وعن يونس بن عبيد عن الحسن (البصري): أن عيوناً لمسيلمة (الكذاب) أخذوا رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فذهبوا بهما إلى مسيلمة، فقال لأحدهما:
أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم، قال: أتشهد أني رسول الله؟ قال:
نعم، فخلى سبيله، وقال للآخر: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم، قال:
وتشهد أني رسول الله؟ قال: أنا أصم، لا أسمع، فقدمه وضرب عنقه، فجاء هذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هلكت، قال: وما أهلكك، فذكر الحديث، قال: أما صاحبك فأخذ بالثقة، وأما أنت فأخذت بالرخصة، على ما أنت عليه الساعة؟ قال: أشهد أنك رسول الله، قال: أنت على ما أنت عليه (2).
وعن المسيب بن شريك عن أبي شيبة قال: سألت أنس بن مالك عن الرجل يؤخذ بالرجل، هل ترى أن يحلف ليقيه بيمينه؟ فقال: نعم، ولأن أحلف سبعين يميناً وأحنث، أحب إلي أن أدل على مسلم.
وكان الوليد بن عبد الملك الأموي (86 هـ/ 705 م - 96 هـ/ 715 م) يأمر جواسيس يتجسسون الخلق يأتونه بالأخبار، قال: فجلس رجل منهم في حلقة رجاء بن حيوه فسمع بعضهم يقول في الوليد، فرفع ذلك إليه فقال: يا رجاء، اذكر بالسوء في مجلسك ولم تغير، فقال: ما كان ذلك يا أمير المؤمنين، فقال له الوليد: قال: الله الذي لا إله إلا هو، قال: الله الذي لا إله إلا هو، فأمر
____________
(1) تفسير القرطبي ص 3804.
(2) تفسير الزمخشري / 536، تفسير المنار 3 / 231، تفسير القرطبي ص 3805.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ليس الرجل آمناً على نفسه، إذا أخفته أو أوثقته أو ضربته، وقال ابن مسعود: ما كان يدرأ عني سوطين، إلا كنت متكلماً به.
وقال الحسن البصري: التقية جائزة للمؤمن إلى يوم القيامة، إلا أن الله تعالى ليس يجعل في القتل تقية.
وقال النخعي: القيد إكراه، والسجن إكراه، وهذا قول الإمام مالك، إلا أنه قال: والوعيد المخوف إكراه، وإن لم يقع، إذا تحقق ظلم ذلك المتعدي، وإنفاذه لما يتوعد به، وليس عند مالك وأصحابه في الضرب والسجن توقيت، إنما هو ما كان يؤلم من الضرب، وما كان من سجن يدخل منه الضيق على المكره، وإكراه السلطان وغيره عن مالك إكراه.
وقال سحنون (1) (عبد السلام بن سعيد التنوخي قاضي القيروان 160 هـ/ 776 م - 240 هـ/ 854 م): وفي إجماعهم على أن الألم والوجع الشديد إكراه، مما يدل على أن الإكراه يكون من غير تلف نفس، وذهب الإمام مالك (90 أو 97 - 179 هـ) إلى أن من أكره على يمين بوعيد أو سجن أو ضرب، أنه يحلف ولا حنث عليه، وهو قول الأئمة: الشافعي (150 هـ/ 767 م - 204 هـ/ 820 م) وابن حنبل (164 هـ/ 780 م - 241 هـ/ 855 م) وأبي ثور (ت 240 هـ/ 854 م) وأكثر العلماء.
____________
(1) سحنون: وهو والد ابن سحنون (محمد بن سحنون بن عبد السلام بن سعيد التنوخي، الذي ولد بالقيروان عام 202 هـ/ 817 م، وتعلم فيها على يد والده سحنون وغيره، حتى صار في مكانة أكبر من مكانة والده، ثم توفي عام 256 هـ/ 870 م).
وقال النخعي: كان لهم كلام من ألغاز الإيمان يدرأون به عن أنفسهم، لا يرون ذلك من الكذب ولا يخشون فيه الحنث، قال عبد الملك: وكانوا يسمون ذلك المعاريض من الكلام، إذا كان ذلك في غير مكر، ولا خديعة في حق، وقال الأعمش: كان إبراهيم النخعي إذا أتاه أحد يكره الخروج إليه، جلس في مسجد بيته، وقال لجاريته: قولي له: هو والله في المسجد (1).
