(وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا) (1)، قال: " بما صبروا على الفقر ومصائب الدنيا " (2).
وسئل الإمام الباقر عن قول الله عز وجل: (وقولوا للناس حسنا)، قال:
قولوا لهم أحسن ما تحبون أن يقال لكم، ثم قال: إن الله - سبحانه وتعالى - يبغض اللعان السباب، الطعان الفحاش، المتفحش، السائل الملحف، ويحب الحيي الحليم، العفيف المتعفف (3).
وفي المراجعات (4) عن بريدة العجلي قال: سألت أبا جعفر (الإمام محمد الباقر) عن قوله عز وجل: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)، فكان جوابه (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت، ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا) يقولون لأئمة الضلال والدعاة إلى النار، هؤلاء أهدى من آل محمد سبيلا (أولئك الذين لعنهم الله، ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا، أم لهم نصيب من الملك) يعني الإمام والخلافة (فإذا لا يؤتون الناس نقيرا، أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله)، ونحن الناس المحسدون على ما أتانا الله من الإمامة دون خلقه (فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما) يقول: جعلنا منهم الرسل والأنبياء والأئمة فكيف يقرون به في آل إبراهيم، وينكرونه في آل محمد (فمنهم من آمن به، ومنهم من صد عنه، وكفى بجهنم سعيرا) (5).
وعن محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله جعفر عن هذه الآية (إنما
____________
(1) سورة الإنسان: آية 12.
(2) حلية الأولياء 3 / 182.
(3) تاريخ اليعقوبي 2 / 321.
(4) المراجعات (رسائل متبادلة بين شيخ الأزهر، الإمام سليم البشري، والإمام شرف الدين العاملي عام 1329 هـ).
(5) المراجعات ص 28 وانظر: سورة النساء: آية 51 - 55، 59.
والله ما زالت فينا إلى الساعة (2).
وأما الحديث الشريف: فقد كان الإمام الباقر محدثا كبيرا، روى أبو نعيم في حليته أن الإمام الباقر أسند عن جابر بن عبد الله الأنصاري، وروى عن ابن عباس وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري وأنس بن مالك وعن الإمامين الحسن والحسين، عليهما السلام، وأسند عن سعيد بن المسيب وعبيد الله بن أبي رافع.
وروى عنه من التابعين: عمرو بن دينار وعطاء بن أبي رباح وجابر الجعفي وأبان بن تغلب، وروى عنه من الأئمة والأعلام، ليث بن أبي سليم وابن جريح وحجاج بن أرطأة وآخرين (3).
ولنشرف هنا بذكر بعض الأحاديث الشريفة التي رويت عن طريقه:
حدثنا أحمد بن القاسم بن الريان ثنا محمد بن يونس القرشي ثنا أبو حذيفة موسى بن مسعود ثنا سفيان بن سعيد الثوري (4) ثنا جعفر بن محمد (الصادق)
____________
(1) سورة الرعد: آية 7.
(2) المراجعات ص 28.
(3) حلية الأولياء 3 / 188.
(4) سفيان الثوري هو أبو سعيد سفيان بن سعيد مسروق الثوري الكوفي، ولد عام 95 هـ (713 م) أو 96 هـ، وتوفي عام 161 هـ - (778 م) وكان محدثا ومتكلما وزاهدا، تعلم على والده وعلماء عصره، وروى عنهم، ورفض منصب القضاء تحرجا وورعا، فغضب عليه الخليفة حتى اضطر أن يقضي بقية عمره مستترا، والثوري أول من رتب الأحاديث ترتيبا موضوعيا في الكوفة، وقد أسس مذهبا فقهيا لم يبق طويلا، وقيل إنه كان عالما بالرياضيات، وأهم مصادر ترجمته (طبقات ابن سعد 6 / 371 - 374، الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 21 / 222 - 227، تاريخ بغداد 9 / 151 - 174، حلية الأولياء 6 / 356 - 393، 7 / 3 - 144، الرجال للقيسراني 1 / 194 - 195، وفيات الأعيان 2 / 386 - 391، التهذيب لابن حجر 4 / 111 - 115، تذكرة الحفاظ للذهبي ص 203 - 207، معجم المؤلفين لكحالة 4 / 234 - 235، الأعلام للزركلي 3 / 158).
