ومن عجب أيضاً - بل هو أكثر عجباً - أن الذين فروا عند الفزع، هم الذين كثروا عند الطمع، وأعجب العجب أن أبا سفيان بن حرب، كان أول من تقدم يطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يعطيه من الفئ، وهو نفسه الذي كان يصيح فرحاً، عندما كانت الهزيمة - في أول المعركة - تطل بوجهها القبيح على جيش المسلمين، والأزلام التي كان يستقسم بها في الجاهلية، ما تزال في كنانته، يصيح لا تنتهي هزيمتهم دون البحر، وعندما تكرم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمائة من الإبل، وبأربعين أوقية من فضة، لم يشبع ذلك نهمه، وإنما طلب لابنه يزيد مثلها، وحين أجيب إلى سؤله طلب مثلها لابنه الآخر معاوية، وهكذا أخذ أبو سفيان وولداه يومئذ ثلاثمائة من الإبل، ومائة وعشرين أوقية من الفضة.
وهكذا فإن هناك أقواماً كثيرين، يقادون - كما يقول الأستاذ الغزالي - إلى الحق، من بطونهم، لا من عقولهم، فكما تهدى الدواب إلى طريقها بحزمة برسيم، تظل تمد إليها فمها، حتى تدخل حظيرتها آمنة، فكذلك هذه الأصناف من البشر، تحتاج إلى فنون من الإغراء، حتى تستأنس بالإيمان، وتهش له.
روى مسلم في صحيحه بسنده عن أنس بن مالك قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجذبه جذبة شديدة، حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم، أثرت به حاشية الرداء من شدة جذبته قال: مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه فضحك، ثم أمر له بعطاء.
وهذا العطاء كله - كما يقول ابن قيم الجوزية (691 - 751 هـ/ 1292 - 1350 م) نفل النبي صلى الله عليه وسلم، به رؤوس القبائل والعشائر ليتألفهم به وقومهم على الإسلام، وذلك بهدف تقوية الإسلام وشوكته وأهله، واستجلاب عدوه إليه.
وهكذا أرضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، هؤلاء الذين لا يعرفون قدر نعمة الإسلام، بالشاة والبعير، كما يعطى الصغير ما يناسب عقله ومعرفته، ويعطى العاقل اللبيب ما يناسبه (2).
وفي السيرة الحلبية: كانت المؤلفة ثلاثة أصناف، صنف يتألفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسلموا، كصفوان بن أمية، وصنف ليثبت إسلامهم، كأبي سفيان بن حرب، وصنف لدفع شرهم، كعيينة بن حصن، والعباس بن مرداس، والأقرع بن حابس (3).
4 - التقية عند الخوارج:
لعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن الخوارج (4) ; إنما كانوا أول من
____________
(1) أنظر محمد الغزالي: فقه السيرة - القاهرة 1976 ص 425 - 427 - (رواه مسلم 7 / 75، والترمذي 2 / 42، وأحمد 3 / 401 عن سعيد بن المسيب).
(2) ابن قيم الجوزية: زاد المعاد من هدى خير العباد 3 / 484 - 486 (بيروت 1405 هـ/ 1985 م).
(3) السيرة الحلبية 3 / 85.
(4) أنظر عن الخوارج (ابن حزم: الفصل في الملل والأهواء والنحل 5 / 29 - 33 (ط محمد علي صبيح - القاهرة 1384 هـ/ 1964 م)، البغدادي: الفرق بين الفرق ص 72 - 113، الشهرستاني:
الملل والنحل 1 / 114 - 138 - القاهرة 1387 هـ/ 1968 م، ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 2 / 265 - 283).
____________
(1) اجنتس جولدتسيهر: العقيده والشريعة في الإسلام ص 180 (ترجمة محمد يوسف موسى وآخرين - القاهرة 1946).
