك فيكم ثقلين، أولهما: كتاب الله، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به، فحث على كتاب الله، ورغب فيه، ثم قال:

وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي (4).

وفي رواية: فقلنا: من أهل بيته، نساؤه؟ قال: لا، وأيم الله، إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر، ثم يطلقها فترجع إلى بيت أبيها وقومها، أهل بيته، أصله وعصبته، الذين حرموا الصدقة بعده (5).

____________

(1) ابن حنبل: فضائل الصحابة 1 / 171 - 172.

(2) مسند الإمام أحمد 3 / 14، 17، 26، 59، صحيح الترمذي 5 / 663.

(3) فضائل الصحابة 1 / 172.

(4) صحيح مسلم 15 / 179 - 180.

(5) صحيح مسلم 15 / 181.

الصفحة 196
وأخرجه أحمد في المسند والدرامي والحاكم عن زيد بن أرقم (1)، وأخرجه أحمد، وابن أبي عاصم في السنة عن زيد بن ثابت، وقال الهيثمي في رواية أحمد: وإسناده حسن (2)، وأخرجه الطبراني في الكبير عن حذيفة بن أسيد (3).

وروى الإمام أحمد في الفضائل بسنده عن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني قد تركت فيكم خليفتين، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنهما يردان على الحوض (4).

وروى ابن الأثير في أسد الغابة بسنده عن أبي سعيد والأعمش عن حبيب بن ثابت عن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا، أحدهما أعظم من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا على الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما (5).

وروى الإمام أحمد في الفضائل بسنده عن عطية عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني تارك فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض (6).

وفي رواية أيضاً عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إني أوشك أن أدعى فأجيب، وإني تارك فيكم الثقلين، كتاب الله، وعترتي

____________

(1) مسند أحمد 4 / 367 - 371، سنن الدرامي 2 / 431، مجمع الزوائد 9 / 163.

(2) مسند الإمام أحمد 5 / 181، مجمع الزوائد 9 / 163.

(3) معجم الطبراني الكبير 3 / 200، مجمع الزوائد 9 / 165.

(4) فضائل الصحابة 2 / 786.

(5) أسد الغابة 2 / 13.

(6) فضائل الصحابة 2 / 779، مسند الإمام أحمد 3 / 14 معجم الطبراني الكبير 3 / 62.

الصفحة 197
أهل بيتي، وإن اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يتفرقا حتى يرد على الحوض، فانظروا بما تخلفوني فيهما (1).

وروى الحاكم في المستدرك بسنده عن أبي الطفيل عن زيد بن أرقم قال:

لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع، ونزل غدير خم، أمر بدوحات فأقمن، فقال: كأني قد دعيت فأجيب، إني تركت فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله تعالى، وعترتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض.

ثم قال: إن الله عز وجل مولاي، وأنا مولى كل مؤمن، ثم أخذ بيد علي عليه السلام، فقال: من كنت مولاه، فهذا وليه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه (2).

وروى النسائي في الخصائص بسنده عن زيد بن أرقم قال: لما دفع النبي صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع، ونزل غدير خم، أمر بدوحات فقممن، ثم قال: كأني دعيت فأجبت، وإني تارك فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض.

ثم قال: إن الله مولاي، وأنا ولي كل مؤمن، ثم إنه أخذ بيد علي، رضي الله عنه، فقال: من كنت وليه، فهذا وليه اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، فقلت لزيد سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنه ما كان في الدرجات أحد، إلا رآه بعينه، وسمعه بأذنيه (3). وذكره المتقي الهني في كنز العمال (4).

____________

(1) فضائل الصحابة 2 / 779، مسند الإمام أحمد 3 / 17، معجم الطبراني الكبير 3 / 63.

(2) المستدرك للحاكم 3 / 109.

(3) النسائي: تهذيب خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ص 50 - 51 (بيروت 1983).

(4) كنز العمال 1 / 48، 6 / 390.

