الصفحة 401
عن علي. وهذا الشرط أن يبايعه على سيرة أو فعل أبي بكر وعمر. وفي المدينة أمراء عمر معاوية وعمرو والمغيرة وغيرهم، كأمثال ابن أبي السرح وأبي سفيان وبني مخزوم وهؤلاء انتعشوا بالفتوحات والخراج. والإمام ما كان له أن يقبل هذا الشرط وذلك أن أبا بكر وعمر اختلفا في سيرة كل منهما للآخر. وعلى سبيل المثال أبو بكر نص على خلافة عمر، بينما عمر جعلها شورى في ستة نفر، وأبو بكر رأى أن يقاتل الذين امتنعوا عن دفع الزكاة، وعمر كان له رأي غير هذا.

وأبو بكر كان يرى أن خالد بن الوليد متأول في قتل مالك بن نويرة، وعمر كان يرى غير ذلك. وأبو بكر كتب لنفر من المؤلفة قلوبهم بحقوقهم، وعمر مزق كتاب أبي بكر لأن له رأيا آخر. فهذا وغيره يستقيم مع قول الإمام " أرجو أن أفعل وأعمل بمبلغ علمي وطاقتي " ولكن التيارات الموجودة بالمدينة حينئذ كانت تعلم أن زهد علي لن يدفع بالخراج إلى أيديهم، وكانوا يعلمون أن عمر كان مجتهدا يعمل بالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة، ويرى تخصيص عموميات النص بالآراء وبالاستنباط من أصول تقتضي خلاف ما يقتضيه عموم النصوص، وكانوا يعلمون أن عمر قد عارك السياسة وكاد خصمه وأمراء الأمراء بالكيد والحيلة وكان يؤدب بالدرة والسوط من يتغلب على ظنه أنه يستوجب ذلك، ويصفح عن آخرين قد اقترفوا ما يستحقون به التأديب. كل ذلك بقوة اجتهاده وما يؤديه إليه نظره. أما علي بن أبي طالب فهو على خلاف ذلك - كان يقف مع النصوص والظواهر ولا يتعداها إلى الاجتهاد والأقيسة ويطبق أمور الدنيا على أمور الدين، ويسوق الكل سياقا واحدا ولا يضع ولا يرفع إلا بالكتاب والنص.

لقد عرفوا هذا من علي بن أبي طالب على الرغم من أنه لم يجلس على كرسي يأمرهم به وينهاهم. كانوا يعلمون أن عمر شديد الغلظة والسياسة، ويعلمون أن عليا كثير الحلم والصفح والتجاوز، ولكن المصلحة كانت في سياسة عمر، والخوف كان من حلم علي، لأن دائرة الذهن عند جميع تيارات الصد تخاف من يوم، وهذا اليوم ليس من دائرة الغلظة والشدة، وإنما من دائرة خاصف النعل حيث الحلم والصفح والتجاوز والضرب في الله. وعلى هذا يمكن

الصفحة 402
أن نفهم قول البخاري: إن عبد الرحمن بن عوف كان يخشى من علي بن أبي طالب شيئا.

2 - رياح بني أمية:

كانت أشرف خصال قريش في الجاهلية: اللواء والندوة والسقاية والرفادة وزمزم والحجابة، وهذه الخصال مقسومة في الجاهلية إلى: بني هاشم وعبد الدار وعبد العزى دون بني عبد شمس. على أن معظم ذلك صار في الإسلام إلى بني هاشم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة صار مفتاح الكعبة بيده، فدفعه إلى عثمان بن طلحة، فالشرف راجع إلى من ملك المفتاح لا إلى من دفع إليه (1). وكان بنو عبد شمس في الجاهلية من ألد أعداء بني هاشم، وازداد هذا العداء حدة بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم حيث قاد أبو سفيان ابن حرب بن أمية بن عبد شمس الحرب ضد محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم صلى الله عليه وسلم. وهذه الحرب لها جذور قديمة لم يقض عليها الإسلام فضلا على أسباب تتعلق بالإسلام ودعوته، ولهذا يمكن أن نفهم وصية أبي سفيان وهو يأمر معاوية بأن يطيع عمر فيقول له: فلا تخالفهم فإنك تجري إلى أمد فنافس فإن بلغته أورثته عقبك (2). وقوله في عهد عثمان كما جاء في مروج الذهب: يا بني أمية تلقفوها تلقف الكرة فوالذي يحلف به أبو سفيان ما زلت أرجوها لكم ولتصيرن إلى صبيانكم وراثة. ثم وقوفه على قبر حمزة وقوله: يا أبا عمارة إن الأمر الذي اجتدلنا عليه أمس صار في يد غلماننا اليوم يتلعبون به (3). وذلك بعد أن تجول أمراء بني أمية في الأمصار وراء الخراج. فأبو سفيان لم يكن يريد لعقة وإنما كان يريد الاستمرارية على مدى الأيام والدهور، وهذا من الكبر وبطر الحق ويظهر شدة الخصومة، ولذا نجد

____________

(1) ابن أبي الحديد 611 / 4.

(2) البداية والنهاية 818 / 8.

(3) ابن أبي الحديد 4 / 51، الإمتاع والمؤانسة 75 / 2.

الصفحة 403
النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " إن أشد قومنا لنا بغضا بنو أمية وبنو المغيرة وبنو مخزوم " (1). وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أرى بني أمية على منبره فساءه ذلك " (2). وقال صلى الله عليه وسلم: " ويل لنبي أمية " ثلاث مرات (3)، ومعنى أن يكون عثمان بن عفان على رأس الخلافة، أن الطريق أمام بني أمية أصبح ممهدا بصورة من الصور. فبني أمية هدفهم الحكم وهم في سبيله يركبون الصعب، ولو كان الملك من وراء الجبال ليثبوا عليه حتى يصلوا كما روي عن الإمام علي (4). فإذا كان كرسي الخلافة لا ينجو منهم إذا كان من وراء الجبال فكيف به إذا كان أمامهم والجالس عليه من وسطهم.

