وعلى أية حال، فيتضح لنا من الروايات التاريخية أن الشيعة أصبحت - بعد خروج التوابين - حزباً سياسياً واضح المفهوم، فكان يقال الشيعة وشيخ الشيعة فيعرف مدلولها (2).
وهكذا لم يكن أثر مقتل الإمام الحسين يقف عند انشقاق فريق من المسلمين باسم الشيعة، أو يشكل مجرد عقائد الشيعة حتى تميزت بها عن سائر فرق المسلمين، وإنما كانت دماؤه بحق هي التي ظلت طوال القرون، تروي عقائد الشيعة، فصمدت هذه الفرق، على العالم الرغم مما أصابها من اضطهاد فكري وسياسي، وعلى الرغم ما جد على العالم من أحداث وتطورات، ولم يكن الأمر وقفاً على تلك العاطفة الحزينة التي صبغت عقيدة الشيعة، أو على تلك المرثيات التي يرددونها دائماً، والتي تزدخر بها كتبهم، لتظل النفوس عالقة بتلك العقائد، منفعلة بتلك الكوارث، تتخذ من مصرع مولانا الإمام الحسين مثلاً أعلى في الصبر على البلاء والاستشهاد، وإنما أمدتهم تلك الدماء الطاهرة بما جعلهم على رأيهم ثابتين، بالرغم من تحالف قوى الفكر عليهم - من سنة ومعتزلة ومرجئة وخوارج (3) - وبالرغم من الاضطهاد السياسي العنيف الذي حاق بهم في العصرين: الأموي (41 - 132 هـ/ 661 - 750 م) والعباسي (132 - 656 هـ/ 750 - 1258 م) (4).
وهكذا جعلت كارثة كربلاء من التشيع مذهباً وعقيدة، فلقد روى دم الإمام الحسين، عليه السلام، موات الأحداث ليصبح الانشقاق أمراً مقضياً،
____________
(1) الشيخ المفيد: أوائل المقالات في المذاهب و المختارات ص 3 (تبرير 1371 هـ).
(2) نبيلة عبد المنعم داوود: المرجع السابق ص 78، وانظر: تاريخ الطبري 5 / 558 - 559.
(3) أنظر عن هذه الفرق (البغداد: الفرق بين الفرق - دار المعرفة - بيروت، ابن حزم: الفصل في الملل والأهواء والنحل - القاهرة 1964 (5 أجزاء)، الشهرستاني: الملل والنحل - القاهرة 1968 (3 أجزاء)، الغرابي: تاريخ الفرق الإسلامية - القاهرة 1959).
(4) أحمد صبحي: المرجع السابق ص 49 - 50.
على أن الصورة النهائية لعقائد الشيعة لم تظهر إلى حيز الوجود في أعقاب استشهاد الإمام الحسين مباشرة، وربما احتاج ذلك إلى عشرات من السنين حتى تتبلور هذه العقائد، عير أن الفرق التي تندرج تحت اسم الشيعة - المعتدلين فيهم - إنما قد بدأ ظهورها بعقائدها عقب مأساة كربلاء، منذ بدأت فرقة الكيسانية (2) التي تعتبر أولى الفرق التي ظهرت في التيار العام للحركة الشيعية، على اعتبار أن حركة ابن سبأ لا تدخل في هذا التيار العام، إذ صدرت عن باعث الفتنة، لا عن ينبوع العقيدة، من ناحية، ولأن حركة ابن سبأ إنما تعتبر بوجه عام - أولى حركات الغلاة، لا المعتدلين (3)، من ناحية أخرى، ولأن الشيعة أنفسهم لا يعترفون بها - هذا إن كان هناك من يدعى ابن سبأ حقاً -.
وهكذا يمكن القول إن التشيع كفكرة إنما لاحت في عصر النبوة مع العباس بن عبد المطلب في إلحاحه على الإمام علي بالاستفسار من النبي صلى الله عليه وسلم، عن البيعة والوصية الكتابية فرفض الإمام علي (4)، ولكنها ولدت ولادة صحيحة
____________
(1) أحمد صبحي: الزيدية ص 6 - 17.
(2) أنظر عن الكيسانية (البغدادي: الفرق بين الفرق ص 38 - 53، الغرابي: تاريخ الفرق الإسلامية ص 288 - 289، الشهرستاني: الملل والنحل ص 147).
(3) أحمد صبحي: نظرية الإمامة ص 50.