الصفحة 198
وروى الحاكم في المستدرك بسنده عن سلمة بن كهيل عن أبيه عن أبي الطفيل عن ابن واثلة، أنه سمع زيد بن أرقم يقول: نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة عند شجرات خمس دوحات عظام، فكنس الناس ما تحت الشجرات، ثم راح رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية فصلى، ثم قام خطيباً فحمد الله وأثنى عليه، وذكر ووعظ، فقال ما شاء الله أن يقول، ثم قال: أيها الناس، إني تارك فيكم أمرين، لن تضلوا إن اتبعتموها، وهما كتاب الله، وأهل بيتي عترتي، ثم قال: أتعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم ثلاث مرات؟ قالوا: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

من كنت مولاه، فعلي مولاه (1).

ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن وجه الدلالة على العصمة في الأحاديث الآنفة الذكر (حديث الثقلين - بطرق وصيغ مختلفة) إنما هو أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما قد لازم بين أهل بيته عليهم السلام، وبين القرآن المعصوم، ومن لازم المعصوم فهو معصوم. قالوا: وإذا أثبت عصمة أهل البيت، وجب أن يكون إجماعهم حجة لامتناع الخطأ والرجس عليهم، بشهادة المعصوم، وإلا لزم وقوع الخطأ فيه، وأنه محال.

واعترض الجمهور بأن قالوا: لا نسلم أن أهل البيت في الآية الكريمة (الأحزاب 33)، بل هم نساء النبي صلى الله عليه وسلم.

وأما ما أكدتم به عصمتهم من السنة، فأخبار آحاد، لا تقولون بها، مع أن دلالتها ضعيفة. وأجاب الشيعة: إن أهل البيت في الآية إنما هم: علي وفاطمة والحسن والحسين، وهو أمر ثابت بالنص والإجماع، وقد قال به كثيرون، قال به أبو سعيد الخدري وأنس بن مالك وواثلة بن الأسقع، وأم المؤمنين عائشة، وأم المؤمنين أم سلمة، وابن أبي سلمة - ربيب النبي صلى الله عليه وسلم - وسعد وغيرهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

____________

(1) المستدرك للحاكم 3 / 109.

الصفحة 199
وقال به الكثيرون من أهل التفسير والحديث، قال به الفخر الرازي في التفسير الكبير، وقاله الزمخشري في الكشاف، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن، والشوكاني في فتح القدير، والطبري في جامع البيان عن تأويل آي القرآن، والسيوطي في الدر المنثور، وابن حجر العسقلاني في الإصابة، والحاكم في المستدرك، والذهبي في تلخيصه، والإمام أحمد بن حنبل في المسند، والواحدي في أسباب النزول.

وأما خبر الآحاد، فقال الشيعة عنه: إننا أكدنا به دليل الكتاب، ثم هي لازمة لكم، فنحن أوردناها إلزاماً، لا استدلالاً.

على أن الرأي عند الطوفي، أن آية التطهير (الأحزاب 33) ليست نصاً ولا قاطعاً في عصمة آل البيت، وإنما قصاراها أنها ظاهرة في ذلك بطريق الاستدلال الذي حكيناه عنهم (1).

ولعل مما تجدر الإشارة إليه، دخول أبناء فاطمة البتول، عليها السلام، في حكم آية التطهير من الغفران، فهم المطهرون اختصاصاً من الله تعالى، وعنايةً بهم، لشرف محمد صلى الله عليه وسلم، وعناية الله به.

ويذهب بعض العارفين إلى أن حكم هذه النسبة لأهل البيت تكون في الدار الآخرة، فإنهم يحشرون مغفوراً لهم، قال الله تعالى: * (جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم) * (2). قال سعيد بن جبير (3):

____________

(1) المقريزي: فضائل أهل البيت (معرفة ما يجب لآل البيت النبوي من الحق على من عداهم - دار الاعتصام القاهرة 1393 هـ‍/ 1973 م ص 39 - 42.

(2) سورة الرعد: آية 23.

(3) سعيد بن جبير: هو أبو عبد الله سعيد بن جبير، الأسدي الكوفي، ولد عام 45 هـ‍/ 665 م، وتتلمذ على عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو، وكان سعيد من أكثر التابعين علماً ومكانة، ومن أوائل مفسري القرآن الكريم، أمر به الحجاج الثقفي فقتل عام 95 هـ‍/ 714 م، بسبب حبه لآل البيت، ومعارضته سياسة الحجاج وبني أمية.