ونحن نقول إن عثمان باب لهم لأنه من نسيجهم، والرسول صلى الله عليه وسلم عندما أعطى سهم ذي القربى ترك بني نوفل وبني عبد شمس، ولم يعط عثمان على الرغم من أن عثمان كان في موقف السائل، روى البخاري وأبو داود عن جبير بن مطعم قال: لما كان يوم خيبر وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذي القربى في بني هاشم وبني المطلب وترك بني نوفل وبني عبد شمس، فانطلقت أنا وعثمان بن عفان حتى أتينا النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله هؤلاء بنو هاشم لا ننكر فضلهم للموضع الذي وضعك الله به منهم. فما بال إخواننا بني المطلب أعطيتهم وتركتنا وقرابتنا واحدة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنا وبنو المطلب لا نفترق في جاهلية ولا إسلام وإنما نحن وهم شئ واحد، وشبك بين أصابعه (5).

فالطريق الفطري واضح في الجاهلية والإسلام. وليست المسألة مسألة قرابة، فالنبي عندما أعطى أعطى على النصرة، وبنو عبد شمس يلتقون في

____________

(1) رواه الحاكم وأبو نعيم (كنز العمال 169 / 11).

(2) رواه الترمذي وحسنه (الجامع 444 / 5).

(3) رواه ابن منده وأبو نعيم عن حمران عن جابر، وابن قانع عن سالم الحضرمي (كنز 165 / 11).

(4) رواه ابن عساكر (364 / 11 كنز).

(5) رواه البخاري (الصحيح 196 / 2) وأبو داود حديث 2980 واللفظ له.


الصفحة 404
قرابتهم مع بني هاشم في عبد مناف، ولكن ما قيمة قرابة لا نصرة فيها لفطرة أو لدعوة، وكما قال ابن قدامة: إن بني المطلب شاركوا بني هاشم بالنصرة والقرابة (1).

ومن الدليل على أن خلافة عثمان كانت بابا لبني أمية، أن النبي صلى الله عليه وسلم أدخل مدة حكم عثمان في المدة الإجمالية لبني أمية وهي ألف شهر. روي عن الحسن قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني أمية يخطبون على منبره رجلا رجلا فساءه ذلك فنزلت (إنا أعطيناك الكوثر) نهر في الجنة ونزلت: (إنا أنزلناه في ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر) تملكها بنو أمية، فحسبنا ذلك فإذا هو لا يزيد ولا ينقص (2).

وهذا الحديث رواه الحاكم وقال هذا إسناد صحيح، وقال الذهبي: وروي عن يوسف بن نوح بن قيس أيضا، وما علمت أن أحدا تكلم فيه والقاسم وثقوه رواه عنه أبو داوود والتبوكي (3). وقال في الدر المنثور أخرجه الخطيب عن ابن المسيب وروي أيضا مثله عن الخطيب في تاريخه عن ابن عباس. وأيضا ما في معناه عن الترمذي وابن جرير والطبراني وابن مردويه والبيهقي عن الحسن بن علي. وقال ابن كثير في البداية والنهاية رواه الترمذي عن القاسم بن الفضل وقد وثقه يحيى بن سعيد وغيره ورواه ابن جرير والحاكم والبيهقي (4). ورغم أن الحديث صحيح إلا أن منهم من لم يقبله قلبه. فترتب على ذلك مشكلة حتى أن الذهبي قال: وما أدري آفته من أين (5)، ولقد حاول ابن كثير في التفسير أن يظهر نقطة ضعف واحدة فلم يجد واكتفى بالقول إن الحديث منكر، وظهرت حيرة ابن كثير في البداية والنهاية بعد أن أنكر الحديث في تفسيره، فقال: سألت

____________

(1) المغني 657 / 2.

(2) الحاكم (المستدرك 171 / 3).

(3) المستدرك (171 / 3).

(4) البداية والنهاية (243 / 6).

(5) المستدرك (171 / 3).

الصفحة 405
شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي عن هذا الحديث، فماذا قال الحافظ لابن كثير؟

إن ما قاله كان هو حجر الزاوية الذي عليه أنكروا حديث صحيح. قال الحافظ:

إن القول بأنه حسب دولة بني أمية فوجدها ألف شهر لا تزيد يوما ولا تنقص فهو غريب جدا. وذلك لأنه لا يمكن إدخال دولة عثمان في هذه المدة، وذلك أنها ممدوحة ولأنه أحد الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين الذين قضوا بالحق وبه يعدلون، وهذا الحديث إنما سبق لذم دولتهم (1).

وتحديد المدة بدقة هو من شأن علماء التواريخ والسير الأقدمين في بداية العصر العباسي. وما بين أيدينا اليوم من تواريخ يؤيد ما ذهب إليه الحديث ولا يستثني دولة عثمان. وفي محاولة قديمة أسقط من المدة أيام ابن الزبير فقارب من قام بهذه الصحة في الحساب. وعلى أي حال فإن التاريخ خير شاهد، فعثمان أقام خيمة وهذه الخيمة دخلها معاوية فلم يشعر فيها بغربة، وبعد أن جعلها معاوية وراثة انطلق الورثة من داخل الخيمة وقتلوا الأنصار والحسين والذين يأمرون بالقسط من الناس، وكل ذلك تحت هتاف واحد يقول: " يوم بيوم قتل عثمان "، وساروا وراء الخراج وجلسوا أمام بيوت المال ومعهم أختام ليست غريبة عن عهد عثمان.

3 - ظهور النفاق:

ومن الدليل القاطع على أن دولة عثمان رتع فيها النفاق حتى بلغ الذروة، تلك الأحاديث التي رويت عن حذيفة صاحب سر رسول الله (2). فحذيفة كان يعلم أسماء المنافقين الكبار الذين أرادوا اغتيال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند رجوعه من تبوك كما ذكرنا. والثابت والقاطع أن حذيفة مات بعد

____________

(1) البداية والنهاية (244 / 6).

(2) وصف في الصحيحين أنه صاحب السر الذي لا يعلمه غيره (البخاري 305 / 2) (الإصابة 332 / 2).

الصفحة 406
مقتل عثمان بأربعين يوما (1)، وقبل وفاته بايع عليا وأوصى الناس بطاعة أمير المؤمنين علي (2)، وأمر أولاده بالقتال تحت رايته فقتلا بصفين (3).

