الصفحة 360
خالد. وعندما جاء خالد قام إليه عمر فنزع الأسهم عن رأسه فحطمها ثم قال له:

يا عدو نفسه أعدوت على امرئ مسلم فقتلته ثم نزوت على امرأته والله لنرجمنك بأحجارك. وخالد لا يكلمه. ولا يظن إلا أن رأي أبي بكر مثل رأيه.

حتى دخل إلى أبي بكر واعتذر إليه بعذره وتجاوز عنه. فخرج خالد وعمر جالس في المسجد فقال: هلم إلي يا ابن أم شملة. فعرف عمر أن أبا بكر قد رضي عنه (1). وروي أن أبا بكر قال: " ما كنت لأرجمه فإنه تأول فأخطأ " وفي رواية:

" هبه يا عمر تأول فأخطأ " فارفع لسانك عن خالد (2).

لقد كانت هذه بداية جاء عليها طوفان من الأمراء فيما بعد. في البداية قام الأمراء بالقتل على الرغم من أن الخليفة وضع شرطا لهذا القتال، وهو الآذان والإقامة. ونحن لا نناقش هنا الأساس الفقهي الذي استند إليه أبو بكر في قتال مانعي الزكاة. وقد علمنا أن النبي صلى الله عليه وآله لم يقبل زكاة ثعلبة بن حاطب وقصته مذكورة في سورة التوبة. ونحن لا نناقش الأساس الفقهي في ذلك وقد رأينا عمر نفسه قد اعترض على قتال مانعي الزكاة منذ البداية واعترض على مخالفات خالد. ولا ندري كيف يقتل مالك على الزكاة وهو يصلي. فهل معنى ذلك أن يقتل الذي لا يصلي حتى إذا أخرج الزكاة. وذلك لأن الصلاة والزكاة حزمة واحدة ومعها الشهادتين وحج البيت. ولكننا نناقش هنا الأرضية التي جاء عليها الأمراء. لأن منها خرجت فتن وصل دخانها عنان السماء.

لقد علمنا أنه في عهد النبوة كانت هناك دوائر عديدة هدفها الصد عن سبيل الله. وكان الرسول يدعو على بعضهم ويطرد بعضهم ويخبر أصحابه بأسماء البعض الآخر. وكان عبد الله بن عمرو يكتب بعض أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صحيفة خاصة به. فلما علمت جهات الصد عن السبيل بذلك.

حاولوا أن يحولوا بين عبد الله وبين ما يكتب نظرا لاحتمال ذكرهم فيما يكتب.

____________

(1) الطبري 243 / 3.

(2) الطبري 242 / 3.

الصفحة 361
روي عن عبد الله أنه قال: كنت أكتب كل شئ أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أريد حفظه فنهتني قريش. وقالوا: أتكتب كل شئ تسمعه ورسول الله صلى الله عليه وآله بشر يتكلم في الغضب والرضا. فأمسكت عن الكتابة. فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله فأومئ لي شفتيه وقال: والذي نفسي بيده ما يخرج مما بينهما إلا حق فاكتب " (1).

لقد كان التدوين عقبة أمامهم. فلما جاء عهد الفاروق وهدد من يروي بالضرب والحبس وذلك لمصلحة للمسلمين لا نستطيع الوقوف عليها. ضاع ذكر القوم. وعندما أقدم الفاروق رضي الله عنه على إلغاء سهم المؤلفة قلوبهم. تجرد القوم من علامة بارزة تدل على تألفهم لضعف إيمانهم. ومع نسيان أخبارهم وضياع علامتهم انخرطوا في نسيج واحد مع الأمة دون اتخاذ الأمة لأي نوع من أنواع الحذر والحيطة تجاههم. ولكي تكتمل المأساة كذبوا على رسول الله صلى الله عليه وآله. نظرا لاحتمال تسرب حديث من الأحاديث التي ذمهم فيها النبي. وعلى سبيل المثال لقد وصفوا النبي لابن عمرو عندما كان يكتب.

بأن النبي بشر يتكلم في الغضب والرضا. ونجدهم يقولون على لسان الرسول فيما بعد: " اللهم إنما محمد بشر يغضب كما يغضب البشر. وإني اتخذت عندك عهدا لن تخلفه. فأيما مؤمن آذيته أو سببته أو جلدته فاجعلها كفارة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة " (2)، وهكذا جعلوا النبي مؤذيا سبابا جلادا حتى يفلتوا مما ورد فيهم. ورووا عنه أيضا أنه قال: " اللهم فأيما مؤمن سببته أو لعنته فاجعل ذلك له قربة إليك يوم القيامة " (3)، هكذا جعلوه سبابا ولعانا " هذه الأحاديث يعارضها قوله الله تعالى: * (وإنك لعلى خلق عظيم) * (4)، وقوله تعالى: * (وما

____________

(1) رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد أصل في كتابه الحديث عن رسول الله ولم يخرجاه (المستدرك 105 / 1) ورواه أبو داود حديث رقم 3646.

(2) رواه مسلم (الصحيح 153 / 16) ك البرب من لعنه النبي.

(3) سورة القلم: الآية 4.

(4) سورة النجم: الآية 3.

الصفحة 362
ينطق عن الهوى) * (1)، وقوله تعالى: * (ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك) * (2)، إلى غير ذلك من الآيات. ويعارضه حديث " لم يكن النبي سبابا ولا فحاشا " (3)، وإذا كان النبي قد لعن أحدا فإن هذا اللعن بأمر من الله قال تعالى: * (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون) * (4)، وقد أمر الله رسوله يوم مباهلة نصارى نجران بأن يأتي بعلي وفاطمة والحسن والحسين وأن يقول للنصارى:

* (ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين) * (5)، فالرسول لا ينطق إلا بوحي ولكن أجهزة ومؤسسات الصد جعلته يغضب كما يغضب البشر لأسباب يفهمها كل باحث عن الحقيقة.

