الصفحة 52
فيهم قول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله (هم العدو فاحذرهم) (1).

والنفاق له مدرسة على مساحة أهل الكتاب قال تعالى عن المنافقين منهم: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون) (2). وقال تعالى: (وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ) (3).

فالنفاق تمتد عروقه إلى الماضي السحيق. وهو أول تيار سري على صفحة الجنس البشري. عمل من أجل إعاقة الطريق أمام العبادة الحق لحساب الأهواء المتعددة، وهذا التيار يحتوي بين دفتيه على جميع الأنماط البشرية من الذين استذلهم الشيطان. يحتوي على الرعاع والغوغاء والدهيماء. وفي نفس الوقت يضم أصحاب الملابس النظيفة والياقات البيضاء، أصحاب الأموال والأولاد وفصاحة اللسان. يقول تعالى: (وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة) (4). فهم أصحاب أزياء حسنة، وصباحة في المنظر، وتناسب في الأعضاء. إذا رآهم الرائي أعجبته أجسامهم، وإذا سمع السامع كلامهم مال إلى الاصغاء إلى قولهم. لحلاوة ظاهره وحسن نظمه، ورغم كل هذا إلا أن الحقيقة، أن هؤلاء كالخشب المسندة. أشباح بلا أرواح، لا خير فيها ولا فائدة، لأنهم لا يفقهون. وكيف يفقه من صد عن سبيل الله بكل ما يملك من الأموال وأولاد. قال تعالى: (فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم * إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون) (5). أخبر سبحانه بأن أموالهم وأولادهم ليس من النعمة التي تهتف لهم بالسعادة، بل من النقمة التي تجرهم إلى الشقاء. وأبواب الشقاء مفتوحة لجميع من أعرض عن ذكر الله، قال تعالى: (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم

____________

(1) سورة المنافقون: الآية 4.

(2) سورة البقرة: الآية 76.

(3) سورة آل عمران: الآية 119.

(4) سورة المنافقون: الآية 4.

(5) سورة التوبة: الآية 55.

الصفحة 53
القيامة أعمى * قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا * قال كذلك آتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى) (1).

والمنافقين هرولوا في اتجاه الإسلام لإنجاز برنامج لا علاقة له بالإسلام.

قال تعالى: (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون * اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون) (2) لقد هرولوا إلى الإسلام وهم معرضين عن سبيل الله!! أظهروا الإيمان ليقتربوا من المؤمنين ويحضرون في محاضرهم ومشاهدهم. فيسهل عليهم وضع العراقيل المناسبة في طريق كل حركة للدعوة.

ولأن مساحة النفاق تحتوي على الأصناف العديدة من أصحاب العقد النفسية الذين فسدت فطرتهم وعلى أصحاب المصالح والمطامع. فإن القرآن الكريم فضح هذه المساحة التي ظهر أصحابها في صدر العهد النبوي. فمنهم من لا يعرفه إلا الله وحده، قال تعالى: (وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم) (3). قال المفسرون: وممن في حولكم، أو حول المدينة من الأعراب الساكنين في البوادي. منافقون مردوا على النفاق، ومن أهل المدينة أيضا منافقون معتادون على النفاق. لا تعلمه أنت يا محمد نحن نعلمهم (4).

ومنهم من كان الله تعالى يكشفه للنبي، ومنهم من كان النبي لا يكشفه إلا لخاصة أصحابه. ومن الخاصة حذيفة وعمار رضي الله عنهما. وعن حذيفة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن في أصحابي اثنى عشر منافقا منهم ثمانية لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط " (5). وهؤلاء الاثنى

____________

(1) سورة طه: الآية 124 - 125 - 126.

(2) سورة المنافقون: الآية 1 - 2.

(3) سورة التوبة: الآية 101.

(4) الميزان 376 \ 9.

(5) رواه الإمامان أحمد ومسلم (كنز العمال 169 \ 1).

الصفحة 54
عشر ليسوا من العامة والغوغاء. فأمثال هؤلاء كان النبي يكشفهم للخاص والعام. أما حزمة الاثنى عشر الذين لا يدخلون الجنة، فهم من أصحاب برامج الخشب المسندة. برامج الأشباح التي بلا أرواح والتي لا خير فيها ولا فائدة.

لذا يقول حذيفة: " وأشهد الله أن الاثنى عشر حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد " (1). واثنى عشر فيهم كفاية لتدمير أمة. كما أن اثنى عشر فيهم كفاية لنجاة الأمة (2) ألم ترى أن بني إسرائيل كان يكفيهم عشرة فقط من الأحبار يؤمنون برسالة النبي وعلى إيمانهم يدخلون دائرة الأمن. قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لو آمن بي عشرة من اليهود لآمن بي اليهود " (3). أما الذين كشفهم النبي صلى الله عليه وسلم للخاصة والعامة. فعن جبير بن مطعم قال:

أصغى إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم - أي مال رأسه إلي - وقال: " إن في أصحابي منافقين " (4). وعن إياس عن أبيه أنهم عادوا مريضا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان المريض مرتفع الحرارة. وعندما قالوا أمام النبي أن المريض أشد حرا، قال لهم: " ألا أخبركم بأشد حرا منه يوم القيامة - وأشار لرجلين من أصحابه مولين أقفيتهما منصرفين - هذينك الراكبين المقفيين " (5). قال النووي:

سماهما من أصحابه لإظهارهما الإسلام والصحبة.

