الصفحة 311
فبكى أبو ذر - رحمه الله، وكان شيخاً كبيراً - وقال: رحمكم الله يا أهل بيت الرحمة، إذا رأيتكم ذكرت بكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما لي بالمدينة سكن، ولا شجن غيركم، إني ثقلت على عثمان بالحجاز، كما ثقلت على معاوية بالشام، وكره أن أجاور أخاه وابن خاله بالمصرين، فأفسد الناس عليهما، فسيرني إلى بلد ليس لي به ناصر ولا دافع، إلا الله، والله ما أريد إلا الله صاحباً، وما أخشى مع الله وحشة.

ورجع القوم إلى المدينة، فجاء علي عليه السلام إلى عثمان، فقال: ما حملك على رد رسولي، وتصغير أمري، فقال علي عليه السلام: أما رسولك فأراد أن يرد وجهي فرددته، وأما أمرك فما أصغره.

فقال: أما بلغك نهي عن كلام أبي ذر، قال: أو كلما أمرت بأمر معصية أطعناك فيه، قال عثمان: أقد مروان من نفسك، قال: مم ذا؟ قال: من شتمه وجذب راحلته، قال: أما راحلته فراحتي بها، وأما شتمه إياي، فوالله لا يشتمني شتمة إلا شتمتك مثلها، لا أكذب عليك، فغضب عثمان، وقال: لم لا يشتمك، كأنك خير منه، قال علي: أي والله ومنك، ثم قام فخرج.

فأرسل عثمان إلى وجوه المهاجرين والأنصار وإلى بني أمية، يشكو علياً عليه السلام، فقال القوم: أنت الوالي، وإصلاحه أجمل، قال: وددت ذاك، فأتوا علياً عليه السلام فقالوا: لو اعتذرت إلى مروان وأتيته، فقال: كلا، وأما مروان فلا آتيه، ولا أعتذر منه، ولكن إن أحب عثمان أتيته.

فرجعوا إلى عثمان فأخبروه، فأرسل عثمان إليه، فأتاه ومعه بنو هاشم، فتكلم علي عليه السلام، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما ما وجدت علي فيه من كلام أبي ذر ووداعه، فوالله ما أردت مساءتك، ولا الخلاف عليك، ولكن أردت به قضاء حقه، وأما مروان فإنه اعترض، يريد ردي عن قضاء حق الله

الصفحة 312
عز وجل، فرددته رد مثلي مثله، وأما ما كان مني إليك، فإنك أغضبتني، فأخرج الغضب مني ما لم أرده. فتكلم عثمان، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:

أما ما كان منك إلي فقد وهبته لك، وأما ما كان منك إلى مروان، فقد عفا الله عنك، وأما ما حلفت عليه فأنت البر الصادق، فادن يدك، فأخذ يده فضمها إلى صدره. فلما نهض قالت قريش وبنو أمية: أأنت رجل ; جبهك علي، وضرب راحلتك، وقد تفانت وائل في ضرع ناقة، وذبيان وعبس في لطمة فرس، والأوس والخزرج في نسعة، أفتحمل لعلي عليه السلام ما أتاه إليك. فقال مروان: والله لو أردت ذلك ما قدرت عليه.

ويقول ابن أبي الحديد: واعلم أن الذي عليه أكثر أهل السير وعلماء الأخبار والنقل، أن عثمان نفى أبا ذر، أولاً إلى الشام، ثم استقدمه إلى المدينة لما شكا منه معاوية، ثم نفاه من المدينة إلى الربذة، لما عمل بالمدينة نظر ما كان يعمل بالشام.

وأصل هذه الحكاية، أن عثمان لما أعطى مروان بن الحكم وغيره بيوت الأموال، واختص زيد بن ثابت بشئ منها، جعل أبو ذر يقول بين الناس وفي الطرقات والشوارع: بشر الكافرين بعذاب أليم، ويرفع بذلك صوته، ويتلو قوله تعالى: * (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله * فبشرهم بعذاب أليم) *، فرفع ذلك إلى عثمان مراراً، وهو ساكت.

ثم إنه أرسل إليه مولى من مواليه: أن انته عما بلغني عنك، فقال أبو ذر:

أو ينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله، وعيب من ترك أمر الله تعالى، فوالله لأن أرضي الله بسخط عثمان، أحب إلي من أن أسخط الله برضى عثمان، فأغضب ذلك عثمان وأحفظه، فتصابر وتماسك، إلى أن قال عثمان يوماً، والناس حوله: أيجوز للإمام أن يأخذ من المال شيئاً قرضاً، فإذا أيسر قضى؟ فقال كعب الأحبار: لا بأس بذلك، فقال أبو ذر: يا ابن اليهوديين، أتعلمنا ديننا؟ فقال

الصفحة 313
عثمان: قد كثر أذاك لي، وتولعك بأصحابي، إلحق بالشام، فأخرجه إليها (1).