=>


الصفحة 200
يدخل الرجل الجنة فيقول: أين أبي، أين أمي، أين زوجي؟ فيقال له: لم يعملوا مثل عملك، فيقول: كنت أعمل لي ولهم، فيقال لهم: ادخلوا الجنة (1).

وقال ابن عباس (2): إن الله تعالى جعل من ثواب المطيع، سروره بما يراه في أهله، حيث بشره بدخول الجنة مع هؤلاء، فدل على أنهم يدخلونها، كرامةً للمطيع العامل، ولا فائدة للتبشير والوعد، إلا بهذا، إذ كل مصلح في عمله، قد وعد دخول الجنة.

ومن البديهي، أنه إذا جاز أن يكرم الله تعالى عباده المؤمنين بالذين عملوا بطاعته، ونهوا أنفسهم عن مخالفته، بأن يدخل معهم الجنة من أهاليهم وذوي قرباهم، من كان مؤمناً قد قصر في عبادة ربه، وخالف بعض ما نهى عنه،

____________

<=

وأهم مصادر ترجمته (طبقات ابن سعد 6 / 256 - 267 ط بيروت، المعارف لابن قتيبة ص 227 - 228، الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 2 / 1، 9 - 10، حلية الأولياء 4 / 272 - 309، أخبار أصفهان لأبي نعيم 1 / 324 - 325، طبقات الفقهاء للشيرازي ص 61 - 62، التهذيب لابن حجر 4 / 11 - 14، الأعلام للزركلي 3 / 154، وفيات الأعيان 2 / 371 - 374، شذرات الذهب 1 / 108 - 110).

(1) المقريزي: المرجع السابق ص 59 - 60.

(2) هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، ولد في العام الثالث قبل الهجرة، وتوفي عام 68 هـ‍(687 م) أو 769 هـ‍(688 م) أو 70 هـ‍(689 م)، وصحب جيوش الإسلام إلى مصر وشمال إفريقيا وجرجان وطبرستان والقسطنطينية، وكان والياً على البصرة في خلافة الإمام علي عام 49 هـ‍، اعتزل السياسة بعد موت الإمام علي، وعاش في الطائف على عطائه. ويعد ابن عباس أول مفسري القرآن (وله تفسير مطبوع في جزأين، نشرته جامعة أم القرى بمكة المكرمة) وقد وصف بأنه ترجمان القرآن وحبر الأمة، وكان عمر بن الخطاب يقدمه على كبار الصحابة، وقال عنه الأعمش: إذا رأيته قلت أجمل الناس، فإذا تكلم قلت أفصح الناس، فإذا حدث قلت أعلم الناس. وأما أهم مصادر ترجمته (وفيات الأعيان 3 / 62 - 64، شذرات الذهب 1 / 75 - 76، طبقات ابن سعد 2 / 119 - 125، المحبر لابن حبيب ص 89 حلية الأولياء 1 / 314 - 329، طبقات الفقهاء للشيرازي ص 18 - 19، تذكرة الحفاظ للذهبي ص 40 - 42، الإصابة لابن حجر 2 / 330 - 334 تهذيب التهذيب لابن حجر 5 / 276 - 279، الأعلام للزركلي 4 / 288، الإستيعاب 2 / 350 - 357).

الصفحة 201
بطريق التبعية لهم، لأنهم قد استحقوا تلك المنازل بما أسلفوا من الطاعات في الدنيا، فرسول الله صلى الله عليه وسلم، سيد المرسلين، وإمام المتقين، أولى بهذه الكرامة، أن يدخل الله تعالى عصاة ذريته الجنة، تبعاً له، ويرضى عنهم برضاه عنه صلى الله عليه وسلم (1).

روى الإمام الطبري في تفسيره، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله ليرفع ذرية المؤمن إليه في درجته، وإن كانوا دونه في العمل، لتقر بهم عينه، ثم قرأ * (والذين آمنوا واتبعتهم (2) ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شئ) * (3). قال: ما أنقصنا الآباء بما أعطيناه للبنين.

