وقد رأى نظام الملك (عام 486 ه) أن يفرق الإقطاعات على الجند ولم يكن هذا من عادة الخلفاء من لدن عمر بن الخطاب، وأراد نظام الملك بذلك أن كل من أقطع قرية يعتني بعمارتها وتوفير غلتها. ثم تغيرت الأحوال واختل النظام.
وصارت الولاة وأتباعهم من الأجناد يجاهدون في الرعايا من المسلمين وغيرهم بسلب أموالهم وتعذيبهم، ومن وقف أمام ظلمهم رموه بالعصيان أو وسموه بالبغي والعدوان واستباحوا قتاله واغتنام ماله. وأصل هذا الفساد بل كل فساد في الدين من ولاة الجور وقضاة الرشا وفقهاء السوء وصوفية الرجس، كما قال عبد الله بن المبارك: أو هل أفسد الدين إلا الملوك وأحباء السوء ورهبانها، فإن الولاة لما فسدوا وامتدت أطماعهم إلى أن أخذوا أموال الناس، واستأثروا بأموال الصالح واعتقدوها مملوكة لهم، تعدى الفساد إلى القضاة والفقهاء وأرباب المناصب بل إلى الكافة، وتقلد الأمانات الخونة فباعوا الدين بالدنيا، وعلم الأتباع منهم أنهم قد خانوا الله. وقالوا: ما لنا لا نخون، وقد روى ابن عبد ربه أن مروان بن الحكم أرسل وكيلا إلى قرية له في الغوطة ثم حضر إليه في بعض الأيام فقال له مروان: يا هذا أظن أنك تخونني في ضيعتي. فقال له: أو تظن ذلك ولم تستيقنه؟ والله إني أخونك وأنت تخون أمير المؤمنين وأمير المؤمنين يخون الله، فلعن الله أشر الثلاثة (3). ثم زاد الفساد
____________
(1) الفاروق عمر والخراج ص 32، 40.
(2) تحرير المقال فيما يحل ويحرم من بيت المال / الحافظ أبي بكر بن محمد البلاطلسي ص 89.
(3) العقد الفريد / ابن عبد ربة 37 / 1.
ويقول مؤرخ آخر وهو يتحدث عما شاهده في دولة المماليك بمصر (2):
في زماننا فسد الحال... وصارت الإقطاعات ترد من جهة الملوك على سائر الأموال من خراج الأرضين والجزية وزكاة المواشي والمعادن والعشر وغير ذلك، ثم تفاحش الأمر وزاد حتى أقطعوا المكوس على اختلاف أصنافها وعمت البلوى والله المستعان في الأمور كلها (3).
ويقول مؤرخ آخر يصف حال زمانه (4): إن أرض مصر أربعة وعشرين قيراطا، فيختص السلطان فيها بأربعة قراريط (أي يحصل السلطان على سدس مساحة الأرض الزراعية في مصر)، ويختص الأجناد بعشرة قراريط (ما يعادل 7، 41. /. من خراج أرض مصر، ويختص الأمراء بعشرة قراريط. وكان الأمراء يأخذون كثيرا من إقطاعات الأجناد فلا يصل إلى الأجناد منها شئ، ويصير ذلك الاقطاع في دواوين الأمراء ويحتمي بها قطاع الطرق وتثور بها الفتن، ويمنع منها
____________
(1) تحرير المقال / الحافظ أبي بكر البلاطلسي ص 105.
(2) هو القلقشندي.
(3) صبح الأعشى / القلقشندي 117 / 13.
(4) هو المقريزي.
وظل إقطاع الاستغلال الابن البكر لبيت المال يعمل به حتى نهاية دولة الممالك 932 ه، حتى دخلت مصر تحت السيطرة العثمانية، فقاموا بإلغاء قطاع الاستغلال وحل محله نظام الالتزام، كما تم إحلال مصطلح الأموال الأميرية محل الخراج، ولم يترك العثمانيون أي نشاط سواء كان تجاريا أو صناعيا حتى أصحاب المهن والحرف دون أن يفرض عليهم ضرائب محددة يلتزم بتحصيلها أشخاص معنيون (2). لقد أمروا في البداية أن يعطوا الناس كي تشق الدعوة طريقها برفق. ولكن الأمر سار على غير ذلك وفقا لمصلحة زمان، وترتب على ذلك أنهم أخذوا من الناس وفقا لمصلحة زمان آخر. ترى هل كانت قسمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم خيبر في بدء الإسلام من أجل شدة الحاجة؟ أم أن القسمة كانت دعوة لا يقوم العدل إلا بها؟
إن الفتوحات أمر عظيم له شروط يمكن فيها النجاة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنه سيفتح لكم مشارق الأرض ومغاربها وإن عمالها في النار إلا من اتقى الله وأدى الأمانة " (3)، وروي أن أعرابيا قال: يا رسول الله الرجل يقاتل للمغنم فالرجل يقاتل للذكر والرجل يقاتل ليرى مكانه فمن في سبيل الله؟ فقال: من قاتل لتكون كلمة الله أعلى فهو في سبيل الله (4).