(4) محمد حسين هيكل: حياة محمد ص 484 - 485.
ومن هنا أكد مؤرخو الشيعة أن التراث الشيعي إنما قد عاش، لأن أربعة عشر قرناً تعيش في تياراته، وتغني المضمون الروحي للفكر الإسلامي من خلال صراع آرائه (2).
(2) أصل التشيع
اختلف المستشرقون - من أمثال دوزي، وميور، وجولد تسيهر، وفلهاوزن - في أصل التشيع في جذوره الأولى إلى الفرس، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم، ما دام لم ينجب ولداً، فولده علي، شرعاً وقانوناً إلهياً، وهذا من المذاهب الفارسية التي تعتقد في الحق الإلهي للملك (3).
ويقول الدكتور عبد القادر محمود (4): إنه حقاً قد دخلت أفكار فارسية على التفكير الإسلامي - فضلاً عن أفكار يونانية ويهودية ونصرانية كذلك - غير أن ذلك لم يفقد التفكير الإسلامي شخصيته في عقيدته، فكل شئ دخل على الإسلام، صادف في الإسلام شيئاً قائماً في ذاته وموضوعه، لم يخلقه من
____________
(1) عبد القادر محمود: الإمام جعفر الصادق - رائد السنة والشيعة - القاهرة ص 6 - 7.
(2) عبد الرحمن بدوي: دراسات إسلامية ص 35.
(3)
r dozy, essai sur l'histoire de l'islamisme, paris, 1879, p.220
(4) عبد القادر محمود: الإمام جعفر الصادق - رائد السنة والشيعة - القاهرة ص 7.
هذا وقد دخل التشيع بخاصة لون من هذه الأفكار، كما دخلت مبادئ تقلدها بعض الشيعة، ولا سيما بعد عصر الإمام جعفر الصادق (80 أو 83 - 148 هـ) (669 أو 703 - 765 م) عن طريق القداح غير أن هذا لا يعني أبداً أن نحكم على مبدأ التشيع في ذاته بأنه فارسي من جذوره - كما ذهب دوزي، ومن شايعه -.
هذا ويذهب آدم متز إلى أن التشيع إنما يرجع إلى أصل عربي صميم، وليس رد فعل من جانب العقل الفارسي.
وأما فلهاوزن فالرأي عنده أن عقائد الشيعة مأخوذة من اليهودية الأصلية، أكثر مما هي مقتبسة من المنابع الفارسية - كما قال دوزي - وقد اعتمد فلهاوزن في رأيه هذا على قول ابن سبأ: علي بالنسبة لمحمد كهارون لموسى، وعلى قول ابن سبأ في رجعة محمد في شخص علي (2).
وأما عن الأولى: وهي أن الإمام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه، وكرم الله وجهه في الجنة - إنما كان بالنسبة لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، كهارون لموسى، عليهما السلام.
____________
(1) مصطفى عبد الرازق: تمهيد لتاريخ الفلسفة في الإسلام - القاهرة 1944 ص 139 - 141، 294 - 295.
(2) فلهاوزن: أحزاب المعارضة الدينية في صدر الإسلام، وانظر الأصل:
wellhausen, die- religioes- opposition sparteien in alten islam, p.89
غير أن فلهاوزن يقول في كتابه الخوارج والشيعة ص 25 - 26 إن الخوارج لم يكونوا بذرة فاسدة بذرها اليهودي ابن سبأ سراً، وإنما كانوا نبتة إسلامية حقيقية، ولم يكونوا فرقة تعيش في الظلام، بل كانوا ظاهرين علناً.
سمعت إبراهيم بن سعد عن أبيه قال، قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى (1)، وروى البخاري بسنده عن مصعب بن سعد عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرج إلى تبوك واستخلف علياً، فقال: أتخلفني في الصبيان والنساء؟ قال: ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه ليس نبي بعدي (2).
وروى الإمام مسلم في صحيحه بسنده عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه، قال: أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً، فقال: ما منعك أن تسب أبا التراب فقال: أما ما ذكرت ثلاثاً قالهن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلن أسبه، لأن تكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول له: خلفه في بعض مغازيه، فقال علي: يا رسول الله، خلفتني مع النساء والصبيان، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبوة بعدي، وسمعته يقول يوم خيبر، لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، قال فتطاولنا لها فقال: ادعوا لي علياً، فأتي به أرمد فبصق في عينه، ودفع الراية إليه، ففتح الله عليه، ولما نزلت هذه الآية: * (فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم) *، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً، فقال:
اللهم هؤلاء أهلي (3).
