وأتى بما لا يعرفه أصحاب رسوله الله وخالف جماعة المسلمين. وإن ادع مدع أن الخلافة لا تصلح إلا لرجل واحد من بين الناس وأنها مقصورة فيه. ولا تنبغي لغيره لأنها تتلو النبوة. فقد كذب. لأن النبي قال: " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " وإن ادع مدع أنه يستحق الإمامة بقربه من رسول الله. ثم هي مقصورة عليه وعلى عقبه ولا تصلح لغيرهم. فليس له ولا لولده وإن دنا من النبي نسبه. لأن الله يقول: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، وقال رسول الله: " إن ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم وكلهم يد على من سواهم. فمن آمن بما جاء في كتاب الله وأقر بما قال به رسول الله فقد استقام وأناب وأخذ بالصواب.
ومن كره. فقد خالف الحق والكتاب وفارق جماعة المسلمين فاقتلوه. فإن في قتله صلاحا للأمة ". وقد قال النبي: " من جاء إلى أمتي وهم جميع ففرقهم فاقتلوه. إن هذه الثقافة يرى وجهها بوضوح في عهد بني أمية. يوم أن حافظوا على الكرسي بقتال أمير المؤمنين علي، ويوم قتل الحسين، ويوم ضرب المدينة بعد أن خرج أهلها على يزيد بن معاوية. ولم تخرج قوات يزيد من المدينة يوم الحرة إلا بعد أن بالت الخيل بين الروضة والمنبر وبعد أن بايع أهل المدينة ليزيد على أساس أنهم عبيد له الحق أن يبيع فيهم ويشتري. وترى هذه الورقة أيضا على امتداد زمن أولاد مروان بن الحكم طريد رسول الله.
وكان بعض الصحابة يعرفون الخطوط الرئيسية لما اتفق عليه القوم وما سمي بالعقدة. ومنهم حذيفة وأبي بن كعب. وروى أبو بكر أحمد بن عبد
أفيكم حذيفة؟ فقلنا: نعم، قال: فالقول ما قال. وبالله ما أفتح عني بابي حتى تجري على ما هي جارية ولما يكون بعدها شر منها وإلى الله المشتكى (2).
كان هذا بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة. وفي عهد عمر بن الخطاب على أصح الروايات عزم أبي أن يتكلم في الذي لم يتكلم فيه بعد وفاة الرسول. وكان يقول: هلك أهل العقدة ورب الكعبة ألا لا عليهم آسى ولكن آسى على من يهلكون من المسلمين (3)، وفي رواية قال: لأقولن قولا لا أبالي استحييتموني عليه أو قتلتموني " (4)، ووعد أن يكشف الحقائق أمام الناس يوم الجمعة. وجاء يوم الأربعاء والجميع ينتظرون موعد أبي. ولكن يوم الأربعاء جاء بخبر أليم. قال قيس بن عباد: رأيت الناس يموجون.
فقلت: ما الخبر؟ فقالوا: مات سيد المسلمين أبي بن كعب. فقلت:
ستر الله على المسلمين حيث لم يقم الشيخ ذلك المقام (5) ومات أبي في خلافة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه على أصح
____________
(1) أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري.
(2) ابن أبي الحديد نقلا من كتاب السقيفة 312 / 1، كتاب سليم بن قيس ص 74.
(3) رواه أبو نعيم في الحلية في الإمام أحمد.
(4) ابن سعد (الطبقات الكبرى 501 / 3) والحاكم باختصار (المستدرك 229 / 2، 303 / 3).
(5) ابن جرير في المسترشد ص 28.
وكان هناك العديد من الصحابة يخافون من رواية بعض الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله. من هؤلاء أبو هريرة. قال فيما رواه البخاري " حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين فأما أحدهما فبثثته وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم " (3)، وقال: " إني لأحدث أحاديث لو تكلمت بها في زمان عمر أو عند عمر لشج رأسي " (4)، وكان حذيفة يقول:
" لو كنت على شاطئ نهر وقد مددت يدي لاغترف فحدثتكم بكل ما أعلم ما وصلت يدي إلى فمي حتى أقتل " (5).
