ثالثا - أضواء على قيادة علي:
مما سبق علمنا أن اختيار الله تعالى لشخص علي بن أبي طالب قد حدث في أماكن عديدة على امتداد الرسالة المحمدية. ففي المسجد سد النبي جميع الأبواب إلا باب علي. وعند بناء قباء لم تسر الناقة إلا بعلي. وفي ميدان من ميدان الحرب ناجى رسول الله عليا. وفي منزل الرسول أخرج الله أناس وأدخل عليا. وفي خيبر أخذ الراية عليا. فهذه الأحداث تدل حركتها على أن هناك ضوءا محددا على شخص محدد وهذا الضوء يبتغي ثقافة محددة للناس.
وعلى امتداد هذا الطريق كان هناك طريق آخر يسير بجانبه. هدفه أيضا الوصول إلى هذه بثقافة التي ينبغي في النهاية تكوين رأي عام. ومن أحاديث هذا الطريق. الحديث الصحيح عن علي قال: لما نزلت هذه الآية: (وأنذر عشيرتك الأقربين) (2)، جمع النبي عشيرته. فاجتمع ثلاثون. فأكلوا وشربوا. فقال لهم النبي: من يضمن عني ديني ومواعيدي ويكون معي في الجنة، ويكون خليفتي في أهلي. فقال رجل: يا رسول الله أنت كنت بحرا. من يقوم بهذا. فعرض الرسول هذا عليهم واحدا واحدا. فقال علي: أنا (3)، وفي رواية: أيكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي ووارثي. فلم يقم إليه أحد فقمت إليه وكنت أصغر
____________
(1) تحفة الأحواذي 124 / 10.
(2) سورة الشعراء: الآية 214.
(3) رواه الإمام أحمد (الفتح الرباني 122 / 23) وقال الهيثمي رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير حبة العرفي وقد وثقه. ورواه ابن جرير وصححه والضياء وصححه، ورواه الطحاوي (كنز العمال 129 / 13) وذكره ابن كثير في التفسير (350 / 3).
فالآية تصرح إنذار العشيرة الأقربين. ولم تصرح بإنذار قريش. والعشيرة الأقربين إما بنو عبد المطلب أو بنو هاشم، وفي مجمع البيان " عشيرة الرجل.
قرابته سموا بذلك لأنه يعاشرهم وهم يعاشرونه "، وخص عشيرته وقرابته الأقربين بالذكر. تنبيها على أنه لا استثناء في الدعوة الدينية. ولا مهادنة ولا مساهلة. فلا فرق في تعلق الانذار بين النبي وأمته. ولا بين الأقارب والأجانب. فالجميع عبيد الله والله مولاهم.
وإنذار العشيرة الأقربين. كان هو المقدمة الأولى لإلقاء الضوء على علي بن أبي طالب - ضوء في مركز الدائرة التي قدر لها أن تتسع شيئا فشيئا.
اتساع يواكب حركة الدعوة ويضع في اعتباره النفس القبائلية العشائرية التي ترفض فرض أي قيادة عليها وفقا للتصور الجاهلي. وإذا كان علي بن أبي طالب قد أصبح بعد مبايعته الرسول رأس القوم رغم صغر سنه (4). فإنه بنص آية أخرى ارتقى إلى مرتبة أعلى، قال تعالى لرسوله: (إنما أنت منذر ولكل قوم
____________
(1) رواه أحمد وابن جرير والضياء بسند صحيح (كنز العمال 174 / 13) (الفتح الرباني وقال إسناده (224 / 20).
(2) رواه أحمد وابن جرير والضياء بسند صحيح (كنز 175 / 13) وذكره ابن كثير في التفسير (350 / 3).
(3) (كنز العمال 133 / 13) تفسير ابن كثير (350 / 3).
(4) من العجيب أن هناك العديد يرفضون كون عليا رغم صغر سنه هو رأس القوم. في حين أن هؤلاء الرافضين يخضعون لفقه يجيز ولاية الفاسق. بل وعلى امتداد التاريخ الإسلامي كانوا يبايعون لابن الخليفة وهو في بطن أمه.
أنت منار الأنام وغاية الهدى وأمير القراء وأشهد على ذلك إنك كذلك. وفي تفسير ابن كثير عن علي قال: " ولكل قوم هاد " الهادي رجل من بني هاشم. قال الجنيد: هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه (3).