وبعد أن انخرطوا مع الأمة في نسيج واحد ضاع ذكرهم بعد أن أغلقت الأبواب على الأحاديث التي حذرت منهم. كما ضاع ذكر أهل البيت بعد أن أغلقت نفس الأبواب على الأحاديث التي رغبت فيهم. ورغم ذلك كان في الساحة طائفة موالية لأهل البيت ولكن في عالم الظلال... وتحت الأضواء كان هناك من يسير بين الأمة وهدف الأمة. كان يود لو أمسك بقائمة كرسي أمام باب من الأبواب يتسلق عليها إلى كرسي آخر حتى يخرج الحياة الدينية عن مسارها وتتحول فيما بعد إلى اتجاه يدفع إلى فتن حذر النبي صلى الله عليه وآله من مقدماتها. ونحن هنا سنلقي بعض الضوء على بعض الأمراء الذين كانت بداية ظهورهم في عهد أبي بكر ثم تدفقت بهم الدولة بعد ذلك على امتداد تاريخها.

أما الذين كانوا على عهد أبي بكر فمنهم رجل يدعي الفجأة. قدم إلى أبي بكر وزعم أنه مسلم وسأله أن يجهز معه جيشا يقاتل به أهل الردة. فجهز معه جيشا فلما سار جعل لا يمر بمسلم أو مرتد إلا قتله وأخذ ماله. وعندما علم أبو بكر

____________

(1) سورة (2) سورة آل عمران: الآية 159.

(3) رواه البخاري كتاب الآداب (الصحيح 55 / 4).

(4) سورة البقرة: الآية 159.

(5) سورة آل عمران: الآية 61.

الصفحة 363
بهذه الأحداث رده ثم أحرقه في النار (1)، ومن قبل رأينا خالد بن الوليد الذي وصفته الأحاديث الصحيحة أنه كان من المبغضين لعلي بن أبي طالب كيف ركب على رأس جيش وقتل مالك وأخذ ماله وتزوج زوجته. وتحت شعار حروب الردة برز عمرو بن العاص. وروي أن عمر بن الخطاب قال لأبي بكر حين شيع عمرو بن العاص: أو تزيد الناس نارا. ألا ترى ما يصنع هذا بالناس! فقال: دعه فإنما ولاه علينا رسول الله لعلمه بالحرب (2)، وغير هؤلاء كثير شربوا لبن الإمارة صغارا ثم قاتلوا من أجلها كبارا ثم جاء عهد عمر بن الخطاب فاتسعت الرقعة.

ولقد كانت الرقعة في عهد أبي بكر على مسرحها تدور الكثير من حروب الردة وبعض الفتوحات، أما في عهد عمر فعلى مسرحها دارت الفتوحات الكثيرة الواسعة. وبحجم الفتوحات كان حجم الأمراء. ومن هؤلاء الأمراء.

معاوية بن أبي سفيان، الذي أسلم هو وأبيه وأمه يوم الفتح (3)، وقال البعض: إنه أسلم بعد الحديبية وكتم إسلامه وهذا يعارضه ما ثبت في الصحيح عن سعد بن أبي وقاص أنه قال في العمرة في أشهر الحج. فعلناها وهذا يومئذ كافر (4)، كان الفاروق لا يخفي إعجابه بمعاوية، روى أنه ذكر معاوية عند عمر فقال: دعوا فتى قريش وابن سيدها أنه لمن يضحك في الغضب ولا ينال منه إلا على الرضا ومن يأخذ من فوق رأسه إلا من تحت قدميه (5)، وكان يقول للناس:

تذكرون كسرى وعندكم معاوية (6)، ومعاوية بدأ يحبو في اتجاه الكرسي بعد وفاة أخيه يزيد بن أبي سفيان الذي كان له كرسي في عهد أبي بكر وعمر عندما مات يزيد. كتب عمر بولاية معاوية مكان أخيه. وعندما ذهب عمر ليعزي أبي سفيان

____________

(1) البداية والنهاية 319 / 6.

(2) رواه الطبراني وقال الهيثمي رجاله ثقات (الزوائد 352 / 9).

(3) البداية والنهاية 21 / 8، والإستيعاب 395 / 3.

(4) الإصابة 113 / 6.

(5) رواه الديلمي في سند الفردوس (كنز العمال 587 / 13)، البداية والنهاية 125 / 8، الإستيعاب 397 / 8.

(6) الطبري 184 / 6، الإستيعاب 396 / 3.

الصفحة 364
في ابنه يزيد قال له أبو سفيان: يا أمير المؤمنين من وليت مكانه؟ قال: أخوه معاوية، فقال أبو سفيان: وصلت رحما يا أمير المؤمنين - وفي رواية - قال أبو سفيان: فمن بعثت على عمله؟ قال عمر: معاوية أخاه! إبنان مصلحان وإنه لا يحل لنا أن ننزع مصلحا (1).

وبعد أن ركب معاوية على الكرسي جاءته رسالة من أبيه وأخرى من أمه.

قال له أبوه: يا بني إن هؤلاء الرهط من المهاجرين سبقونا وتأخرنا فرفعهم سبقهم وقصر بنا تأخيرنا فصاروا قادة وسادة. وصرنا أتباعا وقد ولوك جسيما من أمورهم فلا تخالفهم فإنك تجري إلى أمد فنافس فإن بلغته أورثته عقلك!!

وقالت له أمه في رسالتها: والله يا بني إنه قل أن تلد حرة مثلك وإن هذا الرجل قد استنهضك في هذا الأمر فاعمل بطاعته فيما أحببت وكرهت (2).

ولقد أخذ معاوية بالنصيحة. روي لما قدم عمر إلى الشام تلقاه معاوية في موكب عظيم. فلما دنا من عمر قال له: أنت صاحب الموكب. قال: نعم، فقال: هذا حالك مع ما بلغني من طول وقوف ذوي الحاجات ببابك لم تفعل ذلك؟ قال: يا أمير المؤمنين إنا بأرض جواسيس العدو فيها كثيرة فيجب أن نظهر من عز السلطان ما يكون عز الإسلام وأهله ويرهبون به فإن أمرتني فعلت وإن نهيتني انتهيت. فقال عمر: يا معاوية ما سألتك عن شئ إلا تركتني في مثل رواجب الفرس لئن كان ما قلت حقا إنه لرأي رأيت ولئن كان باطلا إنه لخديعة أديت، قال معاوية: فمرني يا أمير المؤمنين بما شئت، فقال: لا آمرك ولا أنهاك!! (3) وروى ابن المبارك عن أسلم مولى عمر قال: قدم علينا معاوية وهو أبيض الناس وأجملهم فخرج إلى الحج مع عمر فكان عمر ينظر إليه فيعجب منه. ثم يضع إصبعه على متن معاوية ثم يرفعها ويقول: بخ بخ. نحن إذن خير الناس إن جمع لنا خير الدنيا والآخرة فقال معاوية: يا أمير المؤمنين سأحدثك أنا

____________

(1) ابن سعد اللالكائي في السنة (كنز العمال 606 / 13)، البداية والنهاية 118 / 8، الطبري 69 / 5، الإستيعاب 596 / 3.