وروى الإمام مسلم في صحيحه بسنده عن سعيد بن المسيب عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال، قال الله صلى الله عليه وسلم لعلي: أنت مني بمنزلة هارون
____________
(1) صحيح البخاري 5 / 24.
(2) صحيح البخاري 6 / 3 (دار الحديث - القاهرة).
(3) صحيح مسلم 15 / 175 - 176.
وفي رواية ثالثة عن سعد بن أبي وقاص قال: خلف رسول الله، علي بن أبي طالب في غزوة تبوك فقال: يا رسول الله تخلفني في النساء والصبيان، فقال: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، غير أنه لا نبي بعدي (1).
هذا وقد روى هذا الحديث الشريف الإمام أحمد بن حنبل في المسند والفضائل (2)، وأبو داود الطيالسي في مسنده (3)، وأبو نعيم في الحلية (4)، والنسائي في الخصائص (5)، والطحاوي في مشكل الآثار (6)، والخطيب البغدادي (7) في تاريخه، وابن الأثير في أسد الغابة (8)، والترمذي في صحيحه (9) وابن ماجة في صحيحه (10)، والحاكم في المستدرك (11)، وابن عبد
____________
(1) صحيح مسلم 15 / 174 - 176 (بيروت 1981).
(2) مسند أحمد 1 / 170، 173، 174، 175، 177، 179، 182، 184، 330، 3 / 338، 6 / 369، 438، فضائل الصحابة 2 / 566 - 568، 592 (أرقام 954، 956، 957، 1005، 1006).
(3) مسند أبي داود الطيالسي 1 / 28، 29.
(4) حلية الأولياء 7 / 194، 195، 196، 452، 8 / 308.
(5) النسائي تهذيب خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ص 38 - 44 (أرقام 40، 41، 42، 43، 44، 45، 46، 47، 48، 49، 50، 751 52، 53).
(6) مشكل الآثار 2 / 309.
(7) تاريخ بغداد 1 / 324، 3 / 288، 4 / 204، 8 / 52، 9 / 394، 10 / 43، 11 / 432، 12 / 323.
(8) أسد الغابة 4 / 26، 5 / 8.
(9) صحيح الترمذي 2 / 300، 301، 5 / 641.
(10) صحيح ابن ماجة 1 / 42.
(11) المستدرك للحاكم 2 / 337، 3 / 116.
وأما الثانية: وهي نسبة فكرة الرجعة إلى اليهود والنصارى، اعتماداً على أن إيليا رفع للسماء، وأنه لا بد أن يعود في آخر الزمان لإقامة العدل، وهي نفس فكرة الغلاة من الشيعة (14).
____________
(1) الإستيعاب في معرفة الأصحاب 3 / 34.
(2) مجمع الزوائد 9 / 109، 110، 111.
(3) كنز العمال 3 / 154، 5 / 40، 6 / 154، 188، 395، 405، 8 / 215.
(4) الرياض النضرة 2 / 162، 163، 164، 195، ذخائر العقبى ص 120.
(5) مصنف عبد الرازق 11 / 226.
(6) الطبقات الكبرى 3 / 24.
(7) تاريخ ابن عساكر 1 / 107.
(8) الإصابة 2 / 59.
(9) البدء والتأريخ 4 / 239.
(10) تاريخ الطبري 3 / 103 - 104.
(11) الصواعق المحرقة ص 73، 74، 187.
(12) إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل 5 / 11 - 12. 8 / 123 - 124.
(13) المطالب العالية 4 / 264، ابن كثير: البداية والنهاية 7 / 366، 371، 372، 373، 374، ويقول ابن كثير: قال الحافظ ابن عساكر: وقد روى هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، جماعة من الصحابة، منهم: عمر وعلي وابن عباس وعبد الله بن جعفر ومعاوية وجابر بن عبد الله وجابر بن سمرة وأبو سعيد والبراء بن عازب وزيد بن أرقم وزيد بن أبي أوفى ونبيط بن شريط وحبشي بن جنادة ومالك بن الحويرث وأنس بن مالك وأبو الفضل وأم سلمة وأسماء بنت عميس وفاطمة بنت حمزة.