ولقد وجدنا في المقدمة نمطا بشريا يحب الدنيا ويضرب كتاب الله بعضه ببعض ويترك رسول الله قائما وينقض من حوله. ورأينا قبل ذلك دوائر عديدة مهمتها الصد عن سبيل الله. بملابس الخشوع الزائف ثم وجدنا أنماطا بشرية برامجها حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا. وأنماطا تنطلق من أرض القبائلية والعصبية هدفها إعادة مجد زائل وأنماطا بشرية تختزن في ذاكرتها معركة في المستقبل تطيح برقابهم فعملوا بكل ما لديهم من قوة وفكر من أجل الاحتماء وراء الجدر ومن وراء الجدر بثوا ثقافة تمهد لمجيئهم. كانت هذه مقدمات حقيقة. ترتب عليها نتائج أقرها الحديث الصحيح وحركة التاريخ. واستقامت هذه النتائج من هذه المقدمات على خط واحد.
3 - القرارات الأخيرة للنبي صلى الله عليه وآله:
مما سبق علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل ربه: " أن لا يلبس
____________
(1) وهو قول ابن حبان وابن عبد البر (الإصابة 16 / 1).
(2) وهو قول ابن سعد (الطبقات 202 / 3).
(3) البخاري ك العلم (الصحيح 34 / 1).
(4) ابن كثير في البداية 107 / 8.
(5) ابن عساكر (كنز العمال 345 / 13).
ونحن هنا سنسلط الضوء على قرارات ثلاثة أصدرها النبي صلى الله عليه وسلم وأيامه الأخيرة لنرى كيف كانت الصورة التي سنعتبرها مقدمة حقيقية يقينية ليستنتج منها طالب العلم معلومات تصديقية واقعية.
أولا - الأمر الواقي من الضلال:
لقد علم النبي من ربه أن الاختلاف والافتراق واقع. وعلى فراش المرض أخذ النبي بالأسباب. وطلب من الحاضرين وكان فيهم عمر بن الخطاب. أن يأتوه بدواة وكتف ليكتب لهم كتابا لا يضلون بعده. فهذا أمر صريح مقدمته تستقيم مع نتيجته. فهو صلى الله عليه وسلم يريد أن يكتب حتى لا يضلوا.
فماذا حدث؟ عن جابر بن عبد الله قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم دعا
____________
(1) رواه مسلم كتاب الفتن (14 / 18 الصحيح) وأحمد (الفتح الرباني 215 / 23) والترمذي (الجامع 472 / 4).
(2) قال ابن كثير تفرد به الإمام أحمد (التفسير 562 / 4).
وفي رواية عن ابن عباس قال: لما حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب. قال النبي صلى الله عليه وسلم: " هلم أكتب لكم كتابا لا تضلون بعده. فقال عمر: إن النبي قد غلبه الوجع وعندكم القرآن. حسبنا كتاب الله فاختلف أهل البيت فاختصموا. منهم من يقول: قربوا يكتب لكم النبي صلى الله عليه وسلم كتابا لن تضلوه بعده.
ومنهم من يقول ما قال عمر فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي صلى الله عليه وسلم قال النبي: " قوموا " (!!) فكان ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم (2)، وفي رواية: قال عمر: إن النبي غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا. فاختلفوا وأكثروا اللغط فقال النبي: " قوموا عني. ولا ينبغي عندي التنازع "، فخرج ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين كتابه (3).
وفي رواية لابن عباس قال: يوم الخميس وما يوم الخميس (4) ثم بكى حتى خضب دمعه الحصباء ثم قال: اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه يوم الخميس فقال: ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا.
____________
(1) رواه الإمام أحمد (الفتح الرباني 225 / 22) وابن سعد (الطبقات 243 / 2) والطبري (تاريخ الأمم 193 / 4).
(2) رواه البخاري ك المرض (الصحيح 7 / 4) ومسلم ط استنبول (الصحيح 76 / 5)، وأحمد (الفتح 191 / 22) وابن سعد بلفظ: وغموا رسول الله. فقال: قوموا عني (الطبقات 244 / 2).
(3) رواه البخاري (الصحيح 32 / 2).
(4) كان اشتداد المرض يوم الخميس وكانت الوفاة يوم الاثنين.
وقال في لسان العرب في معنى هجر: إذا جعلت إخبارا " هجر " فيكون المعنى أما من الفحش أو الهذيان. أما إذا كان على سبيل الاستفهام كقولهم " أهجر " يكون المعنى: هل تغير كلامه واختلط. وقال ابن الأثير: والقائل كان عمر بن الخطاب. والذي يليق بعمر أن يكون قد استفهم (2). وبالنظر فيما ورد نجد أن المسلمين الذي حضروا سماع الأمر افترقوا في الدار. لقد وقع الاختلاف بين قولين. قول النبي وقول عمر! وحيل المسلمون بينهما فرجح قوم هذا. إن المهم هنا أن القوم سووا بين النبي وبين عمر وجعلوا القولين مسألة خلاف ذهب كل فريق إلى نصرة واحد منهما.