(2) البداية والنهاية 118 / 8.

(3) الطبري 184 / 6، البداية والنهاية 125 / 8.

الصفحة 365
بأرض الحمامات والريف والشهوات. قال عمر: ما بك إلا ألطافك نفسك بأطيب الطعام وذوي الحاجات وراء الباب، فقال معاوية: يا أمير المؤمنين علمني أمتثل. فلما جئنا ذا طوى أخرج معاوية حلة فلبسها فوجد عمر فيها ريحا كأنه ريح طيب فقال، يعمد أحدكم فيخرج حاجا مقلا حتى إذا جاء أعظم بلدان الله حرمة أخرج ثوبيه كأنهما كانا في الطيب فلبسهما. فقال معاوية: إنما لبستهما لأدخل بهما على عشيرتي وقومي... فالله إني قد عرفت الحياء فيه. ثم نزع معاوية ثوبيه ولبس ثوبيه الذين أحرم فيهما (1)، لقد كان الفاروق يسأل في كل مرة عن ذي الحاجات ولكم ذكراهم كانت تغيب في ردود معاوية. والخلاصة أن معاوية كانت في ذاكرته رسائل والديه ففي كل مرة قال: مرني أمتثل! علمني أمتثل.

وعلاقة معاوية بالكرسي علاقة وطيدة. قال في الإصابة: عاش ابن هند عشرين سنة أميرا وعشرين سنة خليفة (2)، وقال صاحب الإستيعاب: هو أول من أقام المهرجان. وأول من قتل مسلما صبرا حجرا وأصحابه. وأول من أقام على رأسه حرسا. وأول من قيدت بين يديه النجائب، وأول من اتخذ الخصيان في الإسلام، وأول من بلغ درجات المنبر خمس عشر مرقاة - ليكون منبره أعلا من منبر رسول الله، وقال: أنا أول الملوك (3). وأقول هو أول من دق وتد الوراثة في الحكم. وأول من قال بعدالة الصحابة ليدخل تحت هذه العدالة ولا ينتقده أحد، وأول من رعى القبائلية حتى أثمرت في النهاية ثمرة القومية العربية.

والإسلام ينظر للإنسان كإنسان ولا فرق عنده بين عربي وبين أعجمي إلا بالتقوى. وقال الحسن البصري: أربع خصال كن في معاوية لو لم تكن فيه إلا واحدة لكانت موبقة: انتزاؤه على هذه الأمة بالسيف واستخلافه من بعده ابنه يزيد السكير الذي يلبس الحرير وادعاؤه زيادا والنبي قال: " الولد للفراش

____________

(1) البداية والنهاية 125 / 8.

(2) الإصابة 113 / 6، الإستيعاب 398 / 3.

(3) الإستيعاب 400 / 3.

الصفحة 366
وللعاهر الحجر "، وقتله حجر بن عدي وأصحابه. فيا ويل له من حجر، يا ويل له من حجر، يا ويل له من حجر وأصحاب حجر " (1)، وحجر كان من شيعة علي بن أبي طالب. وهكذا كانت البداية والنهاية في مشهد وحركة. والتفاصيل تأتي في موضعها.

  • ومنهم (عمرو بن العاص) ولقد كان الفاروق يلوم أبا بكر في توليته عمرو ويقول: " أو تزيد الناس نارا "؟ ولكن بعد أن أجاد عمرو التسلق. كان عمر بن الخطاب إذا نظر إليه يقول: " ما ينبغي لأبي عبد الله أن يمشي على الأرض إلا أميرا (2)، ولاه عمر فلسطين والأردن ثم أمره بفتح مصر فلم يزل واليا عليها حتى مات عمر بن الخطاب. وأقره عثمان عليها ثم عزله عنها، فجعل يطعن على عثمان، ولما قتل عثمان سار إلى معاوية وخاض معه معاركه ضد الإمام علي بن أبي طالب مقابل أن يعطيه مصر طعمة. وولاه معاوية مصر فلم يزل عليها إلى أن مات بها (3)، والذي يتأمل في سيرة ابن العاص يجد أن حرصه على الإمارة كان محور الارتكاز لحركته.

  • ومنهم (الوليد بن عقبة) ولاه عمر صدقات بني تغلب. وكان يتخذ أبا زبيد الشاعر نديما له. وعلى مائدة اللهو شربا الخمر ودقا قواعد شعر الخمريات. وصلاة الوليد بالمسلمين وهو سكران رواها أكثر من واحد (4)، ومنهم (عبد الله بن أبي السرح) الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله حتى ولو كان متعلقا بأستار الكعبة. ولاه عمر بعض أعماله وكان من المقربين إليه (5)، وكان لعبد الله في عهد عثمان عيونه على بيت المال ومن أجل المال فرض الضرائب على أهل مصر وجلد ظهورهم فجاءوا يشكونه إلى عثمان. وكان

    ____________

    (1) الطبري 157 / 6، ابن الأثير 193 / 3، ابن أبي الحديد 456 / 1.

    (2) الإصابة 3 / 5.

    (3) الإستيعاب 511 / 2.

    (4) الإستيعاب 633 / 3.

    (5) الطبري 59 / 5، البداية والنهاية 214 / 8.