(2) يقول أبو الحسن الأشعري في كتاب: (مقالات الإسلاميين 1 / 88): وكان سبب الاختلاف الذي أحدثه نافع أن امرأة عربية من اليمن كانت ترى رأي الخوارج تزوجت رجلاً من الموالي برأيها، فقال لها أهلها: فضحتينا، فأنكرت ذلك، فلما جاء زوجها، قالت: إن أهل بيتي وبني عمي قد بلغهم أمري، وأنا خائفة أن أكره على تزويج بعضهم، فاختر مني إحدى ثلاث خصال: إما أن تهاجر إلى عسكر نافع حتى تكون مع المسلمين في حوزهم ودارهم، وإما أن تخبأني حيث شئت، وإما أن تخلي سبيلي، فخلى سبيلها، ثم إن أهلها استكرهوها فزوجوها ابن عم لها، لم يكن على رأيها، فكتب بمن بحضرتها إلى نافع بن الأزرق يسألونه عن ذلك، فقال رجل منهم: إنها لم يسعها ما صنعت، ولا وسع زوجها ما صنع من قبل هجرتها، لأنه كان ينبغي لهما أن يلحقا بنا، لأننا اليوم بمنزلة المهاجرين بالمدينة، ولا يسع أحداً من المسلمين التخلف عنا، كما لم يسع التخلف عنهم، فتابعه على قوله نافع بن الأزرق وأهل عسكره، إلا نفراً يسيراً، وزعمت الأزارقة أن من أقام في دار الكفر، فهو كافر لا يسعه إلا الخروج.
وقال المبرد في الكامل (3 / 131) جاء مولى لبني هاشم إلى نافع فقال له: إن أطفال المشركين في النار، وإن من خلفنا مشرك، فدماء هؤلاء الأطفال لنا حلال، قال له نافع: كفرت وأدللت بنفسك، قال: إن لم آتك بهذا من كتاب الله فاقتلني. (قال نوح: رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً، إنك إن تذرهم يضلوا عبادك، ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً). فهذا أمر الكافرين، وأمر أطفالهم، فشهد نافع أنهم جميعاً في النار، ورأى قتلهم، وقال: الدار دار كفر، إلا من أظهر إيمانه، ولا يحل أكل ذبائحهم ولا تناكحهم، ولا توارثهم، ومن جاء منهم جار، فعلينا أن نمتحنه، وهم ككفار العرب، لا نقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، والقعد بمنزلتهم، والتقية لا تحل، فنفر جماعة من الخوارج عنه، منهم نجدة بن عامر، واحتج بقول الله تعالى:
* (إلا أن تتقوا منهم تقاة) * (الشهرستاني 1 / 119).
(3) هو أبو راشد نافع بن الأزرق بن قيس بن نهار، أحد بني حنيفة، كان أول خروجه بالبصرة في عهد عبد الله بن الزبير، وفي عام 65 هـاشتدت شوكته حتى قتل في جمادى الآخرة (خطط
=>
وقال: القعود جائز، والجهاد - إذا أمكنه - أفضل، قال الله تعالى * (وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً) * (3).
وقال نافع: هذا في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، حين كانوا مقهورين، وأما في غيرهم - مع الإمكان - فالقعود كفر، لقول الله تعالى: * (وقعد الذين كذبوا الله ورسوله) * (4).
ومع ذلك، فلقد رسخت التقية في بيئة الخوارج، إلى حد أن صار النقاش - بعد نافع - يدور حول كونها: هل تطبق التقية في العمل أو في القول أو في كليهما، فرأينا الضحاك - وهو رئيس فرقة من الخوارج، وقد قتل عام 128 هـ(746 م) - يرى أنها تجوز في القول، دون العمل، وكان أسلافهم النجدات يرونها: جائزة في القول والعمل، وإن كان في قتل النفس (5).
هذا فضلاً عن أن الخوارج إنما هم الذين ابتدعوا مصطلح دار التقية ودار العلانية، وأن دار مخالفيهم إنما هي دار كفر، وكانوا يعنون بدار التقية: المواطن التي يغلب عليها غيرهم من المسلمين، فبينوا لنا مدى
____________
<=
المقريزي 2 / 354، الكامل لابن الأثير 4 / 81، الكامل للمبرد 2 / 171، 180، شرح نهج
البلاغة 1 / 380).
(1) سورة آل عمران: آية 38.
(2) سورة غافر: آية 28.
(3) سورة النساء: آية 95.
(4) سورة التوبة: آية 90، وانظر: الشهرستاني: الملل والنحل 1 / 125.