لقد كان الضوء يتسع شيئا فشيئا. اتسع بيوم المباهلة ويوم الكساء ويوم سد الأبواب إلا باب علي. ويوم إن دعا الكتاب إلى مودة ذو القربى وسهم ذي القربى. إلى غير ذلك. حتى جاء اليوم الذي وضع فيه حول علي منقبه من أعظم المناقب لأن عليها تدور الحركة الواسعة للدعوة الإسلامية. روى الإمام مسلم عن علي قال: " والذي فلق الحبة وبرأ النسمة أنه لعهد النبي الأمي إلي. أن لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق " (4)، وعن أم سلمة قال: كان رسول الله
____________
(1) سورة الرعد: الآية: الآية 7.
(2) راجع تفسير ابن كثير 502 / 2.
(3) تفسير ابن كثير 502 / 2.
(4) رواه مسلم ك الإيمان ب حب علي بن الإيمان (الصحيح 64 / 2)، وأحمد (الفتح الرباني 122 / 23) وابن أبي شيبة والنسائي وابن ماجة وابن حبان وابن أبي عاصم (كنز العمال 20 / 12) (كنز 598 / 11).
وبدأت دائرة الضوء تتسع. حتى كان يوم تبوك. اليوم الذي عزم فيه التيار التخريبي لدائرة الرجس ودائرة البخس على اغتيال الرسول. وافتتاح المسجد الضرار. وفتح الأبواب لاستقبال الغزو الخارجي الذي تحمل أعلامه جيوش قيصر (3). وما بين أيدينا من روايات. يؤكد أن المنافقين ما كانوا يريدون علي بن أبي طالب في المدينة. لقد استعملوا أسلوب الحرب النفسية ضد علي عندما علموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيخلفه على المدينة. ولكن النبي قطع عليهم حبل تفكيرهم ووضع حول علي منقبة ارتبطت بمنقبة لا يحب عليا منافق ولا يبغضه مؤمن برباط وثيق. قال له النبي كما وردت في صحيح مسلم " أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي " (4)، وفي رواية عن ابن عباس: " أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنك لست مني أنه لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي " (5)، وفي رواية: " إنه لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي في كل مؤمن بعدي " (6).
لقد أشاعوا أن النبي ترك عليا بين النساء والصبيان كما ورد في أحاديث
____________
(1) رواه الترمذي وحسنه (الجامع 635 / 5) ورواه أحمد (الفتح الرباني 121 / 23).
(2) رواه الترمذي وقال حديث غريب (الجامع 635 / 5). ورواه الخطيب عن أبي ذر بلفظ.
ما كنا نعرف المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله إلا بثلاث:
بتكذيبهم الله ورسوله. والتخلف عن الصلاة. وببغضهم علي بن أبي طالب (كنز العمال 106 / 13).
(3) ذكرنا ذلك فيما سبق عند الحديث عن دائرة الرجس.
(4) رواه مسلم (الصحيح 174 / 15).
(5) رواه الإمام أحمد (الفتح 204 / 21) والحاكم وأقره الذهبي (المستدرك 133 / 3).
(6) رواه ابن أبي عاصم وقال الألباني إسناده حسن ورجاله ثقات (كتاب السنة 565 / 2).
كذبوا... أما ترضي يا علي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي " (1). لقد كان عليا مقياسا لما يجري على طريق تبوك. به يظهر النفاق ويشع. ووجوده في المدينة في غياب الرسول صلى الله عليه وسلم يحدد الخنادق بدقة. فأي ثقافة تخرج من المسجد الضرار لا يرضى عنها علي فهي ثقافة نفاق. وأي حشد في اتجاه المدينة لا يرضى عنه علي فهو حشد نفاق. وأي معارض يعارض أمرا لعلي فهو في دائرة النفاق. كما ذكر أبو سعيد الخدري " كنا نعرف المنافقين نحن معشر الأنصار ببغضهم علي بن أبي طالب " (2).
" حديث المنزلة رواه البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم. وقال ابن عساكر. وقد روى هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من الصحابة منهم عمر بن الخطاب وعلي وابن عباس وغيرهم. وقد تقصى ابن عساكر هذا الحديث في ترجمة علي في تاريخه فأجاد وأفاد وبرز مع النظراء والأشباه والأنداد (3).