2 - التقية في السنة:
تظهر التقية - بأجلى معانيها - في قصة الصحابي الجليل عمار بن ياسر رضوان الله عليه، روى الحافظ ابن كثير في تفسيره قال: روى العوفي عن ابن عباس أن آية * (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) * (2)، نزلت في عمار بن ياسر، حين عذبه المشركون حتى يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، فوافقهم على ذلك مكرهاً، وجاء معتذراً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية، وهكذا قال الشعبي وقتادة وأبو مالك.
وروى ابن جرير بسنده عن أبي عبيد محمد بن عمار بن ياسر قال: أخذ المشركون عمار بن ياسر فعذبوه، حتى قاربهم في بعض ما أرادوا، فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئناً بالإيمان، قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن عادوا فعد.
____________
(1) تفسير القرطبي ص 3805 - 3807.
(2) سورة النحل: آية 106.
هذا وقد خرج عن هذه الآية الكريمة (النحل: 106) رأي مدرسة الإمام أبي عبد الله جعفر الصادق (80 هـ/ 669 م - 148 هـ/ 765 م) مع الإمام أبي حنيفة (80 هـ/ 669 م - 150 هـ/ 767 م) والإمام مالك، في فتواهما المشتركة للناس:
ليس على مكره يمين، حينما سئلا عن بيعتهما للخليفة العباسي المنصور (136 هـ/ 754 م - 158 هـ/ 775 م) وخروجهما عليه بعد البيعة (2).
وأما الإمام أبو حنيفة، فلقد أرسل له الإمام زيد بن علي زين العابدين (79 هـ/ 698 م - 122 هـ/ 740 م) الفضيل بن الزبير يدعوه إليه، غير أنه لم يستطع الخروج، وقال للرسول: إبسط عذري إليه، ومع ذلك فقد كان يحث الناس على نصرة الإمام زيد، كما أمده بمعونة مالية، - بلغت ثلاثين ألف درهم - يستعين بها على عدوه، ويروى أن أبا حنيفة قال لما بلغه خروج زيد - ضاهى خروجه خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم بدر، فقيل له: لم تخلف عنه؟
قال: حبسني عنه ودائع الناس، عرضتها على ابن أبي ليلى فلم يقبل، فخفت أن أموت مجهلاً.
وقال الزمخشري في الكشاف: وكان أبو حنيفة يفتي سراً، بوجوب نصرة
____________
(1) تفسير ابن كثير 2 / 911 - 912 (دار الكتب العلمية - بيروت 1406 هـ/ 1986).
(2) عبد القادر محمود: الإمام جعفر الصادق - رائد السنة والشيعة ص 177.
وروى أن محمد بن جعفر الصادق قال: رحم الله أبا حنيفة، لقد تحققت مودته لنا في نصرته زيد بن علي (1).
وفي أثناء ثورة الإمام محمد النفس الزكية وأخيه إبراهيم على الخليفة العباسي المنصور في عام 145 هـ، أفتى الإمام أبو حنيفة بالخروج مع إبراهيم، وكان المحدث الفقيه شعبة بن الحجاج (82 هـ/ 701 م - 160 هـ/ 776 م) يحث الناس على اتباعه، ويقول: ما يقعدكم؟ هي بدر الكبرى، كما أمده الإمام أبو حنيفة بأربعة آلاف درهم، وكتب إليه أنه لم يكن عنده غيرها (2).
وروى أن امرأة أتت أبا حنيفة فقالت: إنك أفتيت ابني بالخروج مع إبراهيم، فخرج فقتل، فقال لها: ليتني كنت مكان ابنك.
وكتب أبو حنيفة إلى إبراهيم يقول: أما بعد، فإني جهزت إليك أربعة آلاف درهم، ولم يكن عندي غيرها، ولولا أمانات للناس عندي للحقت بك، فإذا لقيت القوم، وظفرت بهم، فافعل كما فعل أبوك (يعني الإمام علي بن أبي طالب) في أهل صفين، أقتل مدبرهم، وأجهز على جريحهم، ولا تفعل كما فعل أبوك في أهل الجمل، فإن القوم لهم فئة، ويقال إن هذا الكتاب وقع إلى الدوانيقي (يعني أبو جعفر المنصور)، وكان سبب تغيره على أبي حنيفة (3).