(5) كامل الشيبي: المرجع السابق ص 239.
ومع ذلك، فإن هذا لا يعتنقه كل الخوارج، ولكنه الرأي المشهور من كثير من فرقهم، وقد التزم به النجدات والإبراهيمية والضحاكية والإباضية والصوفية، وغيرهم (1).
5 - التقية عند الشيعة:
لقد بدأت محنة الشيعة الحقيقية منذ استشهاد سيدنا الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكرم الله وجهه في الجنة وما تلاه من تنازل سيدنا الإمام الحسن بن علي، رضي الله عنه، لمعاوية بن أبي سفيان في عام 41 هـ(661 م)، والذي سموه عام الجماعة، وما كان عام جماعة، بل كان عام فرقة وقهر، وجبرية وغلبة، والعام الذي تحولت فيه الإمامة ملكاً كسروياً، والخلافة غضباً قيصرياً، بعد أن استولى معاوية على الملك، واستبد على بقية الشورى، وعلى جماعة المسلمين من الأنصار والمهاجرين (2).
وعلى أية حال، فلقد كان من شروط الصلح الذي عقد بين الإمام الحسن
____________
(1) تاريخ الطبري 6 / 642، البغدادي: الفرق بين الفرق ص 84، كامل الشيبي المرجع السابق ص 439 - 240.
(2) تقي الدين المقريزي: كتاب النزاع والتخاصم فيما بين بني أمية وبني هاشم - رسالة الجاحظ في بني أمية - تحقيق الدكتور حسين مؤنس - دار المعارف - القاهرة 1988 ص 124.
غير أن معاوية بن أبي سفيان إنما جعل من أهدافه الرئيسية، القضاء على هذه الطبقة المؤمنة بحق آل البيت، وقد لاقى أنصار أهل البيت من الأذى والاضطهاد ما تنوء بحمله الجبال، وكان أشدهم بلاء، وأعظمهم محنة أهل الكوفة، فلقد استعمل معاوية على الكوفة، بعد هلاك المغيرة، زياد بن أبيه - بعد أن نسبه إلى أبي سفيان - وكان بهم عليماً، وإنه - ويا للعجب - فقد كان قبل استلحاقه بأبي سفيان، واحداً منهم، فأشاع فيهم القتل، وشردهم، وأن معاوية كتب إلى عماله: انظروا إلى من قامت على البينة، أنه يحب علياً وأهل بيته، فامحوه من الديوان، وأسقطوا عطاءه ورزقه.
وروى ابن أبي الحديد (586 - 656 هـ/ 1190 - 1257 م) أن معاوية كتب إلى عماله: أن برئت الذمة ممن يروي شيئاً في فضائل علي وأهل بيته، وأن لا يجيزوا للشيعة شهادة، وأن يمحوا كل شيعي من ديوان العطاء، وينكلوا به، ويهدموا داره (1)، وامتثل العمال لأمر سيدهم، فقتلوا الشيعة وشردوهم، وقطعوا الأيدي، وسملوا الأعين، وصلبوهم في جذوع النخل.
وزاد الضغط - بعد معاوية (41 - 60 هـ/ 661 - 680 م) أضعافاً، خاصة في عهد عبيد الله بن زياد قاتل الإمام حسين وأهل بيته في مذبحة كربلاء، وفي عهد الحجاج الثقفي، هادم الكعبة المشرفة، قتلت الشيعة كل قتلة، وأخذوا بكل ظنة وتهمة، حتى أن الرجل ليقال عنه زنديق - أو حتى كافر - أحب إليه، من أن يقال له شيعي.
وفي ذلك يقول الإمام محمد الباقر - رضوان الله عليه - وقتلت شيعتنا بكل بلدة، وقطعت الأيدي والأرجل على الظنة، وكان من يذكر بحبنا، أو
____________
(1) ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 11 / 44 - 45 (بيروت 1967).
