الصفحة 72
الفطرة فإنه يكره الاعتداء، قال تعالى: * (ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) * (1). وقال: * (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) * (2). القتال في الإسلام له قانون، وهذا القانون للفطرة ومن أجلها.

ولقد دأب أعداء الفطرة في وضع العراقيل أمام القوة الإسلامية حتى لا يشتد ساعدها. في مكة استهدفوا الأجساد التي لم يكتب عليها القتال بعد، أرادوا لها أن تخاف وأن تتقوقع. وفي المدينة حشدوا الحشود وتعاونوا مع أعداء الدعوة في كل مكان للقضاء على القوة العسكرية الناهضة، ورد الله كيدهم. وبدأ أصحاب برنامج الشيطان، يعتمدون على ورقة النفاق تلك الورقة التي اخترق أصحابها الصف الإسلامي. واستطاعوا أن يبثوا ثقافتهم بين المسلمين. وكان في الصف الإسلامي سماعون لهم، وهؤلاء السماعون استطاعوا أن يجعلوا من القوة الواحدة فئتين فئة تعطي أصواتها للمنافقين والأخرى ترفض الانصات وتطالب بقتال المنافقين الذين انسحبوا من أرض المعركة. باختصار كان للمنافقين أثرا بالغا في تعريض القوة المسلحة الإسلامية للعديد من الضربات.

وبإلقاء نظرات على عمليات التخريب الكبرى التي قام بها المنافقون، نجد أنهم كانوا أسرع الناس في التخلف والقعود عن الجهاد، واستئذان الجنود في التخلف والقعود من غير عذر، جريمة في حق الفطرة. يقول تعالى: * (لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين) * (3)، فالمؤمن يقف على أرضية العبادة الحق، التي تجعله على بصيرة من وجوب الجهاد في سبيل الله بماله ونفسه. ولما كانت معارك الإسلام يتقدمها عمليات للاستطلاع وعليها يتم تقدير الموقف وعليه يتم تنظيم التعاون بين القوات المشتركة. فإن الاستئذان بعد هذه الإجراءات أو أثناء المعركة نفسها، يترتب عليه إعادة التنظيم وبهذا يكون ضياع الوقت في صالح العدو. أو إتاحة

____________

(1) سورة البقرة: الآية 190.

(2) سورة المائدة: الآية 2.

(3) سورة التوبة: الآية 44.

الصفحة 73
الفرصة للقوات المعادية للتقدم وإجراء عمليات الالتفاف والتطويق في المناطق التي أخليت عن طريق الذين استأذنوا أو انسحبوا. وحركة النفاق كان الاستئذان والانسحاب أصل أصيل فيهم، قال تعالى: * (إنما تستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون) * (1). فالمنافق لعدم إيمانه بالله واليوم الآخر يكون فاقدا لصفة التقوى، فخروجه مع المؤمنين يكون من باب النفاق. وعلى امتداد خروجه يتردد في دائرة عريضة مادتها التذبذب والارتياب.

فهو يريد مغنما ما، وفي نفس الوقت لا يريد أن يموت، ثم يأخذ القرار المناسب في الوقت المناسب بما يحقق أمن الفرد وأمن الدائرة.

وفي غزوة أحد، كان مؤسس المسجد الضرار يطوف على جبابرة قريش في مكة لتعبئتهم ضد النبي صلى الله عليه وسلم. وعندما تم حشد القوة الإسلامية وبدأ التوجه إلى أحد، انسحب المنافقون وكانت قواتهم تقدر بثلث الجيش (2) ولم يؤثر فيهم أي موعظة وإلحاح. ويقول تعالى في اعتذارهم يومئذ:

* (وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان) * (3). قال المفسرون: رجع المنافقون أثناء توجه المسلمون إلى أرض المعركة فاتبعهم رجال من المؤمنين يحرضونهم على الإتيان والقتال والمساعدة. فإن لم يكن في سبيل الله فليدفعوا عن أولادهم وحريمهم وأنفسهم. فتعللوا قائلين: لو نعلم أنكم تلقون حربا لجئناكم. ولكن لا تقاتلون قتالا. وقولهم هذا جعلهم من الكفر الصريح أقرب (4). وهذا العمل الذي يلتقي مع عمليات حشد مؤسسي المسجد الضرار في نقطة واحدة، كان أحد الأسباب العاملة لانهزام المسلمين يومئذ. وإذا كانت دائرة النجس قد نسقت بصورة أو بأخرى مع الأطراف في مكة يوم أحد فإنهم نسقوا أيضا مع يهود بني النضير بالمدينة. روي أن بني النضير تآمروا على قتل

____________

(1) سورة التوبة: الآية 45.

(2) تفسير ابن كثير: 532 / 1.

(3) سورة آل عمران: الآية 167.

(4) الميزان: 60 / 4.

الصفحة 74
النبي صلى الله عليه وسلم. فأخبر الوحي النبي ما هم به يهود بني النضير. فبعث إليهم النبي أن أخرجوا من المدينة ولا تساكنوني بها. فبدأوا يتجهزون للخروج، فأرسل إليهم عبد الله بن أبي زعيم المنافقين، أن لا تخرجوا فإن معي ألفين يدخلون معكم حصنكم ويموتون دونكم، وسينصركم بنو قريظة وحلفاؤكم من غطفان. ولم يتركهم حتى أقنعهم وأرضاهم فبعث اليهود إلى النبي صلى الله عليه سلم: إنا لا نخرج من ديارنا، فاصنع ما بدا لك. فكبر النبي صلى الله عليه وسلم وكبر أصحابه. وساروا إليهم وأحاطوا بديارهم (1). قال تعالى: " ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون) * (2).