وأما الإمام مالك، فلقد أفتى الناس أيضاً بالخروج مع محمد النفس الزكية،
____________
(1) تفسير الكشاف 1 / 64، شذرات الذهب 1 / 159، ابن البزار: مناقب الإمام أبي حنيفة 1 / 55 (حيدر الدكن 1321 هـ)، الأصفهاني: مقاتل الطالبيين ص 146، المحلى: الحدائق الوردية 1 / 144.
(2) ابن عنبة: عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب ص 130، وانظر: مقاتل الطالبيين ص 361، 364، 365، 367، 369.
(3) ابن عنبة: عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب ص 130 (دار مكتبة الحياة - بيروت).
وروى ابن الأثير في كامله: وكان أهل المدينة قد استفتوا مالك بن أنس في الخروج مع محمد (النفس الزكية) وقالوا: إن في أعناقنا بيعة لأبي جعفر، فقال: إنما بايعتم مكرهين، وليس على مكره يمين، فأسرع الناس إلى محمد، ولزم مالك بيته (2).
قال صاحب الجواهر - كما جاء في كتاب فقه الإمام جعفر الصادق - الاجتماع على ذلك، مضافاً إلى النصوص العامة، مثل رفع عن أمتي ما استكرهوا عليه، ورواية زرارة عن الإمام أبي جعفر الصادق: ليس طلاق المكره بطلاق، ولا عتقه بعتق (3).
ولقد اختلف العلماء في طلاق المكره، فقال الشافعي وأصحابه لا يلزمه شئ، وذكر ابن وهب عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس، أنهم كانوا لا يرون طلاقه شيئاً، وكذا رأي ابن عمر وعطاء وطاوس والحسن البصري وشريح والقاسم وسالم ومالك والأوزاعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبي ثور، وأجازت طائفة طلاقه كالشعبي والنخعي وأبي قلابة والزهري وقتادة، وقال أبو حنيفة طلاق المكره يلزم (4).
وفي تفسير ابن كثير: روى البخاري عن أبي الدرداء أنه قال: إنا لنكشر في وجوه أقوام، وقلوبنا تلعنهم، وقال الثوري: قال ابن عباس: ليس التقية بالعمل، إنما التقية باللسان.
____________
(1) نفس المرجع السابق ص 126.
(2) ابن الأثير: الكامل في التاريخ 5 / 532.
(3) محمد جواد مغنية: فقه الإمام جعفر الصادق - الجزء السادس ص 6 (دار الجواد - بيروت 1404 هـ/ 1984 م).
(4) تفسير القرطبي ص 3800.
وروى الإمام مالك في الموطأ عن عائشة - زوج النبي صلى الله عليه وسلم - أنها قالت.
استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت عائشة: وأنا معه في البيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بئس ابن العشيرة، ثم أذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت عائشة: فلم أنشب أن سمعت ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، معه، فلما خرج الرجل قلت: يا رسول الله، قلت فيه ما قلت، ثم لم تنشب أن ضحكت معه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من شر الناس من اتقاه الناس لشره (2).
وروى البخاري في صحيحه (باب ما يجوز من اغتياب أهل الفساد والريب) قال: حدثنا صدقة بن الفضل، أخبرنا ابن عيينة سمعت ابن المنذر، سمع عروة بن الزبير، أن عائشة رضي الله عنها أخبرته، قالت: استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إئذنوا له، بئس أخو العشيرة، أو ابن العشيرة، فلما دخل ألان له الكلام، قلت: يا رسول الله، قلت الذي قلت، ثم ألنت له الكلام، قال: أي عائشة، إن شر الناس من تركه الناس - أو ودعه الناس - إتقاء فحشه (3).
وفيه من حديث أبي الدرداء: إنا لنكشر في وجوه قوم، وإن قلوبنا لتلعنهم وفي رواية الكشميهني وإن قلوبنا لتقليهم أي تبغضهم، ويقول صاحب تفسير المنار: وأما المداراة - فيما لا يهدم حقاً، ولا يبني باطلاً - فهي كياسة مستحبة، يقتضيها أدب المجالسة، ما لم تنته إلى حد النفاق، ويستجز فيها الدهان والاختلاق، وتكون مؤكدة في خطاب السفهاء، تصوناً من سفههم، واتقاء لفحشهم (4).