4 - نهاية الطريق:
أن بداية النهاية من هنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لم يزل
____________
(1) الخطط / المقريزي 88 / 1.
(2) عمر والخراج ص 42، 158.
(3) رواه أحمد وفيه شفيق بن حبان ذكره ابن حبان في الثقات وقال ابن حجر حسن الإسناد (الفتح الرباني 25 / 23).
(4) رواه البخاري (الصحيح 1136) ومسلم (الصحيح 49 / 13).
ثم تلى رسول الله قوله تعالى: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى بن مريم)، إلى قوله: (فاسقون) ثم قال: " كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهن من المنكر، ولتأخذون على يدي الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا (2) ولتقصرنه على الحق قصرا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعنكم كما لعنهم " (3).
فهذا أول النقص. فإذا لم يدفع منذ البداية. فلا جدوى من فعل أي شئ بعد ذلك لأن الشبل أصبح أسدا. قالوا: يا رسول الله متى ندع الائتمار بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قال: " إذا ظهر فيكم ما ظهر في بني إسرائيل، إذا كانت الفاحشة في كباركم والملك في صغاركم والعلم في رذالكم " (4). لهذا قال النبي في روايات كثيرة وهو يتحدث عن أمراء السوء " لا أن الناس اعتزلوهم " فهذا الدواء خاص بالداء في أول الطريق. أما استفحال الداء بعد ذلك فله فقه آخر.
ومما لا شك فيه أن الفتوحات قذفت على الأمة بالسبايا وبالرأي وبأمراض أول الطريق التي لم يشعر بها أكثر الناس نظرا للبريق الذي حولها وحولهم.
____________
(1) رواه الطبراني في الكبير (كنز العمال 181 / 11).
(2) أي لترد به إلى الحق.
(3) رواه الطبراني وقال الهيثمي رجال رجال الصحيح (الزوائد 269 / 7).
(4) رواه أحمد وابن ماجة وقال البوصيري في الزوائد ابن ماجة إسناده صحيح ورجاله ثقات (الفتح الرباني 177 / 19)، وقال في فتح الباري أخرجه ابن أبي خيثمة (فتح الباري 301 / 13).
ولقد سقطت السياسة المالية يوم اتخذ الفيئ دولا، ففي حديث النبي
____________
(1) رواه الرامهرمزي في الأمثال.
ومن الثابت أن الدولة الواسعة الأطراف لم تستطع البقاء تحت حكم إدارة مركزية واحدة، فكما توسعت بسرعة نراها تجزأت بسرعة أيضا، وأول من قام بتجزئتها أحد أفراد أسرة الأمويين في إسبانيا وهو عبد الرحمن الداخل، حيث أسس دولة مستقلة سنة 139 ه، ورفع يد الحاكم العباسي عن ذلك الجزء من الدولة الإسلامية. ثم انفصل الأدارسة وأسسوا الدولة العلوية في مراكش. ثم انفصل الأغالبة واستولوا على بقية مناطق إفريقيا سنة 184 ه، وأسسوا دولة الأغالبة، وبعد قرن أي في سنة 246 ه ظهر ابن طولون في مصر ففصلها عن الدولة الإسلامية. أما في المشرق فتم تأسيس الدولة الطاهرية بخراسان (204 ه)، ثم ظهرت دويلات صغيرة بعد ذلك في شرق إيران كالصفاريين والسامانيين والغزنوبيين. وفي منتصف القرن الرابع الهجري سيطر على جهاز الدولة العباسية القواد والأمراء والحجاب والمماليك والأتراك. وخلال هذه الفترة قامت الدولة البويهية في الجزء المتبقى لهم في إيران. ثم انقرضت الدولة العباسية على يد المغول سنة 656 ه.
ولقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بهذه النهايات قال: " منعت
____________
(1) رواه الترمذي على أبو هريرة وعن علي (الجامع 494، 495 / 4).