    الصفحة 367
    ما كان حتى قتل عثمان. ومنهم (المغيرة بن شعبة) قال: أنا أول من رشا في الإسلام. أعطيت حاجب عمر بن الخطاب عمامة فكان يأنس بي ويأذن لي أن أجلس داخل باب عمر. فيمر الناس فيقولون: إن للمغيرة عند عمر منزلة إنه ليدخل عليه في ساعة لا يدخل فيها أحد (1)، واستعمله عمر على البحرين فكرهوه وشكوا منه فعزله ثم ولاه البصرة. فاتهموه بالزنا فعزله، ثم ولاه الكوفة بعد ذلك (2)، وهكذا من كرسي إلى كرسي. والمغيرة أول من وضع في حفرة بني أمية الحكم بالوراثة. وسبب ذلك أن معاوية عزم على عزله من منصبه فأشار إليه بتنصيب ابنه يزيد من بعده. وهو يضمن له أصوات الشيوخ في ولايته. فثبته معاوية وساقوا الشيوخ وتمت الوراثة. وكان جابر يقول: صحبت المغيرة بن شعبة. فلو أن مدينة لها ثمانية أبواب لا يخرج من بابها إلا بمكر لخرج المغيرة من أبوابها كلها (3)، وعن الشعبي قال: دهاة العرب أربعة: معاوية وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وزياد. فأما معاوية فللحلم والأناة، وأما عمرو فللمعضلات، وأما المغيرة فللمبادهة، وأما زياد فللكبير والصغير (4).

  • ومنهم (أبو الأعور السلمي) أدرك الجاهلية وشهد حنينا مشركا (5)، لعنه النبي صلى الله عليه وسلم (6) وكان أمير المؤمنين علي يدعو عليه (7)، وعن محمد ابن حبيب قال: كتب عمر بن الخطاب إلى أمراء الآفاق أن يبعثوا إليه من كل عمل رجلا من صالحيها فبعثوا إليه أربعة من البصرة والكوفة والشام ومصر. فاتفق أن الأربعة من بني سليم وهو الحجاج بن علاط وزيد بن الأخنس ومجاشع بن مسعود وأبو الأعور. فجعل عمر السلمي على مقدمة

    ____________

    (1) الإصابة 453 / 3.

    (2) البداية والنهاية 48 / 8.

    (3) البداية والنهاية 49 / 8، الإصابة 452 / 3.

    (4) ابن عساكر (تاريخ الخلفاء ص 190)، الإستيعاب 389 / 3.

    (5) الإصابة 540 / 2، أسد الغابة 16 / 6.

    (6) أبو نعيم (كنز العمال 82 / 8).

    (7) ابن أبي شعبة (كنز العمال 82 / 8).

    الصفحة 368
    جيش (1)، وظل هكذا حتى عهد معاوية، وكان من أشد المبغضين لعلي بن أبي طالب.

  • ومنهم (يعلى ابن منبه) استعمله أبو بكر على بلاد حلوان في الردة وعمل لعمر على بعض بلاد اليمن (2) وكان عظيم الشأن عند عثمان. وهو الذي أعان الزبير بأربعمائة ألف واشترى لعائشة جمل يقال له عسكر وجهز سبعين رجلا من قريش (3)، وكل هذا لملاقاة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب يوم الجمل. وكان يقول: من خرج يطلب يوم بدم عثمان فعلى جهازه (4).

  • ومنهم (بسر بن أرطأة) كان أحد الذين بعثهم عمر بن الخطاب مددا لعمرو بن العاص في فتح مصر. كان الكرسي هدفه، ومن أجله ارتكب أبشع الجرائم في الإسلام فيما نقله أهل الأخبار وأهل الحديث. منها ذبحه ابني عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب وهما صغيران بين يدي أمهما. وإغارته على همدان، وسبي نساء المسلمين فكن أول نساء سبين في السلام، وقتله أحياء من بني سعد (5).

    لقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من أمراء ومن طريق تكون الإمارة فيه ندامة يوم القيامة. والأمراء الذين ذكرناهم لم يأتوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقرن من الزمان. وإنما جاءوا سريعا وشقوا طريقهم لأن السياسة لم تكتشفهم ولأن الاجتهاد مهد لهم - ولم يكن هؤلاء فقط في بستان الصدر الأول وإنما كان هناك آخرون دخلوا عن عنوان أعلنه عمر بن الخطاب قال فيه:

    نستعين بقوة المنافق وإثمه عليه (6)، وقال ابن حجر في فتح الباري: والذي

    ____________

    (1) الإصابة 541 / 2.

    (2) الإستيعاب 662 / 3.

    (3) الإستيعاب 664 / 3.

    (4) الإستيعاب 663 / 3.

    (5) الإستيعاب 155، 157 / 1.

    (6) رواه ابن أبي شيبة والبيهقي (كنز العمال 614 / 4).

    الصفحة 369
    يظهر من سيرة عمر في أمرائه الذين كان يؤمرهم في البلاد أنه كان لا يراعي الأفضل في الدين فقط بل يضم إليه الذي عنده مزيد من المعرفة بالسياسة فلأجل ذلك استخلف معاوية والمغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص مع وجود من هو أفضل منهم في أمر الدين والعلم (1).

    لقد كان الطريق مفتوحا. فدخل منه رجال بكل هدوء ويسر منهم (إياس بن صبيح) قال صاحب الإصابة: كان من أصحاب مسيلمة الكذاب ثم أسلم وولاه عمر القضاء في البصرة (2)، ومنهم (طليحة بن خويلد) الذي ادعى النبوة بعد النبي صلى الله عليه وآله. أعجب عمر لكلامه ورضي عنه وكتب له بالوصاة إلى الأمراء أن يشاور (3)، وفي رواية: كتب عمر إلى النعمان بن مقرن استشر واستعن في حربك بطلحة وعمرو بن معد يكرب ولا تولهما (4)، ومنهم (ابن عدي الكلبي) قال لعمر: أنا امرؤ نصراني. قال عمر: فما تريد. قال: أريد الإسلام. فعرضه عليه فقبله. ثم دعا له برمح فعقد له على أمن أسلم. قال عوف بن خارجة: ما رأيت رجلا لم يصل صلاة أمر على جماعة من المسلمين قبله (5)، ومنهم (أبو زبيد الشاعر) كان عند أخواله من بني تغلب بالجزيرة، وبعد أن فتحها الوليد بن عقبة في خلافة عمر استعمل عمر أبا زبيد على صدقات قومه ولم يستعمل نصرانيا غيره (6)، ومنهم (كعب الأحبار) تولى عملية القص في المساجد ثم انتقل إلى الشام فجعل للقص أوتاد اتخذها القوم سنة فيما بعد (7).