____________
(1) تفسير ابن كثير 1 / 535 (بيروت 1986).
(2) الإمام مالك بن أنس: الموطأ - صححه ورقمه وخرج أحاديثه وعلق عليه - محمد فؤاد عبد الباقي ص 563 - 564 (ط كتاب الشعب 1970).
(3) صحيح البخاري 8 / 20 - 21.
(4) تفسير المنار 3 / 231 - 232 (الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة 1973).
انطلقت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أتينا الكعبة، فقال لي نبي الله صلى الله عليه وسلم: إجلس، وصعد على منكبي فنفضته، فنزل، وجلس لي نبي الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إصعد على منكبي، قال: فنهض بي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنه ليخيل إلي أني لو شئت لنلت أفق السماء، حتى صعدت على البيت، وعليه تماثيل صفر أو نحاس، فجعلت أزاوله يميناً وشمالاً، ومن بين يديه ومن خلفه، حتى إذا استمكنت منه، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إقذف به، فقذفت به، فتكسر، كما تكسر القوارير، ثم نزلت، فانطلقت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم، نستبق حتى توارينا بالبيوت، خشية أن يلقانا أحد من الناس (1).
ويقول الطبري (2): وما يهمنا هنا في هذا الخبر: أن علياً رحمه الله، أخبر أنه حين رمى بالصنم من فوق الكعبة فتكسر، نزل فانطلق هو و رسول الله صلى الله عليه وسلم، يسعيان حتى استترا بالبيوت، خشية أن يعلم بهما أحد، ولا شك أنهما لم يخشيا أن يعلم ما كان منهما من الفعل بالصنم أحد من المشركين، إلا كراهة أذاهم على أنفسهما، وأن يلحقهما منهم مكروه، لما كان فعلا بصنمهم.
وكذلك القول على كل خائف على نفسه من فرط أذى من لا طاقة له به، أن يناله به في نفسه، إذا هو غير هيئة بعض ما وجده معه، أو مع بعض أشيائه من الأشياء التي لا تصلح إلا لأن يعصى الله به، وهو بهيئته، في أنه في سعة من ترك تغييره عن هيئته، حتى يأمن ذلك على نفسه، فإذا أمن على نفسه، كان له تغييره من الهيئة عن هيئته، حتى يأمن من ذلك على نفسه، فإذا أمن على نفسه، كان له تغييره من الهيئة المكروهة إلى غيرها من الهيئات التي تصلح لغير معصية الله.
____________
(1) أبو جعفر الطبري: تهذيب الآثار وتفصيل الثابت عن رسول الله من الأخبار - مسند الإمام علي بن أبي طالب - قرأه وخرج أحاديثه محمود محمد شاكر - ص 237 (ط جامعة الإمام محمد بن مسعود الإسلامية بالرياض).
(2) نفس المرجع السابق ص 242 - 243.
وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما تحين لكسر الصنم الذي كان فوق الكعبة، وقت الخلوة من عبدته، ومن يحضره لتعظيمه، كراهة أن ينالوه بمكروه في نفسه، لو حاول كسره بمحضر منهم، أو أن يحولوا بينه وبين ما يحاول من ذلك، ثم لم يقف بعد كسره إياه بموضعه، ولكنه أسرع السعي منه إلى حيث يأمن على نفسه أذاهم، وأن يعملوا أنه الذي ولى كسره، أو كان الذي سبب كسره (1).
وهناك حديث لا ضرر ولا ضرار، وحديث رفع عن أمتي تسعة أشياء:
الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطروا إليه، والطيرة، والحسد، والوسوسة في الخلق، وقول الرسول الأعظم وما اضطروا إليه صريح الدلالة على أن الضرورات تبيح المحظورات (2).
