الصفحة 393
مصر، ثم شهد صفين مع معاوية: وكانت معه الراية، فلما قتل عمار تحول إلى عسكر الإمام علي (1)، وفي أسد الغابة قال: روى عمارة بن خزيمة بن ثابت قال: شهد خزيمة بن ثابت الجمل، وهو لا يسل سيفاً، وشهد صفين ولم يقاتل، وقال: لا أقاتل حتى يقتل عمار، فانظر من يقتله، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: تقتله الفئة الباغية، فلما قتل عمار قال خزيمة: ظهرت لي الضلالة، ثم تقدم فقاتل حتى قتل (2)، وفي الإصابة عن محمد بن عمارة بن خزيمة بن ثابت قال: ما زال جدي كافاً سلاحه حتى قتل عمار بصفين، فسل سيفه وقاتل حتى قتل (3).

وروى الحاكم في المستدرك بسنده عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال:

لما كان يوم صفين نادى مناد من أصحاب معاوية أصحاب علي: أفيكم أويس القرني؟ قالوا: نعم، فضرب دابته حتى دخل معهم، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: خير التابعين أويس القرني (4).

وعلى أية حال، فإن النصر كاد أن يتم لمعسكر الإمام علي، لولا خدعة التحكيم المشهورة (5)، وقد أصبحت لفظة شيعة علي، مقابلة هنا للفظة شيعة معاوية - كما جاء في وثيقة التحكيم.

هذا ويذهب البعض إلى أن التشيع إنما بدا بعد التحكيم، يرىً فان فلوتنً أن الشيعة تفرعت من ذلك الحزب السياسي الذي قضى عليه الأمويون بحروراء، ثم انتشرت وقامت بحركة دينية واسعة النطاق ضمت إليها جميع

____________

(1) الإصابة في تمييز الصحابة 1 / 576.

(2) أسد الغابة 4 / 135.

(3) الإصابة 1 / 426.

(4) المستدرك للحاكم 3 / 402، وانظر: حلية الأولياء 2 / 76، طبقات ابن سعد 6 / 112.

(5) أنظر عن خدعة التحكيم (محمد بيومي مهران: الإمام علي بن أبي طالب 2 / 97 - 124 - بيروت 1990).

الصفحة 394
العناصر الإسلامية المعادية للأمويين وللعرب جميعاً (1).

وقد أخطأ فان فلوتن في هذا، فالخوارج لم يكونوا أبداً شيعة، بل هم أعداء الإمام علي، الذين خرجوا عليه بعد رجوعه من صفين إلى الكوفة، وانحازوا إلى حروراء، وهم يومئذ اثنا عشر ألفاً أو ثمانية آلاف، ولذا سميت الخوارج حرورية (2)، وكانوا يقولون لا حكم إلا لله فلما بلغ الإمام علي ذلك قال: كلمة حق أريد بها باطل، ولما فشلت المفاوضات معهم، اضطر الإمام إلى قتالهم في وقعة النهروان سنة 39 هـ‍(3).

ثم إن ظهور الشيعة إنما كان سابقاً لهذه الفترة - كما رأينا من قبل - الأمر الذي يدل على أن فان فلوتن إنما يخلط بين الشيعة والخوارج، فضلاً عن الخلط بين الشيعة العلوية وبين من استظل برايتهم من الغلاة (4).

وعلى أية حال، فإن هناك من يرد نشأة التشيع إلى أول خلاف حول المبادئ الإسلامية، عندما نادى الخوارج لا حكم إلا لله (5)، فكان الخوارج أول طائفة في الإسلام تثير مشكلة الإمامة على نحو لم يسبق له، حين تراها عامة بالاختيار، لا فضل فيها لعربي على عجمي، ولا لقرشي على حبشي، وكان لا بد أن تظهر مبادئ أخرى معارضة تدعم حق الإمام علي في الإمامة، ولا شك أن الانشقاق السياسي بين شيعة الإمام علي بعد موقعة صفين، وقيامه على أساس فكري، وهو نحو يختلف تماماً عن خروج طلحة أو الزبير على الإمام علي، ونكثهما بيعته، أو بمخالفة معاوية بن أبي سفيان وطلبه بدم

____________

(1) فان فلوتن: السيادة العربية والشيعة والإسرائيليات - ترجمة حسن إبراهيم حسن ومحمد زكي إبراهيم - القاهرة 1934 ص 74.

(2) أنظر عن الخوارج (البغدادي: الفرق بين الفرق ص 72 - 113) (دار المعرفة - بيروت).

(3) أنظر (محمد بيومي مهران: الإمام علي بن أبي طالب 2 / 124 - 131).

(4) نبيلة عبد المنعم داود: المرجع السابق ص 63 - 64.

(5) أنظر عن الخلاف حول التحكيم (نصر بن مزاحم المنقري: وقعة صفين - تحقيق عبد السلام محمد هارون ص 512 - 527 (ط ثالثة - القاهرة 1981).

الصفحة 395
عثمان، إنه نهج فكري أيديولوجي يزعزع الأسس التي اجتمع عليها أنصار الإمام علي حوله، فكان لا بد من مواجهة الخوارج - لا كقوة سياسية - وإنما كعقيدة سياسية، تسعى إلى ضياع حق الإمام علي.