حدثنا محمد بن أحمد ثنا الحسن بن سفيان ثنا عتبة بن عبد الله، حدثنا عبد الله بن المبارك (2)، حدثنا سفيان عن جعفر بن محمد (الصادق) عن أبيه (الباقر) عن جابر رضي الله عنه قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول في خطبته:
يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله ثم يقول: " من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، إن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم يقول: بعثت أنا والساعة كهاتين، وكان إذا ذكرت الساعة احمرت وجنتاه، وعلا صوته، واشتد غضبه، كأنه نذير جيش صبحتكم مستكم، ثم قال:
من ترك مالا فلأهله، ومن ترك ضياعا أو دينا فإلي، أو علي، وأنا أولى المؤمنين (هذا حديث صحيح ثابت من حديث محمد بن علي (الباقر) رواه وكيع وغيره عن الثوري).
حدثنا سليمان بن أحمد ثنا مطر بن شعيب الأزدي ثنا محمد بن عبد العزيز الرملي ثنا الفرياني ثنا سفيان عن جعفر بن محمد (الصادق) عن أبيه (الباقر) عن جابر رضي الله تعالى عنه: قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) " كيف أنعم وصاحب القرن قد التقمه، وحنى جبهته، وأصغى بسمعه ينتظر متى يؤمر، فينفخ، قالوا: يا
____________
(1) أنظر: (أسد الغابة 1 / 307 - 308).
(2) عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي التميمي، لقبه أبو عبد الرحمن، ولد عام 118 هـ (736 م) وتوفي في " هيت " عام 181 هـ (797 م)، وكان أحد كبار المحدثين والمؤرخين والصوفية، كان واسع الثراء، ولديه مكتبة ضخمة، وكان صاحب التصانيف العديدة في علوم الحديث والقرآن والتاريخ والتصوف، وأهم مصادر ترجمته (تاريخ بغداد 10 / 152 - 169، حلية الأولياء 8 / 162 - 190، المشاهير لابن حبان ص 194 - 195، تذكرة الحفاظ للذهبي 274 - 282، الجواهر للقرشي 1 / 281 - 282، معجم المؤلفين لكحالة 6 / 106، الأعلام 4 / 256، التهذيب لابن حجر 5 / 382 - 387).
وعن الأوزاعي (1) قال: قدمت المدينة فسألت محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، عن قوله عز وجل: (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) فقال نعم: حدثنيه أبي عن جده علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال: سألت عنها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال: " لأبشرنك بها يا علي، فبشر بها أمتي من بعدي، الصدقة على وجهها، واصطناع المعروف، وبر الوالدين، وصلة الرحم، تحول الشقاء سعادة، وتزيد في العمر، وتقي مصارع السوء " (2).
وعن الأوزاعي قال: قدمت المدينة في خلافة هشام فقلت: من ههنا من العلماء، قالوا: ههنا محمد بن المنكدر، ومحمد بن كعب القرظي، ومحمد بن علي بن عبد الله بن عباس، ومحمد (الباقر) بن علي بن الحسين بن فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فقلت: والله لأبدأن بهذا قبلكم، قال: فدخلت المسجد
____________
(1) الأوزاعي: هو أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد الأوزاعي، ولد عام 88 هـ (707 م) سكن دمشق وبيروت وتوفي فيها عام 157 هـ (774 م)، وسمع من عطاء بن أبي رباح وقتادة والزهري وغيرهم، وقد فضله البعض على سفيان الثوري، ومع ذلك فإن الحكم على عمله محدثا كان سلبيا، لأن صحف أحاديثه التي رواها عن الزهري - مثلا - لم يكن أخذها سماعا أو قراءة، وهو من أوائل من ألفوا كتبا مبوبة في السنن، وأما أهم مصادر ترجمته (طبقات ابن سعد 7 / 185 تاريخ الطبري 3 / 2514، الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 2 / 266 - 267، التقدمة لابن أبي حاتم ص 174 - 218، الفهرست لابن النديم ص 227، حلية الأولياء 6 / 135 - 142، التهذيب لابن حجر 6 / 236 - 242، البداية والنهاية لابن كثير 10 / 115 - 120، تذكرة الحفاظ للذهبي ص 178 - 183، وفيات الأعيان 3 / 127 - 128، معجم المؤلفين للكحالة 5 / 163، الأعلام للزركلي 4 / 94).