لقد ربط القرآن بينهم بأخوة واحدة لاشتراكهم في اعتقاد أو صداقة. ولم يف المنافقون بما وعدوا به إخوانهم من أهل الكتاب، لقد ساندوهم فقط بالقول نظرا لأن عدوهما واحد. وكل منهما وقف خلف جدار الآخر، كل طرف يتمنى أن يبادر صاحبه بإتمام المهمة التي عليه بصمات الشيطان. ولما كانت حركة النفاق مهمتها التخريب والتأليب وتعريض الصف الإسلامي القتالي للخطر. فإن الله تعالى زهدهم في الخروج، يقول تعالى: * (ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين) * (3). قال المفسرون:

لو أرادوا الخروج لأعدوا له العدة. ومن الإعداد الاعتقاد الصحيح والإيمان الحق. ولأنهم لم يعدوا العدة ولم يتأهبوا لها، كره الله خروجهم فزهدهم فيه لئلا يفسدوا جمع المؤمنين (4).

لقد زهدهم الله في الخروج لأن في خروجهم كارثة، ولم يقتصر خروجهم

____________

(1) الميزان: 208 / 19.

(2) سورة الحشر: الآية 11.

(3) سورة التوبة: الآية 46.

(4) الميزان: 290 / 9.

الصفحة 75
على الانسحاب والاستئذان. وإنما كانوا يلقون بالفتن ليفرقوا كلمة المسلمين.

وذلك عن طريق الذين كانوا يسمعون لهم، قال تعالى: * (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين) * (1). قال المفسرون: وفيكم سماعون لهم: أي مطيعون لهم ومستجيبون لحديثهم وكلامهم، يستنصحونهم وإن كانوا لا يعلمون حالهم.

فيؤدي إلى وقوع شر بين المؤمنين وفساد كبير (2). وقيل: * (وفيكم سماعون لهم) * السماع: أي السريع الإجابة والقبول (3). وإذا كان القرآن قد أشار إلى جماعة أو أفراد يسمعون للمنافقين. فإنه في موضع آخر يبين أن المؤمنين في وقت ما انقسموا إلى فئتين لكل فئة رأي في المنافقين، قال تعالى مخاطبا المؤمنين: * (فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا تريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا) * (4). قال المفسرين: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد، فرجع ناس خرجوا معه. فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين. فرقة تقول: نقتلهم. وفرقة تقول: لا. وهم المؤمنون فأنزل الله * (فما لكم في المنافقين فئتين) * (5). وقال تعالى منكرا على المؤمنين في اختلافهم في المنافقين، أنه سبحانه أركسهم بسبب عصيانهم ومخالفتهم الرسول واتباعهم الباطل. أتريدون أن تهدوا من لا طريق له إلى الهدى، وهم يودون لكم الضلالة لتستووا أنتم وإياهم، وما ذاك إلا لشدة عداوتهم وبغضهم لكم (6).

فالمنافقون وضعوا العراقيل العديدة، ولكن الذين آمنوا استطاعوا بإيمانهم الراسخ أن يعبروا هذه العقبات نظرا لتمسكهم بتعليمات النبي صلى الله عليه

____________

(1) سورة التوبة: الآية 47.

(2) تفسير ابن كثير: 361 / 2.

(3) الميزان: 290 / 9.

(4) سورة النساء: الآية 88.

(5) تفسير ابن كثير: 532 / 1.

(6) تفسير ابن كثير: 533 / 1.

الصفحة 76
وسلم. ولم يؤثر كيد النفاق، كما لو يؤثر كيد المشركين من قبل. ولقد حاول النفاق أن يبث ثقافة القعود عن الجهاد، بعد أن نال المسلمين من أعدائهم كل نيل ولكن هذه المحاولة هي الأخرى باءت بالفشل. وبث ثقافة القعود وصلت إلى ذروتها عند التحضير لغزوة تبوك. تلك الغزوة التي حاولوا فيها قتل النبي صلى الله عليه وآله وانتهوا قبلها من تشييد المسجد الضرار. ولقد هدد القرآن الكريم الذين تثاقلوا عن الجهاد وقتئذ بالعذاب الأليم إذ لم ينفروا إلى الله. قال تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل * ألا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا) * (1).

قال المفسرون: هذا شروع في عتاب من تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة تبوك حين طابت الثمار والظلال في شدة الحر (2). ومعنى الآية: يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم - لم يصرح باسمه صونا وتعظيما - اخرجوا إلى الجهاد أبطأتم. كأنكم لا تريدون الخروج، أقنعتم بالحياة الدنيا راضين بها من الآخرة. فما متاع الحياة الدنيا بالنسبة إلى الحياة الآخرة إلا قليل (3). ثم هددهم الله تعالى بالعذاب والاستبدال. ولا يضروه شيئا بتوليهم عن الجهاد.

وإذا كانت ملامح النفاق تبدو واضحة على طريق أحد وتبوك، فإن آخر جولاتهم كانت والنبي صلى الله عليه وسلم على فراش المرض. فلقد أمر عليه الصلاة والسلام بأن ينتظم الجيش تحت قيادة أسامة لإنجاز مهمة قتالية، ووضع النبي أكابر الصحابة تحت قيادة أسامة، وأمرهم بالخروج (4). ولكن النفاق مارس مهمته المعتادة يقول ابن حجر في فتح الباري (5): طعن المنافقون

____________

(1) سورة التوبة: الآية 38 - 39.

(2) تفسير ابن كثير: 357 / 2.

(3) الميزان: 278 / 9.

(4) بعث أسامة في البخاري (303 / 2)، ومسند أحمد (الفتح الرباني: 222 / 21).

(5) فتح الباري: 180 / 13.

الصفحة 77
في إمارة أسامة. وعندما علم النبي صلى الله عليه وسلم بما قالوا، جلس على المنبر وقال: " إن تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه في قبل..

وحثهم على الخروج. ولم يخرج البعث إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.