وفي الواقع أن التشيع - كرد فعل للخوارج - يتضح فيه مدى المقابلة بين العقيدتين، فبينما جعل الخوارج الإمامة عامة، هي عند الشيعة في بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وفي ذرية الإمام علي، وبنص من النبي على ذلك، فهي إذن من صميم الدين، وبينما طائفة من الخوارج ترى الإمامة غير واجبة، ولا يلزم نصب الإمام، هي عند الشيعة واجبة، وعلى الله تعالى.

وهكذا - فيما يقول الدكتور صبحي - يظهر رد فعل التشيع كعقيدة لآراء الخوارج في الإمامة، ويجب الاعتراف بأن الخوارج كمذهب عقائدي له نظرياته في الإمامة، سابق في وجوده على التشيع كعقيدة، ولا يستبعد أن يكون كثير من عقائد الشيعة قد صيغت متأثرة في ذلك بنظرية الخوارج في الإمام علي نحو عكسي، ولا سيما أن كارثة انشقاق الخوارج هي أكبر ما حل بأنصار الإمام من كوارث، ثم تبعها مصرع الإمام نفسه، على يد واحد منهم، ثم جرأتهم على الحق حتى ذهبوا إلى تكفير الإمام - وهو ما لم يذهب إليه ألد أعدائه كمعاوية - فكان لا بد أن يقابل ذلك تقديس للإمام علي، ورفع مقامه إلى مرتبة وصي النبي صلى الله عليه وسلم، وخليفته بالنص الإلهي (1).

ثم يقول: هذا وقد نقل الخوارج الاختلاف من مجرد خلاف بين الأشخاص - كما هو الحال بين الإمام علي ومعاوية - إلى خلاف حول المبادئ، ومن ثم فقد أعلنوا لا حكم إلا لله، وقد وصف الإمام علي ذلك بأن القوم طلبوا الحق فأخطأوه، وقال - كرم الله وجهه في الجنة - رداً على ذلك كلمة حق يراد بها باطل، نعم إنه لا حكم إلا الله، ولكن هؤلاء يقولون: لا

____________

(1) أحمد صبحي: المرجع السابق ص 40 - 41.

الصفحة 396
إمرة، وإنه لا بد للناس من أمير - بر أو فاجر - يعمل في إمرته المؤمن، ويستمتع فيها الكافر، ويبلغ الله فيها الأجل، ويجمع به الفئ، ويقاتل به العدو، وتؤمن به السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوي، حتى يستريح بر، أو يستراح من فاجر (1).

وهكذا أثبت الإمام علي - رضي الله عنه، وكرم الله وجهه في الجنة - وجوب الإمامة، تلك القضية التي تشغل أول الأبحاث في النظريات السياسية في الفكر الإسلامي، ولقد سبق أن اختلف المسلمون يوم السقيفة حول شخص من يخلف الرسول صلى الله صلى الله عليه وسلم فبحثوا في الإمامة، وجعلوها محور تفكيرهم السياسي، ثم أثار الخوارج التشكيك في ضرورة وجود الإمام، فالتفت معظم فرق المسلمين عند القول بوجوب وجود الإمام في بداية أبحاثهم السياسية (2).

علي أن الخوارج إنما يمثلون - من ناحية أخرى - جموح الهوى، وغلو الاجتهاد في الرأي، ثم سرعان ما تنعزل هذه الفرقة عن الناس، وتتخذ لها جبهة خاصة بها، فتنحرف عما عليه جماعة المسلمين، وحتى يحملها العناد والشقاق، على أن تشتط، وتمعن في الشطط، وإذا هي خارج دائرة الإسلام، تستحل دماء المسلمين، وتستبيح أموالهم وأعراضهم، دونما تقية أو حرج، وكانوا يلقون الواحد من المسلمين فيسألونه: ألم يكن قبول التحكيم كفراً؟ ألم يأثم علي بقبول التحكيم؟ ألسنا في حل من طاعته وبيعته حتى يقر بإثمه ويتوب؟ فإن أجاب المسؤول بنعم، تركوه ينجوه، وإن أجاب بلا، سفكوا دمه، وأزهقوا روحه.

وروى البخاري في صحيحه (3) (كتاب بدء الخلق - باب علامات النبوة في الإسلام) بسنده عن أبي سعيد الخدري قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقسم قسماً، أتاه ذي الخويصرة، وهو رجل من بني تميم، فقال: يا

____________

(1) شرح نهج البلاغة 2 / 307 (بيروت 1979).

(2) أحمد صبحي: المرجع السابق ص 42.

(3) صحيح البخاري 4 / 343 - 224.

الصفحة 397
رسول الله إعدل، فقال: ومن يعدل إذا لم أعدل؟ قد خبت وخسرت، إن لم أكن أعدل، فقال عمر: يا رسول الله إئذن لي فيه فأضرب عنقه، قال: دعه فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين، كما يمرق السهم من الرمية، ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شئ، ثم ينظر إلى رصافه، فما يوجد فيه شئ، ثم ينظر إلى نضيه، وهو قدحه، فلا يوجد فيه شئ، ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شئ، قد سبق الفرث والدم، آيتهم رجل أسود، إحدى عضديه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة تدردر، ويخرجون على خير فرقة من الناس.