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يوشك أن يملأ الأرض عز وجل أيديكم من العجم ثم يكونون أسدا لا يفرون فيقتلون مقاتلتكم ويأكلون فيأكم " (3)، وعلى موائد الفئ لا ترى العجم وحدهم وإنما ترى كل وجوه الأمم. قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. قيل: يا رسول الله فمن قلة بما يومئذ؟
قال: لا ولكنكم غثاء كغثاء السيل، يجعل الوهن في قلوبكم وينزع الرعب من قلوب عدوكم لحبكم الدنيا وكراهتكم الموت (4).
غثاء السيل: أي كالذي يحمله السيل من زبد ووسخ (5)
____________
(1) رواه مسلم كتاب الفتن (الصحيح 20 / 18) وأحمد (الفتح الرباني 37 / 24) وأبو داود حديث 3035.
(2) النووي شرح مسلم (20 / 18).
(3) رواه أحمد وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح (الفتح الرباني 55 / 24)، ورواه البزار والحاكم (كنز 188 / 11).
(4) رواه أحمد وقال الهيثمي إسناده جيد (الزوائد 287 / 7) وقال في الفتح الرباني رواه أبو داود والبخاري في تاريخه (الفتح 32 / 24).
(5) عون المعبود 405 / 11.
5 - مشهود في أول الطريق:
توجد معالم في عهد الفاروق لا يمكن إهمالها ونحن نلقي الضوء على بدايات في عصره كانت لها نهايات في عصرنا، ومن هذه المعالم مدينة البصرة.
ويذكر أن العرب لما فتحوا " الحيرة " سنة 14 ه، أمر عمر بن الخطاب عتبة بن غزوان بتأسيس البصرة سنة 15 ه، فصارت حاضرة العراق. وأوطنت فيها قبائل عربية مختلفة الأصول والأنساب، تشابكت في علاقات مع سكان البلاد الأصليين من الفرس والنبط والآراميين. ومما لا شك فيه أن القبائل العربية قد نالها بعضا من غبار ثقافة أهل تلك البلاد. ولذا فقد حذر النبي صلى الله عليه وآله من البصرة من قبل أن تنشأ، ومن قبل أن يخرج اسمها إلى الوجود، وبين أن العدل سيموت على أعتابها. قال صلى الله عليه وسلم لأنس: يا أنس أن الناس يمصرون أمصارا وأن مصرا منها يقال لها: البصرة أو البصرة، فإن أنت مررت بها أو دخلتها فإياك وسباخها (1)، وكلاءها (2)، وسوقها (3)، وباب أمرائها (4)، وعليك بضواحيها (5)، فإنه يكون بها خسف وقذف ورجف وقوم يبيتون فيصبحون قردة وخنازير (6). وفي رواية فإن أنت وردتها فإياك ومقصعها وسوقها وباب سلطانها، فإنه سيكون بها خسف ومسخ وقذف، آية ذلك أن يموت العدل ويفشوا فيها الجور، ويكثر فيها الزنا وتفشوا فيها شهادة الزور (7)، وروي أن
____________
(1) موضع يعلوه الملوحة.
(2) موضع تربط فيه السفن.
(3) لفساد العقول فيها.
(4) لكثرة ظلمهم.
(5) أي الجبال.
(6) أي تحل بهم صفات لا يتصف بها إنسان سوى فيكونوا مقلدين كالقردة باحثين عن المادة كالخنازير.
(7) رواه أبو داوود حديث 4285 والطبراني (عون المعبود 421 / 11).
إن الاعتراض ليس على بناء المدينة، وإنما على تولية أمراء المدينة الذين ذابوا مع نصارى الحيرة على موائد الشراب، وذلك أمر أقره علماء الحديث والتاريخ. فمن فوق هذه الموائد راج الشعر والقصص وكثر الزنا حتى قال الفاروق: إن الله بعث محمدا بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان فيما أنزل آية الرجم (2). وزاد في رواية: فرجم رسول الله ورجم أبو بكر ورجمت، ولولا أني أكره أن أزيد في كتاب الله لكتبته في المصحف، فإني خشيت أن تجئ أقوام فلا يجدونه من كتاب الله فيكفرون (3)، ومما يذكر أن الفاروق نهى عن نكاح المتعة، وهو عند بعض الفقهاء دواء يسد باب الزنا في مهمة كمهمة الفتوحات وغيرها.
فعن جابر أنه قال: كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر حتى نهى عنه عمر (4)، وروي أن عليا كان يقول: لولا نهي عمر عن المتعة ما زنى إلا شقي.