ولقد اعتذر العديد لعمر بن الخطاب. فقال النووي في شرح مسلم: إن قول عمر حسبنا كتاب الله من قوة فقهه ودقيق نظره لأنه خشي أن تكتب أمور ربما عجزوا عنها فاستحقوا العقوبة لكونها منصوصة! ولكن السندي في شرح البخاري كان له قول آخر قال: إن الأمر الصادر يفيد أنه أمن من الضلال فالكتاب الذي يريد الرسول أن يكتبه سبب للأمن من الضلال ودوام الهداية.
فكيف يخطر على باب إنسان أنه سيترتب عليه عقوبة أو فتنة أو عجز. أما قوله:
" حسبنا كتاب الله " لأنه تعالى قال: (ما فرطنا في الكتاب من شئ)، ويقول:
(اليوم أكملت لكم دينكم)، فكل من الآيتين لا يفيد الأمن من الضلال ودوام الهداية للناس، ولو كان كذلك لما وقع الضلال ولكن الضلال والتفريق في الأمة قد وقع بحيث لا يرجى رفعه كما أن النبي لم يقل لهم: إن مراده أن يكتب لهم الأحكام حتى يقال على ذلك: إنه يكفي فهمها من كتاب الله. ولو فرض أن مراد
____________
(1) رواه البخاري له الوصايا (الصحيح 178 / 2) ومسلم (الصحيح 76 / 5)، وأحمد (الفتح الرباني 224 / 21).
(2) لسان العرب ص 4619 وقال أبو حامد الغزالي في كتابه سر العالمين أن القائل كان عمر، وقال هذا أيضا سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص ص 62.
أدلى العديد من الباحثين بدلوهم. فقال بعضهم: إذا تأملت قول النبي صلى الله عليه وآله: " أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده "، وقوله: " إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي: أحدهم أعظم من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي " (2)، تعلم أن المرمى في الحديث واحد. وقال البعض: من ألم بأطراف حديث " هجر رسول الله " يقطع بأنهم كانوا عالمين أنه إنما يريد أمر يكرهونه ولذا فاجاؤوه بهذه الكلمة وأكثروا عنده اللغو واللغط كما لا يخفى. وكان هناك إصرارا حتى لا يكتب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما أراد أن يكتبه الأمر الذي جعل بعض نساء النبي يتحدثن من وراء حجاب (3)، وقالوا كما في الحديث: " ائتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحاجته. فقال عمر: اسكتن فإنكن صواحبه إذا مرض عصرتن
____________
(1) السندي شرح البخاري (33 / 1) بتصرف.
(2) رواه الترمذي وحسنه (الجامع 663 / 5).
(3) القائلة هي أم المؤمنين زينب كما جاء في رواية عند ابن سعد (الطبقات 242 / 2).
وبقي سؤال: لماذا لم يصر النبي على كتابة الصحيفة. والإجابة: لأنهم جردوه من العصمة من الضلال بقولهم: " هجر " لقد أراد أن يكتب لهم كتابا يكونوا به في مأمن الضلالة، فقالوا: الكلمة التي بها يصبح الكتاب مصدر ضلالة فلو كتب الكتاب بعد هذه الكلمة لشكك الذين في قلوبهم مرض في كل مكتوب بعد ذلك حتى كتاب الله. ولهذا قال لهم فيما رواه ابن عباس بعد أن قالوا أن نبي الله ليهجر: فقيل له ألا نأتيك بما طلبت، فقال صلى الله عليه وسلم:
أو بعد ماذا؟!! (2)، وهناك سبب آخر. وهو أنه صلى الله عليه وآله قد علم من ربه أن الاختلاف واقع لا محالة. ولقد رآهم النبي يختلفون في أمر أصدره داخل حجرته. فرجحوا بين قوله وبين قول عمر وكثر اللغط. والله تعالى أعلم ماذا كان سيحدث لو أصر النبي على كتابة الصحيفة أثناء هذا اللغو واللغط.
ولقد اكتفى صلى الله عليه وسلم بما أمر به وحذر منه على امتدار رسالته.
