وروى ابن الأثير (2): لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة ليبايعوا سعد بن عبادة، فبلغ ذلك أبا بكر فأتاهم، ومعه عمر وأبو عبيدة بن الجراح، فقال: ما هذا؟ فقالوا: منا أمير ومنكم أمير، فقال أبو بكر: منا الأمراء ومنكم الوزراء، ثم قال أبو بكر: رضيت لكم أحد هذين الرجلين: عمر وأبا عبيدة أمين هذه الأمة، فقال عمر: أيكم يطيب نفساً أن يخلف قدمين قدمهما النبي صلى الله عليه وسلم؟ فبايعه عمر، وبايعه الناس.
فقالت الأنصار - أو بعض الأنصار - لا نبايع إلا علياً، وتخلف علي وبنو هاشم والزبير وطلحة عن البيعة، وقال الزبير: لا أغمد سيفاً حتى يبايع علي، فقال عمر: خذوا سيفه، واضربوا به الحجر، ثم أتاهم عمر فأخذهم للبيعة.
وقال موسى بن عقبة (3) في مغازيه عن سعد بن إبراهيم: حدثني أبي أن أباه عبد الرحمن بن عوف كان مع عمر، وأن محمد بن سلمة كسر سيف الزبير، ثم خطب أبو بكر، واعتذر للناس، ثم بايع علي والزبير (4).
____________
(1) شرح نهج البلاغة 6 / 48 - 49.
(2) ابن الأثير: الكامل في التاريخ 2 / 325.
(3) أبو محمد موسى بن عقبة بن أبي عياش الأسدي، لا نعلم عام مولده، تلميذ الزهري، وعاش في المدينة، وله حلقة في المسجد النبوي، كان مؤرخاً مهتماً بمغازي الرسول والخلفاء الراشدين، وتوفي عام 141 ع (758 م) (أنظر: فؤاد سزكين: تاريخ التراث العربي 2 / 84 - 86 (الرياض 1983).
(4) البداية والنهاية 6 / 341.
وروى الطبري بسنده عن زياد بن كليب قال: أتى عمر بن الخطاب منزل علي، وفيه طلحة والزبير ورجال من المهاجرين فقال: والله لأحرقن عليكم أو لتخرجن إلى البيعة، فخرج عليه الزبير مصلتاً بالسيف، فعثر فسقط السيف من يده، فوثبوا عليه فأخذوه (2).
على أن هناك وجهاً ثانياً للنظر، يذهب إلى أن أبا بكر لما بويع تخلف علي فلم يبايع، فقيل لأبي بكر: إنه كره إمارتك، فبعث إليه: أكرهت إمارتي؟
قال: لا، ولكن القرآن خشيت أن يزاد فيه، فحلفت ألا أرتدي رداء حتى أجمعه، اللهم إلا إلى صلاة الجمعة، فقال أبو بكر: لقد أحسنت، قال: فكتبه عليه السلام، كما أنزل، بناسخه ومنسوخه (3).
وروى أبو نعيم في الحلية بسنده عن السدي عن عبد خير عن علي قال:
لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أقسمت - أو حلفت - أن لا أضع ردائي عن ظهري، حتى أجمع ما بين اللوحين، فما وضع ردائي عن ظهري حتى جمعت القرآن (4).
هذا وقد اتفق الكل على أن الإمام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه، وكرم الله وجهه في الجنة - إنما كان يحفظ القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن غيره كثير يحفظه، ثم هو أول من جمعه، نقلوا كلهم أنه تأخر عن بيعة
____________
(1) شرح نهج البلاغة 6 / 48.
(2) تاريخ الطبري 3 / 202.
(3) شرح نهج البلاغة 6 / 40.
(4) حلية الأولياء 1 / 67.
وفي الواقع، أننا لو رجعنا إلى كتب القراءات، وجدنا أئمة القراء يرجعون إليه، كأبي عمرو بن العلاء (689 - 770 م)، وعاصم بن أبي النجوم (المتوفى 127 هـ/ 745 م) وغيرهما، لأنهم يرجعون إلى أبي عبد الرحمن السلمي القارئ، وأبو عبد الرحمن كان تلميذه، وعنه أخذ القرآن، فقد صار هذا الفن من الفنون التي تنتهي إليه (1).