والثابت أيضا أن حذيفة كان مريضا قبل قتل عثمان وكان يلزم بيته (4)، وعلى ما سبق فإن رواياته التي سنوردها هنا لا بد وأن تكون قد وقعت في خلافة أبي بكر وعمر، وأما في خلافة عثمان. وهي روايات تجسد واقع المجتمع الذي رآه وسمعه حذيفة ومن هذه الروايات: قال: " لا يغرنك ما ترى، فإن هؤلاء يوشكون أن ينفرجوا عن دينهم كما تنفرج المرأة عن قبلها " (5). وقال: " والله ما أدري أنسي أصحابي أم تناسوا؟ (6) والله ما ترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قائد فتنة (7) إلى أن تنقضي الدنيا بلغ من معه ثلثمائة فصاعدا إلا قد سماه لنا باسمه واسم أبيه واسم (8) قبيلته " (9). إن حذيفة هنا يشير إلى أن النبي ترك أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، ولأن الصحابة نسوا ما ذكروا به جرت الفتن. وقال حذيفة في معالمها: " إن المنافقين اليوم شر منهم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يومئذ يسرون واليوم يجهرون " (10).

ثم قال صاحب السر الذي لا يعلمه أحد غيره: " إنما كان النفاق على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فأما اليوم فإنما هو الكفر

____________

(1) الإصابة 332 / 2، الحاكم (المستدرك 380 / 3)، (البخاري في التاريخ الصغير 80 / 1).

(2) الحاكم (المستدرك 380 / 3) والبزار ورجاله ثقات (الزوائد 236 / 7) وأبو نعيم (كنز العمال 612 / 11) والطبراني ورجاله ثقات (الزوائد 243 / 7) ومروج الذهب 394 / 2، فتح الباري 40 / 13.

(3) الكامل 147 / 3.

(4) مروج الذهب 394 / 2.

(5) رواه ابن أبي شيبة وأبو نعيم (كنز العمال 216 / 11).

(6) أم تناسوا: أي أظهروا النسيان لمصلحة من غير نسيان؟!

(7) قائد فتنة: أي داعي ضلالة وباعث بدعة يأمر الناس بها.

(8) باسمه واسم أبيه: يعني وصفا واضحا مفصلا لا مبهما.

(9) رواه أبو داود حديث 4243، في عون المعبود حديث 4222.

(10) البخاري (الصحيح 230 / 4)، ك الفتن باب إذا قال عند قوم شيئا ثم خرج.

الصفحة 407
بعد الإيمان " (1).

ثم يقول صاحب السر الشاهد على عصر الصحابة بعد وفاة النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم: " إن الرجل كان يتكلم بالكلمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصير منافقا. وإني لأسمعها من أحدكم في المقعد الواحد أربع مرات. وفي رواية: عشر مرات (2). إنها ثقافة وتربية مجتمع الرأي والمصلحة، وإلا كيف انتشرت هذه الثقافة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بزمن يسير؟ ثم يفجر حذيفة أكبر حقيقة ترتبت على ذلك كله فيقول: قال صلى الله عليه وسلم: اكتبوا إلى من تلفظ بالإسلام من الناس. فكتبنا له ألف وخمسمائة رجل، فقلنا: تخاف ونحن ألف وخمسمائة. ثم يقول حذيفة: فلقد رأيتنا ابتلينا حتى أن الرجل ليصلي وحده وهو خائف (3). وفي رواية عند مسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنكم لا تدرون لعلكم أن تبتلوا. قال حذيفة: فابتلينا حتى جعل الرجل لا يصلي إلا سرا (4).

إن الصلاة سرا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بأقل من ربع قرن انتهت في زمان بني أمية إلى ما رواه البخاري عن أنس، دخل عليه الزهري فوجده يبكي. فقال ما يبكيك؟ قال: لا أعرف شيئا مما أدركت إلا هذه الصلاة وهذه الصلاة قد ضيعت (5). إن الأحاديث التي رواها حذيفة والأقوال التي قال بها حدثت إما في زمن أبي بكر، و إما في عهد عمر الذي اعترف صراحة بتعيين المنافقين، وإما في عهد عثمان، ونحن نرجح العهد الأخير لأنه باب لأسرة ذمها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث صحيحة. والنبي صلى الله عليه وسلم كان قد أخبر بظهور النفاق فقال: لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرا ولضحكتم قليلا، يظهر النفاق، وترفع الأمانة، وتقبض الرحمة، ويتهم الأمين،

____________

(1) البخاري (الصحيح 230 / 4) ك الفتن باب إذا قال عند قوم شيئا ثم خرجه.

(2) رواه أحمد وإسناده جيد (الفتح الرباني 173، 231 / 19).

(3) البخاري (الصحيح 180 / 2) ك الجماد والسير باب كتابة الإمام الذي.

(4) مسلم (الصحيح 179 / 2) وأحمد (الفتح الرباني 40 / 24).

(5) البخاري (الصحيح 13 / 1).

الصفحة 408
ويؤتمن غير الأمين " (1). صلى عليك يا رسول الله فلقد ظهر هذا بعد وفاتك بزمن قليل ثم بدأ يتسع حتى تاه الجميع في سنن الأولين إلا من رحم الله. وكان لظهور النفاق علامات قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن للمنافقين علامات يعرفون بها، تحيتهم لعنة وطعامهم نهبة (أي اغتصاب) وغنيمتهم غلول (أي سرقة) (2). وصلى الله عليك يا رسول الله.

4 - الإحتجاج السلمي:

بدأ عثمان خطاه فقال: " لا يحل لأحد يروي حديثا لم يسمع به في عهد أبي بكر ولا عهد عمر " (3) وكانت بداية حكمه لا تختلف عمن سبقه، ولكن ما لبث بعد أن قام بنو أمية بترتيب أوراقهم أن تحول الحكم لصالح بني أمية، وصالح الارستقراطية القرشية. وكما ذكرنا من قبل أن السياسة التي اتبعها عمر بن الخطاب كانت عدم توزيعه الأرض على المسلمين المقاتلين، وحولها إلى أرض خراج تملك الدولة رقبتها، وصار بيت المال يدفع للمقاتلة أعطيات من الثابت أن عمر بن الخطاب فضل بعض الناس على بعض. ففضل السابقين على غيرهم وفضل المهاجرين من قريش على غيرهم من المهاجرين، وفضل المهاجرين كافة على الأنصار كافة، وفضل العرب على العجم (4). وكان من نتيجة ذلك ظهور طبقة من الارستقراطية القرشية، ولكن بحجم محدود ما لبث أن اتسع بعد ذلك.