يقول ابن كثير: وقد تقصى الجاحظ ابن عساكر هذه الأحاديث في ترجمة الإمام علي في تاريخه، فأجاد وأفاد، وبرز على النظراء والأشباه (البداية والنهاية 7 / 373).
(14) أنظر: فلهاوزن: الخوارج والشيعة - ترجمة عبد الحميد بدوي ص 95 - 102، مجلة الآشوريات 3 / 296.
وهناك إشارة في العهد القديم في ملاخي (4 / 5 - 6) فحواها أن الرب سيرسل إيليا قبل يوم الرب العظيم، ويترك بعض اليهود مقعداً خالياً على مائدة عيد الفصح (2) لإيليا، وأما إشارة ملاخي فتقول ها أنذا أرسل إليكم إيليا النبي قبل مجئ يوم الرب العظيم والمخوف، فيرد قلب الآباء على الأبناء، وقلب الأبناء على آبائهم، لئلا آتي وأضرب الأرض بلعن.
____________
(1) أنظر: محمد بيومي مهران: إسرائيل 2 / 910 - 916 (الإسكندرية 1978)، دراسات تاريخية من القرآن الكريم 3 / 231 - 241 (بيروت 1988)، قاموس الكتاب المقدس 1 / 144 - 145 (بيروت 1964)، ملوك أول 17 / 1 - 19 / 21، إنجيل لوقا 4 / 25 - 26، رسالة يعقوب 5 / 17.
(2) أنظر عن عيد الفصح (محمد بيومي مهران: إسرائيل 4 / 156 - 163 - الإسكندرية 1979).
ويقول الأستاذ الإمام محمد عبده في تفسير المنار: فإن للعلماء هنا طريقتين، إحداهما - وهي المشهورة - أنه رفع بجسمه حياً، وأنه سينزل في آخر الزمان، فيحكم بين الناس بشريعة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ثم يتوفاه الله تعالى (4)، ويقول الإمام الفخر الرازي: معنى قوله إني متوفيك، أي متمم عمرك، فحينئذ أتوفاك، فلا أتركهم حتى يقتلوك، بل أنا رافعك إلى سمائي، ومقربك بملائكتي، وأصونك عن أن يتمكنوا من قتلك، وهذا تأويل حسن، وهناك وجه آخر في تأويل الآية هو أن الواو في قوله تعالى: متوفيك ورافعك تفيد الترتيب، فالآية تدل على أن الله تعالى يفعل به هذه الأفعال، فأما كيف يفعل؟
ومتى يفعل؟ فالأمر موقوف فيه على الدليل، وقد ثبت الدليل أنه حي، وورد
____________
(1) أنظر عن توحيد إيليا بنبي القرآن - إلياس عليه السلام (محمد بيومي مهران: إسرائيل 2 / 913 - 915، دراسات تاريخية من القرآن الكريم - الجزء الثالث - في بلاد الشام ص 232 - 235).
(2) سورة النساء: آية 157 - 158، وانظر: تفسير الطبري 6 / 12 - 18، تفسير روح المعاني 6 / 10 - 13، تفسير النسفي 1 / 261 - 263، في ظلال القرآن 2 / 801 - 803، تفسير البيضاوي 1 / 141 - 142، صفوة التفاسير 1 / 316، تفسير ابن كثير 1 / 872 - 889، التسهيل لعلوم التنزيل 1 / 163.
(3) سورة آل عمران: آية 55، وانظر: تفسير النسفي 1 / 160، تفسير الفخر الرازي 8 / 67 - 70، في ظلال القرآن 1 / 403 - 404، تفسير ابن كثير 1 / 548، تفسير الطبري 3 / 289 - 293، تفسير روح المعاني 3 / 179 - 184.
(4) تفسير المنار 3 / 260.
وأما الطريقة الثانية - فيما يرى الأستاذ الإمام - فهي أن الآية على ظاهرها، وأن التوفي على معناه الظاهر، المتبادر منه، وهو رفع الروح (2)، يقول الفخر الرازي: إني متوفيك أي مميتك، وهو مروي عن ابن عباس، وابن إسحاق قالوا: والمقصود أن لا يصل أعداؤه من اليهود إلى قتله، ثم أنه بعد ذلك أكرمه بأن رفعه إلى السماء، ثم اختلفوا على ثلاثة أوجه: أحدها: قال وهب: توفي ثلاث ساعات، ثم رفع، وأخرج الحاكم عنه أن الله تعالى توفى عيسى سبع ساعات ثم أحياه، وأن مريم حملت به، ولها ثلاث عشرة سنة، وأنه رفع وهو ابن ثلاث وثلاثين، وأن أمه بقيت بعد رفعه ست سنين.