وقال الإمام الغزالي (450 هـ/ 1059 م - 505 هـ/ 1111 م) في موسوعته إحياء علوم الدين (باب ما رخص فيه من الكذب): أن عصمة دم المسلم واجبة، فمهما كان في الصدق سفك دم امرئ مسلم، قد اختفى من ظالم، فالكذب فيه واجب، ومهما كان لا يتم مقصود الحرب، أو إصلاح ذات البين، أو استمالة قلب المجني عليه، إلا بكذب، فالكذب مباح، إلا أنه ينبغي أن يحترز منه ما أمكن، لأنه إذا فتح باب الكذب على نفسه، فيخشى أن يتداعى إلى ما لا
____________
(1) مسند الإمام علي بن أبي طالب ص 242 - 243.
(2) محمد جواد مغنية: الشيعة في الميزان ص 50.
وقال الإمام الرازي في التفسير الكبير، في تفسير قوله تعالى: * (إلا أن تتقوا منهم تقاة) * - بعد أن نقل الأقوال المختلفة في التقية - قال: روى عن الحسن البصري أنه قال: التقية جائزة للمؤمنين إلى يوم القيامة، وهذا القول أولى - فيما يرى الرازي - لأن دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الإمكان (2).
ونعى الإمام الشاطبي (المتوفى 1388 م) في الموافقات على الخوارج إنكارهم سورة يوسف من القرآن، وقولهم (المتوفى 1388 م) بأن التقية لا تجوز في قول أو فعل على الإطلاق والعموم (3).
وقال الحافظ جلال الدين السيوطي في الأشباه والنظائر: لا يجوز أكل الميتة في المخمصة، وإساغة اللقمة (1445 - 1505 م) في الخمر، والتلفظ بكلمة الكفر، ولو عم الحرام قطراً، بحيث لا يوجد فيه حلال، إلا نادراً، فإنه يجوز استعمال ما يحتاج إليه (4).
وقال أبو بكر أحمد بن علي الجصاص الرازي (5) (305 هـ/ 917 م - 370 هـ/ 981 م) - من أئمة الحنفية - في قوله تعالى: * (إلا أن تتقوا منهم تقاة) *، يعني أن تخافوا تلف النفس، أو بعض الأعضاء، فتتقوهم بإظهار
____________
(1) أبو حامد الغزالي: إحياء علوم الدين 9 / 1588 (دار الشعب - القاهرة 1970).
(2) الشيعة في الميزان ص 50.
(3) الإمام الشاطبي: الموافقات 4 / 180.
(4) السيوطي: الأشباه والنظائر ص 76.
(5) أنظر عن الجصاص (تاريخ بغداد 4 / 314 - 315، معجم المؤلفين لكحالة 2 / 7 - 8، الفهرست لابن النديم ص 208، المنتظم لابن الجوزي 7 / 105 - 106، الأعلام للزركلي 1 / 165، البداية والنهاية لابن كثير 11 / 297، تذكرة الحفاظ للذهبي 959، الجواهر للقرشي 1 / 84 - 85، شذرات الذهب 3 / 71، فؤاد سزكين: تاريخ التراث العربي - المجلد الأول 1 / 102 - 104 - جامعة الإمام محمد بن مسعود الإسلامية 1403 هـ/ 1983 م).
وقد حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق المروزي عن الحسن بن أبي الربيع الجرجاني عن عبد الرازق عن معمر عن قتادة في قوله تعالى: * (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون الله) *، قال: لا يحل لمؤمن أن يتخذ كافراً ولياً في دينه، وقوله تعالى: * (إلا أن تتقوا منهم تقاة) *، يقتضي جواز إظهار الكفر عند التقية، وهو نظير قوله تعالى: * (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) * (1).
وروى مسلم في صحيحه بسنده عن ابن المنكدر، سمع عروة بن الزبير يقول: حدثتني عائشة أن رجلاً استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إئذنوا له، فلبئس ابن العشيرة، أو بئس رجل العشيرة، فلما دخل عليه ألان له القول، قالت عائشة فقلت: يا رسول الله، قلت له الذي قلت، ثم ألنت له القول، قال:
يا عائشة، إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة ودعه أو تركه الناس، إتقاء فحشه (2).
وفي السيرة الحلبية: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، قال له حجاج بن علاط: يا رسول الله إن لي بمكة مالاً، وإن لي بها أهلاً، وأنا أريد أن آتيهم، فأنا في حل، إن نلت منك، وقلت شيئاً فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يقول ما شاء (3).