وفي عهد عمر روى الإمام أحمد أن أبا عبيدة بن الجراح بكى وعندما قيل له ما يبكيك قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: يا أبا عبيدة يكفيك من الخدم ثلاث، خادم يخدمك، وخادم يسافر معك، وخادم يخدم أهلك. وحسبك من الدواب ثلاث، دابة لرحلك، ودابة لثقلك، ودابة لغلامك. ثم ها أنذا أنظر

____________

(1) رواه الحاكم (كنز العمال 127 / 11) ورواه الطبراني والبيهقي بلفظ مشابه (كنز 128 / 11).

(2) رواه الإمام أحمد (الفتح الرباني 232 / 19).

(3) الطبقات الكبرى 336 / 2، وابن عساكر (كنز العمال 295 / 10).

(4) ابن أبي الحديد 4 / 3.

الصفحة 409
إلى بيتي قد امتلأ رقيقا، وانظر إلى مرابطي قد امتلأت دوابا، فكيف ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذا وقد أوصانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أحبكم إلي وأقربكم مني من لقيني على مثل الحال الذي فارقني عليها (1). وبعد ذلك اتسعت الطبقة في عهد عثمان بعد أن بسط نبلاء بني أمية وغيرهم أيديهم على كثير من الضياع. وبعد أن توسع الناس في أمور الدنيا واستعملوا النفيس من الملبس والمسكن والمطعم واقتنوا الأثاث الفاخر. وبنظرة سريعة على ثروة بعض الأفراد خلال هذه المدة نجد أنه كان لعثمان عند خازنه يوم قتل ثلاثون ألف ألف درهم وخمسمائة ألف درهم، وخمسون ومائة ألف دينار، وترك ألف بعير (2). وكانت قيمة ما ترك عبد الرحمن بن عوف ألف بعير، وثلاثة آلاف شاة، ومائة فرس، كما ترك ذهبا قطع بالفؤوس حتى مجلت أيدي الرجال منه (3).

وكان لطلحة بالعراق ما بين أربعمائة ألف إلى خمسمائة ألف، وكان يرسل إلى عائشة إذا جاءته غلته كل سنة بعشرة آلاف. وروي أنه ترك ألفي ألف درهم ومائتي ألف درهم، ومائتي ألف دينار، وإن قيمة ما ترك من العقار ثلاثين ألف ألف، وترك مائة بهار، في كل بهار ثلاثة قناطير ذهب والبهار جلد ثور (4)، وكانت قيمة ما ترك الزبير إحدى وخمسين ألف ألف، وكان له بمصر خطط، وبالإسكندرية، وبالكوفة خطط، وبالبصرة دور، وكان له أربع نسوة أصابت كل امرأة ألف ألف ومائة ألف (5). وفي تاريخ ابن عساكر أن عمرو بن العاص كان يلقح كروم بستان له بالطائف بألف ألف خشبة كل خشبة بدرهم، وكانت له دور كثيرة بمصر ودمشق وحرون والجابية. وكان لسعد بن أبي وقاص دارا بناها بالعقيق ورفع سمكها وأوسع فضائها وجعل على أعلاها شرفات.

____________

(1) الإمام أحمد (الفتح الرباني 107 / 19).

(2) الطبقات الكبرى 76 / 3.

(3) الطبقات الكبرى 136 / 3.

(4) الطبقات الكبرى 222 / 3.

(5) الطبقات الكبرى 110 / 3.

الصفحة 410
فالبذرة التي وضعها عمر تحت عنوان الخراج، جعلت العيون تتطلع إلى أموال الدولة حيث كانت وكل فرد يأخذ منها حجم الخدمة التي يؤديها للنظام.

فمنهم من يأخذ دراهم، ومنهم من يأخذ دارا أو خادما، ومنهم من يأخذ أرضا أو ضياعا. ووفقا لثروة الدولة نتيجة للفتوحات، كان الفاروق يختار الأمراء وقادة الجند من قبائل مختلفة، فإذا وجد المال والأمير المخلص ضمنت الدولة عدم حدوث أي تمرد من أي قبيلة، لهذا لا نستغرب تعيين المنافقين في الدولة العمرية، ولا نستغرب تعيين أبي زبيد النصراني لأنه مدخل إلى بني تغلب، ولا إياس بن صبيح الذي كان من أصحاب مسيلمة لأنه مدخل إلى بني حنيفة رافعة لواء التمرد، ولا طلحة بن خويلد الذي ادعى النبوة لأنه مدخل إلى قبيلته حتى لا تثور، إلى غير ذلك من قبائل العرب، فبيت المال هو في حقيقة الأمر الحافظ للنظام، ولكنه في عهد عثمان كان في حقيقة الأمر المدمر للنظام. وذلك لأن الأغلبية العظمى من الأمراء الذين اختارهم عمر لم يكونوا من الطامعين في الخلافة، أما الأغلبية العظمى التي استعملها عثمان كانت تطمع في الخلافة، والغالبية العظمى في قريش كانت قد ملت عمر لأنه لم يسمح لهم بالخروج.

وفي عهد عثمان انطلقوا فخالطوا الناس وجرى في أيديهم الذهب، وحببوا للناس الإمارة كما أحبوا الملك والرئاسة. واتسعت الطبقة الارستقراطية القرشية وازدادت قائمة النبلاء، وأمام هذا الاتساع ظهرت الحركات المضادة التي تئن تحت العمامة الأموية. وعندئذ يقف عثمان ويقول: يا أيها الناس إن أبا بكر وعمر كانا يتأولان في هذا المال ظلف أنفسهما وذوي أرحامهما، وإني تأولت فيه صلة رحمي " (1). ولكي يضع عثمان على قراره عباءة القداسة نراه يقول لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: " نشدتك الله أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤثر قريشا على سائر الناس ويؤثر بني هاشم على سائر قريش.

فسكت القوم. فقال: لو أن يبدي مفاتيح الجنة لأعطيتها بني أمية حتى

____________

(1) الطبقات الكبرى 64 / 3، كنز العمال 627 / 5.