ودعنا نفترض أن الرسول قد كتب ما يريده. فهل تمنع الكتابة هذه الأنماط البشرية التي يعلمها الله من الكف عن مخططاتها. كلا! لقد كانوا سيعملون في وجود الصحيفة نفس علمهم في عدم وجودها. والقرآن الكريم كشف عن أنماط بشرية إذا جاءهم الرسول بآية ظاهرة. قالوا في ظهورها ما كانوا سيقولونه في عدم ظهورها يقول تعالى: (ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون * كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون) (3)، بل إن القرآن كشف عن نمط بشري أرادوا أن يبدلوا كلام الله ليكون وفقا لما يريدون قال تعالى: (سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل) (4)، إن النبي أخذ بالأسباب وهو يعلم أنه لن يمكن من كتابة
____________
(1) رواه الطبراني في الأوسط (كنز 644 / 5) وابن سعد (الطبقات 244 / 2).
(2) رواه ابن سعد (الطبقات 242 / 2).
(3) سورة الروم: الآية 58، 59.
(4) سورة الفتح: الآية 15.
وأمر بقتل ابن أبي السرح وهو يعلم أن أحدا لن يقتله وأن عثمان بن عفان سيخفيه في داره وهي نفس الدار التي حاصرها الذين ظلمهم بن أبي السرح.
ونفى الحكم بن أبي العاص، وعندما طلب بعض الصحابة أن يقتلوه، رفض وأخبرهم أن في صلبه ذرية الويل لأمته منهم واكتفى بنفيه حتى أعاده عثمان في عهده.
إن الأحداث تجري بمشيئة الله. وما فعل النبي أمرا إلا بإذن من الله. وكل حدث يجري كان من ورائه هدف ومن وراء الهدف حكمة. وعالم الفتن عالم عميق. وأعظم الفتن هي التي تأتي من مكان يستبعد الناس أن تأتي منه الفتن.
وما فعله النبي من طرد الحكم وأمره بقتل ذي الثدية وغير ذلك يكون اختبارا لمن عاصر الحدث وتحذيرا لهم ولمن بعدهم. وعليه تأتي أحداث يترتب عليها امتحان. وهذا من حكمة الوجود. ألم تر أن الله تعالى قبل أن يخلق آدم أخبر سبحانه ملائكته أن آدم مخلوق ليمارس واجب الخلافة في الأرض. ولكن آدم لم يهبطه الله إلى الأرض عقب خلقه مباشرة. وإنما كان بين الخلق وبين الهبوط أوامر ونواهي وأحداث ترتب عليها أن آدم هبط إلى الأرض باختياره وليس قهرا.
والرسول حذر وأمر ونهى وفي علم الله أن الهبوط والاختلاف والافتراق واقع لا محالة. لأنه سبحانه العليم المطلق بطبائع الناس. والله لا يظلم مثقال ذرة. وما من طريق إلا ودل على موطن الهداية فيه. وما ترك الشيطان طريقا للهداية إلا دق عليه أوتادا. ألم تر أن الله تعالى أمر إبراهيم عليه السلام أن يبني البيت الحرام وبعد فترة من الزمان أوحى الشيطان إلى أتباعه بزرع الأصنام حول الكعبة. فأصبح الناظر في المكان يرى هذا وذاك فأصحاب الفطرة السوية يعرفون طريق الصواب وأصحاب النفوس المريضة يعكفون على كل صنم.
إن النبي الأعظم أمر أن يأتوه بصحيفة ليكتب لهم كتابا لا يضلوا بعده.
وكان هذا لهدف من ورائه حكمة. وكان أيضا مادة يختبر بها من عاصر الحادثة وشعاعا يهدي إلى الحق لكل باحث عن الحقيقة، وكم كنا نتمنى أن تكتب هذه
إن الرسول إذا أمر لا ينبغي أن نناقش ماذا وراء هذا الأمر. لأن المخالفة لا تصب إلا في وقت الفتن والعذاب قال تعالى: (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) (1)، قال المفسرون:
دعاء الرسول هو دعوته الناس إلى أمر من الأمور كدعوتهم إلى الإيمان والعمل الصالح ودعوته ليشاورهم في أمر جامع ودعوته إلى الصلاة جامعة وأمرهم بشئ في أمر دنياهم أو أخراهم فكل ذلك دعاء ودعوة منه صلى الله عليه وآله وسلم. ويشهد بهذا المعنى قوله: " قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا "، وما يتلوه من تهديد فخالفي أمره صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا المعنى يناسب سياق الآية السابقة وهي قوله تعالى: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله فإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله..) فهذه الآية تمدح الذين يلبون دعوته ويحضرون عنه ولا يفارقونه حتى يستأذنوه. أما هذه الآية فهي تذم وتهدد الذي يدعوهم فيتسللون عنه لواذا غير مهتمين بدعائه ولا معتنين وقوله: " فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصبهم فتنة أو يصبهم عذاب أليم "، تحذير لمخالفي أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته. من أن تصيبهم فتنة وهي البلية أو يصيبهم عذاب أليم.