4 - جهاد الرسول صلى الله عليه وسلم لتيارات الصد الداخلية:

بعد أن هرول أعداء الدعوة إلى أرض الدعوة، ينطقون بألسنتهم شعارات الدعوة وتختزن قلوبهم أوجال الصد عن سبيل الله. بعد أن تدثروا بجلباب الإسلام سواء كان مصنوعا من قماش الخوف أو قماش المنفعة، بعد هذا أصبح التصدي لما يرتكبوه من جرائم غرض يتخذونه لتشويه الدعوة، تحت شعار أن محمدا يقتل أصحابه. فشعار مثل هذا وسط قبائل وعصبيات ودوائر عديدة للصد داخلية وخارجية، سيضع بلا أدنى شك عقبات أمام الدعوة يجد فيها برنامج الشيطان متسعا للانطلاق. ولهذه الأسباب وغيرها كان النبي صلى الله عليه وسلم يسير بالدعوة بين نفوس من صخر وبين نفوس نقية تقية. والدعوة في الأساس أخروية الثواب، ويقف تحت سقفها كل من قبلها وأدى شعائرها.

والدعوة تتحرك وفقا لوحي يحركها. وإذا نظرنا إلى حركة الدعوة في مواجهة المنافقين والذين في قلوبهم مرض وغيرهم. نجد أن القرآن الكريم قد حدد هذه الحركة بما يتلائم مع النفس الإنسانية عموما ليصل بها في النهاية إلى المخزون الفطري. قال تعالى: * (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين) * (1).

فالدعوة تحركت على محاور فيها الرحمة والعفو والاستغفار والمشورة التي تنتهي في نهاية الأمر إلى قرار رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال في الميزان: * (فبما رحمة من الله لنت لهم) *، أصل المعنى: فقد لان لكم رسولنا

____________

(1) سورة آل عمران: الآية: 159.

الصفحة 78
برحمة منا. لذلك أمرناه أن يعفو عنكم ويستغفر لكم ويشاوركم في الأمر. وأن يتوكل علينا إذا عزم (1).

وعلى هذا الأساس شقت الدعوة طريقها وسط الصخور، فقد كان صلى الله عليه وسلم يعفو عن بعض أفعالهم غير أن هذا العفو لا يشمل موارد الحدود الشرعية وما يناظرها وإلا لغي التشريع. وكان يشاورهم في الأمر، قال ابن كثير:

كان يشاور أصحابه في الأمر إذا حدث، تطيبا لقلوبهم، ليكون أنشط لهم فيما يفعلونه (2). ولقد شاورهم يوم بدر وفي مواطن كثيرة على امتداد سيرته صلى الله عليه وسلم. ولا يجب أن يفهم من مشاورتهم في الأمر أن هذه المشاورة في أمور عقائدية أو أمور حسمها الوحي. وإنما المشاورة كما نصت الآية * (في الأمر) * أي الأمر الذي يعزمون عليه. والذي يدخل في إطار الأمور العامة التي تجوز فيها المشاورة. وبعد المشاورة إذا عزم الرسول صلى الله عليه وسلم. فإن من أحبه كان وليا وناصرا له غير خاذله. وكان صلى الله عليه وسلم يشعرهم على امتداد المسيرة، بأنه إنما يفعل ما يؤمر. والله سبحانه عن فعله راض، وهو متوكل على الله. وعليهم أن يتوكلوا عليه لأن الله يحب المتوكلين.

وهكذا ضربت الدعوة وجهة الجحود بالرحمة، وحاصرت جميع الدوائر بالمشورة. وساقت الجميع إلى التوكل على الله. وأمام هذا العطاء كان أصحاب الرقاب الغليظة يعضون على أناملهم من الغيظ لأنهم عجزوا عن اختراق حاجز الرحمة وحاجز المشورة اللذين ينتهيان إلى الله قاصم الجبارين. كانت دوائر الصد تموج بأصحاب المخالب ويرتد فيها صدى قرقعة أنياب الحيتان. وأمام العوائق والمخالب أمر الله تعالى بجهادهم. قال تعالى: * (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم) * (3). أما جهاد الكفار الذين تجاهروا بالكفر وخرجوا للصد عن سبيل الله، ففي قتالهم آيات كثيرة ولهذه الآيات تفسير

____________

(1) الميزان: 56 / 4.

(2) تفسير ابن كثير: 420 / 1.

(3) سورة التوبة: 73.

الصفحة 79
يبين لماذا ومتى وكيف. فمن أراد فليراجعها في مواضعها، أما قتال المنافقين الذين يرتدون جلباب الإسلام ويدخلون مساجده ويرتلون كتابه، فله شأن آخر.

قال ابن كثير في جهاد المنافقين: عن ابن مسعود قال: بيده فإن لم يستطع فليكفهر في وجهه. وعن ابن عباس قال: باللسان. وعن الحسن وقتادة ومجاهد: مجاهدتهم إقامة الحدود عليهم (1). وقال في الميزان عن جهادهم:

المجاهدة بذل غاية الجهد في مقاومتهم، والجهاد يكون باللسان وباليد حتى ينتهي إلى القتال. وشاع استعمال الجهاد في القرآن في قتال الكفار، لكونهم متجاهرين بالخلاف والشقاق. فأما المنافقون، فهم الذين لا يتظاهرون بكفر ولا يتجاهرون بخلاف. وإنما يبطنون الكفر ويقلبون الأمور كيدا ومكرا. ولا معنى للجهاد معهم بمعنى قتالهم ومحاربتهم.. والمراد بجهادهم - في الآية - مطلق ما تقتضيه المصلحة من بذل الجهد في مقاومتهم. فإن اقتضت المصلحة هجروا ولم يخالطوا ولم يعاشروا وإن اقتضت وعظوا باللسان. وإن اقتضت أخرجوا وشردوا أو قتلوا إذا أخذ عليهم الردة أو غير ذلك. ويشهد لهذا المعنى عن كون المراد بالجهاد في الآية هو: مطلق بذل الجهد. تعقيب قوله تعالى: * (جاهد الكفار والمنافقين) * بقوله: * (واغلظ عليهم) * أي شدد عليهم وعاملهم بالخشونة (2).