(2) حلية الأولياء 6 / 145.
أوصني، فقال: لا تتأمر على اثنين، ثم إن الأعرابي شخص إلى " الربذة " فبلغه بعد ذلك وفاة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فسأل عن أمر الناس: من وليه، فقيل: أبو بكر، فقدم الأعرابي إلى المدينة، فقال لأبي بكر: ألست أمرتني ألا تأمر على اثنين؟
قال: بلى، قال: فما بالك، فقال أبو بكر: لم أجد لها أحدا غيري، أحق مني.
قال: ثم رجع أبو جعفر الباقر يديه وخفضهما، فقال: صدق، صدق (2).
وعن سليمان الأعمش عن سليمان بن ميسرة عن طارق بن شهاب عن رافع بن أبي الطائي قال: بعث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) جيشا، فأمر عليهم عمرو بن العاص - وفيهم أبو بكر وعمر - وأمرهم أن يستنفروا من مروا به، فمروا علينا، فنفرنا معهم في غزوة ذات السلاسل (3) - وهي التي تفخر أهل الشام فيقولون:
استعمل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عمرو بن العاص على جيش فيه أبو بكر وعمر - قال فقلت: والله لأختاره في هذه الغزوة لنفسي رجلا من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، استهد به، فإني لست أستطيع إتيان المدينة، فاخترت أبا بكر، ولم آل، وكان له
____________
(1) حلية الأولياء 6 / 146.
(2) ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 6 / 41.
(3) أنظر عن غزوة ذات السلاسل (سيرة ابن هشام 4 / 462 - 464، تاريخ الطبري 3 / 302 - 303، الكامل لابن الأثير 2 / 232، ابن كثير: السيرة النبوية 3 / 516 - 521، مغازي الواقدي 2 / 769 - 774، محمد بيومي مهران: السيرة النبوية الشريفة 2 / 371 - 373)
قال: فلما قضينا غزوتنا، قلت له: يا أبا بكر، إني قد صحبتك، وإن لي عليك حقا، فعلمني شيئا أنتفع به، فقال: كنت أريد ذلك، لو لم تقل لي:
تعبد الله لا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتحج البيت وتصوم شهر رمضان، ولا تتأمر على رجلين، فقلت: أما العبادات فقد عرفتها، أرأيت نهيك لي عن الإمارة، وهل يصيب الناس الخير والشر، إلا بالإمارة، فقال: إنك استجهدتني فجهدت لك، إن الناس دخلوا في الإسلام طوعا وكرها، فأجارهم الله من الظلم، فهم جيران الله، وعواد الله، وفي ذمة الله، فمن يظلم منكم، إنما يحقر ربه، والله إن أحدكم ليأخذ شويهة جاره أو بعيره، فيظل عمله بأسا بجاره، والله من وراء جاره.
قال: فلم يلبث إلا قليلا، حتى أتتنا وفاة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فسألت: من استخلف بعده؟ قيل: أبو بكر، فقلت: أصاحبي الذي كان ينهاني عن الإمارة، فشددت على راحلتي، فأتيت المدينة، فجعلت أطلب خلوته، حتى قدرت عليها، فقلت: أتعرفني؟ أنا فلان بن فلان، أتعرف وصية أوصيتني بها؟ قال:
نعم، إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قبض، والناس حديثو عهد بالجاهلية، فخشيت أن يفتتنوا، وإن أصحابي حملونيها، فما زال يعتذر إلي حتى عذرته، وصار من أمري بعد أن صرت عريفا (1).