وثانيها: قال ابن إسحاق: توفي سبع ساعات، ثم أحياه الله ورفعه، وثالثها: قال الربيع بن أنس: أنه تعالى توفاه حين رفعه إلى السماء، قال تعالى:
* (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها) * (3)، وروى عن الربيع أيضاً، وعن الحسن: أن الله تعالى رفع عيسى عليه السلام إلى السماء - وهو نائم - رفقاً به (4).
وهكذا وجد عندنا رأيان، الأول - وهو رأي الجمهور - ويذهب إلى أن المسيح عليه السلام، رفع إلى السماء حياً - بجسده وروحه - وأنه ما يزال حياً يرزق، وأن الله سوف يهبطه عند ظهور الدجال، على صخرة بيت المقدس، روى البخاري في صحيحه بسنده عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم
____________
(1) تفسير الفخر الرازي 8 / 67.
(2) تفسير المنار 3 / 260.
(3) تفسير الفخر الرازي 8 / 67، تفسير روح المعاني 3 / 179.
(4) تفسير روح المعاني 3 / 179.
وروى البخاري أيضاً عن ابن شهاب عن نافع مولى أبي قتادة الأنصاري، أن أبا هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف بكم، إذا نزل فيكم المسيح ابن مريم، وإمامكم منكم (2)، وعن جابر بن عبد الله قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وينزل عيسى بن مريم، فيقول أميرهم المهدي: تعال صل بنا، فيقول: لا: إن بعضهم أمير بعض، تكرمة الله لهذه الأمة (3).
وأما الرأي الثاني، ويقول به البعض، وهو أن المسيح عليه السلام، قد توفي فعلاً - بعد أن نجاه الله تعالى من مؤامرة اليهود، ولم يمكنهم من قتله أو صلبه، وأن معنى بل رفعه الله إليه ورافعك إلي، إنما يراد به التعظيم والتكريم (4).
ومن ثم فلم يأخذ الشيعة فكرة الرجعة عن اليهود والنصارى، وإنما هي موجودة في القرآن والحديث الشريف، هذا إذا كانت الشيعة نادت بذلك، وهو أمر تحيط به هواتف الريبة من كل جانب، على الأقل بالنسبة إلى المعتدلين منهم.
____________
(1) سورة النساء: آية 159، صحيح البخاري 4 / 205، تفسير القرطبي ص 2007 - 2008، تفسير الطبري 6 / 18 - 23، تفسير ابن كثير 1 / 876 - 889، وانظر (صحيح البخاري 3 / 107، 178، صحيح مسلم 1 / 93، 4 / 60، مسند الإمام أحمد 2 / 513).
(2) صحيح البخاري 4 / 250 (ورواه أيضاً مسلم وأحمد).
(3) حمود بن عبد العزيز التويجري: إقامة البرهان في الرد على من أنكر خروج المهدي والدجال ونزول المسيح في آخر الزمان - مجلة البحوث الإسلامية - العدد 13 شوال 1405 هـص 109 - 113 (أنظر: محمد بيومي مهران: دراسات تاريخية من القرآن الكريم 3 / 343 - 350 - حيث الأدلة من الكتاب والسنة على نزول عيسى في آخر الزمان).
(4) أنظر (محمد بيومي مهران: دراسات تاريخية من القرآن الكريم 3 / 350 - 355).
ومن ثم يمكن القول أن خصوم الشيعة قد أخطأوا كثيراً، حين زعموا أن التشيع دين مستقل، ابتدعه الفرس، كيداً للإسلام الذي أزال ملكهم، وأباد سلطانهم، فأرادوا الانتقام منه، فلم يستطيعوا، فأدخلوا عليه البدع والضلال، مستترين باسم التشيع (3).
وقد فند هذا الزعم كثير من العلماء، وقدموا كثيراً من الأدلة على صحة رأيهم، منها (أولاً) أن النبي صلى الله عليه وسلم - كما أشرنا من قبل - وهو الباعث الأول على فكرة التشيع، وإن ما تدين به الشيعة الإمامية إنما يعتمد على نصوص من الكتاب والسنة.