وتمصير الأمصار كان يتم على قاعدة لا رواية فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان عمر لا يهتم إلا بقراءة القرآن في الأمصار، لكنه علم في آخر عهده أن القرآن وحده لا يعبر الطريق إلى الفرس والنبط والآراميين، ولا بد له من مفتاح يمهد له الطريق. وهذا المفتاح هو السنة الشريفة. ففي بداية الطريق يقول ابن كثير: فإن عمر كان يقول اشتغلوا بالقرآن فإن القرآن كلام الله، ولهذا لما بعث أبا موسى إلى العراق قال له: إنك تأتي قوما لهم في مساجدهم دوي بالقرآن كدوي النحل، فدعهم على ما هم عليه ولا تشغلهم بالأحاديث، وأنا شريكك في ذلك. هذا معروف عن عمر رضي الله عنه (5). أما في نهاية الطريق
____________
(1) رواه البخاري ك الأحكام ب ما ذكر النبي وحض عليه (الصحيح 265 / 4).
(2) رواه الترمذي وصححه (الجامع 38 / 4).
(3) رواه مسلم (الصحيح 131 / 4).
(4) البداية والنهاية 107 / 8.
(5) رواه ابن عساكر (كنز العمال 267 / 10).
قال عمر: إن كنت لأكتمها الناس (1)، ثم روى أن أبا موسى قد بعث إليه بأن عدد القراء قد ازداد، فقال عمر: إن بني إسرائيل إنما هلكت حين كثر قراؤهم " (2). وهكذا فطن الفاروق للنهاية التي ما بعدها نهاية. لقد أراد أن تنتج الساحة قراء وأمراء من أصحاب السواعد القوية، ولكن في هذا إشكال لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " أكثر منافقي أمتي قراؤها " (3)، وقال:
" بكتاب الله يضلون وأول ذلك من قبل قرائهم وأمرائهم " (4). إن القراءة فقط هي بذرة الخوارج التي عليها نبتت شجرتهم. والذي يستحق التسجيل هنا أن الفاروق أطلق صيحة مبكرة عندما علم أن أهل العراق قد نقروا واختلفوا. لقد قال: " يا أهل الشام استعدوا لأهل العراق فإن الشيطان قد باض فيهم " (5)، ونحن لا ندري لماذا اختار الفاروق أهل الشام في هذا الوقت المبكر ليتجهزوا لأهل العراق. إننا لا نعلم الأسباب التي وراء هذا القرار لأنه غابت عنا أحداث لا يعلمها إلا من لابسها.
إن البصرة بداية ضربها الذم من قبل أن يمصرها الناس، وذلك لما لها من أثر بالغ على اللغة والدين بعد أن اختلطت بها الشعوب وتجول على أرضها أمراء السوء، ولهذا لا نعجب عندما نستمع إلى حذيفة وهو يقول للفاروق:
" إنك تستعين بالرجل الفاجر " (6). ولا نعجب عندما نسمع من يقول لعمر:
الله يا عمر تستعمل من يخون وتقول ليس عليك شئ وعاملك يفعل كذا
____________
(1) رواه ستة (كنز العمال 268 / 10).
(2) الإستيعاب 72 / 1.
(3) رواه أحمد وقال الهيثمي رواة ثقات (الزوائد 229 / 6).
(4) رواه ابن أبي عاصم وفي إسناده ضعف (كتاب السنة 132 / 1).
(5) ابن سعد في الدلائل (كنز العمال 354 / 12).
(6) (كنز العمال 771 / 5).
وإذا كانت البصرة قد أدينت من قبل أن تمصر، فإن أمراء عمر بن الخطاب قد أدينوا من قبل أن يظهروا على مسرح الأحداث. وذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبر بأنه سيظهر من بعد وفاته رجلا يقال له أويس، وأن هذا الرجل كريم عند ربه، وإنه خير التابعين (3)، وأمر أصحابه إن لقوه فليطلبوا منه أن يستغفر لهم، وخص النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب وقال: إن استطعت أن يستغفر لك فافعل (4). وظهر أويس في عهد عمر بن الخطاب، ولهذا قصة طويلة، وطلب عمر أن يستغفر له ففعل. وحرص عمل على أن يبقى أويس معه ولا يفارقه ولكنه أملس منه (أي تملس من الأمر. تخلص وأفلت) (5)، فقال له عمر: أين تريد؟ قال: الكوفة! فقال عمر: ألا أكتب لك إلى عاملها فيستوصي بك؟ قال: لا!! أكون في غبراء الناس أحب إلي (6). لقد رفض أويس الأمراء، وعندما ذهب إلى الكوفة سأله رجل: كيف الزمان؟ فقال أويس: إن قيام المؤمن بأمر الله لم يبق له صديقا، والله إنا لنأمرهم بالمعروف وننهاهم عن المنكر فيتخذوننا أعداء، ويجدون على ذلك من الفاسقين أعوانا، حتى والله لقد يقذفوننا بالعظائم. والله لا يمنعني ذلك أن أقول الحق (7).
