ويقول الدكتور الشيبي: إن هذه الأدلة مقنعة ومنطقية، ولكنها في حاجة إلى نصوص تسند تسمية عمار بن ياسر بابن السوداء، وابن سبأ، فأما كون عمار بن ياسر ابن السوداء فقد ورد في نص رواه علي بن إبراهيم القمي، صاحب التفسير الشيعي القديم في قوله تعالى: * (يمنون عليك أن أسلموا) * (2)، قال: نزلت في عثكن بن معاوية يوم الخندق، وذلك أنه مر بعمار يحفر الخندق، وقد ارتفع الغبار من الحفر، فوضع عثكن كمه على أنفه ومر، فقال عمار:
فالتفت إليه عثكن فقال: يا ابن السوداء، إياي تعني، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: لم ندخل معك لسب أعراضنا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:
قد أقلتك إسلامك فاذهب، فأنزل عز وجل * (يمنون عليك أن أسلموا) * (1).
وفي تاريخ اليعقوبي (2 / 171): أقام ابن مسعود مغاضباً العثمان حتى توفي، وصلى عليه عمار بن ياسر، وكان عثمان غائباً فستر أمره، فلما انصرف رأى عثمان القبر، فقال: قبر من هذا؟ فقيل: قبر عبد الله بن مسعود، قال:
فكيف دفن قبل أن أعلم، فقالوا: ولى أمره عمار بن ياسر، وذكر أنه أوصى ألا يخبر به، ولم يلبث إلا يسيراً حتى مات المقداد فصلى عليه عمار، وكان أوصى
____________
(1) علي الوردي: وعاظ السلاطين - بغداد 1954 ص 274 - 278، كامل مصطفى الشيبي: الصلة بين التصوف والتشيع 1 / 36 - 38 (بغداد 1964)، علي سامي النشار: نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام - الجزء الثاني - نشأة التشيع وتطوره - الإسكندرية 1966 ص 27 - 31.
(2) سورة الحجرات: آية 17.
(3) سورة الحجرات: آية 17.
وأما كونه ابن سبأ، فقد ورد نسب عمار - كما أشرنا من قبل (1) - وفي طبقات ابن سعد - أنه هو: عمار بن ياسر بن مالك بن كنانة بن قيس بن الحصين بن الوذيم بن ثعلبة بن عوف بن حارثة بن عامر الأكبر بن يام بن عنس، وهو زيد بن مالك بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وبنو مالك بن أدد من مذحج (2). وورد كذلك في طرائق الحقائق، نقلاً عن الكامل في نسب عنس بن مذحج جد عمار، كما ورد في تاريخ ابن خلدون، برواية الحاج معصوم، كما ورد نسب عنس في فتوح البلدان على أنه زيد بن مالك بن أدد بن غريب بن زيد بن كهلان بن سبأ، وعنس أخو مراد (3).
وأما كونه عبد الله، فكل المسلمين كذلك، وهو لقب عام لهم جميعاً، وكانت كل الكتب التي تصدر عن الخلفاء والأمراء والتي ترد، إليهم إنما تبدأ بعبارة من عبد الله فلان أو إلى عبد الله فلان (4)، ومن ثم فالتسمية لعمار بهذا الاسم، كتسميته بابن سبأ، قصد بها التلميح، فكأن قائلهم يقول: فلان أو الرجل المتفق عليه (5).
____________
(1) ابن الأثير: أسد الغابة 4 / 129 - 130.
(2) طبقات ابن سعد 3 / 176.
(3) طريق الحقائق 2 / 11، البلاذري: فتوح البلدان ص 113 (القاهرة 1932).
(4) أنظر أمثلة في (الإمامة والسياسة ص 12، تاريخ الطبري 9 / 210، العقد الفريد 5 / 261).