والقرآن الكريم كما حذر الذين يخالفون أوامر الرسول. حذر أيضا الذين لا يستجيبون إلى الله، فالرسول إذا دعاهم لما يحييهم ويجعلهم في مأمن من الضلال. أن تصيبهم فتنة، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم. واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وإنه إليه تحشرون
____________
(1) سورة النور: الآية 63.
وهذه الفتنة حدثت أيام الصحابة وليس في أيام غيرهم. هم وحدهم المسؤولون عنها. فعن الزبير بن العوام قال: لقد خوفنا الله بقوله: (واتقوا فتنة...) الآية نحن مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وما ظننا أنا خصصنا بها خاصة (2) وعنه أيضا قال: لقد قرأنا هذه الآية زمانا وما أرانا من أهلها فإذا نحن المعنيون بها (3)، وقال السدي: نزلت في أهل بدر خاصة فأصابتهم يوم الجمل فاقتتلوا (4)، ويوم الجمل ما جاء فجأة. ولكن كانت له مقدمات. وإتقاء هذه الفتنة يكون بالبحث عن المقدمات الحقيقية اليقينية لاستنتاج معلومات تصديقية واقعية. فإذا تشابهت الأمور اعتبر آخرها أولها
____________
(1) سورة الأنفال: الآية 25.
(2) رواه ابن جرير (تفسير ابن كثير 299 / 2).
(3) ابن كثير في التفسير 299 / 2.
(4) ابن كثير في التفسير 299 / 2.
وفي رأينا أن هذا الأسلوب هو الأمثل للكشف عن فتنة ترتدي ثياب القداسة والخشوع وأول باب للبحث لاتقاء هذه الفتنة يجب أن يبدأ من قوله تعالى: (لا تصيبن الذين ظلموا) وليكون السؤال: الذين ظلموا! ظلموا من؟ ثم يتم البحث عن المقياس الذي عليه يظهر الظلم وحجمه وحركة الظالم والمظلوم.
ثانيا - الأمر العسكري الأخير:
ذكرنا أن النبي في حجة الوداع أعلن على الناس وفاته وذلك في قوله:
" لعلي لا ألقاكم بعد عامكم هذا "، كما قال مثل ذلك في غدير خم. ويمكن أن تكون المساحة الزمنية بين هذا الإعلام وبين حدوث الوفاة زاخرة بالاجتماعات وترتيب الأوراق بالنسبة لجميع الأطراف. وشاء الله عز وجل أن يكون هناك حدث يستدعي تجهيز جيش ليصدر النبي قرارا ببعث هذا الجيش إلى مهمة خارج الدولة، ويكون هذا الجيش بقيادة أسامة بن زيد وينتظم تحت هذه القيادة جميع الأطراف وكبار الصحابة باستثناء علي بن أبي طالب. وكان وجود علي في المدينة لهدف كما كان لوجوده فيها يوم تبوك هدف. وروى أصحاب التواريخ والسير أن هذا الجيش أمره الرسول أن يسير إلى مؤتة (وادي في فلسطين) وروى البلاذري في تاريخه وهو معروف بالثقة والضبط أن أبا بكر وعمر معا كانا في جيش أسامة (1)، وذكر الواقدي في كتاب المغازي أن أبا بكر لم يكن في جيش أسامة وإنما كان عمر وأبو عبيدة وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد بن عمرو وقتادة بن النعمان وسلمة بن أسلم. وقال الواقدي إن أبا بكر استأذن رسول الله فأذن له فذهب إلى داره بالسنح وكان بها منزله حين تزوج ابنة خارجة.
وبالجملة: اتفق جميع المؤرخين على أن عمر كان بالبعث وروى البلاذري وهو ثقة أن أبا بكر كان أيضا ضمن الجيش وقال غيره غير ذلك.
____________
(1) راجع (الطبقات الكبرى (190 / 2، 66، 66 / 4) والكامل 317 / 2 في أنساب الأشراف 474 / 1، اليعقوبي 93 / 2، كنز العمال 312 / 5، تاريخ ابن عساكر 391 / 2، الفتح الرباني 222 / 21.