قال أبو سعيد: فأشهد أني سمعت هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشهد أن علي بن أبي طالب قاتلهم، وأنا معه، فأمر بذلك الرجل، فالتمس فأتي به، حتى نظرت إليه على نعت النبي صلى الله عليه وسلم، الذي نعته.

وروى الإمام مسلم في صحيحه بسنده عن ابن الزبير عن جابر بن عبد الله قال: أتى رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجعرانة، منصرف من حنين، وفي ثوب بلال فضة، رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقبض منها يعطي الناس، فقال: يا محمد أعدل، قال:

ويلك ومن يعدل إذا لم أكن أعدل، لقد خبت وخسرت، إن لم أكن أعدل، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق، فقال:

معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي: إن هذا وأصحابه يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية (1).

وفي رواية لمسلم أيضاً عن ابن شهاب قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن والضحاك الهمداني أن أبا سعيد الخدري قال: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقسم قسماً، أتاه ذو الخويصرة، وهو رجل من بني تميم، فقال: يا رسول الله أعدل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويلك ومن يعدل، إن لم أعدل،

____________

(1) صحيح مسلم 7 / 159، وانظر روايات أخرى 7 / 159 - 165.

الصفحة 398
قد خبت وخسرت، إن لم أعدل، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله، إئذن لي فيه أن أضرب عنقه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعه، فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام، كما يمرق السهم من الرمية، ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شئ، ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شئ، ثم ينظر إلى نضيه فلا يوجد فيه شئ - وهو القدح - ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شئ، سبق الفرث والدم، آيتهم رجل أسود، إحدى عضديه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة تدردر يخرجون على خير فرقة من الناس، قال أبو سعيد: فأشهد أني سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشهد أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قاتلهم وأنا مع، فأبر بذلك الرجل فالتمس فوجد، فأتي به حتى نظرت إليه على نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي نعت (1).

وفي رواية لمسلم أيضاً بسنده عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تكون في أمتي فرقتان فتخرج من بينها مارقة، يلي قتلهم أولاهم بالحق (2).

وفي رواية لمسلم أيضاً بسنده عن بسر بن سعيد عن عبد الله بن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن الحرورية لما خرجت - وهو مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه - قالوا: لا حكم إلا لله، قال علي: كلمة حق أريد بها باطل، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصف ناساً إني لأعرف صفتهم من هؤلاء، يقولون الحق بألسنتهم، لا يجوز هذا منهم - وأشار إلى حلقه - من أبغض خلق الله إليه، منهم أسود، إحدى يديه طي شاة، أو حلمة ثدي، فلما قتلهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: أنظروا فنظروا فلم يجدوا شيئاً، فقال: ارجعوا فوالله ما كذبت ولا كذبت - مرتين أو ثلاثاً - ثم وجدوه في خربة حتى وضعوه بين يديه، قال عبيد الله، وأنا حاضر ذلك من أمرهم، وقول علي فيهم، زاد يونس في

____________

(1) صحيح مسلم 7 / 165 - 167، وانظر روايات أخرى في 7 / 167 - 168.

(2) صحيح مسلم 7 / 168، وانظر روايات أخرى في 7 / 168 - 173.

الصفحة 399
روايته، قال بكير: وحدثني رجل عن أبي حنين أنه قال: رأيت ذلك الأسود (1).

هذا وقد روى الحديث الشريف النسائي في الخصائص (2)، وابن الأثير في أسد الغابة (3)، والطبري في تفسيره (4) والإمام أحمد في المسند (5)، والهيثمي في مجمعه (6)، والذهبي في ميزان الاعتدال (7)، والحاكم في المستدرك (8)، وابن سعد في طبقاته (9)، وأبو نعيم في الحلية (10)، والخطيب البغدادي في تاريخه (11)، والمتقي الهندي في كنز العمال (12)، والشوكاني في نيل الأوطار (13).

ويذهب الدكتور أحمد صبحي إلى أن الخوارج لم يفسدوا على الإمام علي أمره في مجال السياسة والحرب فحسب، بل وفي مجال المبادئ والعقائد التي استنفر أصحابه ليحاربوا من أجلها، ولم يكن جدال الإمام معهم بكاف لإقناعهم، بل لا بد من الانقياد للإمام لكبت الأهواء الجامحة، فالفوضى المطلقة الناجمة عن الغلو في الاجتهاد، وتحكيم الرأي، لا بد وأن تقابلها سلطة مطلقة لحاكم في مجتمع في مجتمع يدين بالثيوقراطية، أو بالسياسة المستندة إلى الدين،

____________

(1) صحيح مسلم 7 / 173 - 175.

(2) النسائي: تهذيب خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ص 92 - 108.

(3) أسد الغابة 2 / 172.

(4) تفسير الطبري 10 / 109.

(5) مسند الإمام أحمد 1 / 88، 91، 3 / 26، 32، 45، 48، 56، 70، 82، 95.