ثم كان من أبي ذر مع معاوية، ما ذكرناه آنفاً (2).

ولعل من الأهمية بمكان الإشارة هنا إلى أن أبا ذر كان يقعد في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجتمع إليه الناس، فيحدث بما فيه الطعن على عثمان، وأنه وقف بباب المسجد، فقال:

أيها الناس، من عرفني فقط عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أبو ذر الغفاري، أنا جندب بن جنادة الربذي، إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين، ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم، محمد الصفوة من نوح، فالأول من إبراهيم، والسلالة من إسماعيل، والعترة الهادية من محمد، إنه شرف شريفهم، واستحقوا الفضل في قوم هم فينا كالسماء المرفوعة، وكالكعبة المستورة، أو كالقبلة المنصوبة، أو كالشمس الضاحية، أو كالقمر الساري، أو كالنجوم الهادية، أو كالشجر الزيتونية أضاء زيتها، وبورك زبدها، ومحمد وارث علم آدم، وما فضل به النبيون، وعلي بن أبي طالب، وصي محمد، ووارث علمه.

أيتها الأمة المتحيرة بعد نبيها، أما لو قدمتهم من قدم الله، وأخرتم من أخر الله، وأقررتم الولاية والوراثة في أهل بيت نبيكم، لأكلتم من فوق رؤوسكم، ومن تحت أقدامكم، ولما عال ولي لله، ولا طاش سهم من فرائض الله، ولا اختلف اثنان في حكم الله، إلا وجدتم علم ذلك عنده من كتاب الله وسنة نبيه، فأما إذا فعلتم ما فعلتم، فذوقوا وبال أمركم، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون (3).

____________

(1) ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 8 / 252 - 256 (بيروت 1966).

(2) أنظر التفصيلات (شرح نهج البلاغة 8 / 256 - 262).

(3) تاريخ اليعقوبي 2 / 171 (بيروت 1980). وانظر تفصيلات أخرى (المسعودي: مروج الذهب ومعادن الجوهر - المجلد الأول - بيروت 1982 ص 630 - 632).

الصفحة 314

3 - سلمان الفارسي:

سلمان - كما يصفه أبو نعيم في الحلية - سابق الفرس، ورائق العرس، الكادح الذي لا يبرح، والزاخر الذي لا ينزح، الحكيم، والعابد العليم، أبو عبد الله سلمان ابن الإسلام، رافع الألوية والأعلام، أحد الرفقاء والنجباء، ومن إليه تشتاق الجنة من الغرباء، ثبت على القلة والشدائد، لما نال من الصلة والزوائد (1).

هذا وقد اختلف الباحثون في اسم سلمان الأصلي، وفي موطنه، وفي عمره، وفي كل شئ يتصل به، حتى أن بعض المستشرقين - دونما روية، قد أنكروا تاريخيته (2)، وإن تروى آخرون فذهبوا إلى أن اسمه إنما يدخل في الإطار التاريخي للمشاجرات بين الصحابة (3)، وعلى أية حال، فالرجل إنما كان من أبناء الدهاقين، كما كان سائحاً نصرانياً، بعد أن ترك المزدكية (4).

وروى ابن سعد في طبقاته - على لسان سلمان نفسه قال -: كنت رجلاً من أهل أصبهان من قرية يقال لها جي وكان أبي دهقان أرضه، وكنت من أحب عباد الله إليه (5)، وفي صحيح البخاري بسنده عن أبي عثمان عن سلمان الفارسي أنه تداوله بضعة عشر، من رب إلى رب (6)، في أثناء بحثه عن النبي المنتظر، الذي أخبره الرهبان أنه سيظهر في أرض تيماء الأمر الذي جاء مفصلاً

____________

(1) حلية الأولياء 1 / 185.

(2) ماسينيون وهنري كوربان: شخصيات قلقة في الإسلام - ترجمة عبد الرحمن بدوي - القاهرة 1946 ص 8.

(3) نفس المرجع السابق ص 10.

(4) أنظر عن المزدكية (محمد بيومي مهران: تاريخ العرب القديم ص 610، تاريخ الطبري 2 / 92 - 93، ابن الأثير: الكامل في التاريخ 1 / 512 - 515، جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام 3 / 333، وكذا:

t. noldeke, aufsatze zur persisichen geschichte, leipzig , 1887, p. 109

(5) طبقات ابن سعد 4 / 53.

(6) صحيح البخاري 5 / 90.

الصفحة 315
في طبقات ابن سعد، وفي أسد الغابة، وفي الحلية وغيرها (1)، حتى أن البعض اعتبره سلفاً للزهاد السائحين، من أمثال إبراهيم بن أدهم (2).