وهناك في العقد الفريد رواية تذهب إلى أن الذين تخلفوا عن بيعة أبي بكر: علي والعباس والزبير وسعد بن عبادة، فأما علي والعباس فقعدوا في بيت فاطمة، حتى بعث إليهم أبو بكر عمر بن الخطاب ليخرجوا من بيت فاطمة، وقال له: إن أبوا فقاتلهم، فأقبل بقبس من النار على أن يضرم عليهم الدار، فلقيته فاطمة فقالت: يا ابن الخطاب، أجئت لتحرق دارنا؟ قال: نعم، أو تدخلوا فيما دخلت فيه الأمة، فخرج علي حتى دخل على أبي بكر فبايعه، فقال له أبو بكر: أكرهت إمارتي؟ فقال: لا، ولكني آليت أن لا أرتدي بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أحفظ القرآن، فعليه حبست نفسي (2).
على أن هناك وجهاً ثالثاً يذهب أصحابه إلى أن الإمام علي لم يبايع الصديق، إلا بعد موت سيدة نساء العالمين، فاطمة الزهراء (3)، روى البخاري في صحيحه بسنده عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة: أن فاطمة عليها السلام، بنت النبي صلى الله عليه وسلم، أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من
____________
(1) شرح نهج البلاغة 1 / 27 - 28.
(2) العقد الفريد 5 / 13 - 14.
(3) ابن الأثير: الكامل في التاريخ 2 / 325، 331، المسعودي: مروج الذهب 1 / 595، ابن عبد ربه: العقد الفريد 1 / 14، تاريخ الطبري 3 / 207 - 209.
وكان لعلي من الناس وجه حياة فاطمة، فلما توفيت استنكر علي وجوه الناس، فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته، ولم يكن يبايع تلك الأشهر، فأرسل إلى أبي بكر أن ائتنا، ولا يأتينا أحد معك، كراهية لمحضر عمر، فقال عمر: لا والله، لا تدخل عليهم وحدك، فقال أبو بكر: وما عساهم أن يفعلوا بي، والله لآتينهم، فدخل عليه أبو بكر، فتشهد علي، فقال: إنا قد عرفنا فضلك، وما أعطاك الله، ولم ننفس عليك خيراً ساقه الله إليك، ولكنك استبددت علينا بالأمر، وكنا نرى لقرابتنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم نصيباً، حتى فاضت عينا أبي بكر.
فلما تكلم أبو بكر قال: والذي نفسي بيده، لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أحب إلي أن أصل من قرابتي، وأما الذي شجر بيني وبينكم من هذه الأموال، فلم آل فيها عن الخير، ولم أترك أمراً رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه فيها إلا صنعته، فقال علي لأبي بكر: موعدك العشية للبيعة، فلما صلى أبو بكر الظهر رقى على المنبر فتشهد، وذكر شأن علي وتخلفه عن البيعة وعذره بالذي اعتذر إليه، ثم استغفر وتشهد علي، فعظم حق أبي بكر، وحدث أنه لم يحمله على الذي صنع نفاسة على أبي بكر، ولا إنكار للذي فضله الله به، ولكنه نرى لنا في هذا الأمر نصيباً، فاستبد علينا، فوجدنا في أنفسنا، فسر بذلك المسلمون وقالوا: أصبت،
ويناقش الدكتور طه حسين كل أوجه القضية فيقول: بقيت مسألتان خلط فيهما الرواة تخليطاً عظيماً، وليس بد من أن نتبين وجه الحق فيهما:
فأما الأولى: فبيعة علي لأبي بكر: فالرواة يختلفون فيها أشد الاختلاف، يقول قوم: إن علياً بايع أبا بكر، حين بايعه غيره من المسلمين، وهؤلاء يختلفون فيما بينهم، فيزعم بعضهم أن علياً كان جالساً في داره وعليه قميص - ليس عليه إزار، ولا رداء - فجاءه من أنبأه بأن أبا بكر قد جلس للبيعة، وأن الناس يبايعونه، فأسرع علي إلى المسجد، وأعجله السرع عن أن يتخذ إزاره ورداءه، ومضى حتى بايع أبا بكر، ثم جلس وأرسل من جاءه بثوبه فجلله - وواضح ما في هذا من السرف.