(6) مجمع الزوائد 5 / 239، 6 / 341.

(7) ميزان الاعتدال 2 / 263.

(8) المستدرك للحاكم 2 / 145، 147، 148، 154.

(9) طبقات ابن سعد 4 / 36.

(10) حلية الأولياء 4 / 186، 6 / 21، 7 / 31.

(11) تاريخ بغداد 1 / 159، 7 / 237.

(12) كنز العمال 1 / 92.

(13) الشوكاني: نيل الأوطار، شرح منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخبار 8 / 287 - 288 (دار الكتب العملية - بيروت).

الصفحة 400
إلا إذا كانت مؤيدة من الله تعالى، فظهر لدى الشيعة مبدأ وجوب الإمامة، وهكذا أنكر الخوارج الإمامة، فأوجبها الشيعة، واستبعد الخوارج تحكيم الرجال، فأقر الشيعة ولاية الإمام، وكفر الخوارج الإمام (والعياذ بالله) فقدسه الشيعة.

وعلى أية حال، فإذا كانت حركة الخوارج لها أهميتها في صياغة العقيدة الشيعية، فإن ردوا بداية التشيع إلى هذا الزمن، أو إلى زمن خلافة الإمام علي، إنما قصدوا الحكم على أنصار الإمام في حرب الجمل، ثم في صفين، فالذين يرجعون الحركة الشيعية إلى وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، إنما يقصدون عماراً وسلمان وأبا ذر وغيرهم، والذين يرجعونها إلى زمن خلافة الإمام علي إنما يعتبرون المسلمين قد تفرقوا شيعاً، ولم يجمعوا على خلافة الإمام علي، فكان شيعة الإمام علي هم أنصاره ومؤيدوه في حرب الجمل ثم صفين (1).

ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن كلمة الوصي إنما تتردد أيضاً في معركة صفين - كما ترددت في معركة الجمل - يقول النضر بن عجلان الأنصاري:

كيف التفرق والوصي إمامنا * لا كيف إلا حيرة وتخاذلا
لا تعتبن عقولكم لا خير في * من لم يكن عنده البلابل عاقلا
وذروا معاوية الغوي وتابعوا * دين الوصي تصادفوه عاجلا

ويقول عبد الرحمن بن ذؤيب الأسلمي:

ألا أبلغ معاوية بن حرب * أما لك لا تنيب إلى الصواب
يقودهم الوصي إليك حتى * يردك عن عوائك وارتياب

ويقول المغيرة بن الحارث بن عبد المطلب:

____________

(1) أحمد صبحي: المرجع السابق ص 42 - 43.

الصفحة 401

فيكم وصي رسول الله قائدكم * وأهله وكتاب الله قد نشرا

ويقول الفضل بن عباس بن عبد المطلب:

وصي رسول الله من دون أهله * وفارسه إن قيل هل من منازل

ويقول المنذر بن أبي خميصة الوادعي - فارس همدان -:

ليس منا من لم يكن لك في الله * يا ذا الولا والوصية

وقال جرير بن عبد الله:

وصي رسول الله من دون أهله * وفارسه الأولى به يضرب المثل (1)

بل إن ابن عباس - رضي الله عنهما - إنما يصف الإمام علي - رضي الله عنه، وكرم الله وجهه في الجنة - بأنه حب النبي ونفسه، وذلك في رده على عمرو بن العاص، حين فخر بخديعته لأبي موسى الأشعري في قصة خديعة التحكيم المشهورة - يقول ابن عباس (2):

وتزعم أن الأمر منك خديعة * إليه وكل القول في شأنكم فضلا
فأنتم ورب البيت قد صار دينكم * خلافاً لدين المصطفى الطيب العدلا
أعاديتم حب النبي ونفسه * فما لكم من سابقات ولا فضلا (3)

وعلى أية حال، فهناك ما يثبت أن الشيعة كانت معروفة على أيام خلافة

____________

(1) المنقري: وقعة صفين ص 49، 365، 382، 385، 416، 436.

(2) نفس المرجع السابق ص 550.

(3) كان الإمام علي أحب الرجال إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم (أنظر: المستدرك للحاكم 3 / 130 - 131، 155، 154، 157، خصائص النسائي ص 29، الإستيعاب لابن عبد البر 2 / 751، كنز العمال 6 / 84، 400، صحيح الترمذي 2 / 299، 319، ذخائر العقبى ص 35، مسند الإمام أحمد 4 / 257، مجمع الزوائد 9 / 126، أسد الغابة 4 / 30، 5 / 547، حلية الأولياء 6 / 339) وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعتبر الإمام علي كنفسه (أنظر المستدرك للحاكم 3 / 122).

الصفحة 402
علي، روى ابن الأثير بسنده عن سويد بن غفلة قال: مررت بقوم من الشيعة يشتمون أبا بكر وعمر، وينتقصونهما، فأتيت علي بن أبي طالب، فقلت: يا أمير المؤمنين، إني مررت بقوم من الشيعة يشتمون أبا بكر وعمر وينتقصونهما، ولولا أنهم يعلمون أنك تضمر لهما على ذلك لما اجترؤوا عليه، فقال علي:

معاذ الله أن أضمر لهما إلا على الجميل، ألا لعنة الله على من يضمر لهما إلا الحسن (1).