الصفحة 411
يدخلوا " (1). ولا ندري لماذا لم يسلك عثمان مسلك رسول الله الذي فضل بني هاشم على سائر قريش، ورضي أن يفضل بني أمية في الدنيا بل وطمع أيضا في الآخرة.

لقد كان لتدفق المال قصص وحكايات، وكان على هذا المال تحذير من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا التحذير حمله أبو ذر الغفاري، وشاء الله أن يحمله أبو ذر دون خلق الله حتى لا يتهم بأنه من بني هاشم فلا يسمع له.

لقد خرج أبو ذر على طائفة النبلاء في أول طريقهم، حتى لا تحدث كارثة في نهاية الطريق تتعداهم إلى غيرهم حتى قيام الساعة. وكان أبو ذر يحمل منقبة الصدق التي وضعها النبي صلى الله عليه وسلم على لسانه لتكون المنقبة حجة بذاتها على الصحابة في هذا الوقت. فعن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما قلت الغبراء ولا أظلت الخضراء عن رجل أصدق من أبي ذر (2). وفي رواية: ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق ولا أوفى من أبي ذر شبيه عيسى بن مريم. فقال عمر بن الخطاب كالحاسد: يا رسول الله أنعرف ذلك له؟ قال: نعم فاعرفوه (3).

قال أبو جعفر في مشكل الأثر: والمراد بالحديث التأكيد والمبالغة في صدقه، وتأملنا هذا الحديث لنقف على المعنى الذي أريد به، ما هو؟ فكان ذلك عندنا والله أعلم على أنه كان رضي الله عنه في أعلى مراتب الصدق (4)، ونحن نقول: إن لكل شئ توقيتا، فأبو ذر كان في أعلى مراتب الصدق من يوم أن

____________

(1) رواه أحمد وقال الهيثمي رواته ثقات (الفتح 332 / 22).

(2) رواه أحمد بسند جيد (الفتح الرباني 370 / 22) وابن ماجة والطبراني بسند جيد (كشف الخفاء 231 / 2) والترمذي وحسنه (الجامع 679 / 5) وابن سعد (كنز العمال 228 / 4) وابن عساكر (كنز العمال 667 / 11).

(3) رواه الترمذي وحسنه (الجامع 670 / 5).

(4) مشكل الأثر 224 / 1.

الصفحة 412
قال له النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. ولكن هذا الصدق لا بد وأن يشع عند هدفه ليكون على الناس حجة، لأن ما من شئ إلا من أجل هدف ومن وراء هذا الهدف حكمة. وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أمر أبا ذر فقال له:

" ويحك بعدي إذا رأيت البناء قد علا سلعا، فالحق بالمغرب أرض قضاعة، فإنه سيأتي عليكم يوم قاب قوسين، أو رمح أو رمحين من كذا وكذا (1). وذكر لأبي ذر أحداث وأحداث وقال له: " يا أبا ذر كيف أنت عند ولاه - وفي رواية: كيف أنت وأئمة من بعدي!! - يستأثرون عليك بهذا الفئ؟ قال أبو ذر: والذي بعثك بالحق أضع سيفي على عاتقي فأضرب به حتى ألحقك: قال: أفلا أدلك على خير لك من ذلك تصبر حتى تلقاني (2).

وأمر النبي صلى الله عليه وآله بالصبر هو من نسيج أمره لأمير المؤمنين علي بأن لا ينازع، لأن المقام مقام إقامة الحجة. وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعل يقرأ هذه الآية: * (ومن يتق الله يجعل له مخرجا...) * حتى فرغ من الآية ثم قال: يا أبا ذر كيف تصنع إن أخرجت من المدينة؟ قال قلت:

إلى السعة والدعة أنطلق حتى أكون من حمام مكة. قال: كيف تصنع إن أخرجت من مكة؟ قال قلت: إلى السعة والدعة إلى الشام والأرض المقدسة. فقال:

وكيف تصنع إن أخرجت من الشام؟ قال قلت: إذا والذي بعثك بالحق أضع سيفي على عاتقي. قال: أو خير من ذلك قال قلت: أو خير من ذلك. قال:

تسمع وتطيع وإن كان عبدا حبشيا (3) - وفي رواية - ألا أدلك على خير من ذلك تنقاد لهم حيث قادوك وتنساق لهم حيث ساقوك حتى تلقاني وأنت على ذلك (4). وليس معنى أن يسمع ويطيع أن يجاريهم في سياستهم، لأن خروجه لن يكون عندئذ له معنى وستكون علامة الصدق معطلة في حالة سمعه وطاعته

____________

(1) ابن عساكر (كنز العمال 188 / 11) والطبري في التاريخ (تاريخ الأمم 66 / 5).

(2) رواه الإمام أحمد (الفتح الرباني 37 / 23)، وابن سعد ولكن بلفظ كيف أنت إذا كان عليك أمراء الطبقات 226 / 4).

(3) رواه أحمد وإسناده جيد (الفتح الرباني 36 / 23).

(4) رواه أحمد (الفتح الرباني 108 / 23).

الصفحة 413
لنبلاء قريش. وإنما المعنى أن يسمع ويطيع لهم عند قرارهم بنفيه وتسييره كي تنتقل الحجة من مكان إلى مكان دون عوائق يضعها أمام نفسه.

وعندما بلغ سلعا، وهي العلامة التي سينطلق عندها أبو ذر بدأت المحن.

فلقد قام أبو ذر بإنذار الذين يكنزون الذهب والفضة. وبدأت القيادة في المدينة المنورة تضيق على عثمان. فعن الأحنف بن قيس قال: كنت بالمدينة فإذا برجل يفر الناس منه حين يرونه. قلت: من أنت؟ قال: أنا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: ما يفر الناس؟ قال: إني أنهاهم عن الكنوز بالذي كان ينهاهم عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم (1).