ما مقالة بلغني عن بعضكم في تأميري أسامة ولئن طعنتم في تأميري أسامة لقد طعنتم في تأميري أباه من قبل (2)، وحضهم على المبادرة إلى السير، وروى الشهرستاني أن النبي قال: " جهزوا جيش أسامة لعن الله من تخلف عنه... (3) فلحق الذين تثاقلوا من قبل بالجيش. ثم نقل إليهم أن النبي قد ثقل عليه المرض فبدءوا في التثاقل وعندما نقل إليهم خبر الوفاة رجعوا إلى المدينة التي كانت ترجف بأهلها.
إن حروب النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن لدنيا وإنما لدين. وكان للدين فيها أقوى تعلق لما يعود على الإسلام وأهله بعلو كلمة. وحروب النبي صلى الله عليه وسلم كانت بأمر من الله عز وجل. وكان الملائكة يشاركون في معظمها لتثبيت الذين آمنوا ونصرة الفطرة. وتخاذل الناس في الحروب حدث على امتداد الرسالات السماوية في أقوام الأنبياء الذين أمروا بالقتال مع رسلهم.
ولقد حدث تخاذل من البعض في المعارك التي خاضها الرسول صلى الله عليه وسلم. حدث هذا يوم أحد ويوم حنين ويوم تبوك. أما التخاذل عن بعث أسامة فقد حمل ملامح إضافية وهي أنهم طعنوا في تأمير أسامة عليهم. وهذا
____________
(1) السيرة الحلبية 234 / 3.
(2) رواه البخاري ب مناقب المهاجرين (الصحيح 303 / 2) وأحمد (الفتح الرباني 222 / 21) الطبري (تاريخ الأمم 312 / 3)، ابن سعد (الطبقات 190 / 2).
(3) الملل والنحل / الشهرستاني 23 / 1.
وكان أسامة غلاما لم يبلغ ثماني عشرة سنة وقتئذ. كي يبين لهم ولغيرهم بأن المؤمن يجب عليه أن يسمع ويطيع ولو وجد في نفسه حرجا مما قضى النبي ويسلم تسليما وتأمير أسامة عليهم إرغام لهم على السمع له ليكون سمعهم لأسامة مدخلا تتقبله نفوسهم بعد ذلك إذا وجدوا من هو أصغر منهم سنا على رأس الخرقة. ولكن القوم فطنوا إلى ذلك فقالوا القول الذي لا يبقي للقيادة أي مزية أو فضل وإلا فما معنى الطعن في إمارة من أمره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
لقد أخلى النبي صلى الله عليه وسلم المدينة قبل وفاته بتعبئة شيوخ قريش تحت إمرة أسامة وإخلاء المدينة من هذه القوة في هذا الوقت بالذات. فيه أنه علم من ربه أن المدينة لن تهاجم من قبل الروم أو الفرس. في هذه الفترة.
لذا أمر عليه الصلاة والسلام بالبعث لعل البعث يكون فيه شفاء. قال تعالى:
(اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) (1)، قال المفسرون:
تؤذن بأن دين المسلمين في أمن من جهة الكفار مصون من الخطر المتوجه من قبلهم وأنه لا يتسرب إليه شئ من طوارق الفساد والهلاك إلا من قبل المسلمين أنفسهم وإن ذلك إنما يكون بكفرهم بهذه النعمة التامة ورفضهم هذا الدين الكامل المرضي ويومئذ يسلبهم الله نعمته ويغيرها إلى النقمة ويذيقهم لباس
____________
(1) سورة المائدة: الآية 3.
ثالثا - الأمر الطبي الأخير:
بعد أمره صلى الله عليه وآله وسلم بأن يكتب لهم كتابا لا يضلون من بعده. وأمر بأن يخرجوا في بعث أسامة. ومن على فراش المرض. أمرهم أن لا يلدوه مهما شاهدوا عليه من علامات المرض، ومعنى اللد أن يجعلوا الدماء في إحدى جانبي فيه. وكانوا يستعملون العود الهندي في ذلك. فماذا حدث بعد هذا الأمر الصريح؟ روى البخاري عن عائشة قالت: لددنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه فجعل يشير لنا أن لا تلدوني، فقلنا: كراهية المريض للدواء. فلما أفاق قال صلى الله عليه وآله وسلم: ألم أنهاكم أن تلدوني، قلنا:
كراهية المريض للدواء، فقال: لا يبقي أحد في البيت إلا لد. إلا العباس فإنه لم يشهد (1)، وفي رواية للإمام أحمد قالت: ثم سرى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأفاق وعرف قد لد ووجد أثر اللدود فقال: ظننتم أن الله عز وجل سلطها علي - يعني ذات الجنب - ما كان الله يسلطها علي، ثم قال: لا يبقى أحد في البيت إلا لد إلا العباس فإنه لم يشهد (2)، وفي رواية عند ابن سعد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: كنتم ترون أن الله يسلط علي ذات الجنب ما كان الله ليجعل لها علي سلطانا والذي نفسي بيده لا يبقى في البيت أحد لا لد... " الحديث (3)، وقال السندي في شرح البخاري: معنى قوله: " لا يبقى في
____________
(1) رواه البخاري (الصحيح 95 / 3) ك كتاب المغازي ب مرض النبي.