11 - الإمام الباقر وقضية الجبر والاختيار:
كان الإمام الباقر يقول: " يا معشر الشيعة، شيعة آل محمد، كونوا النمرقة (أي الوسادة) الوسطى، يرجع إليكم الغالي، ويلحق إليكم التالي "، وفسر " الغالي " بأنه من يقول فيه ما لا يقول في نفسه، و " التالي " بأنه المرتاد، يريد
____________
(1) بن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 6 / 41 - 42.
وكان دور الأئمة أن يعودوا بهذه الآراء المتشعبة والمختلفة إلى القرآن من جديد، فيحملوا على التحديد والاختيار، ويردوا الأمر إلى نصابه، فحين سئل الإمام الباقر عن الجبر والاختيار (2) قال: " إن الله أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب، ثم يعذبهم عليها، والله أعز من أن يريد أمرا فلا يكون " (3).
ثم سئل: هل بين الجبر والقدر منزلة ثالثة؟ قال: نعم، أوسع مما بين الأرض والسماء.
فالإمام الباقر إذن: ينفي الجبر على الإطلاق أولا، ثم ينفي الاختيار على الإطلاق أيضا، ومعنى هذا: أنه يجمعهما، ثم يجعل بين الجبر والقدرة منزلة ثالثة.
____________
(1) كامل مصطفى الشيبي: الصلة بين التصوف والتشيع - 1 / 171 (بغداد 1963).
(2) أنظر عن قضية القضاء والقدر - أو الجبر والاختيار - (محمد متولي الشعراوي: القضاء والقدر - القاهرة 1989، ابن تيمية: الجزء الثامن من فتاوي ابن تيمية - الرياض 1381 هـ، أحمد بن ناصر الحمد: ابن حزم وموقفه من الإلهيات ص 406 - 464 (نشر جامعة أم القرى بمكة المكرمة - 1406 / 1986 م)، عبد الفتاح أحمد فؤاد: الأصول الإيمانية لدى الفرق الإسلامية ص 108 - 116، 173، 180، 450، 456 (الإسكندرية 1990)، عبد القادر محمود: الإمام جعفر الصادق - رائد السنة والشيعة ص 38 - 55 (المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية - مصر).
(3) الشيبي: المرجع السابق ص 171، ثم قارن: الكليني: الكافي 36، الصدوق القمي:
الإعتقادات ص 470 - 471.
12 - من أقوال الإمام الباقر:
عن عبد الله بن المبارك قال: قال الإمام محمد بن علي الباقر: " من أعطي الخلق والرفق، فقد أعطي الخير والراحة، وحسن حاله في دنياه وآخرته، ومن حرمهما كان ذلك سبيلا إلى كل شر وبلية - إلا من عصمه الله " (2).
وقال: أيدخل أحدكم يده في كم صاحبه فيأخذ ما يريد تماما إلا قال:
فلستم إخوانا، كما تزعمون.
وقال: أعرف مودة أخيك لك، بما له من المودة في قلبك، فإن القلوب تتكافأ وقال: - قد سمع عصافير يصحن - أتدري ماذا يقلن؟ قلت: لا، قال:
يسبحن الله، ويسألنه رزقهن يوما بيوم.
وقال: تدعو الله بما تحب، وإذا وقع الذي تكره، لم تخالف الله عز وجل فيما أحب.