وروى الإمام النسفي في قوله تعالى: * (وألحقنا بهم ذريتهم) * أي نلحق الأولاد - بإيمانهم وأعمالهم - درجات الآباء وقيل: إن الذرية، وإن لم يبلغوا مبلغاً يكون منهم الإيمان استدلالاً، وإنما تلقوا منهم تقليداً، فهم يلحقون بالآباء، وما ينقص ثواب عمل الآباء شيئاً (4).

وقال الإمام القرطبي في التفسير في قول الله تعالى: * (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم) *، روى عن ابن عباس أربع روايات: الأولى: إن الله ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة، - وإن كانوا دونه في العمل - لتقر به عينه، وتلا هذه الآية، وروى مرفوعاً عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله عز وجل ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة، وإن كان لم يبلغها بعمله، لتقر بهم عينه، ثم قال: * (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان) * - الآية.

____________

(1) المقريزي: المرجع السابق ص 60 - 67.

(2) قرأ العمامة واتبعتهم بوصل الألف وتشديد التاء وفتح العين وإسكان التاء، وقرأ أبو عمرو وأتبعناهم بقطع الألف وإسكان التاء والعين ونون، اعتباراً بقوله وألحقنا بهم ليكون الكلام على نسق واحد (تفسير القرطبي ص 6236).

(3) سورة الطور: آية 21.

(4) تفسير النسفي 4 / 191.

الصفحة 202
قال أبو جعفر: فصار الحديث مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا يجب أن يكون، لابن عباس لا يقول هذا، إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه إخبار عن الله عز وجل بما يفعله، وبمعنى أنه أنزله جل شأنه.

وقال الزمخشري: فيجمع الله لهم أنواع السرور، بسعادتهم في أنفسهم، وبمزاوجة الحور العين، وبمؤانسة الإخوان المؤمنين، وبإجماع أولادهم ونسلهم بهم.

وعن ابن عباس أنه قال: إن الله ليلحق بالمؤمن ذريته الصغار الذين لم يبلغوا الإيمان.

وعن ابن عباس يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة سأل أحدهم عن أبويه، وعن زوجته وولده، فيقال لهم: إنهم لم يدركوا ما أدركت، فيقول: يا رب، إني عملت لي ولهم، فيؤمر بإلحاقهم به.

وروى عن السيدة خديجة رضوان الله عليها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن المؤمنين وأولادهم في الجنة، والمشركين وأولادهم في النار، ثم قرأ * (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان) * - الآية (1).

ويقول الحافظ ابن كثير في تفسير الآية: يخبر تعالى عن فضله وكرمه وامتنانه، ولطفه بخلقه وإحسانه، أن المؤمنين إذا اتبعتهم ذرياتهم في الإيمان، يلحقون بآبائهم في المنزلة، وإن لم يبلغوا عملهم، لتقر أعين الآباء بالأبناء عندهم في منازلهم، فيجمع بينهم على أحسن الوجوه، بأن يرفع ناقص العمل بكامل العمل، ولا ينقص ذلك من عمله ومنزلته للتساوي بينه وبين ذاك، ولهذا قال * (ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شئ) *، قال الثوري عن عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: إن الله ليرفع ذرية

____________

(1) تفسير القرطبي ص 6236 - 6239 (كتاب الشعب - القاهرة 1970).

الصفحة 203
المؤمن في درجته، وإن كانوا دونه في العمل، لتقر بهم عينه، ثم قرأ * (والذين آمنوا و اتبعتهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شئ) * (1).

وأما فضل الله تعالى على الآباء ببركة دعاء الأبناء، فلقد روى الإمام أحمد في مسنده بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة، فيقول: يا رب أنى لي هذه؟ فيقول:

باستغفار ولدك لك (2).

والحديث إسناده صحيح، ولم يخرجوه من هذا الوجه (3)، ولكن له شاهد في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا ما مات ابن آدم انقطع عمله، إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له (4).

ويخلص المقريزي من ذلك كله: بأن الله تعالى، إذا أكرم المؤمن لإيمانه، فجعل ذريته الذين لم يستحقوا درجته معه في الجنة لتقصيرهم، فالمصطفى صلى الله عليه وسلم، أكرم على ربه تعالى من أن يهين ذريته بإدخالهم النار في الآخرة، وهو جل وعز القائل * (إنك من تدخل النار فقد أخزيته) * (5). بل إن من كمال شرفه صلى الله عليه وسلم، ورفيع قدره، وعظيم منزلته عند الله تعالى، أن يقر الله عينه بالعفو عن جرائم ذريته، والتجاوز عن معاصيهم، ومغفرة ذنوبهم، وأن يدخلهم الجنة من غير عذاب (6).