وهذا الذي قاله صاحب السيرة الحلبية عن النبي صلى الله عليه وسلم، ونقله الجصاص
____________
(1) الجصاص: أحكام القرآن 2 / 10 (ط 1347 هـ).
(2) صحيح مسلم 16 / 144 (ط بيروت 1981 م).
(3) أنظر: السيرة الحلبية 2 / 761 - 763، تاريخ الطبري 3 / 17 - 19، ابن الأثير: الكامل في التاريخ 2 / 223 - 224، سيرة ابن هشام 3 / 259 - 260، السيرة النبوية لابن كثير 2 / 407 - 492.
ويقول الأستاذ مغنية: لا أدري كيف استجاز لنفسه من يدعي الإسلام، أن ينعت التقية بالنفاق والرياء، وهو يتلو من كتاب الله، وسنة نبيه، ما ذكرنا آنفاً من الآيات والأحاديث، فضلاً عن أقوال أئمة السنة، وهو غيض من فيض مما استدل به علماء الشيعة في كتبهم، ثم كيف تنسب الشيعة إلى الرياء، وهم يؤمنون بأنه الشرك الخفي، ويحكمون ببطلان الصوم والصلاة والحج والزكاة، إذا شابها أدنى شائبة من رياء (2).
وعلى أية حال، فالتقية لا تحل إلا مع خوف القتل أو القطع أو الإيذاء العظيم (3). وعن ابن عباس إلا أن تتقوا منهم تقاة، قال: التقاة التكلم باللسان، وقلبه مطمئن بالإيمان، وعن عكرمة في قوله إلا أن تتقوا منهم تقاة، قال: ما لم يهرق دم مسلم، وما لم يستحل ماله (4).
هذا وقد روى الكليني - أكبر علماء الإمامية، والمتوفى 328 هـ/ 939 م - أخباراً كثيرة في التقية، فروى عن الإمام أبي عبد الله أنه قال: تسعة أعشار الدين في التقية، ولا دين لمن لا تقية له، والتقية في كل شئ، إلا في النبيذ والمسح على الخفين.
____________
(1) أنظر: مغازي الواقدي 2 / 480 - 487 (بيروت 1984)، ابن كثير: السيرة النبوية 3 / 214 - 217، ابن قيم الجوزية: زاد المعاد 3 / 273 - 274، ابن حزم: جوامع السيرة ص 151 - 152 (القاهرة 1982)، عرجون: محمد رسول الله 4 / 181 - 189 (دمشق 1985)، أبو زهرة: خاتم النبيين 2 / 788 - 790، البوطي: فقه السيرة ص 1 / 22 (بيروت 1978)، الندوي: السيرة النبوية ص 219 - 220، محمد بيومي مهران: السيرة النبوية الشريفة 2 / 211 - 214 (بيروت 1990)، الشيعة في الميزان ص 51.
(2) محمد جواد مغنية: الشيعة في الميزان ص 51.
(3) تفسير القرطبي ص 1299.
(4) تفسير الطبري 6 / 313 - 317.
بما صبروا على التقية، وما بلغت تقية أحد تقية أصحاب الكهف، إن كانوا ليشهدون الأعياد ويشدون الزنانير، فأعطاهم الله أجرهم مرتين.
وقد سئل أبو الحسن عن القيام للولاة فقال: قال أبو جعفر الباقر: التقية من ديني، ودين آبائي، ولا إيمان لمن لا تقية له.
وسئل الإمام أبو جعفر عن رجلين من أهل الكوفة أخذا، فقيل لهما: إبرآ من أمير المؤمنين علي عليه السلام، فبرئ واحد منهما، وأبى الآخر، فخلي سبيل الذي برئ، وقتل الآخر، فقال: أما الذي برئ، فرجل فقيه في دينه، وأما الذي لم يبرأ، فرجل تعجل إلى الجنة.
وأراد جماعة السير إلى العراق، فقالوا لأبي جعفر: أوصنا، فقال أبو جعفر: ليقو شديدكم ضعيفكم، ولتعد غنيكم على فقيركم، ولا تبثوا سرنا، ولا تذيعوا أمرنا.
وقال أبو عبد الله: إن أمرنا مستور مقنع بالميثاق، فمن هتك علينا أذله الله (2).