وقال: ما من عبادة أفضل من عفة بطن أو فرج، وما من شئ أحب إلى الله عز وجل، من أن يسأل، وما يدفع القضاء إلا الدعاء، وإن أسرع الخير صوابا البر، وأسرع الشر عقوبة البغي، وكفى بالمرء عيبا أن يبصر من الناس ما يعمي عليه من نفسه، وأن يأمر الناس، بما لا يستطيع أن يفعله، وينهى الناس بما لا يستطيع أن يتحول عنه، وأن يؤذي جليسه بما لا يعنيه، هذه كلمات جوامع موانع، لا ينبغي لعاقل أن يفعلها.
____________
(1) نفس المرجع السابق ص 171.
(2) البداية والنهاية 9 / 350.
وعن الأصمعي قال: قال محمد بن علي (الباقر) لابنه: يا بني إياك والكسل والضجر، فإنهما مفتاح كل شر، إنك إن كسلت لم تؤد حقا، وإن ضجرت لم تصبر على حق.
وعن أبي خالد الأحمر عن حجاج عن أبي جعفر الباقر قال: أشد الأعمال ثلاثة: ذكر الله على كل حال، وإنصافك من نفسك، ومواساة الأخ في المال.
وعن محمد بن عبد الله الزبيري عن أبي حمزة الثمالي قال: حدثني أبو جعفر محمد بن علي (الباقر) قال: أوصاني أبي فقال: لا تصحبن خمسة ولا تحادثهم ولا ترافقهم في طريق، قال: قلت: جعلت فداك يا أبة من هؤلاء الخمسة؟ قال: لا تصحبن فاسقا، فإنه بايعك بأكلة فما دونها، قال: قلت يا أبة وما دونها؟ قال: يطمع فيها ثم لا ينالها.
قال: قلت يا أبة ومن الثاني؟ قال: لا تصحبن البخيل، فإنه يقطع بك في ماله، أحوج ما كنت إليه.
قال: قلت يا أبة ومن الثالث؟ قال: لا تصحبن كذابا، فإنه بمنزلة السراب، يبعد منك القريب، ويقرب منك البعيد.
____________
(1) حلية الأولياء 3 / 186 - 188.
قال: قلت يا أبة ومن الخامس؟ قال: لا تصحبن قاطع راحم، فإني وجدته ملعونا في كتاب الله تعالى، في ثلاثة مواضع (1).
وعن أبي الربيع الأعرج ثنا شريك عن جابر قال: قال لي محمد بن علي (الباقر): أنزل الدنيا كنزل نزلت به، وارتحلت منه، أو كمال أصبته في منامك، فاستيقظت وليس معك منه شئ، إنما هي - مع أهل اللب، والعالمين بالله تعالى - كفئ الظلال، فاحفظ ما استرعاك الله تعالى من دينه وحكمته.
وعن أبي حمزة الثمالي قال: سمعت محمد بن علي (الباقر) يقول:
يقول الله عز وجل: " إذا جعل عبدي همه في هما واحدا، جعلت غناه في نفسه، ونزعت الفقر من بين عينيه، وجمعت له شمله، وكتبت له من وراء تجارة كل تاجر، وإذا جعل همه في مفترقا، جعلت شغله في قلبه، وفقره بين عينيه، وشتت عليه أمره، ورميت بحبله على غاربه، ولم أبال في أي واد من أودية الدنيا هلك " (2).
وقيل للإمام الباقر: أتعرف شيئا خيرا من الذهب؟ قال: نعم، معطيه.
وقال: اصبر للنوائب، لا تتعرض للحقوق، ولا تعط أحدا من نفسك ما ضره عليك أكثر من نفعه.
وقال: كفى العبد من الله ناصرا، أن يرى عدوه يعصي الله.
وقال: شر الآباء من دعاه البر إلى الإفراط، وشر الأبناء من دعاه التقصير إلى العقوق.
____________
(1) حلية الأولياء 3 / 183 - 184.
(2) حلية الأولياء 3 / 187.