____________

(1) تفسير ابن كثير 4 / 373 - 375 (دار الكتب العلمية - بيروت 1406 هـ‍/ 1986 م).

(2) مسند الإمام أحمد 2 / 509.

(3) صحيح ابن ماجة 2 / 1207.

(4) صحيح مسلم 5 / 73.

(5) سورة آل عمران: آية 192.

(6) المقريزي: المرجع السابق ص 60.

الصفحة 204
هذا فضلاً عن أن المقريزي إنما يستخلص من قول الله تعالى: * (وأما الجدار فكان لغلامين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبو هما صالحاً) * (1)، روى الحاكم في المستدرك بسنده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، رضي الله عنهما، في قوله و كان أبوهما صالحاً قال: حفظاً لصلاح أبيهما، وما ذكر عنهما صلاحاً - قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين (2)، وكان السابع من آبائهما.

ويقول المقريزي: فإذا صح أن الله سبحانه وتعالى قد حفظ غلامين، لصلاح أبيهما، فيكون قد حفظ الأعقاب برعاية الأسلاف، وإن طالت الأحقاب (3).

ومن ذلك في الأثر من أن حمام الحرم من حمامتين عششتا على فم الغار الذي اختفى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلذلك حرم حمام الحرم، وإذا كان ذلك كذلك، فمحمد صلى الله عليه وسلم أحرى وأولى وأحق، وأجدر أن يحفظ الله تعالى ذريته، فإنه إمام الصلحاء، وما أصلح الله فساد خلقه إلا به، ومن جملة حفظ الله تعالى لأولاد فاطمة عليها السلام، أن لا يدخلهم النار يوم القيامة (4).

وأخرج أبو داود الطيالسي بسنده عن حمزة بن أبي سعيد الخدري عن أبيه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما بال أقوام يزعمون أن رحمي لا تنفع، والذي نفسي بيده، إن رحمي لموصولة في الدنيا والآخرة، وإني فرطكم (أي متقدم عليكم) على الحوض، أيها الناس، ألا وسيجئ قوم يوم القيامة، فيقول القائل منهم: يا رسول الله، أنا فلان بن فلان، فأقول: أما النسب فقد عرفت،

____________

(1) سورة الكهف: آية 82.

(2) المستدرك للحاكم 2 / 369.

(3) المقريزي: المرجع السابق ص 61.

(4) نفس المرجع السابق ص 62.

الصفحة 205
ولكنكم ارتددتم بعدي، ورجعتم القهقرى (1) - ورواه شريك فذكره، فقيل له:

يا أبا عبد الله، علام حملتم هذا الحديث؟ قال: على أهل الردة (2).

ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن إمام الحرمين الجويني، إنما يذهب إلى عدم عصمة الأئمة - بل الأنبياء - فيقول: إن علياً وابنيه الحسن والحسين وأولادهم - صلوات الله عليهم - ما كانوا يدعون لأنفسهم العصمة والتنقي من الذنوب، بل كانوا يعترفون بها سراً وعلناً، ويتضرعون إلى الله، مستغفرين خاضعين خانعين، فإن صدقوا فهو المبتغى، وإن تكن الأخرى، فالكذب خطيئة من الخطايا، يجب الاستغفار والتوبة منها.

ثم يقول: فمن أبدى مراءً في اعترافهم بالذنوب، فقد جاحد ضرورات العقول، ومن اعترف بذلك، واعتقد عصمتهم، فقد نسبهم إلى الخلف عمداً، والكذب قصداً، وهذا إثبات ذنب في مساق ادعاء التبري من الذنوب.

فإن قالوا: كان الأنبياء يستغفرون أيضاً - مع وجود العصمة لهم - قلنا:

مذهبنا الذي ندين به، أنه لا تجب عصمة الأنبياء عن صغائر الذنوب، وآي القرآن في أقاصيص النبيين مشحونة بالتنصيص على هنات كانت منهم، استوعبوا أعمارهم في الاستغفار منها (3).