وهكذا ما أن استقرت الأمور لمعاوية، وخلا الميدان إلا منه، حتى أخذ ينتقم شر انتقام من أنصار الإمام علي وآل البيت الطاهرين، ففريق روع في ظلمات السجون، وبقي فيها يلاقي الأمرين، حتى انتقل إلى الرفيق الأعلى - كما حدث مع محمد بن أبي حذيفة - وفريق شرد في الأرض، حتى مات منفياً عن وطنه وأهله - كما حدث مع صعصعة بن صوحان - وفريق قتل صبراً في الإسلام - من أمثال عمرو بن الحمق، وحجر بن عدي -.
وتصور محنة حجر بن عدي (3) وأصحابه محنة، امتحن بها زياد بن أبيه، الإسلام والمسلمين، وشاركه معاوية في هذا الامتحان، فتركت في نفوس المعاصرين لها أقبح الأثر وأشنعه، وكانت صدمة عنيفة لمن بقي من خيار الناس في تلك الأيام.
وكان الناس يقولون: أول ذل دخل الكوفة موت الحسن بن علي، وقتل حجر، ودعوة زياد، وكان الإمام الحسن البصري يقول: أربع خصال كن في معاوية، لو لم تكن فيه إلا واحدة، لكانت موبقة، انتزاؤه على هذه الأمة بالسفهاء، حتى ابتزها أمرها، بغير مشورة منهم، وفيهم بقايا الصحابة وذو
____________
(1) محمد بيومي مهران: الإمام الحسن بن علي ص 119 - 120 (بيروت 1990).
(2) سورة الشورى: آية 23.
(3) أنظر عن محنة حجر بن عدي وأصحابه (محمد بيومي مهران: الإمام الحسن بن علي ص 119 - 129، تاريخ الطبري 5 / 253 - 285، ابن الأثير: الكامل في التاريخ 3 / 472 - 488، أسد الغابة 1 / 461 - 462، ابن حجر العسقلاني: الإصابة في تمييز الصحابة 1 / 314 - 315، ابن عبد البر: الإستيعاب 1 / 356 - 359، العقاد: معاوية بن أبي سفيان في الميزان ص 108 - 110، ابن كثير: البداية والنهاية 8 / 54 - 60).
وكانت السيدة عائشة، رضي الله عنها، تقول: لولا أنا لم نغير شيئاً، إلا آلت بنا الأمور إلى أشد مما كنا فيه، لغيرنا قتل حجر، أما والله، إنه كان ما علمت لمسلماً حاجاً معتمراً (2).
وروى ابن عبد البر في الإستيعاب عن مسروق بن الأجدع قال: سمعت عائشة أم المؤمنين تقول: أما والله لو علم معاوية أن عند أهل الكوفة منعة، ما اجترأ على أن يأخذ حجراً وأصحابه من بينهم، حتى يقتلهم بالشام، ولكن ابن آكلة الأكباد علم أن قد ذهب الناس، أما والله، إن كانوا لجمجمة العرب، عزاً ومنعة وفقهاً (3).
وأما الصحابي الجليل عمرو بن الحمق، وكان أسلم قبل الفتح، وكان مقرباً من النبي صلى الله عليه وسلم، وقد دعا له أن يمتعه بشبابه، فبلغ الثمانين من العمر، ولم تبيض له شعرة واحدة، ودعا له أمير المؤمنين علي بقوله اللهم نور قلبه بالتقوى، واهده إلى صراطك المستقيم (4).
وكان عمرو بن الحمق من شيعة الإمام علي، وشهد معه مشاهده كلها (الجمل - صفين - النهروان) (5)، وروى عنه، رضي الله عنه، أنه قال للإمام علي: والله يا أمير المؤمنين، إني ما أحببتك ولا بايعتك على قرابة بيني
____________
(1) تاريخ الطبري 5 / 279، ابن كثير: البداية والنهاية 8 / 141، ابن الأثير: الكامل في التاريخ 3 / 487.
(2) تاريخ الطبري 5 / 279، الكامل لابن الأثير 3 / 287.
(3) ابن عبد البر: الإستيعاب في معرفة الأصحاب 1 / 358 (مصور عن الطبعة الأولى 1328 هـ).
(4) محمد جواد مغنية: الشيعة والحاكمون ص 80 (دار الجواد - بيروت 1981 م).
(5) ابن الأثير: أسد الغابة 4 / 217 - 218 (كتاب الشعب - القاهرة 1970).