ومنها (ثانياً) أن الفرس الذين دخلوا الإسلام لم يكونوا شيعة في أول
____________
(1) ظهر هذا الرأي في كتاب تراث فارس (legacy of persia) ص 208 - 210 في الأصل الإنجليزي، وفي ص 204 من الترجمة العربية التي أشرف عليها الدكتور يحيى الخشاب، وظهرت في القاهرة عام 1959 م، ويشير الكتاب بوضوح إلى التشيع المعتدل قد أسئ فهمه بسبب ما جاء بالمصادر المعادية للشيعة، كما قال الأستاذ (wickens) الأستاذ بجامعة كمبردج، وأما الكتاب المقصود فهو كتاب الشوشتري الفارسي ويسمى مجالس المؤمنين، وقد طبع عام 1268 م، بالفارسية، بعد وفاة صاحبه (نور الدين بن شريف المرعش الحسيني الشوشتري - نسبة إلى مدينة شوشتر بإيران، والتي يسميها العرب تستر - وكان أكبر قضاة لاهور، وهو حنفي المذهب، وقد أقام في أكرا ونشر كتاباً آخر له إحقاق الحق وإزهاق الباطل ومنه عرف تشيعه، فأمر السلطان جهانجيز بن أكبر بجلده حتى الموت في عام 1019 هـ/ 1610 م).
(2) عبد القادر محمود: المرجع السابق ص 9 - 10.
(3) محمد جواد مغنية: الشيعة في الميزان ص 64.
وأما من دخل الإسلام من الفرس وتشيع، فحاله حال من تشيع من سائر الأمم - كالعرب والترك والروم وغيرهم - لا باعث له، إلا حب الإسلام، وحب آل الرسول، فأسلم وتشيع عن رغبة واعتقاد، وإذا جاز أن يقال: إن الفرس تشيعوا كيداً للإسلام، لأنه قهرهم، جاز أيضاً أن يقال: إن غير الفرس تسننوا كيداً للإسلام، لأن الإسلام غلب وقهر الجميع، وليس الفرس وحدهم.
والحقيقة أن بعض الفرس دان بالتشيع للسبب الذي دان به غيرهم بالتشيع، وبعضهم دان بالتسنن للسبب الذي دان به غيرهم بالتسنن، سنة الله في خلقه، هذا إلى أن الأشعريين، هم الذين نشروا التشيع في قم (1) وأطرافها، وهم عرب صميمون هاجروا إليها من الكوفة على أيام الحجاج الثقفي (2)،
____________
(1) قم: وتقع على مبعدة 150 كيلاً. إلى الجنوب الشرقي من طهران، وترجع شهرتها - كواحدة من مدن الشيعة الهامة - إلى أنها تحوي بين ثراها قبر السيدة فاطمة أخت الإمام علي الرضا بن الإمام موسى الكاظم بن الإمام جعفر الصادق.
(2) في عام 83 هـ، خرج ابن الأشعث على الحجاج الثقفي، ثم هزم جيشه وتفرق في البلاد، وكان من بينهم خمسة أخوة: عبد الله والأحوص وعبد الرحمن وإسحاق ونعيم، أبناء سعد بن مالك بن عامر الأشعري، فاجتمع الخمسة وتغلبوا على بعض القرى القريبة من قم، واجتمع إليهم بنو
=>
هذا وقد أثبت السيد الأمين أن الذين نشروا التشيع وناصروه في إيران إنما هم بين عربي أصيل - كالإمام علي الرضا والأشعريين - أو من أصل عربي كالصفوية - وأن الذي دعموا التسنن وناصروه إنما هم فرس أقحاح - كالبخاري والنسائي والرازي وغيرهم - فإن كان للفرس مقاصد وأهداف ضد الإسلام - كما زعم خصوم الشيعة - فأولى ثم أولى أن يحققوا غايتهم عن طريق التسنن - لا التشيع - إذ المفروض أن سبب التشيع في إيران إنما يرجع إلى عنصر عربي، والتسنن إلى عنصر فارسي صرف، ولكن خصوم الشيعة موهوا وضللوا، وعكسوا الآية، لا لشئ إلا للكيد والتنكيل - كما يقول الدكتور طه حسين - وهكذا فعلوا في مسألة الجفر وعلم الغيب (1).