(5) يقول الدكتور الشيبي أن من طرائف ما يذكر أن التقية الشيعية اضطرت أحمد بن طاووس الحلي (ت 6733 هـ/ 1235 - 1236 م) إلى تصنيف كتاب لم يشأ أن يقرنه باسمه، فنسبه إلى عبد الله بن إسماعيل، وقد علق الشهيد الثاني زين الدين العاملي (المقتول 966 هـ/ 1558 / 1559 م) على ذلك بأنه فعل ذلك لأن كل العالم عباد الله، ولأنه من ولد إسماعيل الذبيح عليه السلام، وتلك إعادة لقصة تسمية عمار باسم عبد الله بن سبأ، على صورة شيعية (أنظر: الشيبي: المرجع السابق ص 39، روضات الجنات ص 19).
وهكذا نخرج من هذا الاستطراد بأن عمار بن ياسر، إنما كان ثائراً على عثمان، وأنه استطاع أن يحقق ما صبا إليه من إعادة الإسلام إلى قالبه الأصيل، وإرجاع الأمر إلى علي، بحسب وصية النبي صلى الله عليه وسلم التي كان عمار يؤمن بها، وجلية الأمر في معارضة عمار لعثمان أنه كان يرى بأن الإسلام قد جاء لإزالة الفروق بين الطبقات، وبمعنى آخر لنشر العدالة الاجتماعية، فضلاً عن الإصلاح الروحي والعقلي.
وقد طبق أبو بكر وعمر خطة الرسول صلى الله عليه وسلم، فرأينا عماراً ساكتاً عن معارضتهما - مع علي وأبي ذر وغيرهما من المتمسكين بجوهر الإسلام - وقد أتاحت هذه العدالة والمساواة للعبيد السابقين والمستضعفين أن يرتفعوا - بإخلاصهم وإيمانهم - إلى المراكز العليا في الإسلام، فكان سلمان أميراً على المدائن، وعمار أمير الحرب في الكوفة، وكان غيرهما في مثل مركزهما.
هذا وقد استعمل عمر بن الخطاب عماراً على الكوفة، وكتب إلى أهلها:
أما بعد، فإني قد بعثت إليكم عماراً أميراً، وعبد الله بن مسعود وزيراً ومعلماً، وهما من نجباء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
ولما عزله عمر قال له: أساءك العزل، قال: والله لقد سائتني الولاية، وساءني العزل (1).
ويروي ابن سعد وغيره: قال عمر لعمار: أساءك عزلنا إياك؟ قال: لئن
____________
(1) ابن الأثير: أسد الغابة 4 / 134.
ولما أفضت الخلافة إلى سيدنا عثمان رضوان الله عليه تنفس الملأ الملكي القديم الصعداء، وحاولوا أن يعيدوا الأمور إلى نصابها القديم، فكانت الثورة التي راح ضحيتها ذو النورين، ولم يفد من الملحة كلها إلا معاوية بن أبي سفيان - وهو طليق ابن طليق، ومن المؤلفة قلوبهم هو وأبوه كذلك، والذي كان على رأس الأحزاب ضد سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم -.
وكانت مهمة عمار - ومن نحا نحوه - أن يحرسوا النظام الجديد، بإشاعة الزهد بين المسلمين، بحيث يصبح طابعاً للدين الجديد، ويقطع الطريق على الأغنياء والأرستقراطيين أن يهدموا الإسلام بمالهم وجاههم، ومن ثم فقد رأينا عماراً يحتفل بالإمام علي، لأنه كان زاهداً، ويجعل الزهد زينة الأبرار، كما كان المال زينة الملأ الملكي الذي حاربه الإسلام، وقد روى عمار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: يا علي، إن الله تعالى قد زينك بزينة لم تزين العباد بزينة أحب إلى الله تعالى منها، هي زينة الأبرار عند الله عز وجل، الزهد في الدنيا فجعلك لا ترزأ من الدنيا شيئاً، ولا ترزأ الدنيا منك شيئاً، ووهب لك حب المساكين، فجعلك ترضى بهم أتباعاً، ويرضون بك إماماً (2)، وزاد فيه أبو عبد الله أحمد بن حنبل في المسند فطوبى لمن أحبك وصدق فيك، وويل لمن أبغضك وكذب فيك (3)، ومن ثم ما دام زعيم عمار وقدوته (أي الإمام علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وكرم الله وجهه في الجنة): زاهداً، فأحرى بعمار أن يكون كذلك، فضلاً عن أنه من أهل الصفة (4)، هذا فضلاً عن أنه إنما كان السابقة الشيعية للتقية.