وأخرج البيهقي عن ابن مسعود قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيها الناس إن فيكم منافقين. فمن سميت فليقم، قم يا فلن، ثم يا فلان. حتى عد ستا وثلاثين (6). وعن ابن عباس قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا يوم الجمعة، فقال: " أخرج يا فلان إنك منافق. وأخرج يا فلان فإنك منافق، فأخرج ناسا منهم فضحهم. فجاء عمر بن الخطاب وهم

____________

(1) رواه الإمام مسلم كتاب صفات المنافقين (صحيح مسلم: 125 \ 17).

(2) حديث الاثنى عشر الذين من قريش سيأتي في موضعه.

(3) رواه الإمام البخاري كتاب الهجرة (صحيح البخاري: 341 \ 2).

(4) رواه الإمام أحمد (الفخ الرباني: 232 \ 19).

(5) رواه الإمام مسلم (صحيح مسلم: 128 \ 17) كتاب صفات المنافقين.

(6) السيوطي (الخصائص الكبرى: 174 \ 2).

الصفحة 55
يخرجون من المسجد. فاختبأ منهم حياء أنه لم يشهد الجمعة فظن أن الناس قد انصرفوا. واختبئوا هم من عمر ظنوا أنه قد علم بأمرهم... الحديث (1) فكشف تيارات النفاق على امتداد العهد النبوي كان يخضع لوحي الله تعالى. فالوحي كان يخبر بالبعض، ويخبر بالبعض الآخر ضمن خط عريض وهو يتحدث عن النفاق، نظرا لأن الأمة ممتحنة ومبتلية شأنها كشأن الأمم السابقة ليعلم الله كيف تعمل وكيف تختار ويعلم سبحانه الصابرين. إن الله تعالى أخبر عباده عن الشيطان وأهدافه، وكثير من العباد لم يروا الشيطان، وأخبر سبحانه عن المنافقين وصفاتهم وبرامجهم وكثير من الناس لم يعرفوا أسماء المنافقين. والحجة ليست في الملابس والأموال والأولاد. وإنما هي في الحركة والبرامج التي بينها الله تعالى في كتابه. يقول تعالى: (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام * وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد * وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد) (2). وقد يقول قائل فيمن أنزلت هذه الآية؟ والجواب عن ابن كثير يقول: إن الآية تنزل في الرجل ثم تكون عامة بعد ذلك (3). ومعنى الآية: إنه يتكلم بما يعجبك كلامه، مما يشير به إلى رعايته جانب الحق. والعناية بصلاح الخلق وتقدم الدين والأمة. وهو أشد الخصماء للحق خصومة (وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها.. الآية) التولي هو القيادة والسلطان ويؤيد هذا قوله تعالى في الآية التالية: (أخذته العزة بالإثم)...

وهذا يدل على أن له عزة مكتسبة بالإثم الذي يأثم به قلبه غير الموافق للسانه.

والسعي هو العمل والإسراع في المشي، فالمعنى: وإذا تمكن هذا المنافق الشديد الخصومة من العمل، وأوتي سلطانا وتولى أمر الناس. سعي في الأرض ليفسد فيها - ويمكن أن يكون التولي - بمعنى الإعراض عن المخاطبة والمواجنة، أي: إذا خرج من عندك كانت غيبته مخالفة لحضوره. وتبدل ما كان يظهره من

____________

(1) أورده ابن كثير عن السدي عن أبي مالك (التفسير: 384 \ 2).

(2) سورة البقرة: الآية 204 - 205 - 206.

(3) تفسير ابن كثير: 246 \ 1.

الصفحة 56
طلب الصلاح والخير إلى السعي في الأرض لأجل الفساد والإفساد (1)..

فهذا الذي يخالف ظاهر قوله، باطن قلبه. إذا سعى في الأرض بالفساد، فإنما يفسد بما ظاهره الاصلاح بتحريف الكلمة عن موضعها، وتغيير حكم الله عما هو عليه، والتصرف في التعاليم الدينية. بما يؤدي إلى فساد الأخلاق واختلاف الكلمة. وفي ذلك موت الدين وفساد الدنيا. وقد صدق هذه الآيات ما جرى عليه التاريخ من ولاية رجال وركوبهم أكتاف هذه الأمة الإسلامية.

وتصرفهم في أمر الدين والدنيا بما لم يستعقب للدين إلا وبالا. وللمسلمين إلا انحطاطا. وللأمة إلا اختلافا فلم يلبث الدين حتى صار لعبة لكل لاعب. ولا الإنسانية إلا خطفة لكل خاطف.

وقيل: (وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد..) السعي هنا هو القصد كما قال أخبارا عن فرعون (ثم أدبر يسعى فحشر فنادى أنا ربكم الأعلى).. فهذا المنافق ليس له همه إلا الفساد في الأرض وإهلاك الحرث.. (وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم) أي إذا وعظ هذا الفاجر، وقيل له اتق الله، امتنع وأبى وأخذته الحمية والغضب بالإثم. وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر، يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا، قل أفأنبئكم بشر من ذلكم. النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير ". ولهذا قال في هذه الآية: (فحسبه جهنم ولبئس المهاد) أي هي كافيته عقوبة هي ذلك (2).

إن أطروحة النفاق ترى بوضوح إذا سقطت عليها أشعة منهج العبادة الحق.

لأن المنافقين على امتداد التاريخ الإنساني بعضهم من بعض، يحكم عليهم نوح من الوحدة النفسية. وهذه الوحدة تضعهم في قالب ذي أوصاف واحدة. ومهمة هذه الطروحات على امتداد التاريخ وضع البشرية على أعتاب الكوارث، لأن بنيانها أسس من ماء الكذب ووضع على شفا جرف هار. لا خير فيه ولا فائدة.