سابعاً: في أعقاب مأساة كربلاء:

لا ريب في أن استشهاد مولانا الإمام الحسين وآل بيته الطاهرين المطهرين في كربلاء (في العاشر من المحرم عام 61 هـ‍= العاشر من أكتوبر عام 680 م) إنما هو يوم من أخطر الأيام في تاريخ البشرية جمعاء - وليس في تاريخ العرب والإسلام فحسب - ففي هذا اليوم الكئيب كانت مذبحة كربلاء التي لم ير المسلمون لها مثيلاً - بل لم ير لها تاريخ البشرية كله مثيلاً - فما حدثنا التاريخ أبداً، أن أمة من الأمم آمنت بنبيها وأحبته، وعملت بكتاب الله وسنة نبيها، كما عمل المسلمون على أيام الراشدين، ثم شاءت إرادة الله أن تجعل منهم - بفضل الله وببركة نبيه - سادة العالم المعروف وقت ذاك، ذلك العالم الذي لم يكن - قبل الإسلام - يعترف بوجودهم، أو يقيم لهم وزناً إلا يكونوا خدماً له، وحرساً على قومهم، حتى كان العربي يقتل أخاه العربي، ابتغاء مرضاة الفرس أو الروم، حين اتخذ الفرس قبائل من العرب - عرفوا باللخميين أو المناذرة - واتخذ الروم قبائل من بني غسان، أعواناً لكل منهم ضد الآخرين (2).

ومع ذلك، ففي هذا اليوم المنكود، قام جيش اللئام - على أيام يزيد بن معاوية بن أبي سفيان - بمذبحة مروعة، قتل فيها سيدنا الإمام الحسين، وقتل

____________

(1) أسد الغابة 4 / 164، وانظر 4 / 166 - 167.

(2) أنظر عن المناذرة والغساسنة (محمد بيومي مهران: تاريخ العرب القديم - ط ثامنة - الإسكندرية 1990 ص 561 - 625).

الصفحة 403
معظم الهاشميين، ثم فعل اللئام - بأجسادهم الطاهرة، من قطع للرؤوس، ووطء للأجساد الطاهرة بسنابك الخيل - ما يخجل الشيطان من اقترافه، إن كان الشيطان يخجل، وقد بكى المسلمون جميعاً، حتى أعداء بيت النبي صلى الله عليه وسلم - مولانا الإمام الحسين، وما زالوا يبكونه حتى يوم الناس هذا.

ومن البديهي أن خطيئة كبرى - كمجزرة كربلاء - لن تذهب بغير جريرة، وأن تكون لها من النتائج الخطيرة - القريبة منها والبعيدة - حتى دخل في روع بعض المؤرخين، نتيجة لإصابة الحركة في نتائجها الواسعة، أنها من تدبير الإمام الحسين عليه السلام، وأنه توخاه منذ اللحظة الأولى، وعلم موعد النصر فيه، فلم يخامره شك في مقتله ذلك العام، ولا في عاقبة هذه الفعلة التي ستحيق، لا محالة، بقاتليه بعد أعوام.

وقد قال ماريين الألماني في كتابه السياسية: إن حركة الحسين في خروجه على يزيد إنما كانت عزمة قلب كبير، عز عليه الإذعان، وعز عليه النصر العاجل، فخرج بأهله وذويه، الخروج الذي يبلغ به النصر الآجل بعد موته، ويحيي به قضية مخذولة، ليس لها بغير ذلك حياة.

وفي الواقع، إن لم يكن رأي الكاتب حقاً كله - كما يقول الأستاذ العقاد - فبعضه على الأقل حق لا شك فيه، ويصدق ذلك على حركة الإمام الحسين، بعد أن حيل بينه وبين الذهاب لوجهه الذي يرتضيه، فآثر الموت كيفما كان، ولم يجهل ما يحيق ببني أمية من جراء قتله، فهو بالغ منهم بانتصارهم عليه، ما لم يكن ليبلغه بالنجاة من كربلاء (1).

____________

(1) أنظر عن مذبحة كربلاء (تاريخ الطبري 5 / 347 - 470، ابن الأثير: الكامل في التاريخ 4 / 46 - 94، تاريخ ابن خلدون 3 / 47 - 53، ابن كثير: البداية والنهاية 8 / 162 - 230، المسعودي:

مروج الذهب 2 / 49 - 59، ابن عبد ربه: العقد الفريد 5 / 125 - 136، ابن دقماق: المرجع السابق ص 59 - 60، الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني 1 / 332 - 335، ابن عبد البر: الإستيعاب في معرفة الأصحاب 1 / 378 - 384، محمد بيومي مهران: الإمام الحسين بن علي ص 73 - 131 (بيروت 1990)، تاريخ اليعقوبي 2 / 243 - 250.