____________
(1) ابن سعد: الطبقات الكبرى 3 / 183، وانظر ابن الأثير: الكامل في التاريخ 3 / 31 - 32، تاريخ الطبري 4 / 163 - 164.
(2) حلية الأولياء 1 / 71.
(3) نهج البلاغة 9 / 167.
(4) خطط الكوفة ص 36، كامل الشيبي: المرجع السابق 1 / 40.
فلما اختار عبد الرحمن عثمان قال عمار: يا عبد الرحمن: أما والله لقد تركته، وإنه من الذين يقضون بالحق، وبه يعدلون (1).
2 - أبو ذر الغفاري:
يقول أبو نعيم في حليته: هو العابد الزهيد، القانت الوحيد، رابع الإسلام، ورافض الأزلام قبل نزول الشرع والأحكام، تعبد قبل الدعوة بالشهور الأعلام، وأول من حيا الرسول بتحية الإسلام، لم يكن تأخذه في الحق لائمة اللوام، ولا تفزعه سطوة الولاة والحكام، أول من تكلم في علم البقاء، وثبت على المشقة والعناء، وحفظ العهود والوصايا، وصبر على المحن والرزايا، واعتزل مخالطة البرايا إلى أن حل بساحة المنايا، أبو ذر الغفاري، رضي الله عنه، خدم الرسول، وتعلم الأصول، ونبذ الفضول (2).
____________
(1) نهج البلاغة 1 / 193 - 194، وانظر: تاريخ الطبري 4 / 232 - 233، ابن الأثير: الكامل في التاريخ 3 / 70 - 71 (حيث ينسبان العبارة الأخيرة للمقداد، وليس لعمار).
(2) حلية الأولياء 1 / 156 - 157.
وكان أبو ذر (2) من كبار الصحابة وفضلائهم، قديم الإسلام، يقال أسلم بعد أربعة، وكان خامساً، وطبقاً لرواية الإمام مسلم في صحيحه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: إرجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري، فقال: والذي نفسي بيده لأصرخن بها بين ظهرانيهم، فخرج حتى أتى المسجد (الكعبة) فنادى بأعلى صوته، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وثار القوم فضربوه حتى أضجعوه، فأتى العباس فأكب عليه فقال: ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار، وأن طريق تجارتكم إلى الشام عليهم، فأنقذه منهم، ثم عاد من الغد بمثلها، وثاروا إليه فضربوه، فأكب عليه العباس فأنقده (3).
ولنقرأ قصة إسلامه - كما رواها البخاري في صحيحه بسنده عن أبي حمزة، عن ابن عباس، رضي الله عنهما - قال: لما بلغ أبا ذر مبعث النبي صلى الله عليه وسلم،
____________
(1) أسد الغابة 6 / 99، وانظر طبقات ابن سعد 4 / 61.
(2) أنظر عن ترجمة أبي ذر الغفاري: ابن سعد: الطبقات الكبرى 4 / 161 - 175، أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء 1 / 156 - 170، ابن الأثير: أسد الغابة 6 / 99 - 101، ابن حجر العسقلاني: الإصابة في معرفة الصحابة 4 / 62 - 64. ابن عبد البر: الإستيعاب في معرفة الأصحاب 4 / 61 - 65، ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 8 / 252 - 262، الإمام ابن حنبل:
كتاب الزهد ص 145 - 150، السمهودي وفاء الوفا 3 / 1091، دائرة المعارف الإسلامية 1 / 477، المسعودي 4 / 268 - 274، ابن حجر: تهذيب التهذيب 12 / 790 النووي: تهذيب الأسماء ص 714.
(3) صحيح مسلم 16 / 34 (ط بيروت 1981).