فقال علي عليه السلام: اللهم نور قلبه بالتقى، واهده إلى صراطك المستقيم، ليت أن في جندي مائة مثلك، فقال حجر: إذا والله يا أمير المؤمنين، صح جندك، وقل فيهم من يغشك (1). وكان عمرو بن الحمق قد خاف زياداً، فهرب من العراق إلى الموصل، واختفى في غاب بالقرب منها، فأرسل معاوية إلى عامله بالموصل - وهو ابن أخته عبد الرحمن بن أم الحكم - فوجده ميتاً في غار كان قد اختبأ به، وقد نهشته حية فمات.
وروى ابن الأثير في أسد الغابة بسنده إلى أبي زكريا قال: أنبأنا إسماعيل بن إسحاق، حدثني علي بن المديني، حدثنا سفيان قال: سمعت عمار الذهبي - إن شاء الله - قال: أول رأس حمل في الإسلام رأس عمرو بن الحمق إلى معاوية، قال سفيان: أرسل معاوية ليؤتى به، فلدغ، وكأنهم خافوا أن يتهمهم، فأتوا برأسه (2).
وروى محمد بن علي الصواف عن الحسين بن سفيان عن أبيه عن شمير بن سدير الأزدي قال: قال علي عليه السلام لعمرو بن الحمق الخزاعي:
أين نزلت يا عمرو؟ قال: في قومي، قال: لا تنزل فيهم، قال: فأنزل في بني كنانة جيراننا؟ قال: لا، قال: فأنزل في ثقيف؟ قال: فما تصنع بالمعرة
____________
(1) ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 3 / 181 - 182، وانظر: نصر بن مزاحم المنقري: وقعة صفين - تحقيق عبد السلام هارون ص 103 - 104 (ط الخانجي 1401 هـ/ 1981 م).
(2) أسد الغابة 4 / 217 - 218.
قال: فقال قوم حضروا هذا الكلام ما نراه إلا كاهناً يتحدث بحديث الكهنة، فقال: يا عمر، إنك لمقتول بعدي وإن رأسك لمنقول، وهو أول رأس ينقل في الإسلام، والويل لقاتلك، أما إنك لا تنزل بقوم، إلا سلموك برمتهم، إلا هذا الحي من بني عمرو بن عامر من الأزد، فإنهم لن يسلموك ولن يخذلوك، قال: فوالله ما مضت إلا أيام حتى تنقل عمرو بن الحمق في خلافة معاوية في بعض أحياء العرب، خائفاً مذعوراً، حتى نزل في قومه من بني خزاعة فأسلموه، فقتل وحمل رأسه من العراق إلى معاوية بالشام، وهو أول رأس حمل في الإسلام من بلد إلى بلد (1).
وروى أيضاً بسنده عن الحكم بن موسى عن يحيى بن حمزة عن إسحاق بن أبي فروة عن يوسف بن سليمان عن جدته قالت: كانت تحت عمرو بن الحمق آمنة بنت الشريد فحبسها معاوية في سجن دمشق زماناً، حتى وجه إليها رأس عمرو بن الحمق، فألقي في حجرها، فارتاعت لذلك، ثم وضعته في حجرها، ووضعت كفها على جبينه، ثم لثمت فاه، ثم قالت: غيبتموه عني طويلاً، ثم أهديتموه إلي قتيلاً، فأهلاً بها من هدية، غير قالية ولا مقيلة.
وقيل: بل كان عمرو مريضاً لم يطق الحركة، وكان معه رفاعة بن شداد، فأمره بالنجاة لئلا يؤخذ معه، فأخذ رأس عمرو، وحمل إلى معاوية بالشام (2).
____________
(1) شرح نهج البلاغة 2 / 289 - 290.
(2) أسد الغابة 4 / 218.
وهكذا كانت الشيعة منذ بداية الحكم الأموي في اضطهاد وأذى، وأئمة آل البيت يحصى عليهم كل شئ، ومن دعا إلى الحق منهم اعتورته السيوف، وما كان يسوغ أن يسكتوا عن مظالم الأمويين، لولا التقية، وقد دفعهم إلى التقية ذلك الأذى الذي يتعرضون له، وما كان يترتب على الخروج من فتن تظهر فيها مفاسد، ثم يشتد بعدها الطغيان.