    ولقد كانت هناك اعتراضات على عمر بن الخطاب في توليته بعض الناس.

    روي أنه لما ولي معاوية الشام قال الناس: ولي معاوية فقال لهم: لا تذكروا

    ____________

    (1) فتح الباري كتاب الأحكام 198 / 13.

    (2) الإصابة 120 / 1.

    (3) البداية والنهاية 130 / 7.

    (4) الإستيعاب 238 / 2.

    (5) الإصابة 116 / 1.

    (6) الإستيعاب 80 / 4.

    (7) الإصابة 316 / 3.

    الصفحة 370
    معاوية إلا بخير فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم أهده (1).

    ومن المعروف أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو لأمته كلها بالهداية. ومن العجيب أن حديث " اللهم أهده " حديث ضعيف إلا أن ابن كثير دافع عنه والتمس لا الأعذار. وهذا الموقف لا نجده إذا كان يتعلق بحديث صحيح لمعسكر غير معسكر معاوية. ومن الذين اعترضوا على عملية التوظيف هذه حذيفة رضي الله عنه. قال لعمر: إنك تستعين بالرجل الفاجر. فقال عمر:

    إني لأستعمله لأستعين بقوته ثم أكون على قفائه (2)، وكما ذكرنا من قبل إن الله نهى عن إتخاذ بطانة ينتهي طريقها بخروج الحياة الدينية ودخول حياة أخرى تحت أي اسم آخر. والنبي صلى الله عليه وسلم كان إذا استعمل أحدا وصاه وكان يتبرأ من أي عمل لا يصيب في وعاء الدين والحياة الدينية، وكان وراء ذلك كله الوحي. وبعد رحيل النبي صلى الله عليه وسلم كانت للحياة الدينية سياسة وهذه السياسة يمكن للباحث أن يكتشفها بسهولة في خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. فلقد قيل له أن يبقى على الأمراء في أول عهده حتى يستتب له الأمر. لكنه أبي إلا أن يعزلهم. لأنه علم من النبي صلى الله عليه وسلم نهاية الطريق الذي يركبه هؤلاء الأمراء. وما دام الطريق لا يصب في المصب الصحيح فلا بديل لخلعهم. ما هي الفائدة التي ستعود على الدعوة من دهاء معاوية وعمرو والمغيرة؟ وما هي الفائدة التي ستعود على الدعوة من عضلات أبو الأعور وبسر بن أرطأة؟ وما هي الفائدة التي ستعود على الدعوة من وراء كعب الأحبار وأبي زبيد وتلميذ مسيلمة الكذاب وطلحة بن خويلد؟ قلت الدعوة ولم أقل ما هي الفائدة التي ستعود على المسلمين. ثم ما هي النتيجة ليس بعد ألف عام. ولكن في القرن الأول فقط.

    ولقد اتسعت الدائرة بعد ذلك في عهد عثمان بن عفان فمن الذين ذكرناهم

    ____________

    (1) البداية والنهاية 122 / 8.

    (2) قفائه: مؤخر العنق والحديث رواه أبو عبيد (كنز العمال 771 / 5).

    الصفحة 371
    ممن اتسع نفوذهم عما كان عليه في عهد أبي بكر وعمر وزاد عثمان القائمة بآخرين منهم:

  • (الحكم بن أبي العاص) كان من مسلمة الفتح وأخرجه رسول الله صلى الله عليه وآله من المدينة وطرده منها ولعنه وورد في لعنه أحاديث صحيحة. أعاد عثمان في خلافته. وكان من الأسباب التي نقمها الناس على عثمان. ومنهم (مروان بن الحكم) قيل: كان مع أبيه عندما طرده رسول الله صلى الله عليه وآله. وقيل: أن مروان ولد بالطائف فلم يزل مع أبيه بالطائف إلى أن ولي عثمان. روي أن عائشة قالت لمروان: أما أنت يا مروان فاشهد أن رسول الله صلى الله عليه وآله لعن أباك وأنت في صلبه (1)، وكان مروان من أسباب قتل عثمان (2)، وقال الذهبي وابن عبد البر وغيرهما:

    مروان أول من شق عصا المسلمين بلا شبهة (3)، وهذا الذي لعنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشق عصا المسلمين. تولى الخلافة وأخذ لقب " أمير المؤمنين ".

    وهكذا وكما ترى فلقد كان الكرسي هو مركز الصراع. هناك من يخاف عليه. وهناك من يعمل كي يمتلكه. وهذا الإشكال لا يذيبه إلا نص. فتحت النص يكون لا خلاف ولا اختلاف ولا افتراق ولا صراع. لأن الله تعالى كتب على هداية الناس وفتح الطريق أمامهم. فإن ضلوا الطريق لا تكون لهم على الله حجة يوم القيامة. وكتب الله تعالى على نفسه أن من يختار لنفسه معجزة فلا يستطيع أن يتعدى عائق من العوائق حتى يعود إليه. ومن العوائق من يرتدي الحرير ويتحلى بالذهب والفضة. ولكن حقيقة البريق ترى بعد زمان ليس بطويل. فعندئذ تسمى الأشياء بأسمائها الحقيقية. ولا يكون هناك ملجأ من الله إلا إليه. إن عالم الفتن. عالم يضرب بقفاز من حرير الذين نسوا ما ذكروا به

    ____________

    (1) الإستيعاب 318 / 1.

    (2) الإصابة 157 / 2.

    (3) شذرات الذهب / ابن العماد 69 / 1.

    الصفحة 372
    ويستدرج هؤلاء وهؤلاء إلى طريق ليس فيه إلا طعام وشراب اليأس وهناك يموتون كما تموت الحيتان.