(2) رواه أحمد بسند جيد (الفتح الرباني 239 / 21) والطبراني والحاكم (كنز العمال 469 / 11).
(3) ابن سعد (الطبقات 235 / 3).
لقد تعاملوا معه على أنه قد غلبه الوجع، أو أنه رفض الدواء كراهية المريض للدواء، فضربتهم العقوبة. ترى هل يستحق الفريق الذين قالوا يوم الخميس أن النبي قد غلبه الوجع عقوبة على ما قالوا بعد أن تبين هنا أن الله لا يسلط على رسوله المرض الذي يجعله يهدي أو يهجر؟
رابعا - الوصايا:
إذا سألنا: بماذا أوصى النبي صلى الله عليه وسلم قبل الموت؟
فستكون الإجابة على هذا السؤال غير تامة في جميع الأحوال. ولقد روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما من حق امرئ مسلم له شئ يوصى فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده " (2)، ولقد روى فيما بعد أن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثوا عثمان بن عفان إلى أبي بكر يسأل لهن ميراثهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكانت المفاجأة عندما أخبرهم أبو بكر رضي الله عنه أن الرسول قال: لا نورث " (3)... فمن هذا يمكن القول أن النبي لم يكتب وصيته ويقول فيها هذا. وعلى أقل تقدير لم يخبر أهل بيته بذلك. فإذا تركنا الوصية فيما يتعلق بميراث أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته ونظرنا إلى الوصية بالأمة. نجد روايات تحتاج إلى إيضاحات. وعلى سبيل المثال روى الإمام أحمد عن ابن عباس أن النبي
____________
(1) البخاري شرح السندي (95 / 3).
(2) رواه الترمذي وصححه (الجامع 432 / 4).
(3) سنبين ذلك في حينه.
أين الوصية بخلافة راشدة متكفلة بصلاح النفوس والأموال والأحكام والأخلاق والصالح العام. هل يجوز أن يخشى معاوية بن أبي سفيان أن يترك أمة محمد بعده بلا راعي لها ولا يخشى محمد ذلك؟ أيكون سلاطين الإسلام الذين ورثوا الخلافة من والد إلى ولد أحرص على مصلحة الأمة من بني الرحمة؟ إن هذه التساؤلات ليست جديدة. فلقد طرحت من قبل وبعد وفاة الرسول بزمن يسير. روى البخاري: سئل بن أبي أوفى: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم أوصى؟ فقال: لا، فقيل: كيف كتب على الناس الوصية أو أمر بالوصية.
قال: أوصى بكتاب الله (2)، وفي رواية الترمذي: فقيل: كيف كتبت الوصية وكيف أمر الناس... " (3)، وقال في تحفة الأحواذي: أي كيف يؤمر المسلمون بشئ ولا يفعله النبي. وبذلك يتم الاعتراض (4).
وبعد هذا التساؤل من الناس جاء التساؤل الأهم روى البخاري عن الأسود قال: ذكروا عن عائشة أن عليا كان وصيا. فقالت: متى أوصى إليه؟ وقد كنت مسندته إلى صدري - أو حجري - فدعا بالطست - وفي رواية: فبال فيها - فلقد أثخنت في حجري فما شعرت أنه قد مات فمتى أوصى؟ (5)، والجدير بالتسجيل
____________
(1) رواه الإمام أحمد (الفتح الرباني 224 / 21) وقال في الفتح رواه الشيخان.
(2) رواه البخاري ك الوصايا (الصحيح 125 / 2) ومسلم (الصحيح 74 / 5 ط اسطنبول).
(3) رواه الترمذي وصححه (الجامع 432 / 4).
(4) تحفة الأحواذي (309 / 6).
(5) رواه البخاري ك الوصايا 125 / 2، كتاب المغازي 95 / 3، ابن سعد (الطبقات 261 / 2).
ألم تسمع قولهم في محضر أم المؤمنين: إن عليا كان وصيا.