ولذلك كانت الشيعة أكثر المسلمين أخذاً بمبدأ التقية، وقالوا: إن الترخيص بها، بل الحث عليها، جاء على ألسنة أئمتهم، رضوان الله عليهم أجمعين، وقد
____________
(1) قال الإمام علي: فأما السب فسبوني، فإنه لي زكاة، ولكم نجاة، وأما البراءة فلا تتبرأوا مني، وقد تساءل كثيرون: لماذا أجاز السب، ومنع التبرؤ، فقالت المعتزلة: لا فرق بينهما في أنهما حرام وفسق وكبيرة، وأن المكره عليهما يجوز له فعلهما عند خوفه على نفسه، كما يجوز له إظهار كلمة الكفر عند الخوف، ويجوز أن لا يفعلهما حتى وإن قتل، كما يجوز له أن يقتل ولا يقول كلمة الكفر، وذلك إعزازاً للدين، وأما استفحاش الإمام علي للبراءة، فلأنها لم ترد في القرآن إلا عن المشركين، كما في سورة التوبة، وأما الإمامية فتروي عن الإمام علي أنه قال: إذا عرضتم على البراءة منا، فمدوا الأعناق، إنه لا تجوز البراءة من الإمام علي، وإن كان الحالف صادقاً، وعليه الكفارة. ويقول الإمامية: إن حكم البراءة من الله ورسوله والإمام علي ومن أحد الأئمة عليهم السلام، حكم واحد. وبقول الإمامية: إن الإكراه على السب يبيح إظهاره، ولا يجوز الاستسلام للقتل معه، وأما الإكراه على البراءة، فإنه يجوز معه الاستسلام للقتل، ويجوز أن يظهر التبرؤ، والأولى أن يستسلم للقتل (شرح نهج البلاغة 4 / 113 - 114).
(2) كامل الشيبي: التقية - مجلة كلية الآداب جامعة الإسكندرية - العدد 16 عام 1962 ص 240.
غير أن الشيعة سرعان ما نهضوا بعد استشهاد مولانا الإمام الحسين وآل بيته (عام 61 هـ/ 680 م) فيما عرف باسم حركة التوابين عام 65 هـبقيادة الصحابي الجليل سليمان بن صرد، وكانوا يرددون الآية الكريمة * (فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلك خير لكم) * (2)، ولسان حالهم يقول: أقلنا ربنا تفريطنا فقد تبنا، ولقد أبدوا من ضروب الشجاعة، التي كانت التقية حصرتها في أنفسهم، ما صار مدعاة لإعجاب أعدائهم بهم، فسمحوا لهم - من بعد هزيمتهم - أن يرتحلوا ويلحقوا بأمصارهم (3).
وأما سعيد بن جبير رضي الله عنه، فقد قتله الحجاج الثقفي، (40 - 95 هـ/ 660 - 714 م) بسبب حبه لآل البيت (4)، ولعل من الجدير بالإشارة هنا أن حركة التوابين إنما يبررها قول الإمام محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين (57 هـ/ 676 م - 114 هـ/ 732 م) جعلت التقية ليحقن بها الدم، وإذا
____________
(1) محمد أبو زهرة: الإمام الصادق ص 241 - 242.
(2) سورة البقرة: آية 52.
(3) كامل الشيبي: المرجع السابق ص 241، وانظر عن حركة التوابين (تاريخ الطبري 5 / 551 - 563، ابن الأثير: الكامل في التاريخ 4 / 175 - 189، المسعودي: مروج المذهب 2 / 83 - 86، ابن الأثير: أسد الغابة 2 / 449 - 450، ابن حجر العسقلاني: الإصابة في تمييز الصحابة 2 / 75 - 76، ابن عبد البر: الإستيعاب في معرفة الأصحاب 2 / 63 - 65، ابن كثير: البداية والنهاية 8 / 271 - 276، محمد بيومي مهران: الإمام الحسين بن علي ص 191 - 193).