____________

(1) الميزان: 96 \ 2.

(2) تفسير ابن كثير: 247 \ 1.

الصفحة 57

ثالثا - تيار الذين في قلوبهم مرض:

لقد خلطوا بين هذا التيار وبين المنافقين. وقالوا إنهما نوع واحد من الأنماط الإنسانية. والحقيقة غير هذا ولا تلائم سياق بعض الآيات التي ذكر فيها الذين في قلوبهم مرض. وذلك لأن المنافقين يشاركونهم في آيات أخرى، والعديد من المفسرين قالوا: المنافقون هم الذين آمنوا بأفواههم، ولم تؤمن قلوبهم والذين في قلوبهم مرض هم ضعاف الإيمان. ومرض القلب في عرف القرآن، هو الشك والريب على إدراك الإنسان، فيما يتعلق بالله وآياته. وعدم تمكن القلب من العقد على عقيدة دينية، نظرا لخلط الإيمان بالشرك عند مرض القلوب. ومن الآيات التي ذكرت الذين في قلوبهم مرض قوله تعالى: (إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم..) (1). ولا معنى للقول بأن الذين في قلوبهم مرض في هذه الآية هم من المشركين، لأن القرآن لم يطلق على المشركين اسم الذين في قلوبهم مرض ولم يطلق عليهم اسم المنافقين. ولا معنى للقول بأنهم هم الكفار، لأن الكفر هو موت للقلب لا مرض فيه، قال تعالى: (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون) (2).

والذي يستحق التسجيل هنا أن هذه الآية نزلت في غزوة بدر. وفيها دليل على حضور جمع من المنافقين وضعفاء الإيمان ببدر حين تلاقي الفئتين. وذكر أن ضعاف الإيمان كانوا فئة من قريش أسلموا بمكة، واحتبسهم آباؤهم.

واضطروا إلى الخروج مع المشركين إلى بدر، حتى إذا حضروها وشاهدوا ما عليه المسلمون من القلة قالوا: مساكين غر هؤلاء دينهم حين قدموا على ما قدموا عليه من قلة عددهم وكثرة عدوهم (3). فإذا كان تعريف المنافقين بأنهم الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، فإن ذلك لا ينطبق على الفئة التي اضطرت إلى

____________

(1) سورة الأنفال: الآية 49.

(2) سورة الأنعام: الآية 122.

(3) تفسير ابن كثير: 319 \ 2.

الصفحة 58
الخروج مع المشركين. لأن هذه الفئة لم يظهروا الإسلام، لأنهم لو كانوا قد أظهروه ما كانوا خرجوا من مكة أصلا. ومن الدليل على أن المنافق غير الذي في قلبه مرض قوله تعالى في موطن آخر من مواطن القتال: (هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا * وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا) (1). قال ابن كثير: حين نزلت الأحزاب حول المدينة والمسلمون محصورون في غاية الجهد والضيق، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم.. فحينئذ ظهر النفاق. وتكلم الذين في قلوبهم مرض بما في أنفسهم. (وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض... الآية) أما المنافق فنجم نفاقه، والذي في قلبه شبهة أو حسكة لضعف حاله فتنفس بما يجده من الوساوس في نفسه لضعف إيمانه وشدة ما هو فيه من ضيق الحال (2) وقال في الميزان: الذين في قلوبهم مرض هم ضعاف الإيمان من المؤمنين.

وهم غير المنافقين الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر) (3). وفي موطن آخر يقول تعالى: (ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت) (4). إن هذه الآية صريحة في أن الذين أظهروا الرغبة في نزولها هم الذين آمنوا. ومن يقول إن المنافقين داخلون فيهم. فهو بقوله هذا يتساهل تساهل غير لائق بكلام الله عزول. فالآية في مثل قوله تعالى في فريق من المؤمنين (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية) (5). فالمؤمنين هم الذين سألوا رسول الله: هلا أنزلت سورة. فإذا أنزلت سورة محكمة لا تشابه فيها. وأمروا فيها بالقتال. رأيت الضعفاء الإيمان

____________

(1) سورة الأحزاب: الآية 11 - 12.

(2) تفسير ابن كثير: 473 \ 3.

(3) الميزان: 286 \ 16.

(4) سورة محمد: الآية 20.

(5) سورة النساء: الآية 77.

الصفحة 59
ينظرون إليك من شدة الخشية نظر المحتضر (1). وقال ابن كثير في تفسير الآية:

يقول تعالى مخبرا عن المؤمنين. إنهم تمنوا شرعية الجهاد. فلما فرضه الله عز وجل. وأمر به، نكل عنه كثير من الناس.. ولهذا قال: (فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض... الآية) أي من فزعهم ورعبهم وجبنهم من لقاء العدو (2).

فالمنافق لا يمكن أن يطلب آية كي يقاتل ويقتل. وإنما الذي طلب هم المؤمنون. وعندما نزلت الآية ظهر ضعاف الإيمان منهم. ومن الدليل أيضا على أن تيار الذين في قلوبهم مرض، تيار منفصل وإن كان يعمل بطريقته الخاصة لعرقلة الطريق سواء كان يدري أو لا يدري. قوله تعالى: (لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا * ملعونين أينما ثقفوا..) (3).

فالآية الكريمة ذكرت فئات ثلاث. المنافقون، والذين في قلوبهم مرض، والمرجفون. وعلى رؤوسهم لعنة من الله تعالى إذا استمروا على ما هم عليه.