وكان سلمان - فيما يرى البعض - يدعى روزبه بن خشنود أو مابه (3)، وفي أسد الغابة هو: سلمان الفارسي أبو عبد الله، ويعرف بسلمان الخير، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سئل عن نسبه فقال: أنا سلمان ابن الإسلام، أصله من فارس، من رامهرمز، وقيل إنه من جي، وهي مدينة أصفهان (أصبهان القديمة، وتعرف الآن باسم شهرستان)، وكان اسمه قبل الإسلام مابه بن بوذخشان بن مورسلان بن بهبوذان بن فيروز بن سهرك، من ولد ابن الملك، وكان ببلاد فارس مجوسياً سادن النار (4).

هذا وقد تنقل سليمان بحثاً عن الدين الصحيح من بلده جي إلى الشام إلى الموصل إلى عمورية، وهناك علم أن نبياً قد أظل زمانه يبعث بدين إبراهيم الحنيفية، مهاجره بأرض ذات نخل، وبه آيات وعلامات لا تخفى، بين منكبيه خاتم النبوة، يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، فركب مع قوم من العرب، من كلب، باعوه إلى رجل من يهود خيبر، ثم اشتراه منه رجل من يهود بني قريظة، فقدم به المدينة، وهناك رأى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم (5).

تروي المصادر - على لسان سليمان (6) أنه قال - جمعت ما عندي، ثم خرجت حتى جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بقباء، فدخلت عليه ومعه نفر من

____________

(1) حلية الأولياء 1 / 190 - 195، طبقات ابن سعد 4 / 54 - 57، أسد الغابة 2 / 417 - 419.

(2) كامل الشيبي: المرجع السابق 1 / 20.

(3) نفس المرجع السابق ص 20.

(4) أسد الغابة 2 / 417.

(5) أسد الغابة 4 / 417 - 418.

(6) أهم مصادر ترجمة سلمان الفارسي هي (طبقات ابن سعد 4 / 53، 67، البخاري 5 / 90، ابن حنبل: كتاب الزهد ص 150 - 1533، ابن حجر العسقلاني: الإصابة في معرفة الصحابة 2 / 62 - 63، ابن عبد البر: الإستيعاب في معرفة الأصحاب 2 / 56 - 61، أسد الغابة 2 / 417

=>


الصفحة 316
أصحابه، فقلت: إنه بلغني أنك ليس بيدك شئ، وأن معك أصحاباً لك، وأنكم أهل حاجة وغربة، وقد كان عندي شئ وضعته للصدقة، فلما ذكر لي مكانكم رأيتكم أحق الناس به، ثم وضعته له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلوا، وأمسك هو، قال: قلت في نفسي، هذه والله واحدة، ثم رجعت، وتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى المدينة، وجمعت شيئاً ثم جئته، فسلمت عليه وقلت له: إني قد رأيتك لا تأكل الصدقة، وقد كان عندي شئ أحب أن أكرمك به من هدية أهديتها كرامة لك ليست بصدقة، فأكل وأكل أصحابه، قال: قلت في نفسي هذه أخرى، قال: ثم رجعت فمكثت ما شاء الله، ثم أتيته فوجدته في بقيع الغرقد قد تبع جنازة، وحوله أصحابه، وعليه شملتان مؤتزراً بواحدة، مرتدياً بالأخرى، قال: فسلمت عليه، ثم عدلت لأنظر في ظهره، فعرف أني أريد ذلك واستثبته، قال فأمسك بردائه، فألقاه عن ظهره، فنظرت إلى خاتم النبوة، كما وصف لي صاحبي، قال: فأكببت عليه أقبل الخاتم من ظهره وأبكي، قال فقال: تحول عنك، فتحولت، فجلست بين يدي، فحدثته حديثي - كما حدثتك يا ابن عباس، فأعجبه ذلك، فأحب أن يسمعه أصحابه، ثم أسلمت وشغلني الرق، وما كنت فيه حتى فاتني بدر وأحد.

ثم كاتب سلمان على أن يطلق سراحه، في مقابل أن يغرس له ثلاثمائة نخلة، وأربعين أوقية من ورق، فلما أوفى له بها أعتقه، وشهد الخندق وبقية مشاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، حراً مسلماً حراً مسلماً حتى قبضه الله تعالى، وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين أبي الدرداء (1).

ولعل هذا كله، إنما يشير إلى أن سلمان، رضوان الله عليه، إنما قد اتجه إلى الإسلام بكليته، وأنه كان يبحث عن الحقيقة، فوجدها في رسول الله، وفي

____________

<=

- 421، حلية الأولياء 1 / 185 - 208، أبو نعيم الأصفهاني: دلائل النبوة ص 219 - 222.

(1) أنظر: طبقات ابن سعد 4 / 53 - 59، أسد الغابة 2 / 417 - 419.

الصفحة 317
الإسلام، واعتنق الدين الجديد، وخدمه من بدء دخوله فيه بإشارته بحفر الخندق، ورجل في مثل سلمان في جهده الذي بذله - عقلياً وروحياً وجسدياً ومادياً - بتركه وطنه، وبتجواله الطويل من فارس والشام والموصل ونصيبين وعمورية، وبلاد العرب، فضلاً عن تركه الراحة والرفاهية عند أسرته في أصفهان، رجل مثل هذا، لا بد أن يكون مسلماً مخلص الإيمان، لا تزعزعه الأنواء، ولا تؤثر في عقيدته الدينية مؤثرات مادية (1).