(4) أنظر (ابن الأثير: الكامل في التاريخ 4 / 579 - 580، حلية الأولياء 4 / 290 - 295، ابن كثير:
البداية والنهاية 9 / 109 - 110، محمد بيومي مهران: الإمام علي زين العابدين ص 128 - 131).
هذا وقد رويت عبارات كثيرة عن سيدنا الإمام جعفر الصادق (80 هـ/ 699 م - 148 هـ/ 765 م)، تدعو إلى التقية، وتحث عليها، فإنه يروي أنه قال التقية ديني ودين آبائي، ولا دين لمن لا تقية له، وإن المذيع لأمرنا كالجاحد به، وروى عنه أنه قال لجماعة من أصحابه كان يحدثهم: لا تذيعوا أمرنا، ولا تحدثوا به أحداً، إلا أهله، فإن المذيع علينا سرنا، أشد مئونة من عدونا، انصرفوا رحمكم الله، ولا تذيعوا سرنا، وروى عنه أنه قال: نفس المهموم لظلمنا تسبيح، وهمه لنا عبادة، وكتمانه سرنا جهاد في سبيل الله.
وهكذا - كما يقول العلامة الشيخ محمد أحمد أبو زهرة (1898 - 1974 م) عن الإمام جعفر الصادق في التقية وهي تحتاج إلى تفسير، فأما معنى ديني ودين آبائي أي مبدؤنا ومبدأ آبائنا، وقد اتخذناه على أنه دين لكي نمتنع عن الجهد بما نراه في حكام الزمان، حتى لا تكون فتنة وفساد كبير، إذ النفوس ليست مهيأة للنصرة، ولعل هذا إنما يفيد أن التقية التي دعا إليها الإمام الصادق إنما قد دفع إليها أمران.
أحدهما: دفع الأذى، ومنع المخاطر، التي يتعرض لها المؤمن من غير قوة دافعة مانعة، فيكون الأذى حيث لا جدوى، وبذلك تتلاقى التقية مع الجهاد، فالجهاد مع أعداء الإسلام، وحيث يكون واجباً لنصرة الإسلام، وحيث يكون الاستعداد قد تم، والأهبة قد أخذت، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة، عندما صار للإسلام شوكة وقوة.
____________
(1) أصول الكافي ص 206.
(2) أصول الكافي ص 205.
(3) كامل الشيبي: المرجع السابق ص 243.
والثاني: وكان الأمر الثاني الذي دفع إلى التقية، هو ما رآه من استعلاء الباطل، إذا أعلن الحق، وقد ظهر ذلك في مقتل مولانا الإمام الحسين عليه السلام، وفي مقتل الأئمة: زيد بن علي ومحمد النفس الزكية وإبراهيم أخيه.
وعلى أية حال، فليس هناك من ريب في أنه كان للتقية في عصر الإمام الصادق، وما جاء بعده، وهي كانت مصلحة للشيعة، وفيها مصلحة للإسلام، لأنها كانت مانعة من الفتن المستمرة، وإن موضوعها كان إعلان التشيع، فكانت التقية أن لا يعلن المتشيع تشيعه، ولا يظهر من أعماله ما يدل على موالاته لآل الإمام علي، موالاة ولاية، لا موالاة محبة، فالمحبة كانت واضحة من بعض الشعراء، ومن بعض العلماء، ولكنها في مظهرها محبة تقدير، لا محبة ولاية، كما ظهر من محبة الفرزدق (641 - 733 م؟) لآل البيت، وكثير عزة، (ت 723 م) وكما ظهر من محبة الإمام أبي حنيفة للأئمة الكرام: زيد والباقر والصادق، فتلك كانت محبة ظاهرة، وإن لم تكن تشيعاً (1).
6 - التقية عند أهل السنة:
في الواقع أن التقية لم تكن مقصورة على الشيعة، وإنما استعملها كذلك أهل السنة، فمن المعروف أن عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، لما ثار ضد
____________
(1) محمد أبو زهرة: الإمام الصادق ص 243 - 244.
وإنه - كما يقول الدكتور الشيبي - لمزاج غريب حقاً، حمل الحجاج الناس على الكفر شرطاً لإطلاق سراحهم وإهدار دمهم مع الإيمان، وتلك - على كل حال - صورة مما آلت إليه حال العالم الإسلام في أواخر القرن الأول الهجري (2).