ثم يدلل الجويني على عدم عصمة الأئمة بوجوه، منها (أولاً) أن الإمام لا يتأتى منه تعاطي مهمات المسلمين في المشارق والمغارب، ولا يجد بداً من

____________

(1) منحة المعبود في ترتيب مسند الطيالسي أبي داود 2 / 64. هذا وقد رواه بمثله الإمام أحمد في مسنده 3 / 18.

(2) المقريزي: المرجع السابق ص 63.

وانظر: محمد بيومي مهران: السيدة فاطمة الزهراء ص 72 - 77 (بيروت 1990).

(3) أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني: الغياثي - غياث الأمم في التياث الظلم - تحقيق عبد العظيم الديب - الدوحة 1400 هـ‍ص 91 - 94 (طبع على نفقة الشؤون الدينية بدولة قطر).

الصفحة 206
استخلاف الولاة، ونصب القضاة، وجباة الأخرجة والصدقات، وغيرها من أموال الله، والذي يتولى الإمام من أمر المسلمين بنفسه الأقل، ثم لا تجب عصمة ولاة الأمر، حيث كانوا في أطراف خطة الإسلام، وفيه بطلان ما ذكروه، فما تغني عصمته، ولا يشترط عصمة مستخلفيه (1).

ومنها (ثانياً) أن من ينادون بعصمة الأئمة يقولون: التقية ديننا، ودين آبائنا، ويوجبون على الأئمة أن يبوحوا بالكذب، ويبدون خلاف ما يعتقدون، وإذا كانوا كذلك، فليت شعري: كيف يعتمدون في أقوالهم، مع تجويز أنهم يظهرون خلاف ما يضمرون، وغايتهم في اشتراط العصمة اتباع الأئمة، فيما يأتون ويذرون، فإذا أسقطت الثقة بأقوالهم، كيف تجب العصمة في أفعالهم؟

ولئن جاز الكذب في القول تقية، فليجز الزلل في العمل لمثل ذلك.

ومنها (ثالثاً) أن الأنبياء تجب عصمتهم لدلالات المعجزات على صدق لهجتهم، ولو لم يتميز مدعي النبوة بآية باهرة، وحجة قاهرة عن المخرقين الكذابين، لما استقر عقد في نبوة، فمستند النبوات المعجزات إذاً.

وأما الأئمة، فلقد وضح من دين النبي إمامتهم، مع ما يتعرضون له من إمكان الهفوات، فإذا أثبتنا صحة الاختيار، ويستحيل معه علم المختارين في مطرد العادات بأحوال المنصوبين للزعامة، فاستناد الإمامة إلى النبوة، ومستند النبوة المعجزة، فلما تعلق مستند التبليغ بالنبي، لم يكن لتميزه ممن عداه بد من آية، والأئمة يبينون أو يفتون أو يتبعون فروعاً في شرائع الرسل، فإذا دل دليل على انتصابهم - مع التعرض للزلل - ولم يكن في العقول ما يأبى ذلك ويحيله، تلقيناه بالقبول، ونزلناه منزلة الشهود والمفتين وسائر ولاة المسلمين، وحماة الدين (2).

(1) نفس المرجع السابق ص 94 - 95.

(2) نفس المرجع السابق ص 95 - 97.

الصفحة 207

2 - التقية:

التقية: اسم مصدر ل‍ً توقىً وً اتقىً، تقول: توقيت الشئ، واتقيته، وتقيته، تقى وتقية، أي حذرته.

ويقول العلامة المظفري: إن التقية من الوقاية، فهي جنة تدرأ بها المخاوف والأخطار، أي أن الغرض من التقية أن يحافظ المرء على عرضه أو نفسه أو ماله، مخافة عدو، فيظهر غير ما يضمر، فهي إذن مداراة وكتمان، وتظاهر بما ليس هو الحقيقة، فمن كان على دين أو مذهب ثم لم يستطيع أن يظهر دينه أو مذهبه، فيتظاهر بغيره، فذلك تقية.

هذا ولم ترد عبارة تقية في القرآن الكريم، وإنما جاءت بلفظ تقاة.