أبو ذر لمن حضر: أحدثكم إني سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تتهمونني. ما كنت أظن أني أعيش حتى أسمع هذا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم (2). وعندما وجدت الدولة أن أبا ذر بدأ يضرب في الاتجاه الآخر، وأنه سيبعث رواية الأحاديث من جديد وستظهر الحقائق، زادت من أعطية الناس حتى تغطي هذه الزيادة على عنوان " مال الله دولا " الذي ورد في الحديث. ولكن أبا ذر مضى في طريقه يحذر من نبلاء قريش، فقال له رجل:

إن أعطياتنا قد ارتفعت اليوم وبلغت، هل تخاف علينا شيئا؟ قال: أما اليوم فلا.

ولكنها توشك أن تكون أثمان دينكم فدعوها وإياكم (3).

وانتهى الأمر بإخراج أبي ذر إلى الربذة واستقبل أبو ذر هذا القرار بالرضا التام، لأنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ليموتن رجل منكم بفلاة من الأرض يشهده عصابة من المؤمنين " (4). وبينما أبو ذر يستعد للخروج قال له رجل: أنت أبو ذر؟ قال: نعم، قال: لولا أنك رجل سوء ما أخرجت من

____________

(1) رواه الإمام أحمد (الفتح الرباني 371 / 22).

(2) مروج الذهب 276 / 2، ابن أبي الحديد 541 / 5.

(3) الحاكم (المستدرك 522 / 4).

(4) رواه ابن حبان في صحيحه والضياء وأحمد وابن سعد (كنز العمال 668 / 11).

الصفحة 414
المدينة، فقال: بين يدي عقبة كؤود إن نجوت منها لا يضرني ما قلت، وأن أقع فيها فأنا شر مما تقول (1). وعند خروج أبي ذر ودعه الإمام علي بن أبي طالب وقال له: يا أبا ذر إنك غضبت لله فأرج من غضبت له، إن القوم خافوك على دنياهم وخفتهم على دينك، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه، واهرب منهم بما خفتهم عليه، فما أحوجهم إلى ما منعتهم وما أغناك عما منعوك وستعلم من الرابح غدا والأكثر حسدا، ولو أن السماوات والأرضين كانتا على عبد رتقا ثم اتقى الله لجعل الله له منهما مخرجا، ولا يؤنسك إلا الحق ولا يوحشك إلا الباطل، فلو قبلت دنياهم لأحبوك ولو قرضت منها لأمنوك (2) وتوفي أبو ذر بالربذة، وروى البلاذري أنه لما بلغ عثمان موت أبي ذر قال: رحمه الله، فقال عمار: نعم فرحمه الله من كل أنفسنا، فقال عثمان: يا عاص أبر أبيه أتراني ندمت على تسييره، وأمر فدفع قفاه وعندما تدخل المهاجرون تركه (3). وهكذا أقيمت الحجة على أصحاب الخواتم الذهبية والضياع الفاخرة والأراضي الواسعة لعلهم أن يرتبوا أوراقهم من جديد على طريق الدعوة. وإذا كان أبو ذر قد لفت الأنظار إلى أمراء بني أمية الذين يسلكون طريقا يتخذون فيه دين الله دخلا، فإن عبادة بن الصامت أعلن احتجاجه هو أيضا على أصحاب هذه الدائرة ويعلن لا طاعة لمن عصى الله. وكان عبادة يومئذ بالشام، وروي أن معاوية كتب إلى عثمان أن عبادة بن الصامت قد أفسد علي الشام وأهله فإما أم تكفف عني عبادة، وإما أن أخلي بينه وبين الشام، فكتب إليه عثمان: أن رحل عبادة حتى ترجعه إلى داره بالمدينة، فبعث بعبادة حتى قدم إلى المدينة، فدخل على عثمان في الدار فالتفت إليه فقال: يا عبادة بن الصامت ما لنا وما لك، فقام عبادة بين ظهراني الناس فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سيلي أموركم بعدي رجال يعرفونكم ما تنكرون،

____________

(1) الإمتاع والمؤانسة 128 / 2.

(2) ابن أبي الحديد 90 / 3، مروج الذهب 377 / 2.

(3) البلاذري 5 / 54، اليعقوبي 2 / 150.

الصفحة 415
وينكرون عليكم ما تعرفون، فلا طاعة لمن عصى الله (1). وعلى عثمان كان أيضا اعتراض المقداد بن الأسود، روى مسلم أن رجلا جعل يمدح عثمان، فعمد المقداد فجثا على ركبتيه وكان رجلا ضخما يحثوا في وجهه الحصباء فقال له عثمان: ما شأنك؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب (2).

وهناك اعتراض آخر لجمع من الصحابة قالوا لأسامة بن زيد: ألا تدخل على عثمان فتكلمه؟. فقال: أترون أني لا أكلمه إلا أسمعكم، والله لقد كلمته فيما بيني وبينه (3). قال النووي: والمعنى أتظنون أني لا أكلمه إلا وأنتم تسمعون.. وفي الحديث وعظ الأمراء سرا وتبليغهم ما يقول الناس فيهم ليكفوا عنه. وهذا كله إذا أمكن ذلك فإن لم يمكن الوعظ سرا والإنكار فليفعله علانية لئلا يضيع أصل الحق (4). ولقد قام زيد بن صوحان بوعظ عثمان أبلغ موعظة قبل الطوفان فقال له: يا أمير المؤمنين ملت فمالت أمتك اعتدل تعتدل أمتك - ثلاث مرات (5).

5 - الرد على الاحتجاج السلمي:

لقد خرج أبو ذر وعبادة والمقداد باعتراضهم عام 30 ه‍، وفي عام 33 ه‍ كان الحال كما هو عليه فالوليد بن عقبة ونديمه النصراني أبو زبيد كانا يشربان الخمر، ويدخل عليهما نصارى بني تغلب ونصارى الحيرة في دار الإمارة حيث كان الوليد يومئذ أمير عثمان على الكوفة. وروي أن الوليد عندما ذهب ليجلس على كرسي الإمارة قال له سعد بن أبي وقاص: والله ما أرى أكسبت بعدنا أم

____________

(1) رواه أحمد والطبراني ورجالهما ثقات (الزوائد 227 / 5).

(2) رواه مسلم باب النهي عن الافراط في المدح (الصحيح 128 / 18).

(3) رواه مسلم (الصحيح 118 / 18) ك الزهد باب عقوبة من يأمر بالمعروف.

(4) مسلم شرح النووي 118 / 18.

(5) الطبقات الكبرى 124 / 6.