ولقد ناقش العديد من الأفاضل هذا الحديث على خلفية أن هارون (ع) مات قبل موسى (ع) وتركوا لفظ " منزلة " وهو الذي يدور عليه الحديث. ومنزلة هارون ينبغي أن تناقش في ضوء الآيات القرآنية وليس في ضوء التواريخ الإسرائيلية. فقد قال تعالى: (ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده) (4)، فالآية تخبر أن موسى عليه السلام جاءهم بالبينات. واتخاذهم العجل من بعده، استمرارا لفعلهم. فهم في الحقيقة اتخذوا العجل في حياة موسى.
وهارون عليه السلام كان عليه شعاع من الضوء في حياة موسى عليه السلام.
____________
(1) تاريخ الأمم والملوك 144 / 3.
(2) سبق التخريج.
(3) البداية والنهاية 342 / 7.
(4) سورة البقرة: الآية 92.
أما موسى عليه السلام. فلقد كان له رأي فيهم بعد أن خرجوا عن خط الخلافة الذي حدده. قال لهم فيما أخبر الله: (قال بئسما خلفتموني من بعدي) (4). ثم دعا موسى ربه: (قال رب اغفر لي ولأخي وادخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين) (5). أما الذين اتخذوا العجل فضربهم الجزاء العادل بعد أن أشربوا في قلوبهم حب العجل، قال تعالى: (إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين) (6)،
____________
(1) سورة الأعراف: الآية 142.
(2) سورة الأعراف: الآية 150.
(3) سورة طه: الآية 92 - 94.
(4) سورة الأعراف: الآية 150.
(5) سورة الأعراف: الآية 151.
(6) سورة الأعراف: الآية 152.
فموسى عليه السلام في أول الأيام يتلقى كلمات ربه جل وعلا وخلف أخاه هارون بعده على قومه. ومحمد صلى الله عليه وسلم في البعثة الخاتمة ذهب ليضرب من أجل. كلمة ربه. وخلف أخاه عليا بعده على قومه. وبعد عودة موسى عليه السلام أبلغه هارون بالأحداث فحرق العجل ونسفه في اليم نسفا.
وبعد عودة محمد صلى الله عليه وسلم حرق المسجد الضرار. وبعد موسى جرى حب العجل في الدماء، وبعد محمد صلى الله عليه وسلم جرت الريبة في قلوب الذين اتخذوا المسجد الضرار. ولله في خلقه شؤون.
ومناقب علي بن أبي طالب ومنزلته لم تقف عند تدمير المسجد الضرار.
فالأحاديث الصحيحة تبين أن دائرة النور حول علي بدأت تتسع على شكل لم يسبق له مثيل بعد تبوك. ويبدو والله أعلم أن هناك أحداثا جرت بعد فشل عملية اغتيال الرسول وثقافة المسجد الضرار، فمجموعة التخريب التي تتكون من اثني عشر رجلا والتي حملت على عاتقها عملية قتل الرسول. كان من بينهم رجال من قريش. والأحداث بعد ذلك تقول أن الأمور حول مكة لم تكن تجري على الوضع الطبيعي.
ومن المعروف أن فتح مكة كان في العام الثامن الهجري. وفي هذا العام دخل الإسلام مجموعة تسترت برداء الإسلام وكان لها الأثر البالغ في إيجاد الانحرافات التي حفرت في الجسد الإسلامي حفر نازفة سنتعرض لها في حينه، وبعد فتح مكة وفي العام التاسع كانت فورة النفاق. حيث دبرت حادثة اغتيال
____________
(1) رواه الترمذي وقال حديث حسن بلفظ " أنت أخي في الدنيا والآخرة " (الجامع 636 / 5) ورواه أحمد عن عمر بن عبد الله عن أبيه عن جده (222 / 10 تحفة الأحوازي) ورواه أبو يعلى عن علي (كنز العمال 140 / 13) ورواه الحاكم عن ابن عمر (598 / 11 كنز).
بل هي الفاضحة!! ما زالت تنزل. ومنهم ومنهم حتى ظنوا أن لا يبقى منا أحدا إلا ذكر فيها (3).