الصفحة 404
هذا ولم تنقض سنتان على مذبحة كربلاء، حتى كانت المدينة المنورة - أي في أخريات عام 63 هـ‍(682 م) - في ثورة حنق جارف، يقتل السدود، ويخترق الحدود، لأن اللئام من بني أمية حملوا إليها خبر مقتل الإمام الحسين، محمل التشهير والشماتة، وضحك واليهم عمرو بن سعيد، حين سمع أصوات البكاء والصراخ من بيوت آل النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت بنت عقيل بن أبي طالب، تخرج في نسائها، حاسرة وتنشد:

ماذا تقولون إن قال النبي لكم * ماذا فعلتم وأنتم آخر الأمم
بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي * منهم أسارى ومنهم درجوا بدم
ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم * أن تخلفوني بسوء في ذوي رحم

فكان الأمويون يجيبون بمثل تلك الشماتة، ويقولون ناعية كناعية عثمان، وبدهي أنه لا موضع للشماتة بالإمام الحسين، ذلك لأنه إنما قد أصيب - وكذا أخوه الإمام الحسن - وهما يذودان عنه ويجتهدان في سقيه، وسقي آل بيته، ولكنها شماتة هوجاء، لا تعقل ما تصنع ولا ما تقول، وكان أبوهما الإمام علي أمرهما أن اذهبا بسيفيكما حتى تقوما على باب عثمان، ولا تدعا أحد يصل إليه، وحين قتل الخليفة المظلوم، ثار عليهما، ولطم الحسن، وضرب الحسين، بينما كان هذا الوالي السفيه حيث يعلم الله (1).

وسرعان ما حدثت وقعة الحرة في يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة ثلاث وستين (28 سبتمبر 682 م) فقتل فيها خلق كثير، واستبيحت مدينة الرسول ثلاثة أيام، وأوقع مسلم بن عقبة المري وجيشه من جنود الشام - والمكون من عشرة آلاف فارس، وقيل اثنا عشر ألفاً، أو خمسة عشر ألف

____________

(1) تاريخ الطبري 5 / 466 - 467، ابن الأثير: الكامل في التاريخ 4 / 88 - 89، ابن كثير: البداية والنهاية 8 / 214.

الصفحة 405
رجل - كثيراً من المفاسد العظيمة في المدينة النبوية، ما لا يحد ولا يوصف، حتى ذهبت بعض المصادر إلى أن عدد القتلى بلغ ألفاً وسبعمائة من بقايا المهاجرين والأنصار وخيار التابعين، وقتل من أخلاط الناس عشرة آلاف، سوى النساء والصبيان، وقتل من حملة القرآن سبعمائة، ومن قريش 97 قتلوا ظلماً في الحرب صبراً، وافتضت ألف عذراء، روى المدائني بسنده عن أبي قرة قال هشام بن حسان: ولدت بعد الحرة ألف عذراء من غير زواج، وروى المدائني أيضاً بسنده عن أم الهيثم ابنة يزيد قالت: رأيت امرأة من قريش تطوف فعرض لها أسود فعانقته فقبلته، فقلت: يا أمة الله أتفعلين هذا بهذا الأسود، فقالت:

هو ابني، وقع علي أبوه يوم الحرة.

ويقول ابن حزم: وجالت الخيل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالت وراثت بين القبر والمنبر (الروضة الشريفة) أدام الله تشريفها، وأكره الناس على البيعة على أنهم عبيد ليزيد، إن شاء أعتق (1).

وسرعان ما ينتقل موكب الشر إلى البلد الحرام - إلى مكة المكرمة - فيحاصرها، ويضرب الكعبة المشرفة بالمنجنيق حتى يحرقها، وكان سعيد بن المسيب يسمي سني يزيد بالشؤم، في السنة الأولى قتل الحسين بن علي، وأهل بيت رسول الله، والثانية استبيح حرم رسول الله، وانتهكت حرمة المدينة، والثالثة سفكت الدماء في حرم الله، وحرقت الكعبة (2).

____________

(1) أنظر عن وقعة الحرة (تاريخ اليعقوبي 2 / 250 - 251، ابن دقماق: المرجع السابق ص 60، ابن عبد ربه: العقد الفريد 5 / 136 - 139، ابن الأثير: الكامل في التاريخ 4 / 111 - 121، تاريخ الطبري 5 / 482 - 495، ابن كثير: البداية والنهاية 8 / 235 - 243، المسعودي: مروج الذهب 2 / 63 - 65، محمد بيومي مهران: الإمام الحسين بن علي ص 183 - 189.

(2) أنظر عن شرب الكعبة بالمنجنيق أيام الأمويين (ابن فهد الهاشمي: غاية المرام بأخبار سلطنة البلد الحرام 1 / 141 - 144، 182 - 188، الفاسي: العقد الثمين 5 / 45 - 59، 143 - 144، ابن الأثير: الكامل في التاريخ 4 / 123 - 124، الأزرقي: أخبار مكة 1 / 196 - 221، النجم عمر بن فهد: إتحاف الورى بأخبار أم القرى 1 / 58 - 77، 88 - 99، 103 - 104، تاريخ