وعلى أي حال فإن حديث الناس بالوصية لعلي لا خلاف عليه كما في هذا الحديث. وإنما الخلاف في رد أم المؤمنين على الذين قالوا بذلك. فلقد أخبرتهم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مات على صدرها وإنها آخر الناس عهدا به. وهذا القول تعارضه أحاديث صحيحة أخرى منها ما رواه الإمام أحمد عن أم المؤمنين أم سلمة، قالت: والذي أحلف به إن كان علي بن أبي طالب لأقرب الناس عهدا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالت: عدنا رسول الله صلى الله عليه وآله غداة بعد غداة والنبي يقول: جاء علي، جاء علي - وفي رواية قالت فاطمة: كأنه بعثة في حاجة - فجاء علي، قالت أم سلمة:
فظننت أن له إليه حاجة. فخرجنا من البيت فقعدنا وكنت أدناهم إلى الباب فأكب عليه علي (1) فجعل يساره ويناجيه (2)، ثم قبض صلى الله عليه وآله من يومه ذلك. وكان علي أقرب الناس به عهدا " (3).
وروى ابن سعد عن أبي الغطفان قال سألت ابن عباس: يا ابن عباس أرأيت رسول الله صلى الله عليه وآله توفي ورأسه في حجر أحد؟ قال ابن عباس: توفي وهو لمستند إلى صدر علي بن أبي طالب. قلت: فإن عروة حدثني عن عائشة أنها قالت: توفي رسول الله صلى الله عليه وآله بين سحري ونحري. فقال ابن عباس: أتعقل!! والله لتوفى رسول الله وإنه لمستند إلى صدر علي وهو الذي غسله (4)، وسئل عمر بن الخطاب: ما كان ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: سل عليا، فقيل له: من غسله؟ قال: سل
____________
(1) أي مال برأسه عليه.
(2) أي يحدثه سرا.
(3) رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح غير أم موسى وهي ثقة (الزوائد 112 / 9)، ورواه الحاكم وصححه وأقره الذهبي (المستدرك 139 / 3)، وأورده ابن كثير في البداية 360 / 7.
(4) ابن سعد (الطبقات 263 / 2).
وكما ذكرنا لقد تحدث الناس في عصر الصحابة عن وصية النبي لعلي.
ولكن الوصايا وصلت إلينا مبتورة. وصحيح أن أم المؤمنين عائشة ذكرت أن النبي لم يوصي لعلي. وصحيح أيضا أن عليا كان آخر الناس عهدا برسول الله صلى الله عليه وآله. وفي الحديث أنه مال برأسه على النبي وأن النبي حدثه سرا. وفي الحديث الصحيح. أن عليا قال: إن مما عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وآله أن الأمة ستغدر بك بعدي " (3).
ورحل النبي الأعظم صلى الله عليه وآله، رحل النبي الأمي العربي القرشي الهاشمي المكي المدني ونشهد أنه أدى الرسالة ونصح الأمة وكشف الغمة وجاهد في سبيل الله حتى آتاه اليقين فجزاه الله خير الجزاء ونسأله سبحانه أن يحشرنا تحت لوائه يوم القيامة والمؤمنين أجمعين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
____________
(1) ابن سعد (الطبقات 263 / 2).
(2) رواه ابن عساكر (كنز العمال 228 / 16.
(3) رواه البيهقي بسند صحيح (كنز العمال 297 / 11) ابن كثير في البداية (218 / 6).
الطريق إلى الفتن
أولا - الاختيار
أضواء على سقيفة بني ساعدة:
بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أرجفت المدينة بأهلها. ونزل إليها الذين كانوا في بعث أسامة. وتوجه عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى دار النبي وأعلن البيان الأول وجاء فيه " أن النبي لم يمت وإنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى فغاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع بعد أن قيل قد مات والله ليرجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أن رسول الله مات " (1)، وفي رواية البخاري عن عائشة قالت قال عمر: والله ما مات رسول الله " (2)، والبيان بهذه الصورة في حاجة إلى دقة. فكان يكفي الفاروق أن ينظر في بيت النبي أو يسأل أم المؤمنين حفصة عن الحقيقة. ثم يلقي البيان على خلفية من الدقة. ولقد فصل الفاروق رضي الله عنه الأسباب التي دعته إلى القول بهذا، فقال فيما رواه البخاري: والله ما كان يقع في نفسي إلا ذاك وليبعثنه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم " (3)، وفي تاريخ الطبري قال: والله إن حملني على ذلك إلا أنني كنت أقرأ هذه الآية: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا)، فوالله إني كنت لأظن
____________
(1) الطبري (197 / 3). (2) البخاري ك بدء الخلق (الصحيح 291 / 2).