وقد تعامل النبي صلى الله عليه وسلم على امتداد مسيرته بين دوائر الصد في الداخل، وفقا لمصلحة الدعوة. وقول الله تعالى لرسوله في شأن المنافقين:

* (لا تصلي على أحد منهم مات أبدا) * (3) يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يعرفهم بأعيانهم وأنه كان يتصرف التصرف الذي يمنع المنافقين من قطع الشوط الكبير في إفساد الأمر. فكان صلى الله عليه وسلم يخرج بعض المنافقين من المسجد على سمع ومرأى من الجميع تارة، وكان يسر بأسماء بعضهم إلى أصحابه تارة. وكان يسر بأسماء البعض الآخر إلى خاصة

____________

(1) ابن كثير في التفسير: 371 / 2.

(2) الميزان: 329 / 9.

(3) سورة التوبة: الآية 84.

الصفحة 80
الخاصة من أصحابه تارة أخرى. كل ذلك وفقا لحركة الدعوة وحركة القبائل وثقافتها. وكان في موضع آخر يقول في بعضهم وقد جاءوا به * (دعه. لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه) * (1). ويقول: * (معاذ الله. أتتسامع الأمم أن محمدا يقتل أصحابه) * (2). لقد كان صلى الله عليه وآله يصفح إذا اقتضت المصلحة ذلك أو كما ذكر البخاري، كان يترك قتال المعارضين للتآلف وألا ينفر الناس عنه (3).

وإذا كانت الغلظة أي معاملتهم بخشونة تقتضيه مصلحة الدعوة في صدرها الأول. فإنهم إذا أظهروا النفاق، بمعنى إذا حشدوا حشودهم للدفاع عن ثقافتهم التي يعبرون عنها بألسنتهم، ووقودها في قلوبهم، فإذا كانت المصلحة في قتالهم قوتلوا. ولكن، تحت راية إمام حق، عالم بالتأويل. لأن قتال المسلمين يختلف عن قتال غيرهم، فالقتال أي قتال، فيه دماء، وسبي، وجرحى، وأرامل، إلى غير ذلك. وهذا كله إذا دار تحت سقف واحد احتاج إلى فقه طويل عريض عال. يقول الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه فيما ذكر ابن كثير: بعث النبي صلى الله عليه وسلم بأربعة أسياف. سيف للمشركين * (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فقاتلوا المشركين) * وسيف للكفار من أهل الكتاب * (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) *، وسيف للمنافقين * (جاهدوا الكفار والمنافقين) *، وسيف للبغاة * (فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله) *. قال ابن كثير: وهذا يقتضي أنهم يجاهدون بالسيوف إذا أظهروا النفاق، قال بذلك ابن جرير (4). وكما سارت حركة الدعوة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بالرحمة والمشاورة في الأمر، وجهاد المشركين بما تقتضيه المصلحة ضرب الوحي سورا من الرحمة يحدد كيف يتعامل

____________

(1) رواه البخاري ومسلم عن جابر (كنز العمال: 200 / 11).

(2) رواه أحمد وحسنه الهيثمي (مجمع الزوائد: 231 / 6).

(3) البخاري (الصحيح: 312 / 4).

(4) ابن كثير في التفسير: 371 / 2.

الصفحة 81
المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكيف يخاطبونه فليس معنى أنه بينهم أو يشاورهم في الأمر اختلاط الأمور وانصهار المكانة. فأرض الدعوة عليها من هو في دائرة الإيمان والإسلام وغير ذلك من دوائر الرجس والقلوب المريضة. وجميع هؤلاء يتحدثون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولأن الحديث مع الأنبياء والرسل يترتب عليه إما الجنة وإما النار أقامت الدعوة جدارا من الرحمة، حتى لا تزل الأقدام وتحبط الأعمال. قال تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم * يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون * إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله صلى أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم) * (1).

قال ابن كثير: أي لا تسرعوا في الأشياء بين يديه، أي قبله. بل كونوا تبعا له في جميع الأمور.. وقال سفيان: لا تقدموا بقول ولا بفعل. وقال الضحاك:

لا تقضوا أمرا دون الله ورسوله من شرائع دينكم. وقوله * (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي) * قال ابن كثير: هذا أدب ثان أدب الله تعالى به المؤمنين أن لا يرفعوا أصواتهم بين النبي صلى الله عليه وسلم فوق صوته. وروي أنها نزلت في الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، روى البخاري عن أبي مليكة قال: كاد الخيران أن يهلكا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، رفعا أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم ركب بني تميم.

فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس، أخي بني مجاشع. وأشار الآخر برجل آخر.

فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلا خلافي. وقال عمر: ما أردت خلافك.

فارتفعت أصواتهما في ذلك فأنزل الله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم... الآية) * (2) وقوله تعالى: * (أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون) *

____________

(1) سورة الحجرات: الآية 1 - 3.

(2) رواه البخاري (الصحيح: 190 / 3) والترمذي وقال حسن غريب (الجامع: 387 / 5) وذكره ابن كثير في التفسير: 206 / 4.

الصفحة 82
أي نهاكم عن رفع الصوت عنده خشية أن يغضب من ذلك، فيغضب الله لغضبه فيحبط عمل من أغضبه وهو لا يدري. ثم ندب الله تعالى إلى خفض الصوت عنده وحث على ذلك وأرشد إليه ورغب فيه فقال: * (إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى) * أي أخلصها لها وجعلها أهلا ومحلا (1). وقال في الميزان: * (لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) * بين يدي الشئ: أمامه. وهو استعمال شائع مجازي أو استعاري. وإضافته إلى الله ورسوله معا، لا إلى الرسول. دليل على أنه أمر مشترك بينه تعالى وبين رسوله.

وهو مقام الحكم الذي يختص بالله سبحانه ورسوله بإذنه كما قال تعالى: * (إن الحكم إلا لله) * (2). وقال: * (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله) * (3).