وآخرون يزعمون أن علياً أبطأ عن البيعة، وأبطأ معه الزبير بن العوام، فأرسل عمر من جاء بهما، ثم قال لهما: والله لتبايعا طائعين، أو لتبايعا كارهين - وواضح كذلك ما في هذا من الكذب.
فما كان أبو بكر ليخلي بين عمر، وبين العنف بعلي، إثر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزوجه فاطمة حية، وإنما هذا الخبر متكلف، أريد به إلى إظهار أن علياً لو ترك وشأنه ما بايع أبا بكر.
وكثير من الرواة يزعمون أن علياً لم يبايع أبا بكر إلا متأخراً، وأن بني هاشم صنعوا صنيعه، فامتنعوا على أبي بكر، وخالفوا جماعة المسلمين، وظلوا على هذا الخلاف ستة أشهر، حتى إذا توفيت فاطمة رحمها الله بايعوا.
وواضح في هذا من الكذب أيضاً، فما كان علي وبنو هاشم ليفارقوا جماعة المسلمين، وليتلبثوا حتى تموت فاطمة ثم يكون إقبالهم على البيعة، حين رأوا أن الناس قد انصرفوا عنهم، بعد موت فاطمة.
____________
(1) صحيح البخاري 5 / 177 - 178.
وكان علياً جفا أبا بكر لهجران فاطمة له، والحقيقة أن هذا شئ لا شأن له بالبيعة، وإنما بايع علي حين بايع الناس في غير إسراع ولا إكراه، رأى أن كلمة المهاجرين والأنصار قد اجتمعت على أبي بكر، فلم يخالف عما أجمع عليه المسلمون، ولو خالف علي - أو هم بالخلاف - لاستطاع أن يحاج أبا بكر بحجته على الأنصار في سقيفة بني ساعدة، فقد احتج أبو بكر على الأنصار بأن المهاجرين من قريش هم أولى الناس بالنبي صلى الله عليه وسلم، وبالأمر من بعده.
ومما لا شك فيه أن علياً كان أقرب إلى النبي من أبي بكر وعمر، فهو ابن عمه، وزوج ابنته، وأبو سبطيه، ولكن علياً لم يفعل، على ما زعم بعض الرواة، وما كان في حاجة إلى أن يفعل، فأبو بكر كان يعرف قرابته حق المعرفة، كما كان يعرفها غيره من المسلمين، وإنما نظر الناس إلى سن أبي بكر، وفضله وحسن مواساته للنبي صلى الله عليه وسلم، وللمسلمين، واختصاص النبي له بمصاحبته في هجرته، ثم أمره أن يصلي بالناس، حين ثقل عليه المرض، فكان الناس يقولون: اختاره رسول الله لديننا، فلم لا نختاره لأمر دنيانا.
والمهم أن أحداً لم يخالف على أبي بكر، لا من بني هاشم ولا من غيرهم، وكل ما يقال غير هذا إنما تكلفه المتكلفون بآخره، حين افترق الناس شيعاً وأحزاباً (1).
____________
(1) طه حسين: الشيخان ص 34 - 37 (القاهرة 1992).
وهكذا بدأت تظهر شيعة للإمام علي، قال أبان بن تغلب: قلت لجعفر بن محمد (الصادق) - جعلت فداك - هل كان أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنكر على أبي بكر فعله؟ قال: نعم، اثنا عشر رجلاً، من المهاجرين: خالد بن سعيد بن العاص وسلمان الفارسي وأبو ذر الغفاري والمقداد بن الأسود وعمار بن ياسر وبريدة الأسلمي، ومن الأنصار: أبو الهيثم بن التيهان وسهل وعثمان ابنا حنيف، وخزيمة بن ثابت وأبي بن كعب وأبو أيوب الأنصاري (1).
وفي كتاب العيون والمحاسن أن ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب الهاشمي قال - عندما بويع أبو بكر -:
وقال عبد الله بن أبي سفيان بن الحرث بن عبد المطلب الهاشمي:
____________
(1) عبد الحليم الجندي: الإمام جعفر الصادق ص 32 - 33 (القاهرة 1977).