وكان سلمان أحد ثلاثة تشتاق إليهم الجنة، روى ابن الأثير بسنده عن الحسن بن صالح، عن أبي ربيعة الإيادي عن الحسن (البصري) عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الجنة تشتاق إلى ثلاثة: علي وعمار وسلمان (2).

وفي حلية الأولياء بسنده عن أبي بريدة عن أبيه، رضي الله تعالى عنهم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل علي الروح الأمين فحدثني أن الله تعالى يحب أربعة من أصحابي، فقال له من حضر، من هم يا رسول الله؟ فقال: علي وسلمان وأبو ذر والمقداد، وعن أنس بن مالك، رضي الله تعالى عنه قال:

سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اشتاقت الجنة إلى أربعة: علي والمقداد وعمار وسلمان (3).

وفي الإستيعاب من حديث ابن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:

أمرني ربي بحب أربعة، وأخبرني أنه سبحانه يحبهم، علي وأبو ذر والمقداد وسلمان (4).

وفي الحلية عن ثابت عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال

____________

(1) كامل الشيبي: المرجع السابق ص 21.

(2) أسد الغابة 2 / 420.

(3) حلية الأولياء 1 / 190.

(4) ابن عبد البر: الإستيعاب في معرفة الأصحاب 2 / 59.

الصفحة 318
رسول الله صلى الله عليه وسلم: السباق أربع، أنا سابق العرب، وصهيب سابق الروم، وسلمان سابق الفرس، وبلال سابق الحبشة (1).

وروى الإمام أحمد بسنده عن سفيان عن يونس عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا سابق العرب، وسلمان سابق فارس، وصهيب سابق الروم، وبلال سابق الحبش (2).

وكان سلمان من خيار الصحابة وزهادهم وفضلائهم، وذوي القرب من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الإستيعاب عن عائشة، رضي الله عنها قالت: كان لسلمان مجلس من رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى كاد يغلبنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم (3).

وسئل علي عن سلمان فقال: علم العلم الأول والعلم الآخر، وهو بحر لا ينزف، وهو منا أهل البيت (4)، وروى ابن الجوزي وابن سعد، أن علياً قال فيه: ذلك امرؤ منا وإلينا أهل البيت، أدرك العلم الأول والعلم الآخر، وقرأ الكتاب الأول والكتاب الآخر (5)، وفي الإستيعاب عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن علي رضي الله عنه، أنه سئل عن سلمان فقال: علم العلم الأول والآخر، بحر لا ينزف، وهو منا أهل البيت (6).

ولا ريب في أن الإمام علي إنما يتحدث هنا عن سيدنا ومولانا وجدنا

____________

(1) حلية الأولياء 1 / 185.

(2) الإمام أحمد بن حنبل: فضائل الصحابة 2 / 909 (بيروت 1983)، وأخرجه الحاكم 3 / 402، وأبو نعيم في الحلية 1 / 185، والذهبي في سير النبلاء 3 / 146، والهيثمي في مجمع الزوائد 9 / 305، وقال رواه الطبراني، وله شاهد عن أبي أمامة مرفوعاً، أخرجه ابن أبي حاتم في العلل 2 / 353.

(3) الإستيعاب 2 / 59.

(4) أسد الغابة 2 / 420.

(5) طبقات ابن سعد 4 / 61، صفة الصفوة 1 / 220.

(6) الإستيعاب 2 / 59.

الصفحة 319
محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقد روى ابن سعد في طبقاته بسنده عن كثير بن عبد الله المزني عن أبيه عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: خط الخندق من أجم الشيخين، طرف بني حارثة، عام ذكرت الأحزاب، خطة من المذاد، فقطع لكل عشرة أربعين ذراعاً، فاحتج المهاجرون والأنصار من سلمان الفارسي - وكان رجلاً قوياً - فقال المهاجرون: سلمان منا، وقالت الأنصار: لا بل سلمان منا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، سلمان منا أهل البيت (1).

وروى ابن عبد البر بسنده عن ثابت عن معاوية بن قرة عن عائذ بن عمرو:

أن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال في نفر فقالوا: ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها، فقال أبو بكر: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم، وأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: يا أبا بكر لعلك أغضبتهم، لئن كنت أغضبتهم، لقد أغضبت ربك، جل وعلا، فأتاهم أبو بكر فقال: يا أخوتاه، أغضبتكم، قالوا: لا يا أبا بكر، يغفر الله لك (2).