وروى زرارة بن أعين عن أبيه عن أبي جعفر محمد الباقر، عليه السلام، قال: كان علي عليه السلام إذا صلى الفجر، لم يزل معقبا إلى أن تطلع الشمس، فإذا طلعت اجتمع إليه الفقراء والمساكين وغيرهم من الناس، فيعلمهم الفقه والقرآن، وكان له وقت يقوم فيه من مجلسه ذلك، فقام يوما فمر برجل، فرماه بكلمة هجر، قال: لم يسمعه محمد بن علي الباقر، عليه السلام، فرجع عوده على بدئه، حتى صعد المنبر، وأمر فنودي الصلاة جامعة: فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على نبيه، ثم قال: أيها الناس، إنه ليس شئ أحب إلى الله، ولا أعم نفعا من حلم إمام وفقيه، ولا شئ أبغض إلى الله، ولا أعم ضررا من جهل إمام وخرقه، ألا وإنه من لم يكن له من نفسه واعظ، لم يكن له من الله حافظ، ألا وإنه من أنصف من نفسه، لم يزده الله إلا عزا، ألا وإن الذل في طاعة الله، أقرب إلى الله من التعزز في معصيته.
ثم قال: أين المتكلم آنفا؟ فلم يستطع الإنكار، فقال: ها أنذا يا أمير المؤمنين، فقال: أما إني لو أشاء لقلت، فقال: إن تعف وتصفح، فأنت أهل ذلك، قال: قد عفوت وصفحت.
فقيل لمحمد بن علي الباقر: ماذا أراد أن يقول؟ قال: أراد أن ينسبه (2).
وعن خالد بن دينار عن أبي جعفر الباقر: أنه كان إذا ضحك، قال:
اللهم لا تمقتني.
وعن محمد بن مسعر قال قال جعفر بن محمد (الصادق): فقد أبي بغلة
____________
(1) تاريخ اليعقوبي 2 / 230 - 321.
(2) شرح نهج البلاغة 4 / 109 - 110.
وروى صاحب الكامل عن أبي جعفر الباقر، عليه السلام، قال: لما حضرت الوفاة علي بن الحسين عليه السلام، أبي، ضمني إلى صدره، ثم قال:
يا بني أوصيك بما أوصاني به أبي (أي الإمام الحسين) يوم قتل، وبما ذكر لي أن أباه عليا عليه السلام، أوصاه به: يا بني عليك ببذل نفسك، فإنه لا يسر أباك بذل نفسه، حمر النعم (2).
وقال السيوطي في تاريخ الخلفاء: أخرج ابن عساكر عن جعفر بن محمد (الصادق) عن أبيه (الباقر): أن عقيل بن أبي طالب، دخل على معاوية بن أبي سفيان، فقال معاوية: هذا عقيل وعمه أبو لهب، فقال عقيل: هذا معاوية، وعمته حمالة الحطب (3)، وزاد " ابن عبد ربه " في عقده الفريد: ثم قال يا معاوية: إذا دخلت النار، فاعدل ذات اليسار، فإنك ستجد عمي أبا لهب مفترشا عمتك حمالة الحطب، فانظر أيهما خيرا، الفاعل أو المفعول به (4).
وفي نهج البلاغة: قال معاوية - وعنده عمرو بن العاص - وقد أقبل عقيل بن أبي طالب، لأضحكنك من عقيل، فلما سلم قال معاوية: مرحبا برجل عمه أبو لهب، فقال عقيل: وأهلا برجل عمته " حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد " - لأن امرأة أبي لهب، هي أم جميل بنت حرب بن أمية، أخت أبي سفيان بن حرب، وعمة معاوية -.
____________
(1) حلية الأولياء 3 / 186.
(2) ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 7 / 108.
(3) السيوطي: تاريخ الخلفاء ص 204 (القاهرة 1964).
(4) ابن عبد ربه: العقد الفريد 4 / 91 (بيروت 1983).
13 - الإمام الباقر والعلم:
قال الإمام الباقر: " تعلموا العلم، فإن تعلمه حسنة، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح والبحث عنه جهاد، وبذله لأهله قربة، وهو ثمار الجنة، وأنس الوحشة، وصاحب في الغربة، ورفيق في الخلوة، ودليل على السراء، وعون على الضراء ".