الصفحة 416
حمقنا بعدك، فقال الوليد: لا تجزعن أبا إسحاق فإنما هو الملك يتغذاه قوم ويتعشاه آخرون، قال سعد: أراكم والله ستجعلونها ملكا (1)، والوليد هو أخو عثمان لأمه (2)، ولا خلاف بين أهل العلم أن قوله تعالى: * (إن جاءكم فاسق...) * نزلت في الوليد (3)، وقصة صلاته بالناس الصبح أربعا وهو سكران مشهورة مخرجة، وقصة عزله بعد أن ثبت عليه شرب الخمر مشهورة أيضا مخرجة، في الصحيحين (4). ونتيجة لما فعله الوليد احتج وجوه أهل الكوفة وتوجهوا إلى عثمان وطالبوا بعزل الوليد ولكن عثمان ماطل. وروى البلاذري:

أن عثمان ضرب بعض الشهود أسواطا، فأتوا عليا فشكوا إليه، فأتى عثمان وقال: عطلت الحدود وضربت قوما شهود على أخيك فقلبت الحكم. وأخرج البلاذري أيضا: وأتى بعض الشهود عائشة فأخبروها بما جرى بينهم وبين عثمان، وأن عثمان زبرهم فنادت عائشة: إن عثمان أبطل الحدود وتوعد الشهود. وأخرج صاحب الأغاني: إن عثمان قال: أما يجد مراق أهل العراق وفساقهم ملجأ إلا بيت عائشة، فسمعت فرفعت نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: تركت سنة رسول الله صاحب هذا النعل. فتسامع الناس فجاءوا حتى ملأوا المسجد فمن قائل: احسنت، ومن قائل: ما للنساء ولهذا؟

حتى تحاصبوا وتضاربوا بالنعال. ولم يجد عثمان مفرا أمام هذه الانتفاضة سوى أن يجمع بين الوليد وبين خصمائه ورأى أن ينفذ عليه الحد.

وروي أن سعيد بن العاص جلس على كرسي الإمارة بعد الوليد، وما صعد منبر الكوفة حتى أمر به أن يغسل: فناشده رجال من قريش كانوا قد خرجوا معه من بني أمية وقالوا: إن هذا قبيح والله لو أراد هذا غيرك لكان حقا أن تذب عنه يلزمه عار هذا أبدا، ولكن سعيدا أبى إلا أن يفعل فغسله (5). وإذا كان سعيد قد

____________

(1) الإستيعاب 633 / 3.

(2) الإستيعاب 631 / 3.

(3) الإستيعاب 632 / 3، الإصابة 637 / 3.

(4) الإصابة 638 / 3.

(5) الطبري 88 / 5.

الصفحة 417
طهر المنبر نجد أنه عندما اختار من أهل الكوفة من يدخل عليه ويسمر عنده، قد فجر مشكلة فتحت بابا واسعا للاحتجاج. روى أنه تفاخر بالخراج وقال: " إنما هذا السواد بستان لقريش ". فهذه المقولة كانت بداية وقف الأشتر عندها. وقال له: أتزعم أن السواد الذي أفاءه الله علينا بأسيافنا بستان لك ولقومك والله ما يزيد أوفاكم فيه نصيبا إلا أن يكون كأحدنا. وتكلم القوم مع الأشتر، وعندئذ قال قائد شرطة سعيد: أتردون على الأمير مقالته وأغلظ لهم... فقال سعيد: والله لا يسمر عنهم عندي أحد أبدا. ثم كتب سعيد إلى عثمان: إن رهطا من أهل الكوفة يؤلبون ويجتمعون على عيبك وعيبي والطعن في ديننا وقد خشيت إن ثبت أمرهم أن يكثروا (1).

وعلى هذه الرسالة بدأ عثمان ينتهج سياسة جديدة هي سياسة التسيير أي إبعاد الناس عن ديارهم إلى مكان آخر يمتاز بغلظة اليد. وكتب عثمان إلى سعيد أن سيرهم إلى معاوية وكان معاوية يومئذ على الشام فسيرهم وهم تسعة نفر إلى معاوية (2) منهم: زيد بن صوحان وجندب بن كعب وفيهما ورد حديث يدين عهد عثمان. روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " جندب وما جندب وزيد الخير وما زيد الخير، أما أحدهما فيضرب ضربة يفرق بين الحق والباطل، وأما الآخر فيسبقه عضو من أعضائه إلى الجنة ثم يتبعه سائر جسده (3). وقال:

" من سره أن ينظر إلى رجل سبقه بعض أعضائه إلى الجنة فلينظر إلى زيد بن صوحان " (4).

فأما جندب فواجه الوليد بن عقبة (5) وحكم عليه عثمان بالتسيير. وأما زيد

____________

(1) الطبري 88 / 5.

(2) الطبري 88 / 5، البداية 165 / 7.

(3) رواه ابن عساكر وابن مندة وابن السكن (كنز العمال 669 / 11).

(4) رواه أبو يعلى وابن عدي والخطيب وابن عساكر (كنز 685 / 11)، وقال ابن كثير رواه البيهقي (البداية 214 / 6).

(5) هو الذي أخبر ابن مسعود وغيره بشرب الوليد للخمر وقاد المعارضة ضده (الطبري 17 / 2).

الصفحة 418
فهو الذي قال لعثمان: ملت فمالت أمتك اعتدل تعتدل أمتك (1). ثم بايع بعد ذلك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وقتل تحت رايته. ومنهم: كميل بن زياد قال صاحب الإصابة: أدرك من الحياة النبوية ثمان عشرة سنة، شهد صفين مع علي، وكان شريفا مطاعا ثقة (2). ومنهم: جندب بن زهير. قال في الإصابة:

أتى النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من قومه. قال للنبي صلى الله عليه وسلم:

إني لأرجع من عندك، فلم تقر عيني بمال ولا ولد حتى أرجع فأنظر إليك. وقيل كان جندب بن زهير إذا صلى أو صام أو تصدق ارتاح لذلك، فنزلت قوله تعالى: * (من كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا) *. ومنهم: عمرو بن الحمق، قال في الإصابة: روي عن ابن إسحاق ما يقتضي أن عمرو بن الحمق شهد بدرا، وشهد مع علي حروبه كلها (4). ومنهم: عروة بن الجعد وهو الذي أرسله النبي صلى الله عليه وسلم ليشتري الشاة بدينار فاشترى به شاتين، والحديث مشهور في البخاري (5). ومنهم: صعصعة بن صوحان قال في الإصابة: كان مسلما في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يره. شهد صفين مع علي وكان خطيبا فصيحا. وقال الشعبي: كنت أتعلم منه الخطب (6).