وقال أويس لهرم بن حبان: إن الأرواح لها أنفس كأنفس الأحياء، إن
____________
(1) الطبري في تاريخه 31 / 5.
(2) رواه أحمد وأبو يعلى وفيه أبو هلال وثقه ابن معين (الزوائد 96 / 1).
(3) مسلم في فضائل أويس (الصحيح 95 / 16).
(4) أسد الغابة 180 / 1 ورواه مسلم.
(5) (كنز العمال 4 / 14).
(6) رواه مسلم وابن سعد وأبو نعيم والبيهقي (كنز 4 / 14) مسلم في فضائل أويس (الصحيح 96 / 16).
(7) الحاكم (المستدرك 406 / 7).
حدثني عن رسول الله بحديث أحفظه عنك؟ قال: إني لم أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تكن لي معه صحبة، ولقد رأيت رجالا رأوه وقد بلغني من حديثه كما بلغكم ولست أحب أن أفتح هذا الباب على نفسي (1)، ولقد قاتل أويس بعد ذلك تحت راية علي بن أبي طالب واستشهد بين يديه.
وسيأتي ذلك عند حديثنا عن معارك أمير المؤمنين.
هذا ما كان من أمر أويس الذي ادخره الله ليأتي في زمان لله حكمة فيه.
وعندما جاء رفضه حتى توصية الأمراء به. وهذا ما كان من أمر البصرة التي أخبر عنها رسول الله من قبل أن يتخذها الناس مصرا من الأمصار، وإخبار فيه إدانة لحياتها الاجتماعية والاقتصادية والتربوية والسياسية. ثم إن طلب عمر بن الخطاب وهو الخليفة الراشد أن يستغفر له أويس وهو الذي لم ير النبي ولم يسمع منه فيه أن الإسلام دين لا يدعو إلى التعتم أمام الأشخاص. ويدعو أن يكون الشغل في الله والهمة به والفرار إليه، والشاهد الأخير هنا على أن الناس في عهد الفاروق كثير منهم تطاولت أعناقهم في طلب الدنيا. ما رواه مسلم عن عبد الله بن الحارث قال: كنت واقفا مع أبي بن كعب فقال: لا يزال الناس مختلفة أعناقهم في طلب الدنيا. قلت: أجل... " الحديث (2)، وأبي بن كعب مات في خلافة عمر على أصح الروايات (3)، وطلب الدنيا ينتهي دوما إلى زوال. أخرج ابن جرير عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إن البعوضة تحيا ما جاعت فإذا شبعت ماتت. وكذلك ابن آدم إذا امتلأ من الدنيا أخذه الله عند ذلك ثم تلى: " فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شئ
____________
(1) الحاكم (المستدرك 407 / 3).
(2) مسلم (الصحيح 19 / 18) كتاب الفتن.
(3) الإصابة 19 / 1، الإستيعاب 49 / 1.