وقوله: * (لا تقدموا) * أي تقديم شئ ما من الحكم. قبال حكم الله ورسوله. إما بالاستباق إلى قول قبل أن يأخذوا القول فيه من الله ورسوله. أو إلى فعل قبل أن يتلقوا الأمر من الله ورسوله.. والمعنى: أن لا تحكموا فيما لله ولرسول فيه حكم. إلا بعد حكم الله ورسوله، أي لا تحكموا إلا لحكم الله ورسوله. ولتكن عليكم سمة الاتباع والاقتفاء. وقوله لا ترفعوا أصواتكم.. " وذلك بأن تكون أصواتهم عند مخاطبته وتكليمه صلى الله عليه وسلم أرفع من صوته وأجهر لأن في ذلك كما قيل شيئين: إما نوع استخفاف به وهو الكفر. وإما إساءة الأدب بالنسبة إلى مقامه. وهو خلال التعظيم والتوقير المأمور به. وقوله: * (ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض) * فإن من التعظيم عند التخاطب أن يكون صوت المتكلم أخفض من صوت مخاطبه. فمطلق الجهر بالخطاب فاقد لمعنى التعظيم. فخطاب العظماء بالجهر فيه، كخطاب عامة الناس لا يخلو من إساءة الأدب وقوله * (أن تحبط أعمالكم..) * أي لئلا تحبط أو كراهة أن تحبط أعمالكم. فظاهر الآية أن رفع الصوت فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم والجهر له بالقول معصيتان موجبتان للحبط. فيكون من المعاصي غير

____________

(1) تفسير ابن كثير: 207 / 4.

(2) سورة يوسف: الآية 40.

(3) سورة النساء: الآية 64.

الصفحة 83
الكفر ما يوجب الحبط (1).

... والخلاصة: تعددت الدوائر، ولم تجد الدعوة غضاضة في التعامل مع جميع الخصوم الذين يقفوا تحت سقفها، كانت تحاور جميع الأطراف دون أن تسمح لأي طرف من السيطرة عليها. وتعامل الدعوة مع القوى المختلفة ومع الأضداد، كان تعاملا يستخلص مصلحة الفطرة في النهاية. وإذا كانت الدعوة قد أحاطت الجميع بآيات تحدد كيفية مخاطبة النبي وكيفية دخول بيوته، فإنها حاصرت دائرة الرجس الحصار الذي يقوقع المنافقين ولا يجعل حركتهم قابلة للتمدد على المستوى الأفقي أو الرأسي. وذلك بفرض نظام يرفض اتخاذ بطانة من غير الذين آمنوا. كما حددت الدعوة دائرة الطهر، وهذه الدائرة قضى الله وقضاؤه حق. إن عزة الإسلام مع هذه الدائرة وإن في هذه الدائرة طائفة لا يضرهم من ناوأهم أو من خذلهم أو من عاداهم حتى يأتي أمر الله.

____________

(1) الميزان: 308 / 18.

الصفحة 84

الصفحة 85

ثالثا - النور وحصار دائرة الرجس

1 - من الذي يدعو ويختار؟:

لا جدال في أن الشيطان ما زال يعمل منذ طرده الله من الجنة وأن مجال عمله هم ذرية آدم وإن عمله مستمر بعد الرسالة الخاتمة وحتى يوم الوقت المعلوم. ولا جدال في أنه استهدف في برنامجه رسل الله عليهم السلام ودعوتهم قال تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن) (1). ولا جدال في أن حزب الشيطان من المنافقين قد تدثروا في رداء الإسلام وحاولوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم. وحاولوا بث ثقافة العدوان من تحت مئذنة مسجدهم الضرار. وساروا بين المؤمنين يبثون الفتن في الوقت المناسب. ولا جدال في أن الكتاب الذي يقرأه كل من يقف تحت سقف الدعوة الإسلامية هو القرآن الكريم. ولا جدال في هذا وغيره.

فإذا كان الأمر على هذه الصورة. فكيف حصنت برسالة خط القيادة فيها؟

بمعنى أنها لو تركت الأمر لاختيار الأمة فإن بين صفوف الأمة من يقول فيهم الله جل شأنه: (وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون) (2) بالله عليك إذا قام واحد من هؤلاء لترشيح نفسه للرئاسة في أي مكان. ألا تراه

____________

(1) سورة الأنعام: الآية 112.

(2) سورة المنافقون: الآية 4.

الصفحة 86
يستحوذ على أغلب أصوات الناخبين. فهو في صباحة من المنظر. وتناسب في الأعضاء. وإذا سمعه السامع مال إلى الاصغاء إلى قوله: فماذا فعلت الدعوة الخاتمة لسد الطريق أمام أعداء الفطرة الذين يأكلون بأجسامهم وألسنتهم؟ وأيضا يعين صفوف الأمة أولئك الذين غمسوا في الترف بما لديهم من أموال وأولاد.

يقول تعالى: (ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون) (1). فماذا فعلت الرسالة الخاتمة لسد الطريق أمام التجار الكبار الذين احترفوا التجارة في كل شئ. وأمام أبنائهم الذين ورثوا منهم الشذوذ والدنس والعار، أقول والله أعلم. إن القول بأن الدعوة لم تقم بتحصين هذا الجانب، هو قول فيه تساهل غير لائق بكلام الله وسنة نبيه وحركة التاريخ. ولو قلت أن الأمة تختار قيادتها وفقا لشروط دقيقة. فإن قولي هذا يصطدم بحقيقة لا تقبل الجدل تقول: إن سر المنافق في قلبه. ومعنى هذا إن أي شروط في حقيقة أمرها لله تتعدى الأمور الظاهرة، ولأن جسم هذا الأمر لا يبدأ إلا من القلب. فإن الاختيار لا يكون للأمة. وإنما يكون للذي يعلم ما تخفيه الصدور. إلى الله.

إن المسيرة لم تأت لتأكل. إنها لم تأت لتحقق أهواء فرد ما أو قبيلة ما أو حزب ما. (إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين...) (2)، إن المسيرة جاءت لهدف ومن ورائه حكمة (إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء) (3).