فالمنافق هو الذي أظهر الإيمان وأبطن الكفر، والذي في قلبه مرض هو الضعيف الإيمان، والمرجفون هم الذين يعملون على إشاعة الباطل لإلقاء الاضطراب والمعنى: أقسم لئن لم يكف المنافقون والذين في قلوبهم مرض عن الافساد.

والمرجفون الذين يشيعون الأخبار الكاذبة في المدنية لإلقاء الاضطراب بين المسلمين، لنحرضنك عليهم، ثم لا يجاورونك في المدنية. بسبب نفيهم عنها (سنة الله في الذين خلوا من قبل. ولن تجد لسنة الله تبديلا) (4) فهذه العقوبة، من النفي أو القتل سنة الله التي جرت في الماضين. فكلما بالغ قوم في الافساد وإلقاء الاضطراب بين الناس، وتمادوا وطغوا في ذلك، أخذهم الله كذلك. ولن تجد لسنة الله تبديلا، فتجري فيكم كما جرت في الأمم من

____________

(1) الميزان: 239 \ 18.

(2) تفسير ابن كثير: 178 \ 4.

(3) سورة الأحزاب: الآية 60 - 61.

(4) سورة الأحزاب: الآية 62.

الصفحة 60
قبلكم (1).

وإذا سبقنا الأحداث فإنني أسجل هنا أن قرار النفي واللعن نفذه النبي صلى الله عليه وسلم وفقا لما جاء في هذه الآية الكريمة، على الحكم بن العاص (2). وظل الحكم في المنفى حتى رده عثمان بن عفان وكانت عودته عمود أصيل فيما جرى من أحداث سنبينها في حينه.

وتيار الذين في قلوبهم مرض، نواته الأولى كانت بمكة قيل الهجرة. وجاء ذكرهم في سورة المدثر وهي سورة مكية، تعالى: (وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا..) (3). فإذا كان النفاق قد ظهر في المدنية وهو رأي الغالب الأعم من المفسرين. فإنه لا معنى للقول إن الذين في قلوبهم مرض في هذه الآية هم المنافقون، وذلك لأن السورة مكية.

وقال المفسرون في معنى الآيات: أي ما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة، يقدرون على ما أمروا به. فليسوا من البشر حتى يرجوا المجرمون أن يقاوموهم، وما ذكرنا عددهم وهو قوله تعالى (عليها تسعة عشر) إلا فتنة للذين كفروا، ليوقن أهل الكتاب، بأن القرآن النازل عليك حق. حيث يجدون ما أخبرنا به من عدة أصحاب النار موافقا لما ذكر فيما عندهم من الكتاب، ويزداد الذين آمنوا إيمانا بسبب ما يجدون من تصديق أهل الكتاب ذلك (وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون. ماذا أراد الله بهذا مثلا) أي ما الذي يعنيه من وصف الخزنة بأنهم تسعة عشر. فهذه العدة القليلة، كيف تقوى على تعذيب أكثر الثقلين من

____________

(1) الميزان: 340 \ 16.

(2) ذكر ابن كثير في البداية والنهاية 182 \ 6 أن الحكم كان من ألد أعداء النبي صلى الله عليه وسلم.

(3) سورة المدثر: الآية 31.

الصفحة 61
الجن والإنس (1). وقال ابن كثير قولهم (ماذا أراد بهذا مثلا) أي يقولون ما الحكمة في ذكر هذا ههنا؟ قال تعالى: (كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء) أي من مثل هذا - القول - وأشباهه يتأكد الإيمان في قلوب أقوام ويتزلزل عند آخرين. وله الحكمة البالغة والحجة الدافعة، وقوله تعالى: (وما يعلم جنود ربك إلا هو) أي ما يعلم عددهم وكثرتهم إلا هو تعالى لئلا يتوهم متوهم أنهم تسعة عشر فقط (2).

ومن المعروف أن أهل الكتاب قبل البعثة كانوا يضعون أعينهم على مكة، لعلمهم من كتبهم أن النبي سيبعث من هناك. وبعد نزول الوحي في مكة كان لصفات النبي صلى الله عليه وآله عند أهل الكتاب أثر كبير عند المسلمين.

وكذلك الإخبار بعدد ملائكة النار، وهذا الإخبار وإن كان زاد الذين آمنوا إيمانا.

إلا أن حكمة الله البالغة كشفت من خلاله تيارا كان الارتياب مادته في مكة.

والمتدبر في حركة الواقع المكي عند مبعث النبي صلى الله عليه وآله يجد أنه مجتمع إنساني. والمجتمع الإنساني لا يخلو من أصحاب المصالح، وقد يكون النفاق جلبابا مهما لهؤلاء. وحلل النفاق لا تنحصر في المخافة والاتقاء، أو الطمع من خير معجل، فإن من علله أيضا الطمع ولو في نفع مؤجل. ومنها أيضا العصبية والحمية، ولا دليل على انتفاء جميع هذه العلل عن أهل مكة أو عن الذين آمنوا بالدعوة قبل الهجرة. فما بين أيدينا من كتب التاريخ والتراجم يذكر فيها أن فيهم من آمن ثم رجع، أو ارتاب ثم صلح. ومن الممكن أن يكون هناك من يرتاب في دينه فيرتد ويكتم ارتداده، كما في قول الله تعالى: (ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون) (3). فلا يبعد أن يكون في هؤلاء من آمن حقيقة ثم ارتد وكتم ارتداده، فطبع الله على قلبه بحيث لا يقبل الحق ولا يتبعه ويتبع هواه وفقا لبرنامج الشيطان. ويكون بخاتم الطبع قد

____________

(1) الميزان: 90 \ 20.

(2) الميزان: 91 \ 20، ابن كثير: 444 \ 4.