خامسا - وجاء بنو أمية
في عالم الفتوحات حل الإسلام في قلوب البعض حين جاءت الغنائم والأموال وكثرت المكاسب، فهناك من ذاق طعم الحياة وعرف لذة الدنيا عندما لبسوا الناعم وأكلوا الطيب، وتمتعوا بنساء الروم وملكوا خزائن كسرى. بعد أن كانوا يعيشون في دائرة العيش الخشن، وأكل الضباب والقنافذ واليرابيع ولبس الصوف. فهذا الصنف حلا الإسلام في قلبه عندما وقع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سيفتح عليهم كنوز كسرى وقيصر. فلما وجدوا الأمر قد وقع بموجب ما قاله وأكلوا الغلوزجات ولبسوا الحرير والديباج. وأصبحوا أمراء في الأمصار استدلوا بما فتح الله عليهم على صحة الدعوة فعظموها بجلوها، وتمسكوا بالدين لأنه زادهم طريقا إلى نيل الدنيا، ومجمل القول: لولا الفتوح والنصر والظفر والخراج لانقرض دين الإسلام بصورة من الصور، ولولا غلظة عمر التي جبله الله عليها ولا حيلة له فيها، وهي غلظة لا يقصد بها سوءا ولا يريد بها ذما، فعمر أجل قدرا من أن يعتقد فيه أن غلظته هدفها الذم والتخطئة، نقول لولا غلظته في التعامل مع بعض رؤوس القوم، لوجد أعداء الدولة لهم ثغرات يعملون فيها على انقراض الإسلام بصورة من الصورة. ولكن عمر وهو المشهور بالتصدي لهم، وعلى سبيل المثال فعمر هو القائل في سعد بن عبادة وهو رئيس الأنصار وسيدها، اقتلوا سعدا قتل الله سعدا، وعمر هو الذي شتم أبو هريرة، وعمر هو الذي خون عمرو بن العاص ونسب إليه سرقة مال الفئ، وعمر شتم خالد بن الوليد وطعن في دينه وحكم بفسقه وبوجوب قتله. فسرعة
فالذي حافظ على التماسك من ضربات الأعداء، أموال الفتوحات وقبضة عمر - الذي كان عصره بحق أفضل بكثير من عصور الملوك والسلاطين الذين ركبوا على أعناق الأمة على امتداد التاريخ. وإذا كان تاريخ المسلمين ملئ بالسلبيات والغيوم، فإن الحق يحتم علينا أن نقول بأن أعظم دولة للمسلمين هي التي كان على رأسها أبو بكر وعمر بن الخطاب، فهذا العصر كان عصر البذور والبذور لا يختلف أحد على أوراقها وثمارها لأنها لم تأت بعد: وهذه الفترة من التاريخ انتهت نهاية أليمة، وذلك عندما طعن غلام مجوسي الفاروق عمر رضي الله عنه. وروي أنه كان يفسر لعمر أحلامه. وقد أخبره عمر بحلم من الأحلام ففسره كعب بأنه سيقتل بسلاح له مواصفات خاصة، وعندما طعن عمر جاء كعب يبكي ويقول: والله لو أن أمير المؤمنين أقسم على الله أن يؤخره لأخره (2)، ومن الأعجب أن كعبا اشتغل بعد ذلك مستشارا لمعاوية يوم أن كان أميرا على الشام، وعندما حدثت الانتفاضة على عثمان كان كعب أول من ألقى في قلب معاوية حب الخلافة! وعلى أي حال بعد عملية طعن الفاروق وهذا الاسم أطلقه عليه أهل الكتاب تعبيرا منهم لعدله ونظرا لأنهم لم يشعروا بغربة في عهده، وأظلتهم مظلة التسامح الإسلامية في كل مكان على أرض الدولة. حتى
____________
(1) ابن عساكر (كنز العمال 76 / 14).
(2) ابن سعد (كنز العمال 687 / 12).
1 - يوم الشورى:
من الثابت أن عمر بن الخطاب قال: لو كان أبو عبيدة بن الجراح حيا استخلفته. ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا استخلفته (3)، وفي رواية عند الإمام أحمد: لو أدركني أحد الرجلين ثم جعلت الأمر إليه لوثقت به. سالم مولى أبي حذيفة وأبو عبيدة بن الجراح (4). ثم اختار عمر ستة من الصحابة وصفهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم مات وهو راض عنهم وهم:
عثمان بن عفان. عبد الرحمن بن عوف. سعد بن أبي وقاص. الزبير بن العوام.
طلحة وعلي بن أبي طالب. وأمر عمر صهيب أن يصلي بالناس ثلاثة أيام، وأن يدخل هؤلاء الرهط بيتا ويقوم على رؤوسهم، فإن اجتمع خمسة وأبى واحد، على صهيب أن يطيح رأسه بالسيف. وإن اتفق أربعة وأبى اثنان يضرب رؤوسهما وإن رضي ثلاثة رجلا وثلاثة رجلا فعليه أن يكون مع الذين فيهم عبد الرحمن بن
____________
(1) أنظر ترجمة ناسق اليهودي.
(2) الطبري 15 / 5، ابن كثير في البداية باختصار 133 / 7.
(3) الطبري 34 / 5، تارخ الخلفاء ص 127.
(4) الإمام أحمد (الفتح الرباني 91 / 23).
ومن العجيب أن عمر بن الخطاب كان يخاف أن يطلق الصحابة في الأمصار، ونهاهم عن مخالطة الناس لأنه رأى في ذلك أسى الفساد في الأرض.