وكل هذا إنما يدل على أن التشيع بدأ منذ أيام النبي صلى الله عليه وسلم، وظهر واضحاً يوم وفاته، وإن لم يستطع أن يقوم بدور في الأحداث التي جرت وقت ذاك، وعلى أية حال، فما أن بويع الصديق بالخلافة حتى شعر حزب الإمام علي بن لصرف الحق عن أهله.
غير أنهم سرعان ما بدأوا يوجهون الناس نحو الإمام علي، ويحدثونهم عن فضائله ومكانته عند الله ورسوله، ويؤكدون حقه في الخلافة، ويركزون دعايتهم هذه على كتاب الله وسنة نبيه، وهما أشد وسائل الدعاية تأثيراً في نفوس المسلمين، بل الدعاية، مهما يكن نوعها، لا تبلغ غايتها إلا عن طريق الدين، لأنه كان يومذاك أساس الحياة، بخاصة الحكم والسلطان.
هذا وقد انتشر الشيعة من الأصحاب في الأمصار على أيام الصدق والفاروق وذي النورين، وكثير منهم تولى الإمارة والمناصب في الحكومات في البلاد الإسلامية، وكانوا يحدثون الناس عن الإمام علي وفضائله، وعلى سبيل المثال: كان سلمان الفارسي - والي المدائن - يحدث الناس ويقول: بايعنا النبي صلى الله عليه وسلم، على النصح للمسلمين، والائتمام بعلي بن أبي طالب، والموالاة له وقال: إن عند علي علم المنايا والوصايا، وفصل الخطاب، وقد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت وصيي وخليفتي في أهلي، وأنت مني بمنزلة هارون من موسى، ثم يقول: أما والله لو وليتموها علياً لأكتم من فوقكم ومن تحت أرجلكم (2).
____________
(1) محمد جواد مغنية: الشيعة في الميزان ص 22 - 23 (ط دار التعارف - بيروت).
(2) الشيعة في الميزان ص 26.
وكان أبو ذر الغفاري ينادي - يوم بويع أبو بكر - يا معشر قريش، تركتم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ليرتد جماعة من العرب، ولتشكن في هذا الدين، ولو جعلتم الأمر في أهل بيت نبيكم ما اختلف عليكم سيفان، والله لقد صارت لمن غلب، ولتطمحن إليها عين من ليس من أهلها، وليسفكن في طلبها دماء كثيرة، إن علياً هو الصديق الأكبر. وهو الفاروق - بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم - يفرق بين الحق والباطل، وهو يعسوب الدين، والمال يعسوب الظلمة (2).
وقد وصف سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، الإمام علي بذلك، روى الحاكم في المستدرك بسنده عن عبد الله بن أسعد بن زرارة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوحي إلي في علي ثلاث: إنه سيد المسلمين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين (3).
وروى أبو نعيم في حليته بسنده عن الحارث بن حصيرة عن القاسم بن جندب عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أنس اسكب لي وضوءاً، ثم قام فصلى ركعتين، ثم قال: يا أنس أول من يدخل عليك من هذا الباب، أمير المؤمنين، وسيد المسلمين، وقائد الغر المحجلين، وخاتم الوصيين، قال أنس: قلت اللهم اجعله رجلاً من الأنصار وكتمته، إذ جاء علي فقال: من هذا يا أنس، فقلت: علي، فقام مستبشراً فاعتنقه، ثم جعل يمسح عرق علي
____________
(1) نفس المرجع السابق ص 99.
(2) نفس المرجع السابق ص 99.
(3) المستدرك للحاكم 3 / 137، وانظر: كنز العمال 6 / 157، مجمع الزوائد 9 / 121، حلية الأولياء 1 / 66.
وكان أبو ذر ينادي في الناس، ويقول: عليكم بكتاب الله، وعلي بن أبي طالب، وكان يدخل الكعبة، ويتعلق بحلقة بابها، ويقول: أنا جندب بن جنادة، لمن عرفني، وأنا أبو ذر لمن لم يعرفني، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنما مثل أهل بيتي في هذه الأمة مثل سفينة نوح في لجة البحر، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق، ألا هل بلغت؟
وكان أبو ذر يسمي علياً بأمير المؤمنين في عهود أبي بكر وعمر وعثمان، وكان يقف في موسم الحج ويقول: يا معشر الناس أنا صاحب رسول الله، وسمعته يقول في هذا المكان - وإلا صمت أذناي - علي بن أبي طالب، الصديق الأكبر، فيا أيتها الأمة المتحيرة بعد نبيها، لو قدمتم ما قدمه الله ورسوله، وأخرتم من أخره الله ورسوله، لما عال ولي الله ولا طاش سهم في سبيل الله، ولا اختلفت الأمة بعد نبيها (2).