فما هي الأحداث التي أدت إلى نزول الوحي بقوله تعالى: (كيف يكون
____________
(1) سورة التوبة: الآية 1.
(2) سورة التوبة: الآية 5.
(3) رواه مسلم (كنز العمال 420 / 2).
وذلك حينما أشاعوا يوم أن تركه النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة يوم ذهابه إلى تبوك. إن النبي تركه مع النساء والصبيان وأنه قد استثقله وتخفف منه. وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر مشركي مكة بعد صلح الحديبية. أن لهم يوما من علي بن أبي طالب حيث سيقاتلهم على تأويل القرآن كما قاتلهم على تنزيله.
وسنتحدث عن هذه الأخبار في حينه. فدائرة الحقد على الإسلام كانت تختزن في ذاكرتها ما تخبئه لهم الأيام. وظل اتباع هذه الدائرة يكيدون للدعوة في حياة الرسول وبعد مماته صلى الله عليه وسلم على هذا الأساس فضلا على كراهيتهم الأصيلة للدعوة.
ومن الواضح أن دائرة الرجس ودائرة الدنس. اتفقتا على ثقافة يقتحمون بشذوذها المجتمع الإسلامي. ويتبين هذا من الحكم الذي بعث به النبي صلى الله عليه وسلم مع علي بن أبي طالب إلى المشركين. حيث قال: " لا يطوفن بالبيت عريان "، وكانت سنة العرب في الجاهلية عندما يقصدون البيت الحرام. إن من دخل مكة وطاف البيت في ثيابه. لم يحل له إمساكها. وكانوا يتصدقون بها ولا يلبسونها بعد الطواف. فكان من جاء إلى مكة يستعير ثوبا ويطوف فيه ثم يرده.
ومن لم يجد من يعيره ولم يكن إلا ثوابا واحدا. طاف بالبيت عريانا.
____________
(1) سورة التوبة: الآية 7 - 14.
فلما فرغت من الطواف هرول إليها جماعة من الناس. ومن هذا يظهر والله أعلم أن فروع التآمر كانت كثيرة، وعندما نزلت السورة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بها مع أبي بكر إلى المشركين. فلما خرج أبو بكر نزل جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد لا يؤدي عنك إلا رجل منك. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب في طلب أبي بكر. فلحقه بالروحاء وأخذ منه الآيات - وفي رواية - قال أبو بكر يا رسول الله نزل في شئ؟
قال: لا ولكن جبريل جاءني فقال: لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك (1)، وفي الدر المنثور أخرج عبد الله بن أحمد بن حنبل وأبو الشيخ وابن مردويه عن علي قال: لما نزلت عشر آيات من براءة على النبي صلى الله عليه وسلم. دعا أبا بكر رضي الله عنه ليقرأها على أهل مكة. ثم دعا لي فقال لي: ادرك أبا بكر فحينما لقيته فخذ الكتاب منه، ورجع أبو بكر إلى النبي فقال: يا رسول الله نزل في شئ؟ قال: لا ولكن جبريل جاءني فقال: لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك (2).
وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر رضي الله عنه ببراءة إلى أهل مكة ثم بعث
____________
(1) رواه الإمام أحمد (البداية والنهاية 358 / 7، في تفسير ابن كثير 331 / 2)، ورواه بلفظ آخر الترمذي وحسنه، (الجامع 275 / 5)، وقال في الفتح الرباني، الحديث سنده صحيح وله شواهد كثيرة تعضده منها عند البخاري والإمام أحمد أيضا من حديث أبا هريرة ومنها حديث أنس عند الترمذي وحديث ابن عباس عنده أيضا (الفتح الرباني 157 / 18).
(2) الفتح الرباني، وقال: وقال الهيثمي رجاله ثقات. وأورده ابن كثير في التفسير والحافظ السيوطي في الدر المنثور وروى نحوه الترمذي وحسنه (158 / 7).
وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن أبي رافع قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله ببراءة إلى الموسم. فأتى جبريل عليه السلام. فقال: إنه لا يؤديها إلا أنت أو رجل منك، فبعث عليا رضي الله عنه على أثره. حتى لحقه بين مكة والمدينة فأخذها فقرأها على الناس في الموسم.