وفي طبقات ابن سعد بسنده عن الحسن قال: كان عطاء سلمان خمسة آلاف، وكان على ثلاثين ألفاً من الناس، يخطب في عباءة، يفترش نصفها، ويلبس نصفها، وكان إذا خرج عطاؤه أمضاه، ويأكل من سفيف يده (3).

وفي أسد الغابة: كان عطاؤه خمسة آلاف، فإذا خرج عطاؤه فرقه، وأكل من كسب يده، وكان يسف الخوص (4) (ينسجه)، وقال حذيفة لسلمان: ألا نبني لك بيتاً، قال: لم؟ لتجعلني مالكاً، وتجعل لي داراً، مثل بيتك الذي بالمدائن، قال: لا، ولكن نبني لك بيتاً من قصب، ونسقفه بالبردي، إذا قمت

____________

(1) طبقات ابن سعد 4 / 59، أسد الغابة 2 / 421.

(2) الإستيعاب 2 / 60.

(3) طبقات ابن سعد 4 / 62.

(4) أسد الغابة 2 / 420.

الصفحة 320
كد أن يصيب رأسك وإذا نمت كاد أن يصيب طرفيك، قال: فكأنك كنت في نفسي (1).

وعن سالم مولى زيد بن صوحان قال: كنت مع مولاي زيد بن صوحان في السوق، فمر علينا سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه، وقد اشترى وسقاً من طعام، فقال له زيد: يا أبا عبد الله تفعل هذا، وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

فقال: إن النفس إذا أحرزت رزقها اطمأنت، وتفرغت للعبادة، وأيس منها الوسواس (2).

وعن ثابت قال: كان سلمان أميراً على المدائن، فجاء رجل من أهل الشام، من بني تيم الله، معه حمل تبن، وعلى سلمانً أندروردً وعباءة، فقال لسلمان: تعال احمل، وهو لا يعرف سلمان، فحمل سلمان، فرآه الناس فعرفوه فقالوا: هذا الأمير، قال: لم أعرفك، فقال له سلمان لا حتى أبلغ منزلك (3).

وعن سماك قال: سمعت النعمان بن حميد يقول: دخلت مع خالي على سلمان بالمدائن، وهو يعمل الخوص، فسمعته يقول: أشتري خوصاً بدرهم فأعمله، فأبيعه بثلاثة دراهم، فأعيد درهماً فيه، وأنفق درهماً على عيالي، وأتصدق بدرهم، ولو أن عمر بن الخطاب (الخليفة وقت ذاك) نهاني عن ذلك ما انتهيت (4).

وعن عبد الله بن بريدة قال: كان سلمان إذا أصاب الشئ، اشترى به لحماً، ثم دعا المحدثين فأكلوه معه (5)، وفي الحلية عن عبد الله بن بريدة: أن

____________

(1) أسد الغابة 2 / 420، حلية الأولياء 1 / 202.

(2) حلية الأولياء 1 / 207.

(3) طبقات ابن سعد 4 / 63.

(4) طبقات ابن سعد 4 / 64، حلية الأولياء 1 / 197 - 198.

(5) طبقات ابن سعد 4 / 64.

الصفحة 321
سلمان كان يعمل بيديه، فإذا أصاب شيئاً، اشترى به لحماً أو سمكاً، ثم يدعو المجذمين فيأكلون معه (1).

وعن الأعمش عن أبي سفيان عن أشياخه قالوا: دخل سعد بن أبي وقاص على سلمان يعوده، قال: فبكى سلمان فقال له سعد: ما يبكيك يا أبا عبد الله؟ توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو عنك راض، وتلقى أصحابك، وترد على الحوض، قال سلمان: والله ما أبكي جزعاً من الموت، ولا حرصاً على الدنيا، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عهد إلينا عهداً فقال: لتكن بلغة أحدكم من الدنيا، مثل زاد الراكب، وحولي هذه الأساود، قال: وإنما حوله جفنه أو مطهرة أو إجانة، قال فقال له سعد: يا أبا عبد الله، إعهد إلينا بعهد نأخذه بعدك، فقال: يا سعد، أذكر الله عند همك إذا هممت، وعند حكمك إذا حكمت، وعند يدك إذا قسمت (2).

وعن الأجلح عن عامر الشعبي قال: أصاب سلمان صرة مسك يوم فتحت جلولاء، فاستودعها امرأته فلما حضرته الوفاة قال: هاتي هذه المسكة، فمرسها في ماء، ثم قال: انضحيها حولي، فإنه يأتيني زوار الآن، قال ففعلت، فلم يمكث بعد ذلك إلا قليلاً حتى قبض (3).

وعن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب عن عبد الله بن سلام قال: إن سلمان قال له: أي أخي، أينا مات قبل صاحبه، فليتراء له، قال عبد الله بن سلام: أو يكون ذلك؟ قال نعم، إن نسمة المؤمن مخلاة تذهب في الأرض حيث شاءت، ونسمة الكافر في سجن، فمات سلمان، فقال عبد الله بن سلام:

فبينما أنا ذات يوم قائل بنصف النهار على سرير لي، فأغفيت إغفاءة، إذ جاء

____________

(1) حلية الأولياء 1 / 200.