إنه صراع دائم بين الحق وبين الباطل. بين برنامج الشيطان وبين برنامج الفطرة، بين برنامج يقوض الصراط المستقيم وبين برنامج يحدد الصراط المستقيم. ويسوق الناس إلى ربهم. فإذا قرأنا قوله تعالى: (إهدنا الصراط المستقيم) (4) فهذا إقرار منا بأن هداية الطريق له وحده. وإذا قرأنا قوله تعالى

____________

(1) سورة التوبة: الآية 85.

(2) سورة النساء: الآية 133.

(3) سورة الأنعام: الآية 133.

(4) سورة الفاتحة: الآية 6.

الصفحة 87
لرسوله: (إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم) (1) علمنا أن الدعوة طريقها واضح مستقيم والطريق هو الذي يوصل عابريه إلى الله تعالى. أي إلى السعادة الإنسانية التي فيها كمال العبودية لله والقرب. وإذا قرأنا قوله تعالى لرسوله:

(وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم (2) علمنا أن الذي يهدي إليه النبي صلى الله عليه وسلم صراط مستقيم، وإن الذي يهديه النبي من الناس. هو هداية من الله سبحانه وتعالى. فهداية النبي هداية الله. وإذا قرأنا قوله تعالى لرسوله:

(وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم) (3) علمنا أن النبي الذي يهدي بهداية الله، هو الذي يدعوا إلى هداية الله. إلى الطريق الواضح الذي لا يختلف ولا يتخلف في حكمة. ويصل بسالكيه إلى الغاية المقصودة. وصفة الطريق هي نفسها صفة الحق. فإن الحق واحد لا يختلف أجزاؤه بالتناقض والتدافع. ولا يتخلف في مطلوبه الذي يهدي إليه. فالحق صراط مستقيم، فبعد هذا كله، أقول والله أعلم:

إن الاختيار القيادة وسط هذا الطريق الذي احتوى على جميع الأنماط البشرية.

لا يكون إلا لله ورسوله. لأن الاختيار إذا ترك للأمة فسيترتب عليه ما لم تحمد عقباه. ونحن بين أيدينا نصوصا عديدة تحذر من الأخذ بالصورة، وتبين نهاية الطريق إذا ضرب بالتحذير عرض الحائط ومنها حديث: " إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم " (4) ولا يخفي على أحد أن طريق الشكل والصورة انتهى إلى كارثة. كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر بها بعد أن حذر منها، فعن حذيفة قال. قلت يا رسول الله: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم. دعاة على أبواب جهنم من أجابهم قذفوه فيها. قلت:

يا رسول الله صفهم لنا. قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا... " (5).

إن الأمة تدعوا إلى عبادة الله. نعم. ولكن داخل سور الأمة من لا يريد

____________

(1) سورة يس: الآية 3 - 4.

(2) سورة الشورى: الآية 52.

(3) سورة المؤمنون: الآية 73.

(4) رواه مسلم وابن ماجة (كشف الخفاء 282 \ 1).

(5) البخاري (الصحيح 280 \ 2) ك بدء الخلق ب علامات النبوة.

الصفحة 88
ذلك. فإذا اختارت الأمة فلا يستبعد أن يقع اختيارها على إمام ضلالة من الأئمة الذين خاف النبي على أمته منهم. فقد قال صلى الله عليه وسلم: " إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين " (1)، إن لفظ " إمام " في الحديث يدل أن شروطا عدة قد انطبقت عليه في قبيلة أو حزب أو غير ذلك... أو يقع اختيارها على منافق عليم خاف النبي على أمته منه، قال صلى الله عليه وسلم: " أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان " (2). وتحذيرات النبي هذه جاءت بعد أن بين صلى الله عليه وسلم جانب الصواب أولا. ولعلمه بأن الاختلاف واقع كما أخبره ربه. حذر من هذه الجوانب وكأنه يدعو إلى الالتزام بما بين - كما سيأتي.

إن الأمة تدعوا إلى صراط الله المستقيم. نعم. ولكن والله أعلم أن أقرب الطرق إلى غايات الصراط المستقيم. لا يكون فيمن تزكيه الأمة. بل فيمن يزكيه الله. قال تعالى: (فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى) (3)، فهو سبحانه أعلم بعباده وهم أجنة في بطون أمهاتهم، ويعلم ما هي حقيقة عباده وما هم عليه وما في سرهم وإلى ماذا ينتهي أمرهم. فإذا كان الله أعلم من أول أمر. فلا يحق أن يزكى أحد نفسه فينسبها إلى الطهارة. فالله وحده أعلم بمن اتقى. ولا يخفى أن تجارة التزكية وجمع المناقب. في كثير منها مدخل للشيطان، فعلى بعض التزكيات والمناقب زين الشيطان لكثير من الناس حركة أصحاب هذه المناقب فعبدوهم، والدليل على ذلك ما قاله اليهود في عزير وما قاله النصارى في عيسى ابن مريم عليه السلام وغير ذلك من الأمثلة لأجل ذلك سدت الرسالة الخاتمة هذا الباب. فلا تزكية إلا لمن زكاه الله ورسوله.

إن الأمة مدعوة من الله ورسوله إلى الصراط المستقيم، فإذا دعت نفسها

____________

(1) رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة وقال الترمذي حسن صحيح (الفتح الرباني 23 \ 21).

(2) رواه ابن عدي (كشف الخفاء 16 \ 1).

(3) سورة النجم: الآية 32.

الصفحة 89
فيجب أن يكون في الحسبان، إن طاعة النبي وتقديمه على الأنفس هو العمل الذي لا يبور. وغيره يجعله الله هباءا منثورا. والذي يدعو نفسه ويعين قافلته التي تقوده. ربما يتعثر في فهم العمود الفقري الذي تقوم عليه الدعوة. إلا وهو القرآن الكريم. والقرآن الكريم به آية ربما تكون والله تعالى أعلم. آية التعجيز لمن رأى أن يختار الطريق لنفسه. قال تعالى: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات، فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا) (1).