فذهاب علي بن أبي طالب، علاوة على أنه لا يؤدي عن النبي إلا هو كما ورد في الحديث الصحيح عن حبشي بن جنادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " علي مني وأنا من علي ولا يؤدي عني إلا أنا أو علي " (1)، إلا أنه يستقيم مع الأحداث حيث فورة النفاق، وحيث إخبار النبي لقريش يوم الحديبية بأن لهم من علي بن أبي طالب يوما فعن ربعي بن علي، أن النبي قال لهم يومئذ: يا معشر قريش لتنتهين أو ليبعثن الله عليكم من يضرب رقابكم بالسيف على الدين.
قد امتحن الله قلبه على الإيمان. قالوا: من هو يا رسول الله؟ وقال أبو بكر: من هو يا رسول الله؟ وقال عمر: من هو يا رسول الله؟ قال: هو خاصف النعل.
وكان قد أعطى عليا نعله يخصفها (2).
لهذا نقول أن بعث علي بن أبي طالب بسورة براءة له أبعاد متعددة. فأبو بكر لم يثبت أن له قتيل في الإسلام. ولم يكن رضي الله عنه مشهورا بالشجاعة ولقاء الحروب. وأيضا لم يكن جبانا ولا خوارا. وإنما كان رجلا عاقلا ذا رأي وحسن تدبير، والآيات تحمل منهجا لا مهادنة فيه ولا مساهلة. فإعطاؤها لأبي بكر أولا ثم إعطاؤها لعلي بعد ذلك فيه تلويح بالعصا الغليظة.
وحول هذا الحديث أدلى كل منهم بدلوه، فقال البعض: إن النبي بعث عليا بالسورة لأن من عادة العرب أن لا يحل ما عقده الرئيس منهم. إلا هو أو
____________
(1) سبق التخريج.
(2) رواه الترمذي وصححه (الجامع 634 / 5) وابن جرير وصححه والضياء (كنز العمال 173 / 13).
وعندما خرج أبو بكر ذكر النبي ما نسيه. هل يجوز ذلك وهو صلى الله عليه وآله وسلم المثل الأعلى في مكارم الأخلاق واعتبار ما يجب أن يعتبر من الحزم وحسن التدبير. ثم إذا كانت سنة عربية فلماذا لم يذكر النبي ذلك عندما رجع إليه أبو بكر ليسأله. وقال له: إنه أوحي إلي أن لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني ".
إن كلمة " أوحي إلي " أو " أخبرني جبريل " في الحديث. هي المحك في الحدث. والذي يمكن أن يقال عند الجمع بين الروايات. أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سلم إلى أبي بكر السورة. بإذن الله. إلا أنه لم يأمر بأدائها ولا كلف بقراءتها على أهل الموسم. سلمت إليه وأمر بالتوجه إلى أن يأذن الله فيها. وقد قال البعض: إن الفائدة في ذلك ظهور فضل علي بن أبي طالب ومرتبته. ولكني أميل أن ظهور الفضل في مساحة الأحداث كلها علاوة على المناقب التي وضعت حول علي على امتداد الرحلة أوقع من ظهوره في هذه المساحة الضيقة. فعلي لم يذهب ليبلغ براءة فقط وإنما ليبلغ أحكاما أيضا. فهو يبلغ كلمة الوحي وكلمة الرسول عن الوحي. فعن زيد بن يثبع قال سألنا عليا بأي شئ بعثت في الحجة.
قال: بعثت بأربع أن لا يطوف بالبيت عريان. ومن كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد فهو إلى مدته، ومن لم يكن له عهد فأجله أربعة أشهر. ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة. ولا يجتمع المشركون والمسلمون بعد عامهم هذا (1).
____________
(1) رواه الترمذي وصححه (الجامع 276 / 5) وأحمد وابن جرير بسند صحيح (الفتح الرباني 159 / 18).
وخصوصا أن الآيات التي رفعت الأمان في سورة براءة عن المشركين لم تهمل أي طريق يرجى فيه الوصول إلى الهداية. قال تعالى: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون) (1)، قال ابن كثيرة: وإن أحد من المشركين الذين أمرتك بقتالهم وأحللت لك استباحة نفوسهم وأموالهم استأمنك فأجبه إلى طلبه حتى يسمع القرآن فقرؤه عليه وتذكر له شيئا من أمر الدين تقيم به عليه حجة الله. ثم اعطه الأمان حتى يرجع إلى بلاده وداره. وإنما شرعنا أمان مثل هؤلاء ليعلموا دين الله وتنتشر دعوة الله، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي الأمان لمن جاء مسترشدا (2).