فأتى المسجد فالتمس النبي صلى الله عليه وسلم، لا يعرفه، وكره أن يسأل عنه حتى أدركه بعض الليل، فرآه علي فعرف أنه غريب، فلما رآه تبعه، فلم يسأل واحد منهما صاحبه عن شئ، حتى أصبح، ثم احتمل قربته وزاده إلى المسجد، وظل ذلك اليوم، ولا يراه النبي صلى الله عليه وسلم، حتى أمسى فعاد إلى مضجعه، فمر به علي فقال: أما نال للرجل أن يعلم منزله فأقامه فذهب به معه، لا يسأل واحد منهما صاحبه عن شئ، حتى إذا كان يوم الثالث فعاد علي مثل ذلك فأقام معه ثم قال: ألا تحدثني ما الذي أقدمك، قال: إن أعطيتني عهداً وميثاقاً لترشدنني فعلت، ففعل فأخبره، قال: فإنه حق، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أصحبت فاتبعني، فإني رأيت شيئاً أخاف عليك، قمت كأني أريق الماء، فإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي ففعلي، فانطلق يقفوه، حتى دخل على النبي صلى الله عليه وسلم، ودخل معه، فسمع من قوله، وأسلم مكانه.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إرجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري، قال:
والذي نفسي بيده، لأصرخن بها بين ظهرانيهم، فخرج حتى أتى المسجد فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ثم قام القوم فضربوه حتى أضجعوه، وأتى العباس فأكب عليه، قال: ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار، وأن طريق تجارتكم إلى الشام، فأنقذه منهم، ثم عاد من الغد لمثلها فضربوه وثاروا إليه، فأكب العباس عليه (1).
وكان أبو ذر رضوان الله عليه زاهداً، حتى قال فيه سيدنا ومولانا وجدنا
____________
(1) صحيح البخاري 5 / 59 - 60 (دار الجيل - بيروت).
وعى أبو ذر علماً عجز الناس عنه، ثم أو كي عليه فلم يخرج منه شيئاً (1).
وعن ابن مسعود قال: لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك (2)، جعل لا يزال يتخلف الرجل، فيقولون: يا رسول الله، تخلف فلان، فيقول: دعوه، إن يكن فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يكن غير ذلك فقد أراحكم الله منه، حتى قيل:
يا رسول الله، تخلف أبو ذر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يقوله، فتلوم (تمهل) أبو ذر على بعيره، فلما أبطأ عليه أخذ متاعه فجعله على ظهره، ثم خرج يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ماشياً، ونظر ناظر من المسلمين فقال: إن هذا الرجل يمشي على الطريق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كن أبا ذر، فلما تأمله القوم قالوا: يا رسول الله، هو والله أبو ذر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يرحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويحشر وحده (3). هذا وقد توفي أبو ذر بالربذة - على مبعدة حوالي 5 كيلاً من المدينة - سنة إحدى وثلاثين للهجرة، أو اثنين وثلاثين، وصلى عليه عبد الله بن مسعود، ثم مات بعده في ذلك العام (4).
وروى ابن سعد في طبقاته بسنده عن مجاهد عن إبراهيم بن الأشتر قال:
إن أبا ذر حضره الموت، وهو بالربذة، فبكت امرأته فقال: وما يبكيك؟ فقالت:
أبكي أنه لا يد لي بتغييبك، وليس عندي ثوب يسعك كفناً، فقال: لا تبكي،
____________
(1) أسد الغابة 6 / 101.
(2) أنظر عن غزوة تبوك: الواقدي: كتاب المغازي 3 / 989 - 1076 - تحقيق مارسدن جونس (بيروت 1984)، سيرة ابن هشام 4 / 379 - 396 (تحقيق أحمد حجازي السقا)، ابن قيم الجوزية: زاد المعاد في هدى خير العباد - تحقيق شعيب وعبد القادر الأرناؤوط 3 / 526 - 538 (بيروت 1985)، ابن كثير: السيرة النبوية 4 / 3 - 52 (القاهرة 1966)، السيرة الحلبية 3 / 99 - 133 (القاهرة 1964)، محمد بيومي مهران: السيرة النبوية الشريفة 2 / 457 - 486 (بيروت 1990).
(3) أسد الغابة 6 / 101.