=>


الصفحة 406
ولعل كل هذه المآسي هي التي دفعت بالبعض إلى القول إلى أنه من بين الأحداث التي رأى الباحثون أنها بداية التشيع إنما هو فاجعة كربلاء، ذلك أن السيف اللئيم الذي جز رأس مولانا الإمام الحسين - سبط النبي صلى الله عليه وسلم، وسيد شباب أهل الجنة - إنما قد جز معه وحدة المسلمين إلى اليوم، ومن ثم فإن استشهاد سيدنا الإمام الحسين إنما يعتبر نقطة تحول هامة في التاريخ الفكري والعقدي للتشيع، إذ لم يقتصر أثر تلك الكارثة الأليمة إلى إذكاء نار التشيع في نفوس الشيعة، وتوحيد صفوفهم - وكانوا من قبل متفرقي الكلمة، مشتتي الأهواء - بل ترجع أهمية تلك الكارثة إلى أن التشيع كان قبل استشهاد الإمام الحسين، مجرد رأي سياسي لم يصل إلى قلوب الشيعة، فلما قتل الإمام الحسين امتزج التشيع بدمائهم وتغلغل في أعماق قلوبهم، وبالتالي فقد أصبح عقيدة راسخة في نفوسهم.

وهكذا بينما كان الشيعة بعد وفاة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يتعدى طائفة قليلة من الناس، يرون أن الإمام علي - رضي الله عنه، وكرم وجهه في الجنة - لصفات فيه - أحق الناس بالإمامة وبينما ناصر كثير من المسلمين الإمام علي بن أبي طالب، حينما آل إليه الأمر بعد مقتل عثمان، رضي الله عنه لأنه إمام المسلمين، وأمير المؤمنين - أو لأسباب أخرى - فإن هذه الدماء التي أريقت في كربلاء - وهي دماء آل بيت النبي، وعلى رأسهم الإمام الحسين - إنما قد ركزت الانتباه إلى مدى ما لاقاه بيت النبوة، من اضطهاد وقتل، ومن ثم فقد أصبح التشيع مقروناً بأحقية آل البيت في الخلافة.

____________

<=

الطبري 5 / 496 - 499، 6 / 187 - 195، ابن كثير: البداية والنهاية 8 / 243 - 245، 270 - 271، ابن دقماق: المرجع السابق ص 60 - 61، ابن عبد ربه: العقد الفريد 5 / 139 - 142، 162 - 168، تاريخ اليعقوبي 2 / 251 - 253، 266 - 267، 272، مروج الذهب 2 / 65، 75، 100 - 103، ابن قتيبة: الإمامة والسياسة 2 / 14 - 15، ابن الطقطقي: الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية ص 95).

الصفحة 407
وهكذا فإن دماء الإمام الحسين الطاهرة - فضلاً عن دماء أهل بيته - إنما هي التي أنبتت العقيدة الشيعية في صورتها النهائية، فلقد أدرك الشيعة - بعد كارثة كربلاء - أن لا قبل لهم بمقاومة جيوش بني أمية بالقوة والسيف - خاصة وقد رأوا ما فعلت جيوش اللئام بالمدينة المنورة ومكة المكرمة - ومن ثم فقد استعانوا على أمرهم بمبدأ التقية، ثم تحول الشيعة أيضاً، بعد كارثة كربلاء، إلى مقاومة الأمويين بقوة أخرى - غير قوة السلاح - قوة معنوية، لا تصمد لها أيديولوجية الدولة الأموية في الحكم، وهي قوة الفكر الذي ارتبط بالدين، فأصبح في الناس عقيدة (1).

وهكذا قامت حركة التوابين بقيادة الصحابي الجليل - سليمان بن صرد (2) - الذي سمي أمير التوابين، حيث جمع أنصاره في النخيلة في ربيع الآخر عام 65 هـ‍، وسار بهم إلى قبر الإمام الحسين، وطبقاً لرواية ابن الأثير فما أن وصلوا إلى القبر الشريف، حتى صاحوا صيحة واحدة، فما رؤي أكثر باكياً من ذلك اليوم، فترحموا عليه، وتابوا عنده من خذلانه، وترك القتال معه، ثم نادوا - فيما يروي الطبري - يا رب إنا قد خذلنا ابن بنت نبينا، فاغفر لنا ما مضى منا، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم، وارحم حسيناً وأصحابه، الشهداء الصديقين، وإنا نشهدك يا رب أنا على مثل ما قتلوا عليه، فإن لم تعفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ثم أقاموا عنده يوماً وليلة يبكون ويتضرعون ويترحمون عليه وعلى أصحابه.

واتجه سليمان بجيشه نحو الشام، حتى إذا ما وصلوا إلى عين الوردة دارت رحى الحرب بينهم وبين جند الشام، وأبلى التوابون بلاءً حسناً، فكان لهم النصر أول الأمر، غير أن ابن زياد سرعان ما أمد جيش الشام باثني عشر ألفاً،

____________

(1) أحمد صبحي: المرجع السابق ص 47 - 48، وانظر 335. p , iii , encyclopedia of islam.

(2) أنظر عن سليمان بن صرد (أسد الغابة 2 / 449 - 450، الإصابة في تمييز الصحابة 2 / 75 - 76، الإستيعاب في معرفة الأصحاب 2 / 63 - 65).