ويقول الشيخ المظفر: كان للإمام علي - رضي الله عنه وكرم الله وجهه في الجنة - ثلاثة حروب - الجمل وصفين والنهروان - وكان جيشه كله عرباً أقحاحاً، بين عدنانية وقحطانية، أكانت قريش من الفرس؟ أم الأنصار - من أوس وخزرج - أم مذحج، أم همدان، أم طئ، أم كندة، أم تميم، أم مضر، أم أشباهها من القبائل؟.
وهل كان زعماء جيشه، غير رؤساء هذه القبائل؟ أكان عمار فارسياً، أم
____________
<=
عمهم، وكان المتقدم فيه عبد الله، وكان له ولد تشيع، فانتقل من تلك القرى إلى قم، ونقل
التشيع إلى أهلها (الشيعة في الميزان ص 65).
(1) محمد جواد مغنية: الشيعة في الميزان ص 65 - 66، السيد محسن الأمين: أعيان الشيعة 1 / 49
(ط 1960).
ويقول فلهاوزن - في رده على دوزي - الذي زعم أن التشيع كمذهب ديني، إنما هو إيراني الأصل - أما أن آراء الشيعة كانت تلائم الإيرانيين، فهذا أمر لا سبيل إلى الشك، أما كون هذه الآراء قد انبعثت من الإيرانيين فليست تلك الملائمة دليلاً عليه، بل إن الروايات التاريخية إنما تقول بعكس ذلك، إذ تقول: إن التشيع الواضح الصريح إنما كان قائماً أولاً في الدوائر العربية، ثم انتقل منها إلى الموالي (2).
ويقول: كان جميع سكان العراق في عهد معاوية بن أبي سفيان - خصوصاً أهل الكوفة - شيعة، ولم يقتصر هذا على الأفراد، وإنما شمل أيضاً القبائل، فضلاً عن رؤسائها (3)، وبدهي أن هذا إنما يعزز وجهة النظر التي قال بها السيد الأمين في كتابه أعيان الشيعة، من أن التشيع في إيران إنما جاء من أصل عربي، وليس من أصل فارسي (4).
ويقول آدم متز: إن مذهب الشيعة، ليس - كما يعتقد البعض - رد فعل من جانب الروح الإيرانية يخالف الإسلام، فقد كانت جزيرة العرب شيعية كلها، عدا المدن الكبرى - مثل مكة وصنعاء - وكان للشيعة غلبة في بعض المدن أيضاً - مثل عمان وهجر وصعدة - أما إيران فكانت كلها سنة، ما عدا قم، وكان
____________
(1) محمد حسين المظفر: تاريخ الشيعة ص 8 (ط النجف).
(2) فلهاوزن: الخوارج والشيعة ص 241 (القاهرة 1958).
(3) نفس المرجع السابق ص 148.
(4) محمد جواد مغنية: المرجع السابق ص 66.
ولنا أن نتساءل: إذا كان الفرس هم سبب التشيع في إيران وغيره إيران، فهل جاء غلو بعض أهل أصفهان في معاوية، ورفعه إلى مرتبة النبوة والرسالة نتيجة لتشيع الفرس؟.
إنه لغريب حقاً منطق خصوم الشيعة - كما يقول الدكتور طه حسين - قالوا: إن الغلو في الإمام علي إنما جاء من الفرس، ثم ينقل عالم من علمائهم - كالمقدسي - أن بعض الفرس غالى في معاوية بن أبي سفيان، حتى جعلوه نبياً مرسلاً.
ثم كيف ومن أين وصل التشيع إلى جزيرة العرب؟ هل جاء إليها من الفرس، والتاريخ يقول: إن الفرس كانوا سنة، عندما كان سكان الجزيرة العربية شيعة، وهكذا يقع في التناقضات من يضفي على التاريخ صفته الذاتية العدائية، ثم يبني عليها آراءه وأحكامه (2).
ويقول جولد تسيهر: إنه من الخطأ القول بأن التشيع في منشئه ومراحل نموه، يمثل الأثر التعديلي الذي أحدثته أفكار الأمم الإيرانية في الإسلام - بعد أن اعتنقته، أو خضعت لسلطانه عن طريق الفتح والدعوة وهذا الوهم الشائع مبني على سوء فهم للحوادث التاريخية، فالحركة العلوية نشأت في أرض عربية بحتة (3).
ويقول العلامة أبو زهرة: وأما فارس وخراسان وما وراءها من بلدان
____________
(1) آدم متز: الحضارة الإسلامية - القاهرة 1957 ص 102 وما بعدها.
(2) محمد جواد مغنية: المرجع السابق ص 67.