(4) أسد الغابة 6 / 101.
وروى ابن الأثير في الكامل، قال أبو ذر لابنته: استشرقي يا بنية هل ترين أحداً؟ قالت: لا، فما جاءت ساعتي بعد، ثم أمرها فذبحت شاة ثم طبختها، ثم قال: إذا جاءك الذين يدفنوني، فإنه سيشهدني قوم صالحون، فقولي لهم: يقسم عليكم أبو ذر أن لا تركبوا حتى تأكلوا، فلما نضجت قدرها قال لها: أنظري هل ترين أحداً؟ قالت: نعم هؤلاء ركب، قال: استقبلي بي
____________
(1) طبقات ابن سعد 4 / 171 - 172، وانظر روايات أخرى (4 / 173)، ابن الأثير: الكامل في ال $ تاريخ 3 / 133.
وفي رواية اليعقوبي: أنه لما بلغ عثمان وفاة أبي ذر قال: رحم الله أبا ذر، قال عمار: نعم، رحم الله أبا ذر من كل أنفسنا، فغلظ ذلك على عثمان، وبلغ عثمان عن عمار كلام، فأراد أن يسيره أيضاً، فاجتمعت بنو مخزوم إلى علي بن أبي طالب، وسألوه إعانتهم، فقال علي: لا ندع عثمان ورأيه، فجلس عمار في بيته، وبلغ عثمان ما تكلمت به بنو مخزوم فأمسك عنه (2).
ويذهب ابن الأثير إلى أن أبا ذر قد مات سنة إحدى وثلاثين، بينما يذهب الإمام الطبري وابن كثير إلى أنه مات سنة اثنين وثلاثين، وفي نفس السنة مات العباس بن عبد المطلب وعبد الله بن مسعود وعبد الرحمن بن عوف، رضي الله عنهم أجمعين (3).
وروى ابن سعد في طبقاته بسنده عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت
____________
(1) نفس المرجع السابق 3 / 133 - 134، وانظر: تاريخ الطبري 4 / 308 - 309، ابن كثير: البداية والنهاية 7 / 180.
(2) تاريخ اليعقوبي 2 / 173 (بيروت 1980).
(3) ابن الأثير: الكامل في التاريخ 3 / 134، ابن كثير: البداية والنهاية 7 / 176 - 180، تاريخ الطبري 4 / 308.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة من أبي ذر، من سره أن ينظر إلى تواضع عيسى بن مريم، فلينظر إلى أبي ذر.
وعن مالك بن دينار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أيكم يلقاني على الحال التي أفارقه عليها؟ فقال أبو ذر: أنا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: صدقت، ثم قال: ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء، على ذي لهجة أصدق من أبي ذر، من سره أن ينظر إلى زهد عيسى بن مريم، فلينظر إلى أبي ذر (2).
وعن الإمام علي قال: لم يبق اليوم أحد لا يبالي في الله لومة لائم غير أبي ذر، ولا نفسي، ثم ضرب بيده إلى صدره (3)، وعن أبي الأسود: قال ابن جريح ورجل، عن زاذان قالا: سئل علي عن أبي ذر فقال: وعي علماً عجز فيه، وكان شحيحاً حريصاً، شحيحاً على دينه، حريصاً على العلم، وكان يكثر السؤال فيعطى ويمنع، أما أن قد ملئ له في وعائه حتى امتلأ، فلم يدروا ما يريد بقوله: وعى علماً عجز فيه، أعجز عن كشف ما عنده من العلم؟ أم عن طلب ما طلب من العلم إلى النبي صلى الله عليه وسلم (4).
ولعل من الأهمية بمكان أن أبا ذر إنما كان ينكر على معاوية بن أبي سفيان - عامل عثمان في الشام - وصحبه ما يفعلون، قال أبو ذر: لقد حدثت أعمال لا أعرفها، والله ما هي في كتاب الله، ولا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، والله إني لأرى حقاً يطفأ، وباطلاً يحيا، وصادقاً مكذباً، وأثرة بغير تقى.
____________
(1) طبقات ابن سعد 4 / 167.