(2) حلية الأولياء 1 / 195 - 197، طبقات ابن سعد 4 / 65، ابن حنبل: كتاب الزهد ص 152.

(3) طبقات ابن سعد 4 / 66، حلية الأولياء 1 / 208.

الصفحة 322
سلمان فقال: السلام عليك ورحمة الله، فقلت: السلام عليك ورحمة الله أبا عبد الله، كيف وجدت منزلك، قال: خيراً، وعليك بالتوكل فنعم الشئ التوكل، وعليك بالتوكل فنعم الشئ التوكل، وعليك بالتوكل فنعم الشئ التوكل (1).

هذا وقد روى عن سلمان، ابن عباس وأنس وعقبة بن عامر، وأبو سعيد، وكعب بن عجرة، وأبو عثمان النهدي، وشرحبيل بن المسط وغيرهم.

وروى أبو نعيم في الحلية بسنده عن صدقة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن سلمان: أنه تزوج امرأة من كندة، فبنى بها في بيتها، فلما كان ليلة البناء مشى معه أصحابه حتى أتى بيت امرأته، فلما بلغ البيت قال: ارجعوا آجركم الله، ولم يدخلهم عليها، كما فعل السفهاء، فلما نظر إلى البيت، والبيت منجد، قال: أمحموم بيتكم، أم تحولت الكعبة في كندة؟ قالوا: ما بيتنا بمحموم، وما تحولت الكعبة في كندة، فلم يدخل البيت حتى نزع كل ستر في البيت غير ستر الباب. فلما دخل رأى متاعاً كثيراً، فقال لمن هذا المتاع؟ قالوا: متاعك ومتاع امرأتك، قال: ما بهذا أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم، أوصاني خليلي أن لا يكون متاعي من الدنيا، إلا كزاد الراكب، ورأى خدماً فقال لمن هذا الخدم؟ فقالوا: خدمك وخدم امرأتك، فقال: ما بهذا أوصاني خليلي، أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم، أن لا أمسك إلا ما أنكح، أو أنكح، فإن فعلت فبغين، كان على مثلي أوزارهن، من غير أن ينقص من أوزارهن شيئاً.

ثم قال للنسوة اللائي عند امرأته: هل أنتن مخرجات عني؟ مخليات بيني وبين امرأتي؟ قلن: نعم، فخرجن فذهب إلى الباب حتى أجافه، وأرخى الستر، ثم جاء حتى جلس عند امرأته فمسح بناصيتها، ودعا بالبركة، فقال لها: هل أنت مطيعتي في شئ آمرك به؟ قالت: جلست مجلس من يطاع، قال: فإن

____________

(1) طبقات ابن سعد 4 / 66 - 67، حلية الأولياء 1 / 205.

الصفحة 323
خليلي صلى الله عليه وسلم، أوصاني إذا اجتمعت إلي أهلي أن أجتمع على طاعة الله عز وجل، فقام وقامت إلى المسجد فصليا ما بدا لهما، ثم خرجا فقضى منهما ما يقضي الرجل من امرأته.

فلما أصبح غدا عليه أصحابه فقالوا: كيف وجدت أهلك؟ فأعرض عنهم، ثم أعادوا فأعرض عنهم، ثم أعادوا فأعرض عنهم، ثم قال: إنما جعل الله تعالى الستور والخدور والأبواب لتواري ما فيها، حسب امرئ منكم أن يسأل عما ظهر له، فإما ما غاب عنه فلا يسألن عن ذلك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: المتحدث عن ذلك، كالحمارين يتسافدان في الطريق (1).

وعن عطاء عن ابن عباس، رضي الله تعالى عنه قال: قدم سليمان من غيبة له، فتلقاه عمر، فقال: أرضاك الله تعالى عبداً، قال: فزوجني، قال: فسكت عنه، فقال: أترضاني لله عبداً، ولا ترضاني لنفسك؟ فلما أصبح أتاه قوم عمر، فقال: حاجة؟ قالوا: نعم، قال: وما هي؟ إذا تقضي، قالوا: تضرب عن هذا الأمر - يعنون خطبته إلى عمر - فقال: أما والله ما حملني على هذا إمرته، ولا سلطان، ولكن قلت رجل صالح عسى الله أن يخرج مني ومنه نسمة صالحة.

قال: فتزوج من كندة، فلما جاء يدخل على أهله، إذا البيت منجد، وإذا فيه نسوة، فقال: أتحولت الكعبة في كندة، أم هي حمى؟ أمرني خليلي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: إذا تزوج أن لا يتخذ من المتاع إلا أثاثاً كأثاث المسافر، ولا يتخذ من النساء إلا ما ينكح، أو ينكح، قال: فقمن النسوة فخرجن فهتكن ما في البيت، ودخل على أهله، يا هذه أتطيعيني أم تعصيني؟ فقالت: بل أطيع، فمرني بما شئت، فقد نزلت منزل المطاع، فقال: إن خليلي أبا القاسم صلى الله عليه وسلم:

أمرنا إذا دخل أحدنا على أهله أن يقوم فيصلي، ويأمرها فتصلي خلفه، ويدعو، ويأمرها أن تؤمن، ففعل وفعلت.