(3) سورة المنافقون: الآية 3.

الصفحة 62
دخل تحت الآية الكريمة التي نزلت في مكة وفي المدينة (إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون * ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم * ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين * يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون * في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون) (1). ومن الممكن أيضا أن يكون بعض من آمن في مكة، قد آمن طمعا في بلوغ أمنيته التي قد تكون التقدم والاستعلاء. وخصوصا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر في دعوته لقومه أنهم لو آمنوا به واتبعوه كانوا قادة الأرض. وكان الرهبان يخبرون بذلك وفقا لما بين أيديهم من أوصاف الدعوة الخاتمة، فوفقا لهذا الاعلان أن يكون هناك من آمن غير عابئا بقوة المشركين الطاحنة ويعيش على خطر، رجاء أن يوفق يوما لإدارة رحى المجتمع والعلو في الأرض. ومن الممكن أن يكون في المجتمع بعض المغمورين الطموحين إلى سعة الصيت وجذب الأنظار إليهم. فآمنوا بالدعوة التي وجدوا فيها اتجاها جديدا يضيق الفوارق بين الطبقات يمكن لهم أن يعالجوا مشاعر النقص التي يعانونها ويحقق لهم البروز وسعة الصيت والمكانة عن طريق تحدي مواقع النفوذ والسيطرة داخل المجتمع. ومن الممكن أن يكون هؤلاء المغمورين ضمن الذين لم يتعرضوا إلى أي أذى نتيجة معرفة قريش بهم في جاهليتهم، وفهمها لنواياهم الحقيقية في الانضمام للدعوة. بحيث أن الصدق والإخلاص والتفاني أمور مستبعدة بالنسبة لهؤلاء لذلك لم يتعرضوا لهم.

وقد يكون ضعاف الإيمان قد هاجروا بعد ذلك من مكة إلى المدينة. ولكن الهجرة لها شروط، ومن أهم شروطها أن تكون في سبيل الله وليس في سبيل هدف آخر، قال تعالى: (فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم) (2) وقال جل شأنه (والذين هاجروا في

____________

(1) سورة البقرة: الآية 6 - 10، سورة يس: الآية 10.

(2) سورة آل عمران: الآية 195.

الصفحة 63
الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر) (1). فالهجرة الصحيحة هي ما عقد عليه القلب لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إنما الأعمال بالنيات. وإنما لكل امرئ ما نوى. فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله.

فهجرته إلى الله ورسوله. ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه " (2). وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا وابتغي به وجهه " (3)، والقرآن الكريم لم يضع الذين هاجروا مع الأنبياء في دائرة الحصانة، لأنهم بشر جاءوا ليختبرهم الله في الحياة الدنيا من يومهم الأول إلى يومهم الأخير. ألم يهاجر السامري من مصر مع موسى عليه السلام؟ ألم يكن على مقدمة موسى عند عبور البحر وأمامه ملك يرشدهم. فماذا فعل السامري ذلك المهاجر؟ ألم يأخذ قبضة من أثر هذا الملك. وكانت هذه القبضة وبالا على بني إسرائيل. لقد ساهم السامري بهذه القبضة في صناعة عجل من ذهب عبده المنحرفين من بني إسرائيل وأشربوا في قلوبهم حب هذا العجل. وكان هذا الحب وبالا فيما بعد على الجنس البشري.

إن السامري هاجر وبعد الهجرة ظهر ما في نفسه. قال تعالى لموسى عليه السلام عندما ذهب للقاء (إنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري) (4)، والفتنة هي الامتحان والاختبار. وعندما عاد موسى عليه السلام وعلم بما حدث. أخبر عنه الله تعالى: (قال فما خطبك يا سامري * قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي) (5).

أنظر إلى قوله (سولت لي نفسي) فالنفس طريق الإنسان إلى ربه. ولقد أقام الله على الإنسان الحجة فيها، فألهمه طريق الفجور وطريق التقوى. فمن انغمس في

____________

(1) سورة النحل: الآية 41.

(2) رواه البخاري ومسلم وأبو داوود والترمذي والنسائي (الترغيب والترهيب: 181 \ 2).

(3) رواه أبو داوود والنسائي (الترغيب: 181 \ 2).

(4) سورة طه: الآية 85.

(5) سورة طه: الآية 95 - 96.

الصفحة 64
الشهوات غشى عمله على قوة النفس الهائلة، فيفتح العمل طريق الفجور على اتساعه. أما من التزم في عمله بما أمر به الله وما نهى عنه، تكون نفسه حظا سعيدا ينتهي إلى ثواب الله، والإنسان لا يطأ موطأ في سيره إلا بأعمال قلبية، هي الاعتقادات ونحوها. وأعمال جوارحية صالحة أو طالحة. وما أنتجه عمله يوما، كان هو زاده غدا. والسامري سولت له نفسه، فما أغنت عنه هجرته (قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه..) (1).

إن الذي في قلبه مرض، في قلبه شهوة. في سبيلها يركب الصعب كما ركب السامري الصعب وأسس في نهاية الأمر عقيدة شاذة. وكما ذكر القرآن قصة السامري، لم يستبعد الفكر الحكيم أن يطمع الذي في قلبه مرض في أي أثر محرم عليه حتى ولو كان ضد الأثر زوجات النبي صلى الله عليه وسلم. على الرغم من أنه يعلم بنص القرآن إنهن أمهات المؤمنين، فمقتضى هذا النص لا يجوز لصاحب قلب سليم أن يقترب نحو مطمع في أمهات المؤمنين. ولكن عالم مرضى القلوب، عالم متخصص في نهش أي قبضة من أثر أي رسول. ليتاجر بها لحساب عالمه الخاص (2). قال تعالى: (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا) (3)، قال المفسرون: نهاهن عن الخضوع في القول وهو ترقيق الكلام مع الرجال.