ويذهب الشريف الرضي (359 - 406 هـ‍) (1)، والزمخشري (467 - 538 هـ‍) (2) أن تقاة قرأت تقية، ومن الواضح أن المراد بها هنا التظاهر

____________

(1) الشريف الرضي: - هو نقيب العلويين أبو الحسن محمد بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن موسى بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الإمام الحسين بن الإمام علي بن أبي طالب، ولد عام 359 هـ‍، و توفي يوم الأحد سادس المحرم - وقيل صفر - عام 406 هـ‍، وكان شاعراً مفلقاً حتى قيل إنه أشعر قريش، وقد ابتدأ ينظم الشعر وله عشر سنين، وله ديوان في أربع مجلدات، وقد أصبح نقيب الطالبيين في عام 383 هـ‍، بعد أن تنازل له أبوه عنها، وقال ابن جني النحوي عنه أنه حفظ القرآن في مدة يسيرة، وصنف كتاباً في مجازات القرآن، فجاء نادراً في بابه، كما صنف كتاباً في معاني القرآن يتعذر وجود مثله دل على توسعه في علم النحو واللغة، وانظر عن مصادر ترجمته وفيات الأعيان 4 / 414 - 420، شذرات الذهب 3 / 182 - 184، تاريخ بغداد 2 / 245 - 246، وقام الدكتور إحسان عباس بعمل دراسة عنه نشرت في بيروت 1957 م.

(2) الزمخشري: - هو أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد بن عمر الخوارزمي الزمخشري، الإمام الكبير في التفسير والحديث والنحو واللغة وعلم البيان، كان إمام عصره بغير مدافع، وصاحب التصانيف البديعة، والتي منها: الكشاف في تفسير القرآن العزيز والمحاجاة بالمسائل النحوية، والمفرد المركب في العربية، والفائق في تفسير الحديث، وأساس البلاغة في اللغة وربيع الأبرار وفصوص الأخيار ومتشابه أسامي الرواة والنصائح الكبار والنصائح الصغار وضالة الناشد والرائض في علم الفرائض والمفصل في النحو والأنموذج في النحو. وغيرها وغيرها.

=>


الصفحة 208
بموالاة الأعداء، على أساس أن تتقوا منهم تقاة أي تحذروهم، وتتجنبوا الأذى منهم، ومن هنا يتبين أن الخوف والمحافظة على النفس في مواطن الخطر هما أساس التقية، وأن القرآن قد أباح للمسلمين - وبخاصة المسلمين الذين عناهم هنا - الخائفين على دمهم، أن يتخذوا الكافرين أولياء تقاة أو تقية، على أمل زوال الظروف التي دعتهم إلى هذه الضرورة، والضروريات تبيح المحظورات، كما هو معروف (1).

ويقول ابن حزم الأندلسي: وقد أباح الله كلمة الكفر عند التقية، وأباح بها الدم في غير التقية (2)، هذا وقد اعتمدت التقية على ركائز ثلاثة من الكتاب والسنة والعقل.

1 - التقية في القرآن:

يقول الله تعالى: * (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير) * (1).

ويقول الله تعالى: * (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم) * (4).

____________

<=

وقد ولد الزمخشري يوم الأربعاء 27 رجب عام 467 هـ‍، وتوفي ليلة عرفة عام 538 هـ‍.

وانظر ترجمته في (وفيات الأعيان 5 / 168 - 174، طبقات المعتزلة ص 20، لسان الميزان 2 / 160، عبر الذهبي 4 / 106، إنباه الرواة 3 / 265، شذرات الذهب 4 / 118 - 121).

(1) أنظر: الشريف الرضي: حقائق التأويل في متشابه التنزيل ص 74 (النجف 1355 هـ‍/ 1936 م)، الزمخشري: الكشاف 1 / 300 (بولاق 1318 هـ‍)، كامل الشيبي: التقية - مجلة كلية الآداب، جامعة الإسكندرية - العدد 16 عام 1963 ص 233 - 234.

(2) ابن حزم: الفصل في الملل والأهواء والنحل 3 / 111.

(3) سورة آل عمران: آية 28.

(4) سورة النحل: آية 106.