____________

(1) حلية الأولياء 1 / 186.

الصفحة 324
قال: فلم أصبح جلس في مجلس كندة، فقال له رجل: يا أبا عبد الله كيف أصبحت؟ كيف رأيت أهلك؟ فسكت عنه، فعاد، فسكت عنه، ثم قال: ما بال أحدكم يسأل عن الشئ، قد وارته الأبواب والحيطان، إنما يكفي أحدكم أن يسأل عن الشئ، أجيب أو سكت عنه (1).

وعن عطاء بن السائب عن أبي البختري: أن جيشاً من جيوش المسلمين، كان أميرهم سلمان الفارسي، فحاصروا قصراً من قصور فارس، فقالوا: يا أبا عبد الله، ألا ننهد إليهم؟ فقال: دعوني أدعوهم، كما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم، فقال لهم: إنما أنا رجل منكم فارسي، أترون العرب تطيعني؟ فإن أسلمتم فلكم مثل الذي لنا وعليكم مثل الذي علينا، وإن أبيتم إلا دينكم تركناكم عليه، وأعطيتمونا الجزية عن يد وأنتم صاغرون - قال ورطن إليهم بالفارسية وأنتم غير محمودين - وإن أبيتم نابذناكم على سواء، فقالوا: ما نحن بالذي نؤمن، وما نحن بالذي نعطي الجزية، ولكنا نقاتلكم، قالوا: يا أبا عبد الله، ألا ننهد إليهم، قال: لا، فدعاهم ثلاثة أيام إلى مثل هذا، ثم قال:

إنهدوا إليهم، فنهدوا إليهم، قال: ففتحوا ذلك الحصن (2).

وعن أبي ليلى الكندي قال: أقبل سلمان في ثلاثة عشر راكباً - أو اثني عشر راكباً - من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فلما حضرت الصلاة قالوا: تقدم يا أبا عبد الله، قال: إنا لا نؤمكم، ولا ننكح نساءكم، إن الله تعالى هدانا بكم، قال:

فتقدم رجل من القوم فصلى أربع ركعات، فلما سلم، قال سلمان: ما لنا وللمربعة، إنما كان يكفينا نصف المربعة، ونحن إلى الرخصة أحوج - قال عبد الرازق: يعني في السفر (3).

____________

(1) حلية الأولياء 1 / 186 - 187.

(2) حلية الأولياء 1 / 189.

(3) حلية الأولياء 1 / 189.

الصفحة 325
وعن أبي البختري قال: صحب سلمان، رضي الله تعالى عنه، رجل من بني عبس، قال: فشرب من دجلة شربة، فقال له سلمان: عد فاشرب، قال: قد رويت، قال: أترى شربتك هذه نقصت منها؟ قال: وما ينقص منها شربة شربتها، قال: كذلك العلم لا ينقص، فخذ من العلم ما ينفعك (1).

وعن حفص بن عمر السعدي عن عمه: قال سلمان لحذيفة: يا أخا بني عبس، إن العلم كثير، والعمر قصير، فخذ من العلم ما تحتاج إليه في أمر دينك، ودع ما سواه، فلا تعانه (2).

هذا وقد توفي سلمان عام 35 هـ‍، في آخر خلافة عثمان، وقيل أول سنة 36 هـ‍، وقيل توفي في خلافة عمر، والأول أكثر، وقال العباس بن يزيد:

قال أهل العلم: عاش سلمان ثلاثمائة وخمسين سنة، فأما مائتان وخمسون فلا يشكون فيه، ويقول ابن الأثير في الكامل في حوادث عام 36 هـ‍: وفيها مات سلمان الفارسي في قول بعضهم، وقيل وكان قد أدرك بعض أصحاب المسيح عليه السلام، وقال أبو نعيم: كان سلمان من المعمرين، يقال إنه أدرك عيسى بن مريم، وقرأ الكتابين، والصحيح - فيما أرى - ما ذهب إليه ابن حجر العسقلاني من أنه ما زاد على الثمانين (3).

هذا وكان لسلمان مكانة خاصة عند الصحابة، وعند الإمام علي بالذات، وقد أشرنا من قبل إلى قول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمان منا أهل البيت، وقد استقرت هذه العبارة من الإمام علي في أذن واعية، حتى قال عنه: ذلك امرؤ منا وإلينا أهل البيت، ثم عامله إلى آخر العمر، كواحد عزيز عليه من أهل البيت، وظل يوده حتى آخر عمره.

____________

(1) حلية الأولياء 1 / 188.