    2 - الأمراء والفتوحات:

    إن الجندية في الإسلام لها هدف فربما يؤيد الله المسلمين بالرجل الفاجر بمعنى أن يساعدهم بقوته في القتال أو غير ذلك من أمور الحرب، أما أن يؤيد الله الدين بالرجل الفاجر فلا معنى لذلك، لأن الدين سلوك. وطرقة خاصة في الحياة تؤمن صلاح الدنيا بما يوافق بكمال الأخروي. والدين كطريق لا ينجو الإنسان من السلوك فيه إلا باستقامة، وعدم الاستقامة توجب السقوط والهلاك.

    وهذا لا يتفق مع الفاجر والفاسق والمنافق. كما أن السعادة الحقيقية يصل إليها الإنسان، أو يعمل في الوصول إليها عندما يكون مؤمنا بالله. وكافرا بالطاغوت.

    وهذا لا يتفق أيضا مع أصحاب المصالح والأهواء والقتال في الإسلام به قوانين وربما يقاتل إنسان ما تحت شعار الإسلام ولكن لا ينفعه الشعار إذا قتل: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قتل تحت راية عمية ينصر العصبية ويغضب للعصبية فقتلته جاهلية " (1). وزاد في رواية: " ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها لا يتحاشى لمؤمنها ولا يفي لذي عهدها فليس مني ولست منه " (2). وسأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله الرجل يقاتل للمغنم والرجل يقاتل للذكر والرجل يقاتل ليرى مكانه فمن في سبيل الله؟

    فقال: من قاتل لتكون كلمة الله أعلى فهو في سبيل الله (3).

    ومعارك الإسلام تحددها الدعوة ولا يحددها طلاب المال أو الغنائم. فالله تعالى هو الذي كتب القتال والدعوة التي كتب فيها القتال هي التي تحدد موضع

    ____________

    (1) رواه مسلم (كنز العمال 509 / 3).

    (2) رواه أحمد ومسلم (الفتح الرباني 52 / 23).

    (3) رواه البخاري (الصحيح 36 / 1) ومسلم (الصحيح 49 / 13) وأحمد (الفتح 20 / 13) والترمذي (الجامع 179 / 4).

    الصفحة 373
    كل قطرة دم، ومعارك الإسلام في المقام الأول هي معارك لله وفي الله وبالله. قال تعالى: (سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم * وهو الذي أخرج الذين كفوا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار) (1). فبقوة الله وسلطانه أجرى سبحانه ما أراده بأيدي أعدائه، حيث خربوا بيوتهم بأيدهم من الرعب وأيدي المؤمنين الذين أمرهم بذلك ووفقهم لامتثال أمره وإنفاذ إرادته. وكما حدد الله تعالى موضع كل قطرة دم في معارك الإسلام حدد سبحانه موضع كل مال من غنائم الحرب. فقال تعالى: (واعلموا إنما غنمتم من شئ فإن الله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان) (2)، وقال:

    (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب) (3)، فالله تعالى في الآية الأولى بين موضع الخمس ويفهم من الآية أن أربعة أخماسها للغانمين (4). وفي الآية الثانية أفاء سبحانه الفئ وأرجعه إلى النبي صلى الله عليه وآله ودله على موارد صرفها التي يتصرف فيها كيف يشاء. وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قسم فئ بني النضير على المهاجرين وأعطى بعض الأنصار.

    وعلى امتداد العهد النبوي كانت الدعوة تستعمل أدوات الفطرة وهي تشق طريقها إلى الفطرة، ومن الثابت أن الحكم الإسلامي عند وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يشمل إلا شبه الجزيرة العربية، وكانت الدعوة حريصة على إزالة العقبات التي تهدد الفطرة في هذه المنطقة بعد أن رفض رؤوس الكفر

    ____________

    (1) سورة الحشر: الآية 1 - 2.

    (2) سورة الأنفال: الآية 41.

    (3) سورة الحشر: الآية 7.

    (4) المغني / ابن قدامة 718 / 2.

    الصفحة 374
    من أهل الكتاب الإيمان الحق. وعندما أخبر الله تعالى رسوله بأن هذه الأنماط البشرية لن تؤمن وأنهم يسعون في الأرض فسادا ويسارعون فيه، كانت عملية إجلائهم عملية تستقيم تماما مع الفطرة التي فطر الله الناس عليها. وعملية الإجلاء نسبها الله تعالى إلى نفسه فقال: (هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب...)، فالله سبحانه هو الذي أخرج بني النضير من ديارهم في أول إخراجهم من جزيرة العرب، وأي إخراج لهم في العهد النبوي يقف تحت هذا العنوان. إن الدعوة لم تضاعف عليهم الجزية وإنما أخرجتهم لأن في الإخراج انتصارا للفطرة، وتأمينا للعاصمة من مخاطر الاختراق والدسائس التي يجيدها الذين يسعون في الأرض فسادا.

    والدعوة التي حصنت نفسها بالتطهير من الداخل، عملت من أجل إيجاد المسلم الرسالي الذي إذا وضع قدميه على أرض جديدة في الجزيرة العربية أو خارجها. عمل من أجل نشر مفاهيم الدعوة، وكلما جد جديد خرجت الطوائف الرسالية إلى العاصمة ليتحققوا الفقه والفهم في الدين فيعملوا به لأنفسهم وينشروه بين الأقوام إذا رجعوا إليهم. وعلى ذلك كان تقسيم الأراضي على الغانمين هو في الحقيقة موطئ قدم لداعية.

    وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كانت الذاكرة عند المسلمين تحتوي على وصايا منها إخراج المشركين من جزيرة العرب، ولكن الدولة نظرا لظروف خارجة عن إرادتها، ونظرا للمصلحة العامة ضاعفت الجزية على نصارى بني تغلب، كما سمحت بدخول سبي العجم إلى المدينة، وكان أول سبي دخلها في عهد أبي بكر ثم بعث معاوية أبي عمر في عهده بعدة ألوف من سبي قيسارية.

    وكان عمر نفسه ضحية من ضحايا السبي، حيث إن الذي طعنه كان غلاما مجوسيا. ومع حركة الفتوحات هبت رياح تحمل آثارا وبصمات كان يعتقد أنها ذهبت بلا رجعة.