بحيث يدعو إلى الريبة. ويثير الشهوة فيطمع الذي في قلبه مرض. وهو فقدانه قوة الإيمان التي تردعه عن الميل إلى الفحشاء (4)، وقال ابن كثير: في قلبه مرض. أي دغل (5). والدغل بالتحريك: الفساد. والدغل هو أيضا: دخل في

____________

(1) سورة طه: الآية 97.

(2) كان بعضهم يريد هذا ويفهم من قوله تعالى: (ما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما * إن تبدوا شيئا أو تخفوه فإن الله بكل شئ عليما). الأحزاب 53 - 54 (3) سورة الأحزاب: الآية 32.

(4) الميزان: 309 \ 16.

(5) تفسير ابن كثير: 482 \ 3.

الصفحة 65
الأمر مفسد. وأدغل في الأمر أي: أدخل فيه ما يفسده ويخالفه، ورجل مدغل أي: مخاب مفسد (1).

وبالجملة نقول: إن الذي في قلبه مرض، لا يدخل في دائرة النفاق، لأنه محسوب على دائرة الذين آمنوا. وكل منافق في قلبه مرض، بمعنى في قلبه هدف لا علاقة له بأي هدف من أهداف الذين آمنوا. لأن الإيمان لم يدخل قلبه بصورة من الصورة. وما في قلبه فهو للصد عن سبيل الله ولا غير ذلك، لذلك نقول والله تعالى أعلم إن حديث الارتداد الذي رواه أصحاب الصحاح ينطبق على من كان يجلس في دائرة الذين آمنوا ثم ارتد عنها. ولا ينطبق على المنافق الذي لم يؤمن أصلا حتى يرتد. وفي الحديث عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يرد علي يوم القيامة، رهط من أصحابي، فيحولون عن الحوض. فأقول: يا رب أصحابي، فيقول: إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقهرى " (2) فالمنافق لم يؤمن حتى يرتد. إلا إذا كان قد آمن بعد ذلك ثم ارتد. ومن الدليل على بطلان قول من قولوا، إن الحديث يختص بالمنافقين. الحديث الذي رواه ابن عساكر وابن النجار عن أبي الدرداء أنه لما بلغه الحديث قال: قلت يا رسول بلغني أنك قلت ليكفرن أقوام بعد إيمانهم. قال: نعم ولست منهم (3) وفي رواية عند البيهقي قال: فأتيت رسول الله فذكرت له ذلك فقال: إنك لست منهم (4).

إن دائرة النفاق وتيار الذين في قلوبهم مرض. بذرتان في تربة واحدة يسقيان من ماء واحد، ولكل شجرة منهما ثمار وأزهار، لا طعم فيهما ولا رائحة. أنبتهما الله من الأرض لحكمة ومن وراء الحكمة هدفا. (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم * فليعلمن

____________

(1) لسان العرب.

(2) رواه البخاري كتاب الدعوات (الصحيح: 142 \ 4).

(3) كنز العمال (261 \ 11).

(4) رواه البيهقي قاله ابن كثير في البداية: 208 \ 6.

الصفحة 66
الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين * أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا * ساء ما يحكمون) (1).

رابعا - جهاز الرجس التخريبي:

إذا كان الشيطان في برنامجه قد استهدف أنبياء الله ورسله والدعوة إلى الله والناس. وإذا كان الكفار والمشركون والمنحرفون من أهل الكتاب قد استهدفوا ببرنامجهم النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم ودعوته. فإن دائرة الرجس سارت في نفس الاتجاه. فلقد استهدفوا الرسول فحاولوا اغتياله مرات عديدة واستهدفوا الدعوة بالتشكيك فيها وفي الداعي إليها واستهدفوا القوة الإسلامية المسلحة بتعريضها للهزيمة حتى تتآكل.

* 1 - استهداف النبي صلى الله عليه وآله:

محاولات أصحاب برنامج الشيطان، استهدفوا النبي صلى الله عليه وسلم منذ بداية الدعوة. لقد شككوا فيه واتهموه اتهامات شتى وتصدى لهم القرآن ورد كيدهم إلى نحورهم. ثم حاولوا استعمال سياسة القبضة الغليظة، فاستهدفوا الرسول بإلقاء حجارتهم عليه، ثم محاولة قتله أكثر من مرة في مكة. وبعد هجرته صلى الله عليه وسلم تكررت محاولات قتله بواسطة اليهود ثم بالتركيز عليه أثناء المعارك الحربية كي ينالوا منه صلى الله عليه وسلم ولكن رد الله كيدهم في كل مرة. وبلغت الذروة عندما همت مجموعة تخريبية من المنافقين بمحاولة اغتياله في أيامه الأخيرة. وهذه المحاولة لاغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم، مدونة في كتب التاريخ والتفسير والصحاح والمسانيد (2). وطابور النفاق والذين في قلوبهم مرض، هم الذين قاموا بهذه المحاولة، وكانوا اثنى عشر رجلا (3). وكانت خطتهم أن يقطعوا أتساع راحلته،

____________

(1) سورة العنكبوت: الآية 2 - 3 - 4.

(2) الميزان: 278 \ 9.

(3) وفي رواية كانوا خمسة عشر. منهم ثلاثة لم يعرفوا بالخطة.