3 - التقية من الدليل العقلي
وهو يوجب المحافظة على النفس والنفيس، استناداً إلى قول الله تعالى * (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) * (3).
والنبي صلى الله عليه وسلم - المثل الأعلى للإنسانية كلها - إنما قد أخفى الدعوة في بادئ الأمر، وبدأ يدعو للإسلام سراً، لأنه رأى أولاً ضرورة التقية، حتى زالت
____________
(1) سورة القصص: آية 54.
(2) الكليني: الكافي ص 400 وما بعدها، أحمد أمين: ضحى الإسلام 3 / 247 - 248 (القاهرة 1368 هـ / 1949 م).
(3) سورة البقرة: آية 195.
وعلى أية حال، فالصدع بالرأي، بعد الإسرار به، لم يكن شجاعة بعد جبن، بل كان قوة في كلتا الحالتين، استترت الأولى بالتقية، وكشفت الثانية عن نفسها بخلع التقية.
ويرى الشيعة عامة أن أبا طالب - عم النبي ومربيه، وشاهد نبوته معه منذ طفولته - إنما كان مستتراً وراء التقية، وكان مؤمناً بابن أخيه محمد نبياً ورسولاً، وقد تظاهر بغير ذلك، بالصمت حيناً، وبالتجاهل حيناً، ليتسنى له الدفاع عن محمد وعلي، عليهما السلام (2).
هذا وقد أكد التقية قبل الإمام الصادق جده الإمام علي زين العابدين، حين قال:
ولقد جرى على ذلك بعض الصوفية، فقالوا بالعلم الباطن، الذي لا يفهم من اللغة ولا من المنطق، وإنما عن طريق الإلهام والمكاشفة.
هذا ويذهب كاشف الغطاء إلى أن الشريعة الإسلامية المقدسة، إنما قد أجازت للمسلم في مواطن الخوف أن يتدرع بستار التقية، إخفاء للحق، وصوناً له، ريثما تنتصر دولة الحق، هذا وتجب التقية، إن كان تركها يستوجب تلف
____________
(1) سورة الحجر: آية 94 - 95.
(2) عبد القادر محمود: الإمام جعفر الصادق رائد السنة والشيعة ص 178.
(3) المجلسي: بحار الأنوار ص 86 - 87.
ويذهب الشيخ المفيد (333 هـ/ 944 م - 414 هـ/ 1022 م) إلى أن التقية جائزة في الدين عند الخوف على النفس، وقد تجوز في حال دون حال، للخوف على المال، ولضروب من الاستصلاح (2).
هذا فضلاً عن أنها واجبة في الأقوال كلها عند الضرورة، وربما وجبت فيها، الضرب من اللطف والاستصلاح، وليس يجوز من الأفعال في قتل المؤمنين، ولا فيما يعلم أو يغلب أنه فساد في الدين (3) وهكذا كانت التقية واحدة من أهم عقائد الشيعة الإمامية، فرضتها الظروف السياسية، وما صاحبها من اضطهاد الشيعة، فاتقوا السلطان حفظاً للأرواح وقد أصبحت التقية صفة خاصة للشيعة الإمامية، وقد دانوا بها، امتثالاً لأمر الأئمة، فقد روي عن الإمام الصادق أنه قال: من لا تقية له، لا دين له (4).
ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن التقية إنما بدأت مع أحد الضعفاء، وكما أشرنا من قبل، مع سيدنا عمار بن ياسر (5)، رضي الله عنه،
____________
(1) العاملي: أعيان الشيعة 11 / 154 - 160.
(2) محمد بن محمد بن النعمان الملقب بالشيخ المفيد: أوائل المقالات في المذاهب والمختارات ص 96 (ط تبريز 1371).
(3) نفس المرجع السابق ص 97.
(4) الطبرسي: مشكاة الأنوار في غرر الأخبار - النجف - 1951 ص 39 وما بعدها.