وقال عمار بن ياسر - يوم بويع أبو بكر - يا معشر قريش، ويا معشر المسلمين، إن أهل بيت نبيكم أولى به - أي النبي - وأحق بأثره، وأقوم بأمور الدين، وأحفظ لملته، وأنصح لأمته، فردوا الحق إلى أهله، قبل أن يضطرب حبلكم، ويضعف أمركم، ويظهر شتاتكم، تعظم الفتنة بكم، ويطمع فيكم عدوكم، فقد علمتم أن بني هاشم أولى بهذا الأمر منكم، وعلي أقرب إلى نبيكم، وهو من بينكم وليكم بعهد الله ورسوله (3).
____________
(1) حلية الأولياء 1 / 63 - 64.
(2) الشيعة في الميزان ص 26.
(3) نفس المرجع السابق ص 100.
هذا ويذهب الشيخ أبو زهرة إلى أن نشأة الشيعة إنما كانت ابتداء في مصر، وكان ذلك على أيام عثمان، إذ وجد الدعاة فيها أرضاً خصبة، ثم عمت بعد ذلك أرض العراق (2).
وفي أعيان الشيعة: أن عثمان أرسل رجلاً يتحرون العمال، ومنهم عمار بن ياسر، الذي أرسله إلى مصر، فعاد هؤلاء الرجال يمتدحون الولاة، إلا عماراً، استبطأه الناس، حتى ظنوا أنه اغتيل، فلم يفاجئهم إلا كتاب من عبد الله بن أبي السرح (3) - والي مصر - يخبرهم أن عماراً قد استمال القوم
____________
(1) نفس المرجع السابق ص 28.
(2) محمد أبو زهرة: الإمام زيد ص 107.
(3) عبد الله بن سعد بن أبي سرح، من قريش الظواهر، وليس من قريش البطاح، أخو عثمان بن عفان من الرضاعة، أرضعته أم عثمان، أسلم قبل الفتح، وهاجر إلى المدينة، وكتب الوحي لرسول الله، ثم ارتد مشركاً، وعاد إلى مكة يحدث قريشاً الكذب على رسول الله، ويقول: كنت أصرف محمداً حيث أريد، كان يملي علي عزيز حكيم فأقول أو عليم حكيم، فيقول: نعم كل صواب، فافتتن وقال: ما يدري محمد ما يقول: إني لأكتب ما شئت، هذا الذي يوحي إلي، كما يوحي إلى محمد، ثم خرج هارباً إلى مكة مرتداً، وفيه نزلت آية الأنعام (93)، وفي فتح مكة أهدر النبي دمه فقال: من أخذ ابن أبي سرح فليضرب عنقه حيثما وجده، وإن كان متعلقاً بأستار الكعبة فاختبأ عند عثمان الذي جاء به وطلب من النبي مبايعته، كل ذلك يأبى، فبايعه بعد ثلاث، ثم قال لأصحابه: أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله، قالوا: ما ندري يا رسول الله ما في نفسك، ألا أومأت إلينا بعينك، قال: إنه لا ينبغي لنبي أن تكون خائنة الأعين وفي عهد عثمان عين والياً على مصر عام 25 هـ، بدلاً من
=>
وهكذا - كما يقول الأستاذ مغنية - كان الصفوة الخلص من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، أجهزة الدعاية للتشيع، يوجد حيثما يوجدون، وينبت حيث يحلون، وسلاحهم الوحيد كتاب الله وسنة نبيه، ابتدأ التشيع في مصر بسبب عمار، وفي الشام وتوابعها - كجبل عامل - بسبب أبي ذر، حيث نفاه عثمان إلى هناك، وفي المدائن بسبب سلمان الفارسي، وفي الحجاز بسبب هؤلاء أنفسهم، وآخرين مثل حذيفة بن اليمان (2) - صاحب رسول الله - وجابر بن عبد الله الأنصاري، وأبي بن كعب، ومن إليهم.