الصفحة 209
وقد قدم لنا العلامة المفسر القرطبي معظم آراء العلماء في تفسير الآية الكريمة، وقد نزلت هذه الآية في عمار بن ياسر في قول أهل التفسير، لأنه قارب بعض ما ندبوه إليه، قال ابن عباس: أخذه المشركون، وأخذوا أباه وأمه سمية، وبلالاً وخباباً وسالماً فعذبوهم، و ربطت سمية بين بعيرين، ووجئ قبلها بحربة، وقيل لها: إنك أسلمت من أجل الرجال، فقتلت وقتل زوجها ياسر، وهما أول قتيلين (شهيدين) في الإسلام، وأما عمار فأعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرهاً، فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف تجد قلبك؟، قال: مطمئن بالإيمان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإن عادوا فعد.

وروى الترمذي عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خير عمار بين أمرين، إلا اختار أرشدهما، وفي هذا دليل على أن التقية التي اختارها عمار كانت أرشد هنا.

ويقول القرطبي: لما سمح الله عز وجل بالكفر به - وهو أصل الشريعة - عند الإكراه، ولم يؤاخذ به، حمل العلماء عليه فروع الشريعة كلها، فإذا وقع الإكراه عليها، لم يؤاخذ به، ولم يترتب عليه حكم، وبه جاء الأثر المشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه.

هذا وقد أجمع العلماء على أن من أكره على الكفر، حتى خشي على نفسه القتل، أنه لا إثم عليه، إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان، ولا تبين منه زوجته، ولا يحكم عليه بحكم الكفر، وهذا ما قال به مالك والكوفيون والشافعي - غير محمد بن الحسن (1) - بدليل قول الله تعالى: * (إلا من أكره) * وقوله تعالى: * (إلا أن تتقوا منهم تقاة) * (2)، وقوله تعالى: * (إلا المستضعفين من

____________

(1) تفسير القرطبي ص 3796 - 3798.

(2) سورة آل عمران: آية 28، وانظر: تفسير الطبري 6 / 313 - 317، تفسير ابن كثير 1 / 535، تفسير النسفي 1 / 152 - 153، تفسير الزمخشري 1 / 140، تفسير القرطبي ص 1299 - 1300،

=>


الصفحة 210
الرجال والنساء والولدان) * (1) فعذر الله المستضعفين الذين يمتنعون من ترك ما أمر الله به - قاله البخاري.

هذا وقد ذهبت طائفة من العلماء - كالحسن البصري والأوزاعي وسحنون - إلى أن الرخصة إنما جاءت في القول، وأما الفعل فلا رخصة فيه، مثل أن يكرهوا على السجود لغير الله، أو الصلاة لغير القبلة.

وقد احتج من قصر الرخصة على القول، بقول ابن مسعود: ما من كلام يدرأ عني سوطين من ذي سلطان، إلا كنت متكلماً به فقصر الرخصة على القول، ولم يذكر الفعل، وهذا لا حجة فيه، لأنه يحتمل أن يجعل للكلام مثالاً، وهو يريد: أن الفعل في حكمه.

على أن فريقاً آخر من العلماء قال إن الإكراه في القول والفعل سواء، إذا أسر الإيمان، روى ذلك عن عمر بن الخطاب ومكحول، وهو قول مالك، وطائفة من أهل العراق، فلقد روى ابن القاسم عن مالك: أن من أكره على شرب الخمر، وترك الصلاة، أو الإفطار في رمضان، أن الإثم عنه مرفوع (2).

ولعل مما تجدر الإشارة إليه أن العلماء يجمعون على أن من أكره على الكفر، فاختار القتل، إنما هو أعظم أجراً عند الله، ممن اختار الرخصة، واختلفوا فيمن أكره على غير القتل من فعل ما لا يحل له، فقال أصحاب مالك: الأخذ بالشدة في ذلك، واختيار القتل والضرب، أفضل عند الله من الأخذ بالرخصة.

وروى خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلت: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟ فقال لي: قد كان

____________

<=

تفسير المنار 3 / 227 - 233، أحمد أمين: فجر الإسلام ص 274، ضحى الإسلام 3 / 246 - 247.

(1) سورة النساء: آية 97.

(2) تفسير القرطبي ص 3798 - 3799.