" وهو دين عند الأخلاء، وسلاح على الأعداء، يرفع الله به قوما فيجعلهم في الخير سادة، وللناس أئمة، يقتدى بأفعالهم، ويقتص آثارهم، ويصلى عليهم كل رطب ويابس، وحيتان البحر وهوامه، وسباع البر وأنعامه ".
فالعالم عند أهل البيت كالأنبياء، إذا نفع الناس بعلمه، تصلي عليه سكان الأرض والسماء، حتى حيتان البحر، وسباع البر (2).
14 - من كرامات الإمام الباقر:
روى الشبلنجي في نور الأبصار عن أبي بصير قال: قلت يوما للباقر:
أنتم ورثة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)؟ قال: نعم، قلت: ورسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وارث الأنبياء جميعهم، قال: وارث جميع علومهم، قلت: وأنتم ورثتم جميع علوم رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، قال: نعم، قلت: فأنتم تقدرون أن تحبوا الموتى، وتبرؤوا الأكمه والأبرص، وتخبروا الناس بما يأكلون وما يدخلون في بيوتهم، قال:
نعم نفعل ذلك بإذن الله تعالى، ثم قال: أدن مني يا أبا بصير - وكان أبو بصير مكفوف النظر - قال: فدنوت منه، فمسح بيده على وجهي، فأبصرت السماء
____________
(1) ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 4 / 93.
(2) محمد جواد مغنية: فضائل الإمام علي ص 227 بيروت 1981.
وفي كتاب الدلائل للحميري عن زيد بن حازم قال: كنت مع أبي جعفر بن علي الباقر، فمر بنا أخوه " زيد بن علي " فقال أبو جعفر الباقر: أما رأيت هذا ليخرجن بالكوفة، وليقتلن، وليطافن برأسه، فكان كما قال (2).
وروى أبو الفرج بسنده عن يونس بن جناب قال: جئت مع أبي جعفر (الباقر) إلى الكتاب، فدعى زيدا، ثم اعتنقه، وألصق ببطنه، وقال: أعيذك بالله أن تكون صليب الكناسة (3).
15 - تواضع الإمام الباقر وزهده:
كان التواضع من أبرز صفات الإمام الباقر - كما كان من أبرز صفات أبيه الإمام زين العابدين - وكان تواضع الإمام الباقر مبنيا على نظر ورأي يتصلان بقدر المعرفة الذي يتناسب عكسيا مع الكبر والعجب، ومن ثم فقد كان يقول:
" ما دخل قلب ابن آدم شئ من الكبر، إلا نقص من عقله، مثل ما دخله من ذلك، قل أو كثر "، وبدهي أنه إذا صدر من مثل الإمام الباقر مثل هذا القول، فلا بد أن يكون مثلا أعلى يطمح إليه، ومبدأ يطبق، وهكذا اختط الإمام الباقر للزهد أساسا من أسسه، وهو التواضع (4).
____________
(1) نور الأبصار ص 144.
(2) نور الأبصار ص 144، وانظر عن صلب الإمام زيد بن علي (المقريزي: النزاع والتخاصم فيما بين بني أمية وبني هاشم ص 31، مروج الذهب للمسعودي 2 / 191، الكامل في التاريخ لابن الأثير 5 / 246، وفيات الأعيان 6 / 110 شذرات الذهب 1 / 158 - 159، تاريخ الطبري 7 / 189، محمد جواد مغنية: الشيعة والحاكمون ص 118، أبو زهرة: الإمام زيد، عبد الرزاق الموسوي: الشهيد زيد).
(3) أبو الفرج الأصفهاني، مقاتل الطالبيين ص 95 (النجف 1353 هـ).
(4) الشيبي: المرجع السابق ص 175.