ثم نراه قد أطلقهم على دائرة الإمارة والخلافة، الأمر الذي أدى بعد ذلك إلى التنافس بعد أن رسخت في نفوس البعض من أهل الشورى حب الخلافة. ومن الصعب أن تأتي بجندي وترشحه للخلافة ثم تقول له بعد ذلك زاحم في الصفوف الأخيرة للجنود.
ومن العجيب أيضا أن يقول عمر لأهل الشورى: إن هذا الأمر لا يصلح للطلقاء ولا لأبناء الطلقاء (2)، خوفا منه لئلا يطمع الطلقاء في الملك، في الوقت الذي لم يخف حين جعلها في ستة متساوين في الشورى مرشحين للخلافة (3). ومن الأعجب أن يشهد عمر بأنه أهل الشورى مات النبي وهو عنهم راض، ثم يأمر بضرب أعناقهم إن تأخروا في البيعة أكثر من ثلاثة أيام، ومعلوم أنهم بذلك لا يستحقون القتل لأنهم كلفوا أن يجتهدوا في اختيار الإمام، وربما يطول زمن الاجتهاد وربما قصر. وعلى هذا فأي معنى للقتل، إذا تجاوز الأيام الثلاثة؟ ثم إنه أمر بقتل من يخالف العدد الذي فيه عبد الرحمن، وهذا أيضا لا يستحق القتل. ثم أي إجماع وأي شورى وأي اختيار لمن يجلس والسيف على رأسه ويتهدد بالقتل؟ ثم كيف يقتل من ورد فيهم أحاديث بأنهم من أهل الجنة؟
وما هو رأي المسلمين لو سمع النبي صلى الله عليه وسلم عمر يقول اقتلوا أهل الشورى؟ ونحن لا ندري ما الذي حمل عمر على الوقوع في هذا الارتباك وقد كان قادرا على أن يستخلف أصلح القوم وهو يعرفهم واحد واحد!
وروي أن أمراء الأجناد كانوا مع عمر بن الخطاب عند أدائه مناسك الحج
____________
(1) هذا الخبر أجمعت عليه الأمة وأرسله علماء الحديث والتاريخ إرسال المسلمات. (راجع الكامل 36 / 3)، (كنز العمال 743 / 5).
(2) ابن سعد (كنز العمال 735 / 5).
(3) فتح الباري كتاب الأحكام (197 / 13).
وكان عمار بن ياسر ميزانا للساحة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فالذي يبغض عليا فعليه بعمار بن ياسر ليرشده إلى طريق الحق الذي لن يجد فيه إلا علي بن أبي طالب. روى البخاري أن عمارا أجاره الله من الشيطان على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم (4). وعمار قال فيه النبي: ابن سمية ما عرض عليه أمران قط إلا اختار الأرشد منهما (5)، ويوم الشورى قال عبد الرحمن بن عوف: إن الناس قد أحبوا أن يلحق أهل الأمصار بأمصارهم وقد علموا من أميرهم (6). فقام عمار بن ياسر وقال: إن أردت أن لا يختلف
____________
(1) الطبري 36 / 5.
(2) الطبري 36 / 5.
(3) البخاري كتاب الأحكام (الصحيح 246 / 4).
(4) البخاري في مناقب عمار (الصحيح 305 / 2).
(5) رواه الإمام أحمد (الفتح الرباني 330 / 22) والترمذي وصححه (الجامع 668 / 5) والحاكم، وقال حديث صحيح على شرط الشيخين (المستدرك 388 / 3).
(6) الطبري 37 / 5.
فقال له رجل من بني مخزوم (3): لقد عدوت طورك يا ابن سمية وما أنت وتأمير قريش لأنفسها (4). وكل ذلك كان يجري وأمراء الأمصار في المدينة يراقبون.
وكان علي بن أبي طالب في هذا الوقت يقف في دائرة إقامة الحجة وليس له أن ينازع في أمر طريق الاختيار فيه مفتوح، وعلى الاختيار يأتي إما الأمن وإما الخوف والاستدراج. لقد أقام الحجة على سعد بن أبي وقاص عندما قال له: لا تكن مع عبد الرحمن لعثمان ظهيرا علي. وأقام الحجة عليهم جمعيا فيما رواه أبو الطفيل قال: كنت على الباب يوم الشورى، فارتفعت الأصوات بينهم فسمعت عليا يقول: بايع الناس لأبي بكر وأنا والله أولى بالأمر منه وأحق به منه فسمعت وأطعت مخافة أن يرجع الناس كفارا يضرب بعضهم رقاب بعض بالسيف، ثم بايع الناس عمر وأنا والله أولى بالأمر منه وأحق به منه فسمعت وأطعت مخافة أن يرجع الناس كفارا يضرب بعضهم رقاب بعض بالسيف، ثم
____________
(1) الطبري 37 / 5.