(2) طبقات ابن سعد 4 / 167 - 168.
(3) طبقات ابن سعد 4 / 170.
(4) طبقات ابن سعد 4 / 170 - 171.
فسكت معاوية على مضض، غير أن أبا ذر سرعان ما سأل: يا معاوية ما يدعوك إلى أن تسمي مال المسلمين مال الله؟ وكان معاوية، وسائر عمال عثمان من بني أمية، يرون أنهم يتصرفون في المال بموجب حق إلهي، بما أن المال مال الله، وهم خلفاؤه على هذا المال.
فلما سمع معاوية سؤال أبي ذر قال: يرحمك الله يا أبا ذر، ألا إن كل شئ لله، ألسنا عباد الله، والمال ماله، والخلق خلقه، والأمر أمره؟ قال أبو ذر:
كأنك تريد أن تحجب هذا المال دون المسلمين، فلا تقل هذا، فقال معاوية: لا أقول إنه ليس لله، ولكني سأقول مال المسلمين (2).
وكان أبو ذر يذهب إلى أن المسلم لا ينبغي له أن يكون في ملكه، أكثر من قوت يومه وليلته، أو شئ ينفقه في سبيل الله، أو يعده لكريم، ويأخذ بظاهر القرآن * (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله * فبشرهم بعذاب أليم) * (3).
فكان يقوم بالشام ويقول: يا معشر الأغنياء، واسوا الفقراء، بشر الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله بمكاوي من نار تكوى بها
____________
(1) عبد الرحمن الشرقاوي: علي إمام المتقين 1 / 170 (ط مكتبة غريب - القاهرة 1985)، نهج البلاغة 8 / 256.
(2) تاريخ الطبري 4 / 283، ابن الأثير: الكامل في التاريخ 3 / 114، عبد الرحمن الشرقاوي: علي إمام المتقين 1 / 170.
(3) سورة التوبة: آية 34.
فأرسل معاوية إليه بألف دينار في جنح الليل فأنفقها فلما صلى معاوية الصبح دعا رسوله الذي أرسله إليه فقال: إذهب إلى أبي ذر فقل له: أنقذ جسدي من عذاب معاوية، فإنه أرسلني إلى غيرك، وإني أخطأت بك، ففعل ذلك، فقال له أبو ذر: يا بني قل له: والله ما أصبح عندنا من دنانيرك دينار، ولكن أخرنا ثلاثة أيام حتى نجمعها، فلما رأى معاوية أن فعله يصدق قوله، كتب إلى عثمان: إن أبا ذر قد ضيق علي، وقد كان كذا وكذا، للذي يقول للفقراء، فكتب إليه عثمان: إن الفتنة قد أخرجت خطمها وعينيها، ولم يبق إلا أن تثب، فلا تنكأ القرح، وجهز أبا ذر إلي، وابعث معه دليلاً، وكفكف الناس ونفسك ما استطعت، وبعث إليه بأبي ذر (1).
هذا ويختلف الباحثون في الأسباب التي دفعت أبا ذر إلى الإقامة في الربذة، ففي رواية ابن سعد، عن زيد بن وهب قال: مررت بالربذة فإذا أنا بأبي ذر، قال فقلت: ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية * (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله) *، وقال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، قال فقلت: نزلت فينا وفيهم، قال: فكان بيني وبينه في ذلك كلام، فكتب يشكوني إلى عثمان، قال:
فكتب إلي عثمان أن أقدم المدينة فقدمت المدينة وكثر الناس علي، كأنهم لم يروني قبل ذلك، قال: فذكر ذلك لعثمان فقال لي: إن شئت تنحيت فكنت قريباً، فذاك أنزلني هذا المنزل، ولو أمر على حبشي، لسمعت ولأطعت (2).
غير أن رواية ابن الأثير في الكامل إنما تذهب إلى أن أبا ذر لما قدم
____________
(1) ابن الأثير: الكامل في التاريخ 3 / 114 - 115.
(2) ابن سعد: الطبقات الكبرى 4 / 166 (دار التحرير - القاهرة 1969).