الصفحة 67
ثم يلقوا تحت أرجلها بالحجارة كي تقفز به، ثم ينخسوها لتندفع إلى الأمام نحو المنزلق فتلقى رسول صلى الله عليه وسلم من المرتفع إلى المنخفض. فيجهزوا عليه، واختاروا لجريمتهم وقتا قصيرا قبل الظلام. فإذا تمت الجريمة طواهم الليل ولا يراهم أحد. ثم يعودون ليتوضئوا وليصلوا صلاة المغرب ويصلون فيها على محمد وآل محمد، وروي أن عمار بن ياسر وحذيفة رضي الله عنهما كانا مع النبي أحدهما يقود الناقة والآخر يسوقها. وبينما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في اتجاه العقبة، وهو المكان المخطط له أن تقع الجريمة فيه، أخبر جبرائيل عليه السلام النبي بما يدبر له. وفي المكان المحدد، ثم الهجوم وألقيت الحجارة تحت أرجل الناقة، ولكن الناقة لم تتحرك وثبتت على الأرض ثبوت الجبال. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لحذيفة: اضرب وجوه رواحلهم، فضربها حتى نحاهم. فلما نزل النبي من المرتفع، قال لحذيفة: من عرفت من القوم؟ قال: لم أعرف منهم أحدا، إن ظلمة الليل غشيتهم وهم متلثمون. فقال النبي: هل عرفت ما شأنهم وما يريدون؟ قال حذيفة: لا يا رسول الله. قال النبي: فإنهم فكروا أن يسيروا معي حتى إذا صرت في العقبة طرحوني فيها. فقال حذيفة: ألا تبعث إليهم فتقتلهم؟ فقال النبي: أكره أن يتحدث الناس ويقولون: إن محمدا يقتل أصحابه، وسماهم واحدا واحدا (1) وهذه المجموعة التخريبية التي أقدمت على تنفيذ برنامجها الذي يستمد قوته من برنامج الشيطان أشار إليها الإمام مسلم في صحيحه. فعن حذيفة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن في أصحابي اثنى عشر منافقا، منهم ثمانية لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط " (2) وروي أن حذيفة قال: أشهد أن الاثنى عشر حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد " (3) وروي عن عمار بن ياسر قال: أشهد أن الاثنى عشر حربا لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم

____________

(1) قصة تبوك في صحيح مسلم كتاب المنافقين: 8 / 123، وسند أحمد 5 / 390.

(2) رواه الإمام أحمد والإمام مسلم (كنز العمال: 169 / 1).

(3) رواه الإمام مسلم في صفات المنافقين (صحيح مسلم: 125 / 17).

الصفحة 68
الأشهاد " (1). إنها شهادة واحدة، لصحابي قاد الناقة وآخر ساقها. شهادة مسطورة في الصحاح والمسانيد. تقول إن من الصحابة من لا يدخل الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط. وإذا أردنا أن نعرف دوافع الجريمة عند المجموعة التخريبية، فلنقف عند العقوبة ونسلط عليها الضوء القرآني. قال تعالى: * (إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط وكذلك نجزي المجرمين) * (2).

إن المجموعة التخريبية كذبت بآيات الله، واستكبروا عنها، فضربتهم العقوبة التي شهد بها عمار وحذيفة رضي الله عنهما، في كتب الصحاح. وهذه العقوبة ستصيب كل من كذب بآيات الله واستكبر عنها حتى يرث الله تعالى الأرض لقوله جل وعلا: * (وكذلك نجزي المجرمين) * إن التكذيب بآيات الله جريمة تخترق المستقبل من الماضي. * (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا قل انتظروا إنا منتظرون) * (3)، والاستكبار جريمة ترى آثارها على امتداد الليل. والاستكبار والتكبر من الإنسان، أن يعد نفسه كبيرا ويضع نفسه موضع الكبر وليس به ولذلك يعد في الرذائل. وفي لسان العرب: الاستكبار، الامتناع عن قبول الحق معاندة وتكبرا (4).

* 2 - استهداف الدعوة:

استهدف كتاب الدعوة منذ يوم الانذار الأول، فقالوا أساطير الأولين.

وغير ذلك من أقوالهم التي تصدى لها القرآن ونسفها نسفا ورد كيدهم إلى نحورهم. وعندما لم يستطيعوا النيل من كتاب الله، استهدفوا الدعوة من خلال

____________

(1) رواه الإمام أحمد (الفتح الرباني: 202 / 21).

(2) سورة الأعراف: الآية 40.

(3) سورة الأنعام: الآية 158.

(4) لسان العرب: ص 3808.

الصفحة 69
حركتها وشعائرها بواسطة المنافقين، لضربها وضرب قوتها في وقت واحد. كان الجهاز التخريبي يدخل للصلاة وهدفه لا يعرف طريق الاهتداء، وبلغت ذروة الاستهداف للدعوة في آخر أيام النبي صلى الله عليه وسلم. وذلك عندما قاموا ببناء مسجد مهمته تخريب الصف الإسلامي وبث ثقافة معادية للدعوة، ووضع بذور بواسطتها تظهر الأحزاب والمذاهب بين المؤمنين.. فكل هذا تحت سقف مسجد يرفع عليه الآذان، وهذا العمل اشترك فيه جميع أتباع برنامج الشيطان، من مشركين وأهل كتاب وعلى رأس الجميع قيصر الروم. وقد كان مقدرا أن يعمل مسجدهم هذا في الفترة الزمنية التي حدثت فيها غزوة تبوك. لقد فرغوا من البناء قبل الغزوة، ثم وجهوا الدعوة إلى النبي صلى الله عليه وسلم كي يفتتح المسجد بالصلاة فيه. لكن الله عصمه، وبعد العودة من تبوك حدثت محاولة الاغتيال. باختصار كانت هذه الفترة الزمنية، فترة عصيبة لا يرى حجم الخطورة فيها إلا بتجميع أحداثها.