ومنهم: مالك بن عامر الأشتر، الذي شهد الصلاة على أبي ذر حين مات بالربذة، وكان النبي قد أخبر أنه يشهد الصلاة عليه عصابة من المؤمنين. وكان الأشتر قلب هجوم علي بن أبي طالب في صفين.

فهؤلاء الصحابة الأجلاء (7). فيهم من شهد بدرا، وفيهم من كانت رؤية النبي أغلى من ماله وولده، وفيهم من أجمع العلماء على أنه ثقة ومأمون

____________

(1) الطبقات الكبرى 124 / 6.

(2) الإصابة 325 / 5.

(3) الإصابة 259 / 1.

(4) الإصابة 294 / 4.

(5) الإصابة 236 / 4.

(6) الإصابة 259 / 3.

(7) راجع أسماءهم في الطبري 90 / 5.

الصفحة 419
وخطيب، هؤلاء طردهم عثمان لأنهم تصدوا لمن هم من أمثال الوليد وسعيد ومعاوية إلى غير ذلك من نبلاء بني أمية. لقد سيرهم إلى الشام وهناك بدأ معاوية يعرفهم بتاريخ آبائه بعد أن قطعت المسيرة شوطا كبيرا على طريق اللارواية.

فقال لهم:... وقد عرفت قريش أن أبا سفيان كان أكرمها إلا ما جعل الله لنبيه صلى الله عليه وآله... وإني لأظن أن أبا سفيان لو ولد الناس لم يلد إلا حازما (1). وفي سباق الأحداث يبدو أن معاوية كان يمهد الأمر لنفسه بهذه المقولة وكان يطمع في نشرها كما سيظهر فيما بعد. ولكن أحد المبعدين وهو صعصعة قال: قد ولدهم خير من أبي سفيان من خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه (2). وفي الليلة التالية جمعهم معاوية وقال لهم: أيها القوم ردوا علي خيرا أو اسكتوا، وتفكروا وانظروا فيما ينفعكم وينفع أهليكم وينفع عشائركم وينفع جماعة المسلمين فاطلبوه تعيشوا ونعش بكم (3). وهنا لوح معاوية بالمال ولكن صعصعة قال: لست بأهل ذلك ولا كرامة لك إن تطاع في معصية الله. فأخبره معاوية بأنه يأمر بتقوى الله وطاعته وطاعة رسوله. فقال صعصعة: فأما نأمرك أن تعتزل عملك فإن في المسلمين من هو أحق به منك. قال معاوية: من هو؟

فقال: من كان أبوه أحسن قدما من أبيك، وهو بنفسه أحسن قدما منك في الإسلام، قال معاوية: إن لي في الإسلام قدما، ولقد رأى عمر بن الخطاب ذلك، فلو كان غيري أقوى مني لم يكن لي عند عمر هوادة، فقالوا: لست لذلك أهلا (4).

كتب معاوية إلى عثمان: فإنك بعثت إلي أقواما يتكلمون بألسنة الشياطين، وما يملون عليهم ويأتون الناس زعموا من قبل القرآن فيشبهون على الناس، وليس كل الناس يعلم ما يريدون وإنما يريدون فرقة، فقد أفسدوا كثيرا من الناس من أهل الكوفة، ولست آمن إن قاموا وسط أهل الشام أن يغروهم بسحرهم

____________

(1) الطبري 89 / 5، البداية والنهاية 165 / 7.

(2) الطبري 89 / 5، البداية 165 / 7.

(3) الطبري 89 / 5.

(4) الطبري 89 / 5.

الصفحة 420
وفجورهم فارددهم إلى مصرهم. فكتب إليه عثمان يأمره أن يردهم إلى سعيد بن العاص بالكوفة، فردهم إليه (1). وعندما تحدثوا بالقرآن خاف سعيد أن يغروا الناس بسحرهم كما خاف معاوية من قبل فكتب إلى عثمان يضج منهم فكتب عثمان إليه أن يسيرهم إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد أمير حمص (2).

لقد كانت البداية اعتراض على مقولة: " السواد بستان لقريش " تلك المقولة الظالمة التي عند نتيجتها أولى خرج أبو ذر الغفاري وغيره. ولكن الدولة تعامت عن حركة الغليان في الجانب الآخر، وعلى كؤوس الوليد وشعر أبي زبيد والأقيشر وشعراء الأديرة والخمور خرج جندب ليضرب الشعوذة والدجل والسحر ويقاضي الوليد بل والنظام كله. ولكن النظام عاد ليقول: " السواد بستان لقريش " ولم يضع في حساباته أن الخروج السلمي لأبي ذر وعبادة والمقداد قد طرح ثقافة تحذر من بني أمية إذا بلغوا ثلاثين رجلا، ولهذا لم يكن غريبا أن نسمع وفد المبعدين وهم يطالبون باعتزال معاوية.

6 - البطانة السوء:

جاءت سياسة التسيير بمزيد من الصعوبات أمام دولة عثمان فبعد أن انقضى عام 33 ه‍ - 34 ه‍ بدأت الأمصار تضج من ظلم الولاة، فمصر تحت قيادة عبد الله بن أبي السرح أخو عثمان من الرضاعة. وكان عبد الله يكتب الوحي للنبي، ثم ارتد مشركا، ويوم فتح مكة أمر النبي بقتله، ولو وجد تحت أستار الكعبة، ولكن عبد الله اختفى عند عثمان. وبعد أن هدأت الأمور في مكة جاء به عثمان ليستأمن له، ولكن النبي صمت طويلا، ثم قال: نعم. فلما انصرف عثمان قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن حوله: ما صمت إلا ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه فقال رجل: فهلا أومأت إلي يا رسول الله، فقال: إن النبي لا

____________

(1) الطبري 90 / 5.

(2) الطبري 90 / 5.