فقال كعب الأحبار - وكان حاضراً - من أدى الفريضة فقد قضى ما عليه، فضربه أبو ذر فشجه، وقال له: يا ابن اليهودية، ما أنت وما ههنا؟ فاستوهب عثمان كعباً شجته، فوهبه.
فقال أبو ذر لعثمان: تأذن لي في الخروج من المدينة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمرني بالخروج منها، إذا بلغ البناء سلعاً، فأذن له، فنزل الربذة وبنى مسجداً، وأقطعه عثمان صرمة من الإبل، وأعطاه مملوكين، وأجرى عليه كل يوم عطاء، وكان أبو ذر يتعاهد المدينة مخافة أن يعود أعرابياً (1).
وروى الطبري في تاريخه عن محمد بن سيرين (2) قال: خرج أبو ذر إلى
____________
(1) ابن الأثير: الكامل في التاريخ 3 / 115، تاريخ الطبري 4 / 283 - 284، ابن كثير: البداية والنهاية 7 / 170.
(2) هو أبو بكر محمد بن سيرين البصري الأنصاري، كان أبوه يعمل القدور النحاسية، وهو من جرجرايا أحضر عبداً من عين التمرة، وقد ولد ابن سيرين في عام 33 هـ(653 م)، وتوفي في عام 110 هـ(729 م)، وعاش في البصرة، وكان تابعياً مشهوراً، روى عن عدد من الصحابة، كما كان فقيهاً، وزاهداً من الزهاد الأوائل، وهو حجة في تفسير الأحلام، وإن كنا لا ندري إن كان ألف في ذلك رسائل م لا، وإن جعله الجاحظ وابن قتيبة الحجة في هذا الميدان، وأما أشهر مراجع ترجمته فهي (طبقات ابن سعد 7 / 193 - 206، محمد بن حبيب: المحبر ص 379 - 480، ابن قتيبة: المعارف، ابن أبي حاتم: الجرح والتعديل 3 / 280 - 281. أبو نعيم: حلية الأولياء 2 / 263 - 282، الشيرازي: طبقاتها الفقهاء ص 69 - 70، الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد 5 / 331 - 338، الذهبي: تذكرة الحفاظ ص 77 - 78، الصفدي: الوافي بالوفيات 3 / 146، ابن حجر العسقلاني: تهذيب التهذيب 9 / 214 - 217، اليافعي: مرآة الجنات 1 / 232
=>
ولما نزل أبو ذر الربذة أقيمت الصلاة، وعليها رجل يلي الصدقة، فقال:
تقدم يا أبا ذر، فقال: لا، تقدم أنت، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي: إسمع وأطع، وإن كان عليك عبد مجدع، فأنت عبد، ولست بأجدع، وكان من رقيق الصدقة، وكان أسود يقال له مجاشع (1).
على أن رواية اليعقوبي إنما تذهب إلى أن معاوية كتب إلى عثمان: إنك قد أفسدت الشام على نفسك بأبي ذر، فكتب إليه: أن أحمله على قتب بغير وطاء، فقدم به إلى المدينة، وقد ذهب لحم فخذيه، فلما دخل إليه، وعنده جماعة قال: بلغني أنك تقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا كمل بنو أمية ثلاثين رجلاً، اتخذوا بلاد الله دولاً، وعباده خولاً، ودين الله دغلاً، فقال: نعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك، فقال لهم: أسمعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك؟
فبعث إلى علي بن أبي طالب، فأتاه، فقال: يا أبا الحسن: أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما حكماه أبو ذر وقص عليه الخبر، فقال علي: نعم، قال:
وكيف تشهد؟ قال: لقومه صلى الله عليه وسلم: ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء، ذا لهجة أصدق من أبي ذر.
فلم يقم بالمدينة حتى أرسل إليه عثمان: والله لتخرجن عنها، قال:
أتخرجني من حرم رسول الله؟ قال: نعم، وأنفك راغم، قال: فإلى مكة؟ قال:
لا، قال: فإلى البصرة؟ قال: لا، قال: فإلى الكوفة؟ قال: لا، ولكن إلى
____________
<=
- 234، ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 1 / 138، الزركلي: الأعلام 7 / 25، كحالة: معجم
المؤلفين 10 / 59، ابن خلكان: وفيات الأعيان 4 / 181 - 183، فؤاد سزكين: تاريخ التراث
العربي 4 / 97 - 99.