(2) مروج الذهب / المسعودي 322 / 2.
(3) بني مخزوم ضمن القبائل التي ذمها رسول الله صلى الله عليه وآله وأمر بجهادهم في الإسلام. رواه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه (كنز العمال 480 / 2).
(4) الطبري 37 / 5.
وفي الصواعق المحرقة روى الدارقطني أن عليا قال لهم: أنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم يا علي أنت قسيم الجنة والنار يوم القيامة غيري؟ قالوا: اللهم لا (2)، وروى ابن أبي الحديد أنه قال لهم:
أنشدكم الله هل فيكم أحد قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم من كنت مولاه فهذا مولاه غيري؟ قالوا: لا قال: أفيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي غيري؟ قالوا: لا، قال: أفيكم من أؤتمن على سورة براءة وقال له رسول الله أنه لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني غيري؟ قالوا: لا (3).
كان علي بن أبي طالب يقيم الحجة فقط، وكان يعلم أن طريقه إلى الخلافة غير ممهد، واختيار عمر بن الخطاب لأصحاب الشورى أول دليل على ذلك. فبعد تحديد الأسماء، قال علي للعباس: عدلت عنا. فقال له:
وما علمك؟ قال: قرن بي عثمان وقال كونوا مع الأكثر، فإن رضي رجلان رجلا، ورجلان رجلا فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف. فسعد لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن وعبد الرحمن صهر عثمان. لا يختلفون فيوليها عبد الرحمن عثمان أو يوليها عثمان عبد الرحمن، فلو كان الآخران معي لم ينفعا في (4). قال له العباس: لا تدخل معهم. قال: أكره
____________
(1) (كنز العمال 725 / 5).
(2) الصواعق المحرفة / ابن حجر الهيثمي ص 24.
(3) ابن أبي الحديد 61 / 2.
(4) الطبري 35 / 5.
وروي أن عبد الرحمن بن عوف قال لعلي بن أبي طالب هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه وسنة الماضين من قبل؟ وفي رواية: وسيرة أبي بكر وعمر؟ وفي رواية: وفعل أبي بكر وعمر؟ فقال علي: أرجو أن أفعل وأعمل بمبلغ علمي وطاقتي، فقال عثمان: أنا يا أبا محمد أبايعك على ذلك (2).. فقام عبد الرحمن ودخل المسجد وأرسل إلي من كان حاضرا من المهاجرين والأنصار وأرسل إلى أمراء الأجناد ثم قال: يا علي إني قد نظرت في أمر الناس فلم أراهم يعدلون بعثمان (3). فقال علي: حبوته حبو دهر. ليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علينا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون. ثم خرج وهو يقول: سيبلغ الكتاب أجله. فقال المقداد: يا عبد الرحمن أما والله لقد تركته وإنه من الذين يقضون بالحق وبه يعدلون. فقال: يا مقداد والله لقد اجتهدت للمسلمين. فقال المقداد: ما رأيت مثل ما أوتي إلى أهل هذا البيت بعد نبيهم. إني لأعجب من قريش إنهم تركوا رجلا ما أقول أن أحدا أعلم ولا أقضى منه بالعدل. أما الله لو أجد عليه أعوانا. قال عبد الرحمن: يا مقداد اتق الله فإني خائف عليك الفتنة.
فقال رجل للمقداد (4): رحمك الله من أهل هذا البيت ومن هذا الرجل (5)!! فقال المقداد: أهل البيت بنو عبد المطلب والرجل علي بن أبي طالب (6).
لقد وضع عبد الرحمن شرطا يعلم أن عليا لن يقبله. بل يعلم أن عليا لو وجه النقد لهذا الشرط لكان في هذا كفاية لسيل الدماء فضلا عن ابتعاد الخلافة
____________
(1) الطبري 34 / 5.
(2) فتح الباري 198 / 13.
(3) البخاري (الصحيح 246 / 4) ك الأحكام ب كيف يبايع الإمام الناس.
(4) فيه إشارة أن عدم رواية الحديث جعلت الكثير لا يعرفون شيئا عن أهل البيت.
(5) المقداد بن الأسود ورد فيه حديث (إن الله أمرني بحب أربعة وأخبرني أنه يحبهم: علي وأبو ذر والمقداد وسلمان) رواه الترمذي وحسنه (الجامع 636 / 5).