    3 - رحلة الخراج:

    مع الفتوحات جاء حرص الدولة على تدبير المال اللازم لحماية الحدود،

    الصفحة 375
    فضلا عن تدبير مصدر للإيرادات تستطيع منه سداد رواتب العاملين وغير ذلك من النفقات الملقاة على عاتقها. وإذا كنا قد تحدثنا فيما سبق عن سهم ذي القربى وسهم المؤلفة قلوبهم بأن الدولة تصرفت فيهما وفقا للمصلحة العامة، فإننا سنتحدث هنا عن الأخماس الأربعة التي فرضها الله للغانمين، وقد رأت الدولة التصرف فيها وفقا للمصلحة العامة أيضا. فلقد رأى عمر بن الخطاب أن المصلحة تقتضي عدم تقسيم الأرض على الغانمين وإبقائها في أيدي أهلها، وفرض شئ عليها يؤدي سنويا إلى بيت المال. وما أن اتخذ عمر قراره حتى انقسم المسلمون إلى فريقين فريق ينادي بقسمة الأرض بين الفاتحين، وفريق آخر يقول بقول عمر. وكان عمر يرد على المعارضين بقوله: " هذا رأيي " (1)، وروي أن بلال بن رباح وذويه قال لعمر في الأرض التي افتتحوها عنوة: اقسمها بيننا وخذ خمسها، فقال عمر: لا هنا عين المال ولكني أحبسه فيئا يجري عليهم وعلى المسلمين. قال بلال وأصحابه: إقسمها بيننا. فقال عمر: اللهم اكفني بلالا وذويه. قيل: فما حال الحول ومنهم عين تطرف (2) (!).

    وعدم تقسيم عمر الأرض على الفاتحين مشهور، يقول ابن قدامة: إن عمر لم يقسم الأرض التي افتتحها. وتركها لتكون مادة لأخبار المسلمين... وقد نقلنا بعض ذلك وهو مشهور تغني شهرته عن نقله " (3)، وما قاله الفقهاء في إلغاء سهم المؤلفة قلوبهم قالوه هنا أيضا. قالوا: إن قسمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم خيبر كانت في بدء الإسلام وشدة الحاجة! فكانت المصلحة فيه. وقد تعينت المصلحة فيما بعد ذلك في وقف الأرض فكان ذلك هو الواجب (4).

    والذي رآه عمر رضي الله عنه من الامتناع عن قسمة الأرض على من افتتحها من

    ____________

    (1) الخراج / أبو يوسف ص 24.

    (2) المغني / ابن قدامة 716 / 2.

    (3) المغني / 722 / 2.

    (4) المغني 718 / 2.

    الصفحة 376
    الغزاة عندما عرفه الله ما كان في كتابه من بيان ذلك!! توفيقا من الله كان له فيما صنع وفيه كانت الخيرة للمسلمين (1).

    وفتح بيت المال لاستقبال الخراج، وانطلق الأمراء الذين وقع اختيار أبي بكر وعمر عليهم من أجل أن يفتحوا البلاد. ولم تمض سنتان بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله حتى اتسعت الفتوحات بسرعة هائلة، فاستولى المسلمون على أراضي كلدة والحيرة التي سميت فيما بعد بالعراق. ثم جاءت موقعة اليرموك لتفتح أبواب الشام، ويفتح المسلمون دمشق وأنطاكية وبيت المقدس. ثم تحولوا إلى الشرق فقضوا على الدولة الساسانية وحكموا إيران، ثم استولوا على أفغانستان ووصلوا إلى حدود نهر السند. ثم تحولوا إلى المغرب، وفتحوا مصر وعموم شمال إفريقيا، ووصل المسلمون إلى سواحل المحيط الأطلسي. ثم حملوا عن طريق ميناء طنجة على إسبانيا واستولوا على طليطلة.

    وبالجملة: أصبحت الدولة الإسلامية تمتد من شواطئ المحيط الأطلسي في الغرب إلى نهر السند في الشرق، ومن بحر مازندران في الشمال إلى منابع النيل في الجنوب.

    ونشر الدعوة عمل فطري، ومن الثابت أن المخلصين لم تخل منهم ساحة على امتداد الفتوحات. فكما كان في الصفوف طلاب المال والجاه كان فيها أيضا دعاة الحق وابتغاء مرضاة الله ولكن التيار العام لم يكن مع هذا الصنف الرسالي في معظم الأحيان. ولهذا نجد أن النبي صلى الله عليه وآله كان يحذر من التيار العام وذلك لشدته وسرعته فقال: إذا فتحت عليكم فارس والروم أي قوم أنتم؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: نكون كما أمرنا الله، قال النبي: أو غير ذلك تتنافسون ثم تتحاسد ثم تتدابرون ثم تتباغضون (2).

    والتنافس إلى الشئ المسابقة إليه وكراهة أخذ غيرك إياه. وهو أول درجات الحسد. وأما الحسد فهو تمني زوال النعمة عن صاحبها. وأما التدابر

    ____________

    (1) الخراج / ابن يوسف ص 27.

    (2) رواه مسلم (الصحيح 96 / 18) ك الزهد.

    الصفحة 377
    فهو التقاطع. وأما التباغض فهو بعد التدابر (1). وهذا الطوفان من الكراهية مفتاحه إذا فتحت عليهم فارس والروم!!، وقال صلى الله عليه وآله لأصحابه: كيف أنتم بعدي إذا شبعتم من خبز البر والزبيب وأكلتم ألوان الطعام ولبستم ألوان الثياب، فأنتم اليوم خير أم ذاك؟ قالوا: ذاك، فقال: بل أنتم اليوم خير (2). وقال صلى الله عليه وآله: فوالله ما الفقر أخشى عليكم. ولكن أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم (3).