الصفحة 408
بقيادة الحصين بن نمير، ثم بثمانية آلاف، بقيادة ابن ذي الكلاع، فأحاطوا بالتوابين من كل جانب، ورأى سليمان ما يلقى أصحابه من شدة، فترجل عن فرسه، وهو يومئذ في الثالثة والتسعين من عمره، وكسر جفن سيفه، وصاح بأصحابه: يا عباد الله، من أراد البكور إلى ربه، والتوبة من ذنبه، والوفاء بعهده، فليأت إلي.

واستجاب له الكثيرون، وحذوا حذوه، وكسروا جفون سيوفهم، وقتلوا من أهل الشام مقتلة عظيمة حتى أصيب أميرهم سليمان بسهم، فوثب ووقع، ثم وثب ووقع، وهو يقول فزت ورب الكعبة، وحمل الراية بعده المسيب بن نجية فقاتل بها حتى استشهد، رحمه الله، وانتهت المعركة إلى جانب أهل الشام، بعد أن ترك التوابون أمثلة رائعة للبطولة والفداء، التي استمدت روحها من مواقف الإمام الحسين وأهل بيته وأصحابه، والتي لها صداها في النفوس، وأثرها القوي في التاريخ الإنساني كله (1).

وهكذا يرى كثير من المؤرخين أن التشيع - كعقيدة - إنما يبدأ بعد مأساة كربلاء، يقول ستروثمان في دائرة معارف الإسلام: إن دم الإمام الحسين الذي أراقته سيوف الحكومة القائمة، إنما يعتبر البذرة الأولى للتشيع كعقيدة (2)، والأمر كذلك بالنسبة إلى ول ديورانت الذي يرى أن نشأة طائفة الشيعة، إنما كان على أثر مقتل الحسين وأسرته (3).

ويقول الدكتور الخربوطلي: كانت هناك نتائج دينية هامة تخلفت عن

____________

(1) تاريخ الطبري 5 / 551 - 563، 5 / 583 - 609، ابن الأثير: الكامل في التاريخ 4 / 175 - 189، المسعودي: مروج الذهب 2 / 83 - 86، تاريخ اليعقوبي 2 / 257، ابن كثير: البداية والنهاية 8 / 271 - 277، أسد الغابة 2 / 18 - 23، البلاذري: أنساب الأشراف 5 / 204 - 214، علي النشار: المرجع السابق ص 21، محمد بيومي مهران: الإمام الحسين بن علي ص 191 - 193.

(2) دائرة معارف الإسلام 3 / 350.

(3) ول ديورانت: قصة الحضارة 4 / 32.

الصفحة 409
فاجعة كربلاء، فنحن لا يمكننا أن نفسر دعوة شيعة الكوفة للإمام الحسين، ثم خذلانهم له، إلا بضعف العقيدة في نفوسهم وقت ذاك ذلك لأن العقيدة لم تكن قد اختمرت في نفوسهم، ولا تملكت قلوبهم، ولكن الحال قد اختلف بعد مقتل الإمام الحسين، فقد كانت دماؤه أبعد أثراً من دماء أبيه الإمام علي في نمو حركة الشيعة وازدياد أنصارها، بل يمكننا أن نقول: إن الحركة الشيعية إنما بدأ ظهورها في العاشر من المحرم عام 61 هـ‍(10 أكتوبر عام 680 م) وصبغت مبادئ الشيعة بصبغة دينية، فاتجهت الشيعة بعد مقتل الإمام الحسين اتجاهاً دينياً، بل غلب الجانب الديني في التشيع الجانب السياسي (1).

وهكذا نرى أن حركة التشيع كانت ما تزال متعثرة في طريقها - حتى كارثة كربلاء - لأن التشيع في نظر أهل العراق إنما كان مرتبطاً بذكرى حكم الإمام علي، الذي يمثل زعامة العراق بين الأمصار (2)، ثم كان لاستشهاد الإمام الحسين، عليه السلام، أثر كبير في نفوس شيعته، وقد أغنت هذه الحادثة الأدب العربي بالروائع، وألفت الكتب الكثيرة في مقتل الإمام الحسين (3).

وهكذا كان تبلور الحركة السياسية تحت اسم الشيعة بعد استشهاد الإمام الحسين مباشرة (4)، ومن ثم فقد أصبحت كلمة الشيعة - بعد مقتل الحسين - تطلق مفردة، فيقال الشيعة، ولا يقال شيعة علي أو شيعة الحسين، وهذا يعني أن مفهوم الشيعة كجماعة بدأ في الوضوح والتحديد (5)، ويذهب الشيخ المفيد إلى أن كلمة شيعة إذا دخلت عليها أل التعريف، فهي على

____________

(1) علي حسني الخربوطلي: تاريخ العراق في ظل الأمويين ص 123، أحمد صبحي: المرجع السابق ص 48 - 49.

(2) الدوري: مقدمة في صدر الإسلام ص 61.

(3) أنظر كأمثلة (ابن طاووس: كتاب اللهوف في قتلى الطفوف، ابن نما الحلي: كتاب مثير الأحزان، الخوارزمي: كتاب مقتل الحسين، جمال الطاووس: عين العبرة في غبن العترة).

(4) الشيبي: المرجع السابق 1 / 17.

(5) نبيلة عبد المنعم داوود: المرجع السابق ص 76.