لقد أقاموا مسجدا، وهم الذين قال فيهم الله تعالى: * (قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين) * (1). فالإنفاق منهم لغو لا يترتب عليه أثر. وهم فاسقون والله لا يقبل عمل الفاسقين، قال تعالى: * (إنما يتقبل الله من المتقين) (2)، والتقبل أبلغ من القبول. وقال فيهم أيضا: * (يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين) * (3). وقال تعالى: * (يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين) * (4). لقد كانوا يحاربون معركة سرية غايتها أن ينالوا رضى المؤمنين، وتحت هذه اللافتة يتم المخطط الإجرامي. ولكن آيات الله وقفت لهم بالمرصاد، وأخبرت أن الواجب على كل مؤمن أن يرضي الله ورسوله. ولا يحاد الله ورسوله، لأن في هذا خزيا عظيما. وأخبر سبحانه أن حلفهم هذا كان من أجل

____________

(1) سورة التوبة: الآية 53.

(2) سورة المائدة: الآية 27.

(3) سورة التوبة: الآية 96.

(4) سورة التوبة: الآية 62.

الصفحة 70
صرف المؤمنين عنهم ليأمنوا الذم، فأمر جل شأنه بالإعراض عنهم لأنهم رجس ولا ينبغي لنزاهة الإيمان وطهارته، أن يتعرض لرجس النفاق والكذب، وقذارة الكفر والفسق. وأخبر تعالى، إنكم إن رضيتم عنهم، فقد رضيتم عمن لم يرض الله عنه. أي رضيتم بخلاف رضا الله، ولا ينبغي لمؤمن أن يرضى عما يسخط ربه.

فهؤلاء الذين لم يرض عنهم الله بنوا مسجدا لهدف، قال تعالى: * (والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد أنهم لكاذبون) * (1).

قال المفسرون: بين الله تعالى أهداف هذه الطائفة من المنافقين في اتخاذ هذا المسجد وهو:

* الإضرار بغيرهم * والكفر * والتفريق بين المؤمنين * والإرصاد لمن حارب الله ورسوله. والقصة التي اتفق عليها أهل النقل: إن رجلا يقال له أبو عامر الراهب كان يعيش بالمدينة. وبعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة فارا إلى كفار مكة، يمالئهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان ذلك بعد غزوة بدر، فاجتمعوا بمن وافقهم من أحياء العرب، وقدموا يوم أحد. وقام أبو عامر بحفر حفر بين الصفين، وقع في إحداهن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأصيب ذلك اليوم. فجرح وجهه الشريف. وشج رأسه صلى الله عليه وسلم. ولما فرغ الناس من أحد، ولم ينل المجرمون من النبي ودعوته شيئا، ذهب أبو عامر إلى هرقل ملك الروم، يستنصره على النبي صلى الله عليه وسلم. فوعده ومناه، فكتب إلى جماعة من أهل النفاق والريب يعدهم ويمنيهم إنه سيقدم بجيش يقاتل به رسول الله ويغلبه ويرده عما هو فيه. وأمرهم أن يبنوا له معقلا يقدم عليهم فيه من يقدم من عنده، ويكون مرصدا له إذا قدم عليهم بعد ذلك. فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء، وفرغوا منه قبل خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى

____________

(1) سورة التوبة: الآية 107.

الصفحة 71
تبوك. وجاءوا فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي إليهم فيصلي في مسجدهم ليحتجوا بصلاته فيه على تقريره وإثباته. فعصم الله رسوله من الصلاة فيه فقال لهم " إنا على سفر ولكن إذا رجعنا إن شاء الله " فلما قفل عليه السلام راجعا إلى المدينة من تبوك نزل عليه جبريل يخبر بالمسجد الضرار (1) كما أخبره بمحاولة الاغتيال. فأمر النبي بهدم المسجد وحرقه، وحرق الرمز كي يتدبر المتدبرون في أحداثه ورماده ودخانه. ويبقى سؤال، هل انتهى المسجد؟

والإجابة في كتاب الله. قال تعالى: * (لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم) * (2). قال المفسرون: روي أن مكان المسجد الضرار كانت توجد حفرة بها حجر يخرج منه دخان (3). والمسجد اليوم مزبلة.

وقال ابن كثير في تفسير الآية: * (لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم) * أي شكا ونفاقا بسبب إقدامهم على هذا الصنيع الشنيع، أورثهم نفاقا في قلوبهم.

كما أشرب عابدو العجل حبه. وقوله * (إلا أن تقطع قلوبهم) * أي بموتهم (4).

وقال البيضاوي في تفسير: رسخ ذلك في قلوبهم وازداد بحيث لا يزول وسمه من قلوبهم.

فأتباع السامري قال فيهم تعالى: * (واشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم) * (5) وأتباع المسجد الضرار قال فيهم الله * (لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم) * إن البصمة هنا وهناك على القلوب.

3 - استهداف القوة العسكرية:

القتال في الإسلام، عموده الفقري الدفاع عن الفطرة. ولأنه على طريق

____________

(1) تفسير ابن كثير: 387 / 2.

(2) سورة التوبة: الآية 110.

(3) تفسير ابن كثير: 391 / 2.

(4) المصدر السابق: 391 / 2.

(5) سورة البقرة: 93.