فهذه دائرة أخرى [ الذين في قلوبهم زيغ ] والزيغ. الميل عن الاستقامة.

والآية تكشف حال الناس بالنسبة إلى تلقي القرآن بمحكمه ومتشابهه. وإن منهم من هو زائغ القلب يتبع المتشابه لهدف هو ابتغاء الفتنة والتأويل. ومنهم من هو راسخ العلم مستقر القلب. يأخذ المحكم ويؤمن بالمتشابه. واشتمال القرآن الكريم على المتشابه هو تمحيص القلوب في التصديق به. والكتاب كما يشتمل على المتشابهات. كذلك يشتمل على المحكمات التي تبين المتشابهات بالرجوع إليها. وقال ابن كثير في معنى الآية: فأما الذين في قلوبهم زيغ أي ضلال وخروج عن الحق إلى الباطل إنما يأخذون منه المتشابه الذي يمكنهم أن يحرفوه إلى مقاصدهم الفاسدة. ابتغاء الفتنة أي الاضلال وابتغاء تأويله أي تحريفه على ما يريدونه (2) وقال صاحب الميزان: ومعنى الآية. يريدون باتباع المتشابه إضلال الناس في آيات الله. وهو الحصول والوقوف على تأويل القرآن. ومآخذ أحكام الحلال والحرام. حتى يستغنوا عن اتباع محكمات الدين. فينتسخ بذلك دين الله من أصله (3).

وكما ذكرنا أن هذه الآية عمودا فقريا يتحطم عليه كل رأي اختار طريقه

____________

(1) سورة آل عمران: الآية 7.

(2) تفسير ابن كثير 345 \ 1.

(3) الميزان 23 \ 3.

الصفحة 90
بنفسه. فكتاب الدعوة لا يمسه أي عقل. فبما أنه كتاب الله. فلا بد أن يختار الله العقل الذي يمسه لينال منه العلم النافع. فالقرآن الكريم حجة الله على خلقه.

وهو يحتوي على برنامج الفطرة والثواب والعقاب في الدنيا والآخرة. فيه بيان لكل شئ. وجميع الحقائق الموجودة فيه تستند إلى التوحيد. وبما أنه لا يأتيه الباطل ولا يجد إليه طريقا. وبما أنه لا بد أن ينتهي إليه كل رأي ديني. فلا بد أن يكون له عالما يسوق الناس به إلى ربهم. فهو سبحانه مصدر جميع السلطان.

وإليه تنتهي جميع القرارات. وهو مصدر الخلق والتكوين وواهب الحياة ومقوماتها. فكما أن له سبحانه الخلق ولا بداع. كذلك له الأمر والنهي.

وعالم الزيغ هو نفسه عالم الرأي. أو ابنا شرعيا للذين اختاروا أن يكون الكشاف الذي يكشفون به الطريق من صنعهم وبأيديهم. وأنت إذا تتبعت البدع والأهواء والمذاهب الفاسدة. التي انحرف فيها الفرق الإسلامية، عن الحق القويم بعد زمن النبي صلى الله عليه وآله. سواء كان في المعارف أو في الأحكام. وجدت أكثر مواردها من اتباع المتشابه والتأويل في الآيات. بما لا يرتضيه الله سبحانه. ففرقة تتمسك من القرآن بآيات التجسيم. وأخرى للجبر.

وأخرى للتفويض. وأخرى لعترة الأنبياء. وأخرى للتنزيه المحصن بنفي الصفات، وأخرى للتشبيه الخالص وزيادة الصفات، إلى غير ذلك، كل ذلك للأخذ بالمتشابه من غير إرجاعه إلى المحكم الحاكم فيه.

وعلى فروع المتشابه أيضا تسلق المتصوفة وعلماء الكلام. فطائفة ذكرت أن الأحكام الدينية إنما شرعت لتكون طريقا إلى الوصول. فلو كان هناك طريق أقرب منها. كان سلوكه متعينا لمن ركبه. لأن المطلوب هو الوصول بأي طريقة تيسرت. وأخرى قالت: إن التكاليف إنما هي لبلوغ الكمال. ولا معنى لبقائها بعد الكمال بتحقق الوصول. فلا تكليف لكامل (1) وهكذا وغير ذلك كثير. إن الله تعالى الذي أنزل الكتاب هو وحده الذي يحدد من الذي يتعامل مع هذا الكتاب.

____________

(1) الميزان 41 \ 3.

الصفحة 91
ولقد كانت الأحكام والفرائض والحدود والسياسات الإسلامية قائمة ومقامة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لا يشذ منها شاذ. ثم لم تزل بعد ارتحاله صلى الله عليه وسلم تنقص وتسقط حكما حكما - كما سنبين - يوما فيوم بيد الحكومات الإسلامية. ولم يبطل حكم واحد. إلا واعتذروا قائلين: إن الدين إنما شرع لصلاح الدنيا وإصلاح الناس، وما أحدثوه أصلح لحال الناس اليوم، حتى آل الأمر إلى أن يقال: إن الغرض الوحيد من شرائع الدين. إصلاح الدنيا.

والدنيا اليوم لا تقبل السياسة الدينية ولا تهضمها. بل تستدعي وضع قوانين ترتضيها مدنية اليوم. وإذا تأملت في هذه وأمثالها. وهي لا تحصى كثرة.

وتدبرت في قوله تعالى: (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله) لم تشك في صحة ما ذكرنا. وقضية بأن هذه الفتن والمحن التي سقطت على المسلمين لم يستقر قرارها إلا من طريق اتباع المتشابه وابتغاء تأويل القرآن، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أكثر ما أتخوف على أمتي من بعدي رجل يتأول القرآن يضعه على غير مواضعه. ورجل يرى أنه أحق بهذا الأمر من غيره " (1).