    فهل وقع الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟ فإذا كان قد وقع فما هي الأسباب وعلى أيدي من جرت؟

    إن الذي جرى كان أمراء السوء مفتاحه وفقهاء السوء أقلامه. ولا يستطيع باحث أن ينكر أن معاوية بن أبي سفيان قد استغل الخراج إلى أبعد مدى لشراء الذمم وسفك دماء المسلمين، وإن عمرو بن العاص ساند معاوية لهدف واحد هو كطعمة بعد أن ذاق خراجها في عهد الفاروق، وأن يعلى بن منية استعمل الخراج في تقوية عائشة والزبير لخوض معركتهم مع علي بن أبي طالب. وغير ذلك وعلى امتداد التاريخ كان الخراج مادة الأمراء في تثوير الناس، كان الخراج رشوة تحمل شعارا إسلاميا الإسلام منه برئ. والنبي صلى الله عليه وآله حذر من هذه الرشوة التي علم من ربه أنها كائنة على طريق أمراء السوء، فقال في خطبة الوداع: يا أيها الناس خذوا العطاء ما كان عطاء، فإذا تجاحفت قريش على الملك وكان عن دين أحدكم فدعوه (4). وفي رواية: " خذوا العطاء ما دام عطاء، فإذا كان إنما هو رشا فاتركوه، ولا أراكم تفعلون يحملكم على ذلك الفقر والحاجة، ألا إن رحى بني مرج قد دارت وإن رحى الإسلام دائرة وإن

    ____________

    (1) النووي شرح مسلم (97 / 18).

    (2) رواه البيهقي وابن عساكر (كنز العمال 216 / 3).

    (3) رواه مسلم (الصحيح 95 / 18) كتاب الزهد.

    (4) رواه أبو داود حديث رقم 2958.

    الصفحة 378
    الكتاب والسلطان سيفترقان فدوروا مع الكتاب حيث دار، وستكون عليكم أئمة إن أطعتموهم أضلوكم، وإن عصيتموهم قتلوكم. قالوا: فكيف نصنع يا رسول الله؟ قال: كونوا كأصحاب عيسى نصبوا على الخشب ونشروا بالمناشير، موت في طاعة خير من حياة في معصية (1).

    قال في عون المعبود: خذوا العطاء ما كان محلة فإذا كان أثمان دينكم فدعوه، فإذا (تجاحفت) أي تنازعت قريش على الملك، أي تخاصموا وتقاتلوا عليه، وقال كل واحد منهم أنا أحق بالملك أو بالخلافة منك وتنازعوا في ذلك فاتركوا أخذه (2). وفيما سبق علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم حذر من تيار يدق أوتاد التنافس والتحاسد والتدابر والتباغض، وكان يعلم أن هذا واقع على الأمة لا محالة لسوء اختيارها، وأن نهاية الطريق بعد فتح فارس والروم ستصب في محطة البغي، فقال صلى الله عليه وسلم: " سيصيب أمتي داء الأمم الأشر والبطر والتكاثر والتشاحن في الدنيا والتباغض والتحاسد حتى يكون البغي " (3). وتحديد محطة البغي لا ينبغي أن تحددها الأهواء. ولهذا عين النبي صلى الله عليه وسلم عمار بن ياسر وقال له في حديث أجمعت الأمة على صحته: " تقتلك الفئة الباغية " فمحطة عمار هي المحطة الأم لمن أراد أن يفهم الحديث السابق. أما تحديد محطات أخرى صغيرة بمعرفة هذا أو ذلك فأمر لا يلتفت إليه.

    لقد كانت الفتوحات مطلب فطري، ولكن أمراء السوء حولوها إلى مطلب تجاري. ولقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قيادة تركب أعناق الأمة فقال: " كأنكم براكب قد أتاكم فنزل فقال: الأرض أرضنا والفئ فيؤنا وإنما أنتم عبيدنا فحال بين الأرامل واليتامى وما أفاء الله

    ____________

    (1) رواه ابن عساكر عن ابن مسعود (كنز العمال 216 / 1)، الطبراني عن معاذ (كنز 211 / 1).

    (2) عدن المعبود 173 / 8.

    (3) رواه الحاكم (كنز العمال 526 / 3).

    الصفحة 379
    عليهم (1)، صلى الله عليك يا رسول الله! فكم من راكب قد جاء. منهم معاوية بن أبي سفيان الذي وضع أميرا في الحبس لأنه طالب بتوزيع الغنائم على كتاب الله. روي أن الحكم بن عمرو قام بغزو جبل الأشل فغنم شيئا كثيرا فجاءه كتاب على لسان معاوية فيه: أن يصطفي لمعاوية ما في الغنيمة من الذهب والفضة لبيت ماله فرد الأمير: إن كتاب الله قبل كتاب أمير المؤمنين، أولم يسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم لا طاعة لمخلوق في معصية الله. ثم قسم الأمير في الناس غنائمهم. فحبسه معاوية وروي أنه مات في الحبس (2)، ومنهم: مروان بن الحكم طريد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قيل لمروان في زمن معاوية: الفئ مال الله وقد وضعه عمر بن الخطاب مواضعه. فقال:

    الفئ مال أمير المؤمنين معاوية يقسمه فيمن شاء (3). وردد مقولة مروان من بعده عشرات الألوف في عالم التحاسد والتدابر والتباغض. وكل ذلك من أجل العجل الذي في بيت المال قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لكل أمة عجل يعبدونه وعجل أمتي الدرهم والدينار " (4)، وقال: " إن لكل أمة فتنة وفتنة أمتي في المال " (5)، وقال: " إن هذا الدينار والدرهم أهلكا من قبلكم وهما مهلكاكم " (6).

    وعن رحلة الخراج يقول الدكتور محمود لاشين: ظلت الدولة تقوم بدورها في تحصيل الخراج... وذلك حتى منتصف القرن الخامس الهجري حيث حدث تطور خطير كان له أكبر الأثر في إضعاف الدولة، وذلك أنها تخلت عن دورها في جباية وتحصيل الخراج وتلى ذلك تخليها عن تحصيل كثير من الإيرادات العامة، وتركت ذلك للجنود وقادتهم وكل من له حق قبل الدولة كراتب أو غير

    ____________

    (1) رواه ابن النجار عن حذيفة (كنز العمال 195 / 11).

    (2) البداية والنهاية 51 / 8.

    (3) الإصابة 302 / 1.

    (4) رواه الديلمي عن حذيفة (كنز 223 / 3).

    (5) رواه الترمذي وصححه (الجامع 569 / 4).

    (6) رواه أبو داود والطبراني والبيهقي (كنز 191 / 3).