إذا فهناك عقود أمان. فإذا كان علي بن أبي طالب حل عقد رسول الله من قومه - فحسب عادة العرب - من الذي ينظر في عقود الأمان الجديدة. فيتمها إلى مدتها أو يحلها؟ لهذا نقول أن القول بأن بعث علي بن أبي طالب بسورة براءة خرجت شجرته من عادات العرب. قول لا يلتفت إليه لما سيترتب عليه من إشكال.
____________
(1) سورة التوبة: الآية 6.
(2) تفسير ابن كثير 337 / 2.
5 - حجة الوداع وإعلان الولاية:
في العام التاسع الهجري كانت فورة التفاور والشرك. فمن تحت جلباب الإسلام تحركت دائرة الرجس لتكيد للإسلام. ومن تحت لافتة المعاهدات تحركت دائرة البخس لتعرقل المسيرة. ولكن الله رد كيدهم في نحورهم بإنزال سورة براءة التي جعلت جميع دوائر الصد عن سبيل الله تقف لتحكم المخزون الفطري عند كل إنسان فيهم. وإلا فالسيف، ولا يتصور عاقل أن دوائر الصد بعد سورة براءة. قد ألقوا بسلاحهم وهرولوا في إتجاه الإسلام تائبين عابدين. فقد يكون هناك من أسلم وحسن إسلامه. وقد يكون هناك من أسلم إلي حين تأتيه الفرصة. أو أسلم ثم ارتد وكتم ارتداده أو لم يسلم أصلا، وهرب حتى يشتد عوده. فهؤلاء وغيرهم لم ينتهوا بنزول سورة براءة أو برحيل النبي صلى الله عليه وسلم. لأن جذورهم في الأرض منذ أن طرد إبليس اللعين. وفي كل جيل تخرج الفروع وأوراق الفتنة من الجذور، ثم يستأصلها الله من عنده أو بأيدي الذين آمنوا، ثم تخرج لتستأصل ليكون استئصالها عنوانا لهزيمة الباطل على امتداد التاريخ الإنساني. وسورة براءة أشارت إلى أعلام هؤلاء، قال تعالى:
(فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا إيمان لهم) (1)، وكان حذيفة بعد وفاة الرسول يقول: " ما قوتل أهل هذه الآية بعد " (2)، وقوله تعالى: (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة) (3)، وكما أن جذور هؤلاء ممتدة في طين الشذوذ.
فكذلك جذور البغي. فالبغاة لم يقاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم. لأن جذورهم في عهدهم لم تكن قد أخرجت فروعها العتية بعد. والقرآن أخبر بهم فقال تعالى: (فقاتلوا التي تبغي حتى تفيئ إلى أمر الله) (4)، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يعلم بمقتضى هذه الآية. إنه سيكون بغي. ولذا أخبر عن
____________
(1) سورة التوبة: الآية 12.
(2) أخرجه ابن أبي شيبة (كنز العمال 426 / 1) وسيأتي الكلام عنه في موضعه.
(3) سورة التوبة: الآية 36.
(4) سورة الحجرات: الآية 9.
ويؤمر رجالا على السرايا والجيوش التي يبعثها إلى الأطراف. لقد كان في حياته يفعل ذلك. وأي فرق بين زمان حياته وما بعد مماته في حين أن إخباره صلى الله عليه وسلم بالغيب عن ربه. يفيد بأن تعيين حارس للدين بعد موته أشد والضرورة إليه أمس ثم أمس. والنبي صلى الله عليه وسلم هو القائل:
" الإسلام والسلطان أخوان توأمان. لا يصلح واحد منهما إلا بصاحبه. فالإسلام أس (1) والسلطان حارث. وما لا أس له يهدم وما لا حارث له ضائع " (2)، قد يقال: لقد كان الحفظ في أيدي أهل الحل والعقد. فنقول: ونحن لا نقلل من وزن أهل الحل والعقد ولا من هيبتهم. ولكن الأحاديث الصحيحة أشارت إلى وجود أئمة مضلين في بطن الزمان يتكلمون بألسنتنا ويدعون إلى النار. ونحن
____________
(1) أس / أي أصل البناء.