إن الذي تخوف منه الرسول ما جاء إلا على أكتاف الذين ساروا في موضع غير الموضع. ورأوا أنهم أحق بتحديد العلامات على طريق طويل. ومن العجيب أن الذي يقف في أول الطريق لا يرى ما هي نتيجة مقدمته في نهاية الطريق. أما الذي يقف في نهاية الطريق. عند النتيجة. فإنه يرى المقدمة بمنتهى الوضوح.

إن الأمة إذا كانت هي الأولى بتحديد قافلتها التي تقودها إلى الصراط المستقيم، لا بد أولا أن تكون على علم بمن يقفون تحت سقفها. ولا بد ثانيا أن تعلم كتابها بالعلم الذي يستقيم معه. ومن آيات الله وأحاديث رسول الله الصحيحة تبين أن داخل الأمة دوائر متعددة لمؤسسات الصد عن سبيل الله.

____________

(1) رواه الطبراني في الأوسط (كنزل العمال 200 \ 10).

الصفحة 92
وداخل هذه المؤسسات اثني عشر رجلا لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط. وشهد حذيفة وعمار رضي الله عنهما... أنهم حزب الله ورسوله في الحياة الدنيا. ومعنى في الحياة الدنيا يفيد أن لكل منهم ثقافة لا تصيب الذين ظلموا خاصة. بل تتعداهم إلى غيرهم إذا تعاموا عن فحص المقدمات. فإذا كانت الأمة أولى بالاختيار فما هي الضمانات التي لا تجعل واحد من هؤلاء أو من غيرهم من أي دائرة كان أن ينفذ لإحداث الفتنة والتأويل. ثم ما هي الضمانات التي تضمن عدم بغي الأمة واختلافها وافتراقها عن كتاب الله - إن دائرة الرجس لا بد أن يقابلها دائرة طهر. بهذا تقضي الفطرة ويقضي العقل. لقد حاصر كتاب الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وآله برنامج الشيطان وبرامج المشركين والمنحرفين من أهل الكتاب. وكما حاصر هؤلاء حاصر دائرة الرجس.

2 - دائرة الطهر:

إن المعارف الحقة والعلوم المفيدة التي تحقق سعادة الدنيا والآخرة. لا تكون في متناول الإنسان إلا إذا صلحت أخلاقه. وعن أصول الأخلاق: العفة والشجاعة والحكمة والعدالة. ولكل واحدة فروع ناشئة منها وراجعة بحسب التحليل إليها. والأخلاق على امتداد المسيرة الإنسانية. لا يمكن بحال أن تسير بمفردها. بل لا بد من عامل يحرسها ويحفظ دوامها وثباتها. وأن يكون هذا العامل مرتبطا ارتباطا وثيقا بالقرآن الكريم. بمعنى أن العامل إذا دار لا يدور إلا مع القرآن. ويظل في حركته وسكونه مع القرآن حتى يوم القيامة. وعندما يقف القرآن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الحوض يكون هذا العامل مع القرآن على الحوض. فالنفس واحدة والحركة واحدة من الابتداء إلى الانتهاء.

إن حركة مثل هذه نطلق عليها هنا [ دائرة الطهر ].

ولكي نبحث عن هذه الدائرة وعن أصحابها يجب أن تكون البداية من القرآن الكريم ومن الحديث الشريف الصحيح الذي يفسر الآية ويرشد على العامل الذي نبحث عنه. ولتكن البداية من قوله تعالى: (إنه لقرآن كريم * في

الصفحة 93
كتاب مكنون * لا يمسه إلا المطهرون) (1). إن المس المذكور في الآية الكريمة أوسع من أن يقال لا بد أن يكون من يمسه على طهارة من الخبث أو الحدث.

فلو اقتصر التعريف على هذا. لاحتج به علينا الكفار والمشركين. الذين يشترون المصاحف في كل مكان لأسباب عديدة. بل إن المصاحف تطبع في العديد من البلاد غير الإسلامية وتتناقلها الأيدي من هنا وهناك. كما أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه في زمن من الأزمنة سيقرأ القرآن ثلاثة: مؤمن ومنافق وفاجر (2) فالمنافق كافر به. والفاجر يتأكل منه. والمؤمن يؤمن به (3)، نعم الطهارة مطلوبة ولكن المس الأوسع هو مس العقول له لنيل الفهم والعلم. وفي معنى (لا يمسه إلا المطهرون) قال أبو العالية: ليس أنتم. أنتم أصحاب الذنوب (4) والمطهرون هم الذين طهر الله تعالى نفوسهم من أرجاس المعاصي وقاذورات الذنوب. أو مما هو أعظم من ذلك وأدق. وهو تطهير قلوبهم من التعلق بغيره تعالى، وقال في الميزان: وهذا المعنى من التطهير هو المناسب للمس الذي هو العلم دون الطهارة من الخبث أو الحدث. فالمطهرون هم الذين أكرمهم الله تعالى بتطهير نفوسهم كالملائكة الكرام والذين طهرهم الله من البشر.

قال تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) (5) ولا وجه لتخصيص المطهرين بالملائكة كما ذكر بعض المفسرين لكونه تقييدا من غير مقيد (6).

والله جل شأنه ذكر أصنافا من عباده. وخص كل صنف بنوع من العلم والمعرفة. لا توجد في الصنف الآخر. كالموقنين، وخص بهم مشاهدة ملكوت

____________

(1) سورة الواقعة: الآية 77 - 79.

(2) رواه أحمد، وقال الهيثمي رجاله ثقات مجمع الزوائد 231 \ 6) ورواه الحاكم وأقره الذهبي (المستدرك 507 \ 4) وابن حبان والبيهقي (كنزل العمال 195 \ 11).

(3) رواه الحاكم وأقره الذهبي (المستدرك 507 \ 4).

(4) تفسير ابن كثير 298 \ 4.

(5) سورة الأحزاب: الآية 33.

(6) الميزان 137 \ 19.