وقد أورد صاحب الكشكول فيما جرى على آل الرسول أسماء أكثر من مائة صحابي، كانوا يتشيعون للإمام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه، وكرم الله وجهه في الجنة - ويحفظون الأحاديث التي كانوا قد سمعوها من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الولاية، وينشرونها في الأمصار الإسلامية، الأمر الذي يشير بوضوح إلى عدم صحة دعوة من يرون أن سبب التشيع إنما هو الفرس وابن سبأ، وأن ذلك مجرد افتراء (3).
____________
<=
عمرو بن العاص الذي بدا يطعن في عثمان بسبب عزله، ومات عبد الله عام 36 هـأو 37، وقيل
بقي إلى أيام معاوية فمات عام 59 هـ، (أنظر: أسد الغابة 2 / 259 - 261، ابن كثير: السيرة
النبوية 3 / 565 - 566، سيرة ابن هشام 4 / 311 - 312، تفسير الطبري 11 / 533 - 535، تفسير
القرطبي ص 2475 - 2477، تفسير النسفي 2 / 23، تفسير الظلال 6 / 1149، الإصابة
2 / 316 - 318، الإستيعاب 2 / 375 - 378، مهران السيرة النبوية الشريفة 2 / 397 - 398،
السيرة الحلبية 3 / 36 - 37).
(1) أعيان الشيعة 42 / 213 (ط 1958).
(2) أنظر عن مصادر ترجمة حذيفة بن اليمان (الإصابة 1 / 317 - 318، الإستيعاب 1 / 277 - 278،
أسد الغابة 1 / 468 - 470، حلية الأولياء 1 / 270 - 283، البخاري 5 / 49، ابن حنبل: كتاب
الزهد ص 179 - 180، مروج الذهب للمسعودي 1 / 671).
(3) محمد جواد مغنية: الشيعة في الميزان ص 29.
ثالثاً: منذ قصة الشورى
روى الماوردي بسنده عن الزهري عن ابن عباس قال: وجدت عمر ذات يوم مكروباً، فقال: ما أدري ما أصنع في هذا الأمر؟ أقوم فيه وأقعد؟ فقلت:
هل لك في علي، فقال: إنه لها لأهل، ولكنه رجل فيه دعابة، وإني لأراه لو تولى أمركم لحملكم على طريقة من الحق تعرفونها، قال قلت: فأين أنت عن عثمان؟ فقال: لو فعلت لحمل ابن أبي معيط على رقاب الناس، ثم لم تلتفت إليه العرب حتى تضرب عنقه، والله لو فعلت لفعل، ولو فعل لفعلوا، قال:
فقلت فطلحة؟ قال: إنه لزهو، ما كان الله ليوليه أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم، مع ما يعلم من زهوه، قال فقلت فالزبير؟ قال: إنه لبطل، ولكنه يسأل عن الصاع والمد بالبقيع بالسوق، أفذاك يلي أمر المسلمين؟ قال فقلت سعد بن أبي وقاص؟
قال: ليس هناك، إنه لصاحب مقثب يقاتل عليه، فأما ولي أمر فلا، قال فقلت فعبد الرحمن بن عوف؟ قال: نعم الرجل ذكرت لكنه ضعيف، إنه والله لا يصلح لهذا الأمر يا ابن عباس، إلا القوي في غير عنف، اللين من غير ضعف، والممسك من غير بخل، والجواد في غير إسراف (1).
وروى اليعقوبي عن ابن عباس قال: طرقني عمر بن الخطاب بعد هدأة من الليل فقال: أخرج بنا نحرس نواحي المدينة، فخرج وعلى عنقه درته - حافياً، حتى أتى بقيع الغرقد، فاستلقى على ظهره، وجعل يضرب أخمص قدميه بيده، وتأوه صعداً فقلت له: يا أمير المؤمنين: ما أخرجك إلى هذا الأمر؟ قال:
أمر الله يا ابن عباس، قال: إن شئت أخبرك بما في نفسك، قال: غص غواص إن كنت لتقول فتحسن، قال: ذكرت هذا الأمر بعينه، وإلى من تصيره، قال:
____________
(1) أبو الحسن علي بن محمد الماوردي الأحكام السلطانية والولايات الدينية ص 11 - 12 (بيروت 1982).