(2) حلية الأولياء 1 / 189.

(3) ابن الأثير: أسد الغابة 2 / 412، الكامل 3 / 287، ابن حجر: الإصابة في معرفة الصحابة 2 / 62.

الصفحة 326
وهناك ما يشير إلى الصلة القوية بينه وبين الإمام علي، حتى نراه يقود بغلة النبي الشهباء التي كانت تركبها السيدة فاطمة الزهراء في ليلة زفافها إلى الإمام علي بن أبي طالب (1).

وروى أبو بكر أحمد بن عبد العزيز عن حباب بن يزيد عن جرير بن المغيرة: أن سلمان والزبير والأنصار كان هواهم أن يبايعوا علياً، عليه السلام، بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فلما بويع أبو بكر، قال سلمان: أصبتم الخبرة وأخطأتم المعدن.

وفي رواية عن حبيب بن أبي ثابت قال: قال سلمان يومئذ: أصبتم ذا السن منكم، وأخطأتم أهل بيت نبيكم، لو جعلتموها فيهم، ما اختلف عليكم اثنان، ولأكلتموها رغداً (2).

4 - المقداد بن عمرو:

يقول الحافظ أبو نعيم هو المقداد بن عمر بن ثعلبة (3)، مولى الأسود بن عبد يغوث، السابق إلى الإسلام والفارس يوم الحرب والإقدام، ظهرت له الدلائل والإعلام، حين عزم على استقاء الرسول والإطعام، أعرض عن العمالات، وآثر الجهاد والعبادات، معتصماً بالله تعالى من الفتن والبليات (4).

وهو - فيما يروي ابن سعد في طبقاته - المقداد بن عمرو بن ثعلبة بن مالك بن ربيعة بن ثمامة بن مطرود بن عمرو بن سعد بن دهير بن لؤي بن

____________

(1) كامل الشيبي: المرجع السابق ص 21، وانظر: ابن بابويه القمي: من لا يحضره الفقيه - الجزء الثالث - إيران 1908.

(2) شرح نهج البلاغة 2 / 49.

(3) أهم مصادر ترجمة المقداد بن عمرو (أسد الغابة 5 / 251 - 254، طبقات ابن سعد 3 / 114 - 116، حلية الأولياء 1 / 172 - 176، الإصابة 3 / 454 - 455، الإستيعاب 3 / 472 - 476.

(4) حلية الأولياء 1 / 1722.

الصفحة 327
ثعلبة بن مالك بن الشريد بن أبي أهون بن فائش بن دريم بن القين بن أهود بن بهراء بن عمرو بن الحاف بن قضاعة، ويكنى أبا معبد، وكان حالف الأسود بن عبد يغوث الزهري في الجاهلية فتبناه، فكان يقال له المقداد بن الأسود (1).

وقيل: المقداد الكندي، ولأنه أصاب فيهم دماً في بهراء، فهرب منهم إلى كندة فحالفهم، ثم أصاب فيهم دماً، فهرب إلى مكة، فحالف الأسود بن عبد يغوث (2).

وقال أحمد بن صالح المصري (3): هو حضرمي، وحالف أبوه كندة فنسب إليها، وحالف هو الأسود بن عبد يغوث، فنسب إليه، والصحيح بهراوي، كنيته أبو معبد، وقيل: أبو الأسود، فلما نزل القرآن * (أدعوهم لآبائهم) * قيل:

المقداد بن عمرو.

وهو قديم في الإسلام من السابقين، قال ابن مسعود: أول من أظهر إسلامه سبعة: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمار - وأمه سمية - وصهيب وبلال والمقداد، فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنعه الله تعالى بعمه (أبي طالب) وأما أبو بكر فمنعه الله تعالى بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون، وألبسوهم أدراع الحديد ثم صهروهم في الشمس.

هذا وقد هاجر المقداد إلى الحبشة، ثم عاد إلى مكة، فلم يقدر على

____________

(1) طبقات ابن سعد 3 / 114.

(2) أسد الغابة 5 / 251 - 252.

(3) هو الإمام أبو جعفر أحمد بن صالح الطبري المصري الحافظ، سمع من ابن عيينة وابن وهب وخلق، قال عنه محمد بن نمير: إذا جاوزت الفرات، فليس أحد مثل أحمد بن صالح، وقال ابن وارة الحافظ: أحمد بن حنبل ببغداد، وأحمد بن صالح، بمصر، وابن نمير في الكوفة، والنفيلي بحران، هؤلاء أركان الدين، توفي عام 248 هـ‍(الذهبي العبر 1 / 450، أسد الغابة 5 / 252، وانظر عن عبيدة بن الحارث (الواقدي: المغازي 1 / 10 - 11، سيرة ابن هشام 2 / 390 - 393، ابن الأثير: الكامل 2 / 111، تاريخ الطبري 2 / 404)، محمد بيومي مهران: السيرة النبوية 2 / 52.