(5) ليس صحيحاً ما ذهب إليه الدكتور الشيبي من أن عمار بن ياسر، رضي الله عنه، كان عبداً سابقاً، كما أنه ليس صحيحاً أن قصة تعذيبه كانت بعد الهجرة النبوية الشريفة إلى المدينة المنورة، قال الواقدي وغيره من أهل العلم بالنسب والخبر: إن ياسراً والد عمار عرني قحطاني مذحجي من عنس، إلا أن ابنه عمار كان مولى لبني مخزوم، لأن أمه سمية كانت أمة لبعض بني مخزوم، وعن مجاهد: إن أول من أظهر إسلامه سبعة: رسول الله وأبو بكر وبلال وخباب وصهيب وعمار وأمه سمية، وعذبت أسرة ياسر في الله عذاباً شديداً، وفي عمار نزلت: * (من كفر بالله من بعد إيمانه * إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) *، ومن المعروف أن الآية مكية
=>
ولعل من الجدير بالإشارة إلى أن تخيير الإسلام للكفار المقهورين بين الإسلام أو السيف أو الجزية، تدخل في باب إقرار التقية، فليس خافياً على الإسلام وشارعه أن الدخول في الدين الجديد على هذه الصورة تحت حد السيف، أو ما لا يمكن توفيره من مال، يعني دفع كلا الضررين، بتحمل أهون الثلاث، وهو الدخول في دين القاهرين، فلا يمكن أحداً أن يتصور أن معتنق الإسلام - وعلى هذه الصورة - جاد في إسلامه، اللهم إلا إذا رأى فيه الروح مما كان يعاني، شأن المسلمين الأولين، وذلك أمر يدخل في باب الحدس والتخمين.
ومن ثم لم يبق إذن، إلا أن يكون الإسلام مؤمناً بمبادئه ومثله، واثقاً من تأثيرها في الناس، إذا أتيح لهم أن يزنوا الأمور، ويجربوا الحياة الجديدة - ولو بالإكراه أولاً - فهو من هذه الناحية أنما يغري بالتقية، ويقدمها إلى الجاهلين به، ثقة منه في كسبهم، متى آمنوا، واطمأنوا، فتفادي القتل والجزية، والدخول في الإسلام بالفتح، إنما هو مبدأ إسلامي حمله الإسلام إلى المغلوبين، لإغرائهم باعتناقه، فهذه تقية لا جدال فيها، كما يبدو.
____________
<=
والسورة مكية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يمر بعمار وأمه وأبيه، وهم يعذبون بالأبطح في رمضاء
مكة، فيقول: صبراً آل ياسر، فإن موعدكم الجنة.
وهاجر عمار إلى المدينة، وشهد بدراً واحد والخندق وبيعة الرضوان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو
أول من بنى مسجداً في الإسلام.
وظهر يوم اليمامة، واستعمله عمر بن الخطاب أميراً على الكوفة، وكان من محبي الإمام
علي بن أبي طالب وآل البيت، وحضر معه الجمل وصفين، واستشهد في صفين عام 37 هـ
(657 م) وكان عمره 94 أو 93 أو 91 سنة (أنظر: أسد الغابة 4 / 139 - 135، أنساب الأشراف
1 / 156 - 175).
(1) ابن حزم: الفصل في الملل والأهواء والنحل 3 / 111.
وأعطى الأقرع بن حابس التميمي، وعيينة بن حصن، ومالك بن عوف كل منهم مائة من الإبل، وأعطى العباس بن مرداس أربعين من الإبل، فقال في ذلك شعراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إقطعوا لسانه عني، فأعطوه مائة من الإبل، وقد أعطي كل ذلك من الخمس، كما أعطي غيره كثير (2).
____________
(1) كامل الشيبي: التقية: أصولها وتطورها ص 236 - 238 مجلة كلية الآداب - جامعة الإسكندرية - العدد السادس عشر عام 1962 م).
(2) أنظر: الواقدي: كتاب المغازي - تحقيق مارسدن جونسن - الجزء الثالث ص 943 - 949 (بيروت 1404 هـ/ 1984 م)، ابن هشام: سيرة النبي صلى الله عليه وسلم 4 / 366، محمد بيومي مهران: السيرة النبوية الشريفة 2 / 427 - 433 (بيروت 1990 م).
عرجون: محمد رسول الله 4 / 390 - 400، ابن كثير: السيرة النبوية 3 / 667 - 683. السيرة
الحلبية 3 / 61 - 75، 83 - 98، ابن شهبة: السيرة النبوية 2 / 379 - 394، ابن الأثير الكامل في
التاريخ 2 / 261 - 273، تاريخ الطبري 3 / 70 - 94.