قال فقلت: فالزبير بن العوام، فهو فارس الإسلام؟ قال: ذاك يوم إنسان ويوم شيطان، وعفة نفس، إن كان ليكادح على المكيلة من بكرة إلى الظهر، حتى تفوته الصلاة، قال فقلت: عثمان بن عفان؟ قال: إن ولي حمل ابن أبي معيط وبني أمية على رقاب الناس، وأعطاهم مال الله، ولئن ولي ليفعلن والله، ولئن فعل لتسيرن العرب إليه حتى تقتله في بيته، ثم سكت.
قال: فقال: امضها يا ابن عباس، أترى صاحبكم لها موضعاً؟ قال فقلت:
وأين يبتعد من ذلك، مع فضله وسابقته وقرابته وعلمه؟ قال: هو والله، كما ذكرت، ولو وليهم تحملهم على منهج الطريق فأخذ المحجة الواضحة، إلا أن فيه خصالاً: الدعابة في المجلس، واستبداد الرأي، والتبكيت للناس - مع حداثة السن - (يعني علي بن أبي طالب).
قال قلت: يا أمير المؤمنين، هلا استحدثتم سنه يوم الخندق، إذ خرج عمرو بن عبد ود، وقد كعم عنه الأبطال، وتأخرت عنه الأشياع، ويوم بدر، إذ كان يقط الأقران قطاً، ولا سبقتموه بالإسلام، إذ كان جعلته السعب وقريش يستوفيكم؟.
فقال: إليك عني يا ابن عباس، أتريد أن تفعل بي، كما فعل أبوك وعلي بأبي بكر، يوم دخلا عليه؟ قال: فكرهت أن أغضبه فسكت، فقال: والله يا ابن عباس، إن علياً ابن عمك لأحق الناس بها، ولكن قريشاً لا تحتمله، ولئن
وروى ابن سعد عن الواقدي عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس قال: قال عمر: لا أدري ما أصنع بأمة محمد صلى الله عليه وسلم؟ وذلك قبل أن يطعن، فقلت: ولم تهتم وأنت تجد من تستخلفه عليهم؟ قال: أصحابكم؟ يعني علياً، قلت: نعم، هو لها أهل، في قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصهره وسابقته وبلائه، قال: إن فيه بطالة وفكاهة، فقلت، أين أنت من طلحة، قال: فأين الزهو والنخوة، قلت: عبد الرحمن؟ قال: هو رجل صالح، على ضعف فيه، قلت: فسعد؟ قال: ذاك صاحب مقنب وقتال، لا يقوم بقربة لو حمل أمرها، قلت: فالزبير؟ قال: وعقة لقس، مؤمن الرضا، كافر الغضب، شحيح، وأن هذا الأمر لا يصلح، إلا لقوي في غير عنف، رفيق في غير ضعف، وجود في غير سرف، قلت: فأين أنت عن عثمان؟ قال: لو وليها لحمل بني أبي معيط على رقاب الناس، ولو فعلها لقتلوه.
وروى الطبري وابن الأثير: أن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال له من حوله (لما طعن) استخلف، قال: إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني، وإن أترك فقد ترك من هو خير مني، ولن يضيع الله دينه، فخرجوا ثم راحوا فقالوا: يا أمير المؤمنين لو عهدت عهداً، فقال: قد كنت قد أجمعت بعد مقالتي أن أنظر، فأولي رجلاً أمركم، هو أحراكم أن يحملكم على الحق، وأشار إلى علي، فرهقتني غشية، فرأيت رجلاً دخل جنة فجعل يقطف كل غضة ويانعة فيضمه إليه ويصيره تحته، فعلمت أن الله غالب على أمره، فما أردت أن أتحملها حياً وميتاً، عليكم هؤلاء الرهط الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
____________
(1) أحمد بن أبي يعقوب بن جعفر بن وهب بن واضح المعروف باليعقوبي تاريخ اليعقوبي 2 / 158 - 159 (بيروت 1980).
ويقول ابن شهاب الزهري في المغازي: يروى أن عمر بن الخطاب قال لأحد من الأنصار: من ترى الناس يقولون يكون الخليفة بعدي، قال: فعد رجلاً من المهاجرين، ولم يسم علياً، فقال عمر: فما لهم من أبي الحسن، فوالله إنه لأحراهم - إن كان عليهم - أن يقيمهم على طريقة من الحق.