(2) رواه الديلمي (كنز العمال 10 / 6).
وأعراض مهتوكة وأموال منهوبة. وأحكام عطلت. وحدود أبطلت. ثم ليبحث الناقد في منشئها وأصولها وأعراقها... وسيرى أن الأسباب العاملة فيها تنتهي إلى ما رآه أهل الحل والعقد من الأمة. ثم حملوا ما رأوه على أكتاف الناس.
وقد يقال: إذا كان الطالح له أثر فإن هذا لا يعني أن الصالح في أهل الحل، والعقد ليس له أثر. ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يشاورهم في الأمر في قوله تعالى: (وشاورهم في الأمر. فإذا عزمت فتوكل على الله) (1)، فنقول:
لقد كان في الصحابة عظماء أفذاذ قاتلوا وقتلوا في سبيل الله ومنهم من انتظر دوره ليفدي الدين بما عاهد الله عليه. ولكن من الذي كان يشاورهم؟ إنه الرسول الأعظم الذي لا ينطق عن الهوى. ويخطئ من يظن أن مشاورته كانت عن قلة في علم ما. فمعاذ الله أن يكون هذا في من وضع الله على عاتقه تعليم البشرية.
لقد كانت المشاورة أحيانا فيما يتعلق بحركة الدعوة بين القبائل. وأحيانا لإرساء قاعدة التآلف بين القلوب. وفي الآية الكريمة. أشركهم الله بالنبي في المشاورة " وشاورهم في الأمر " ثم وحده في العزم " فإذا عزمت فتوكل على الله ". إن المشاورة حق فطري. والذي يسوق الناس إلى الصراط المستقيم أمر فطري.
ودائرة العزم لا يجلس فيها إلا من كان على علم بكتاب الله. وإلا فالطريق إلى
____________
(1) سورة آل عمران: آية 159.
وبصنيعهم تربعوا في دائرة الصلاح. وفي الحقيقة إنهم في دائرة الأخسرين أعمالا. والسبب أنهم ضلوا. والضلال لا يستقيم مع الصلاح. ولأن الله تعالى يقول: (إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) (1)، فإنه تعالى أولى بتحديد من يسوق الناس إلى صراط الله بعد رحيل رسوله. وخاصة أن الدوائر في حياة رسوله قد تكاتفت على عرقلة المسيرة التي يختبر الله تعالى الناس فيها لينظر كيف يعملون. فالذي يختبر لا بد أن يحدد الطرق ويقيم الحجج. حتى لا يكون للناس على الله حجة. أما أن نقول إن الأمر كله في أيدي أهل الحقل والعقد. فإن هذا القول فيه تساهل كبير. ونحن هنا سنتتبع مكان القمة في موضعين: في حجة الوداع. وفي غدير خم. لنرى بماذا أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أولا - حجة الوداع:
في العام التاسع الهجري، كانت فورة الشرك والنفاق. وكان علي بن أبي طالب في المدينة وكان من الرسول بمنزلة هارون من موسى عدا النبوة. وفي هذا العام نزلت سورة براءة وقرأها علي بن أبي طالب وما معها من أحكام على أهل مكة وما حولها. وجاء العام العاشر الهجري وفيه بعث النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وخالد بن الوليد إلى اليمن قبل حجة الوداع وفي هذا العام نزلت سورة المائدة فكانت آخر ما نزل من القرآن. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما خرج إلى حجة الوداع من المدينة. خرج إليها علي بن أبي طالب من اليمن وقال: لبيك يا هلالا كإهلال
____________
(1) سورة القلم: الآية 7.
فدعى له علي. فقال: خذ بأسفل الحربة. وأخذ رسول الله بأعلاها ثم طعنا بها البدن. فلما فرغ ركب بغلته وأردف عليا (4)، وعندما خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس. كان علي بن أبي طالب يعبر عنه (أي يبلغ حديثه) - عليهم السلام -، قال القارئ: وقف علي حيث يبلغه صوت النبي صلى الله عليه وسلم فيفهمه فيبلغه للناس ويفهمهم من غير زيادة ولا نقصان.