(1) تاريخ الطبراني 4 / 284 - 283، ابن الأثير: الكامل في التاريخ 3 / 115 - 116.
إن أمير المؤمنين قد نهى أن يكلمه أحد، فرفع علي السوط فضرب وجه ناقة مروان، وقال: تنح، نحاك الله إلى النار، ثم شيعه، وانصرف مروان إلى عثمان، فجرى بينه وبين علي في هذا بعض الوحشة، وتلاحيا كلاماً، فلم يزل أبو ذر في الربذة حتى توفي (1).
ويروي أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتاب السقيفة بسنده عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما خرج أبو ذر إلى الربذة أمر عثمان فنودي في الناس: ألا يكلم أحد أبا ذر ولا يشيعه، وأمر مروان بن الحكم أن يخرج به، فخرج به، وتحاشاه الناس، إلا علي بن أبي طالب، عليه السلام، وعقيلاً أخاه، وحسناً وحسيناً، عليهم السلام، وعماراً، فإنهم خرجوا معه يشيعونه، فجعل الحسن عليه السلام يكلم أبا ذر، فقال له مروان: إيها يا حسن، ألا تعلم أن أمير المؤمنين قد نهى عن كلام هذا الرجل، فإن كنت لا تعلم فاعلم ذلك، فحمل علي عليه السلام، على مروان، فضرب بالسوط بين أذني راحلته، وقال:
تنح نحاك الله إلى النار.
فرجع مروان مغضباً إلى عثمان، فأخبره الخبر، فتلظى على علي عليه السلام، ووقف أبو ذر فودعه القوم، ومعه ذكوان مولى أم هانئ بنت أبي طالب.
قال ذكوان: فحفظت كلام القوم - وكان حافظاً - فقال علي عليه السلام:
____________
(1) تاريخ اليعقوبي: 2 / 172 - 173.
فتكلم عقيل، فقال: ما عسى أن نقول يا أبا ذر، وأنت تعلم أنا نحبك، وأنت تحبنا، فاتق الله، فإن التقوى نجاة، واصبر فإن الصبر كرم، واعلم أن استثقالك الصبر من الجزع، واستبطاءك العافية من اليأس، فدع اليأس والجزع.
ثم تكلم الحسن فقال: يا عماه، لولا أنه لا يبغي للمودع أن يسكت، وللمشيع أن ينصرف، لقصر الكلام، وإن طال الأسف، وقد أتى القوم إليك ما ترى، فضع عنك الدنيا بتذكر فراغها، وشدة ما اشتد منها برجاء ما بعدها، واصبر حتى تلقى نبيك صلى الله عليه وسلم، وهو عنك راض.
ثم تكلم الحسين عليه السلام، فقال: يا عماه إن الله تعالى قادر أن يغير ما قد ترى، والله كل يوم هو في شأن، وقد منعك القوم دنياهم، ومنعتهم دينك، فما أغناك عما منعوك، وأحوجهم إلى ما منعتهم، فاسأل الله الصبر والنصر، واستعذبه من الجشع والجزع، فإن الصبر من الدين والكرم، وإن الجشع لا يقدم رزقاً، والجزع لا يؤخر أجلاً.
ثم تكلم عمار، رحمه الله، مغضباً، فقال: لا آنس الله من أوحشك، ولا آمن من أخافك، أما والله لو أردت دنياهم لأمنوك، ولو رضيت أعمالهم لأحبوك، وما منع الناس أن يقولوا بقولك، إلا الرضا بالدنيا، والجزع من الموت، مالوا إلى ما سلطان جماعتهم عليه، والملك لمن غاب، فوهبوا لهم دينهم، ومنحهم القوم دنياهم، فخسروا الدنيا والآخرة، ألا ذلك هو الخسران المبين.