ولعل من أوضح الأدلة على رسوخ التقية في نفوس المسلمين عموماً في هذا الوقت أن الشعبي (3) (19 - 103 هـ/ 640 - 721 م) - والذي يمثل في
____________
(1) روى ابن الأثير: أن الحجاج بعد أن فرغ من أمر ابن الزبير، سار إلى المدينة، وكان عبد الملك بن مروان قد استعمله على مكة والمدينة، فلما قدم المدينة أقام بها شهراً أو شهرين، فأساء إلى أهلها واستخف بهم، وقال: أنتم قتله أمير المؤمنين عثمان، وختم أيدي جماعة من الصحابة بالرصاص، استخفافاً بهم، كما يفعل بأهل الذمة، منهم جابر بن عبد الله الأنصاري، وأنس بن مالك وسهل بن سعد بن أبي وقاص، ثم عاد إلى مكة فقال: الحمد لله الذي أخرجني من أم نتن، أهلها أخبث بلد وأغشه لأمير المؤمنين، وأحسدهم له على نعمة الله، والله لولا ما كانت تأتيني كتب أمير المؤمنين فيهم، لجعلتها مثل جوف الحمار، أعواداً يعودون بها، ورمية قد بليت (الكامل في التاريخ 4 / 358 - 359) هذا وقد اتخذ الحجاج سجوناً لا تقي من حر ولا برد، وكان يعذب المساجين بأقصى ألوان العذاب وأشده، فكان يشد على يد السجين القصب الفارسي المشقوق ويجر عليه، حتى يسيل دمه، وقد مات في سجن الحجاج قرابة خمسين ألف رجل، وثلاثين ألف امرأة، منهن ست عشرة ألفاً مجردات من الثياب، وكان يحبس النساء والرجال في مكان واحد (الدميري: حياة الحيوان 1 / 170) وأحصى في سجنه قرابة ثلاثة وثلاثين ألف سجين، لم يحبسوا في دين ولا تبعة (ياقوت: معجم البلدان 5 / 349، المسعودي: مروج الذهب 3 / 165)، وكان يمر على أهل السجون فيقول لهم: إخسأوا فيها، ولا تكلمون (ابن حجر العسقلاني: تهذيب التهذيب 2 / 212).
(2) كامل الشيبي: المرجع السابق ص 241.
(3) الشعبي: هو أبو عمرو عامر بن شراحيل بن عبد بن ذي كبار (قيل من أقيال اليمن) الشعبي، ولد بالكوفة 19 هـ/ 640 م، وقد اتصل بعبد الملك بن مروان، وكان سفيراً له إلى ملك الروم، وعينه
=>
* (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم) * (2)، فقلي من هدى الله من أهل
____________
<=
عمر بن عبد العزيز قاضياً، وكان محدثاً وعالماً بالفقه والمغازي، عارفاً بالشعر، رواية له روى
أن ابن عمر بن الخطاب مر به وهو يحدث بالمغازي، فقال: شهدت القوم وإنه أعلم بها مني
وقال الزهري: العلماء أربعة: ابن المسيب بالمدينة، والشعبي بالكوفة، والحسن البصري
بالبصرة، ومكحول بالشام وانظر عن مصادر ترجمته (شذرات الذهب 1 / 126 - 128، وفيات
الأعيان 3 / 12 - 16، طبقات ابن سعد 6 / 246 - 256، تاريخ بغداد 12 / 227 - 233، حلية
الأولياء 4 / 310 - 338، تذكرة الحفاظ للذهبي ص 79 - 88 التهذيب لابن حجر 5 / 65 - 69،
تقريب التهذيب لابن حجر 1 / 387، الأعلام للزركلي 4 / 18 - 19، معجم المؤلفين لكحالة
5 / 54، المعارف لابن قتيبة ص 229، سمط اللآلي للبكري ص 751، تهذيب تاريخ دمشق
لابن عساكر 7 / 138، عبر الذهبي 1 / 127، فؤاد سزكين: تاريخ التراث العربي 2 / 68 - 69
- الرياض 1983.
(1) كامل الشيبي: المرجع السابق ص 241 - 242.