ويروى عن عمرو بن ميمون الأزدي أنه قال: كنت عند عمر بن الخطاب، حين ولى الستة، فلما جاوزوا أتبعهم ببصره، ثم فال: لئن ولوها الأجيلح (الأجيلح: من انحسر شعره من جانبي رأسه) ليركبن بهم الطريق، يعني علياً (2).
وقال الماوردي: حكى ابن إسحاق أن عمر، رضي الله عنه، لما دخل منزله مجروحاً، سمع هدة فقال: ما شأن الناس؟ قالوا: يريدون الدخول عليك، فأذن لهم، فقالوا: إعهد يا أمير المؤمنين، استخلف علينا عثمان، فقال: كيف يحب المال والجنة، فخرجوا من عنده، ثم سمع لهم هدة، فقال: ما شأن الناس؟ قالوا: يريدون الدخول عليك، فأذن لهم، فقالوا: استخلف علينا علي بن أبي طالب، قال: إذن يحملكم على طريقة هي الحق، قال عبد الله بن عمر: فاتكأت عليه عند ذلك، وقلت: يا أمير المؤمنين، وما يمنعك منه؟ فقال:
يا بني أتحملها حياً ميتاً.
وفي شرح نهج البلاغة: وأما أنت يا علي: فوالله لو وزن إيمانك بإيمان أهل الأرض لرجحهم، فقام علي مولياً يخرج، فقال عمر: والله إني لأعلم مكان
____________
(1) ابن الأثير: الكامل في التاريخ 3 / 65 - 66، وانظر: تاريخ الطبري 4 / 228.
(2) محمد بيومي مهران: الإمام علي بن أبي طالب 1 / 166 (بيروت 1990).
هذا المولي من بينكم، قالوا: فما يمنعك من ذلك؟ قال: ليس إلى ذلك سبيل.
وفي خبر آخر، رواه البلاذري في تاريخه: أن عمر لما خرج أهل الشورى من عنده، قال: إن ولوها الأجلح، سلك بهم الطريق، فقال عبد الله بن عمر:
فما يمنعك منه يا أمير المؤمنين، قال: أكره أن أتحملها حياً وميتاً (1).
وعلى أية حال، فإن رأي عمر في الإمام علي، إنما سبقه إليه سيد الأولين والآخرين، سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال: إن تؤمروا علياً - ولا أراكم فاعلين - تجدوه هادياً مهدياً، يأخذ بكم الصراط المستقيم (2).
هذا وقد روى الطبري وابن الأثير (3) وغيرهما: أن العباس - شيخ بني هاشم - قال لعلي، عندما خرجوا من عند عمر أول مرة، لا تدخل معهم، قال علي: إني أكره الخلاف، قال العباس: إذن ترى ما تكره.
فلما كانت المقابلة الأخيرة، قال الإمام علي - لقوم كانوا معه من بني هاشم - إن أطيع فيكم قومكم لم تؤمروا أبداً، وتلقاه العباس، فقال علي:
عدلت عنا، قال العباس: وما علمك، قال علي: قرن بي عثمان، وقال (أي عمر) كونوا مع الأكثر، فإن رضي رجلان رجلاً، ورجلان رجلاً، فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، فسعد لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن، وعبد الرحمن صهر عثمان (فهو زوج أخته أم كلثوم بنت عقبة، أخت الوليد بن عقبة وعثمان لأمه) لا يختلفون، فيوليها عبد الرحمن عثمان، أو يوليها عثمان عبد الرحمان، فلو كان الآخران معي لم ينفعاني، بله إني لا أرجو إلا أحدهما (لعله يعني الزبير، فقد كان حتى الآن مع بني هاشم أخواله، لم يغيره ولده عبد الله).
____________
(1) الماوردي: المرجع السابق ص 13، شرح نهج البلاغة 12 / 259 - 260 (بيروت 1979).
(2) أسد الغابة 4 / 112، مسند الإمام أحمد 1 / 108 - 109، حلية الأولياء 1 / 64.
(3) تاريخ الطبري 4 / 228، ابن الأثير: الكامل في التاريخ 3 / 63.