على أن الدكتور النشار إنما يذهب إلى أن الكثير من المتصوفة والزهاد يحاولون وضع الإمام الباقر في سلسلة الزهد والتصوف، كما حاولوا أن يثبتوا انتقال العلم اللدني إليه خلال البشارة بمولده، ولكن تحليل كلمة " الباقر " نفسها يثبت العكس تماما، فقد قيل له الباقر، لأنه بقر العلم، أي شقه، وعرف أصله وخفيه، وتوسع فيه، والمقصود بالعلم هنا " علم الحديث " واستفاضت الآثار فيه أنه محدث وتابعي، ومدني تابعي ثقة، بل ينقل ابن سعد عنه قوله: " إنا آل محمد نلبس الخز واليمنة والمعصفرات والممصرات " (3).
وهذا يعني - فيما يرى الدكتور النشار - أنه لم يتخذ الزهد نظاما معينا، له قواعده وأصوله، وقد ذكره أيضا زهد الغلاة، إنه إنما كان محدثا عابدا أو زاهدا، على طريقة أهل السنة، على أننا في الوقت نفسه نرى نصا يقدمه " ابن كثير " يقول فيه: " وسمي الباقر لبقره العلوم واستنباطه الحكم، وكان ذاكرا خاشعا صابرا، وكان من سلالة النبوة رفيع النسب، عالي الحسب، وكان عارفا بالخطرات، كثير البكاء والعبرات، معرضا عن الجدال والخصومات " (4).
وعلينا أن نفسر النص في حدوده، وهي حدود " عالم الحديث "، فعالم
____________
(1) صفة الصفوة 2 / 60.
(2) الشيبي: المرجع السابق ص 175.
(3) طبقات ابن سعد 5 / 236، النشار: المرجع السابق ص 142.
(4) ابن كثير: البداية والنهاية 9 / 348.
وهكذا كان زهد الإمام الباقر، هو الزهد الذي عرفه علماء الحديث في الإسلام، وعرفوا به، وهو زهد من نوع خاص يبعده عن حركة الزهد العام التي عاصرته، بل إننا لا نرى كلمة الزهد في كلماته أو حتى في حكمه، وكذا نراه يتكلم عن الخطرات، وهي ليست من نوع خطرات النفس عند الزهاد والصوفية، وإنما يفسر بها اليقين، فيقول " الإيمان ثابت في القلب، واليقين خطرات، فيمر اليقين بالقلب، فيصير كأنه زبر الحديد، ويخرجه منه فيصير كأنه خرقة بالية، وما دخل قلبا شئ من الكبر، إلا نقص من عقله بقدره أو أكثر (1).
ثم هو يتابع أباه في سن البكاء للمسلمين، فيقول: ما اغرورقت عينا عبد بمائها إلا حرم الله وجه صاحبها على النار، فإن سالت على الخدين لم يرهق وجهه قتر ولا ذلة، وما من شئ إلا وله جزاء إلا الدمعة، فإن الله يكفر بها بحور الخطايا، ولو أن باكيا بكى من خشية الله في أمة، رحم الله تلك الأمة (2).
هذا وقد استغل الصوفية كل هذا، وأدخلوا الإمام الباقر في تيار الزهد العام، ونرى " بشر الحافي " (3) يقول: سمعت منصور يقول عن الباقر: الغنى
____________
(1) النشار: المرجع السابق ص 143 - 144.
(2) ابن كثير: البداية والنهاية 9 / 351.
(3) بشر الحافي: هو أبو نصر بشر بن الحارث، أصله من " مرو "، ولد عام 150 هـ (767 م)، وتوفي عام 227 هـ (841 م) عاش في بغداد، وكان زاهدا مشهورا، ومحدثا ثقة، دفعته رغبته عن رواية الحديث إلى دفن كتبه، وأهم آثاره " كتاب التصوف "، وأما أهم مصادر ترجمته (حلية الأولياء 18 / 336 - 360، تاريخ بغداد 7 / 67 - 80، التهذيب لابن عساكر 3 / 228 - 242، التهذيب
=>