كان علي بن أبي طالب يبلغ عنه والناس بين قائم وقاعد. والناس شاهدوا الرسول وعلي منذ بداية الشعائر ينحر معه، وتباركة في الهدى ويأكل معه. ويعبر عنه، ومن قبل سمعوا بقصة تبليغ براءة وبمنزلة هارون من موسى. وبغض المنافقين لعلي. وقبل ذلك سمعوا يوم خيبر أن عليا يحبه الله ورسوله. وشاهدوا يوم أن ناجاه رسول الله وطالت نجواه. وعاينوا يوم أن سد النبي جميع الأبواب إلا باب علي. وعلموا وشاهدوا حديث الكساء وحديث المباهلة. وتأكدوا أن عليا أقدمهم سلما وأكثرهم علما وأوسعهم حلما. وأن سيفه لا تخشى في الله لومة لائم. كل هذا وغيره علموه وشاهدوه. فأي إشارة من النبي إلى علي يجب أن تفهم على بساط الفطرة. لأنها لن تفهم على طريق الحفائر والارتياب والجدل العقيم. فإذا وقف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وقال فيما رواه
____________
(1) رواه ابن حبان في صحيحه (البداية والنهاية 130 / 5).
(2) رواه أحمد ومسلم (الفتح الرباني 137 / 5) (تفسير ابن كثير 77 / 2).
(3) رواه الإمام أحمد (الفتح الرباني 81 / 11)، ورواه ابن حبان (البداية 118 / 5).
(4) رواه أبو داود (البداية 189 / 5).
لأنه من قماشة واحدة بدأت عندما نزل قوله تعالى: (وأنذر عشيرتك الأقربين)، لقد كانت البداية من هنا. ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم منذ البداية لعشيرته كما ورد في الحديث الصحيح " أيكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي ووارثي " (3)، فلم يقم إليه أحد وقام علي بن أبي طالب وبايعه على ذلك. وليس هذا من قماشه حديث: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي "، وذلك بعد أن اتسعت دائرة الضوء وفقا لحركة الدعوة. ثم ألا يتفق ذلك مع قماشة يوم تبليغ سورة براءة حيث قال النبي: " جاءني جبريل فقال، لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك " فما الغرابة إذن في فهم الموقف يوم حجة الوداع. حيث قال النبي: " علي مني وأنا منه ولا يؤدي عني إلا أنا أو علي "، وجميع ذلك من نسيج قوله تعالى يوم المباهلة. (وأنفسنا وأنفسكم).
فإذا كان هذا البلاغ قد تم في حجة الوداع. وإذا كان في نفس الحجة قد نزل عشية يوم عرفة (4)، قوله تعالى: (اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا
____________
(1) رواه أبو داود والنسائي أحمد (البداية والنهاية 198، 199 / 5).
(2) رواه الترمذي وحسنه (الجامع 662 / 5) والنسائي (كنز العمال 172 / 1).
(3) أخرجه أحمد (الفتح الرباني 121 / 23) والترمذي وقال حديث حسن (الجامع 299 / 2) وأورده ابن كثير في البداية والنهاية 357 / 5.
(4) رواه أحمد وابن جرير والضياء بسند صحيح (كنز العمال 174 / 13) وقال في الفتح الرباني رواه أحمد وإسناده ص (الفتح 224 / 23).
فإذا كانت ثقافة الكفر تنطلق من هذا المفهوم. فكيف يكون الحال إذا بلغهم قول النبي " علي مني وأنا منه ولا يؤدي عني إلا أنا أو علي "، أو تحديد النبي لدائرة الطهر التي لا تفارق القرآن ولا يفارقها. ألا يكون اليأس لهم عنوانا على امتداد التاريخ الإنساني. وذلك لأن الصراط المستقيم أصبح له من يسوق الناس إليه بعد وفاة الرسول. ثم أليس إغلاق الباب في وجوههم إكمالا للدين وإتماما للنعمة وإقامة للحجة. لينظر الله كيف تعمل الأمة الخاتمة تحت قانون سنة الابتلاء الجارية. فقوله تعالى: (فلا تخشوهم واخشون)، يفيد هذا
____________
(1) سورة المائدة الآية 3، نزول الآية يوم عرفة رواه أحمد والشيخان والترمذي (الفتح الرباني 126 / 18).