الصفحة 484
المسلمين في معاقدها (1). فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده إلا بالحق. ولا يحل أذى المسلم إلا بما يجب (2). بادروا أمر العامة وخاصة أحدكم وهو الموت. فإن الناس أمامكم (3) وإن الساعة تحدوكم من خلفكم.

تخففوا تلحقوا. فإنما ينتظر بأولكم أخركم (4). اتقوا الله في عباده وبلاده. فإنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم. وأطيعوا الله ولا تعصوه. وإذا رأيتم الخير فخذوا به. وإذا رأيتم الشر فأعرضوا عنه (5).

فالإمام في أول خطاب له أمر بأخذ الخير وترك الشر. وأمر بأداء الفرائض وبين أن الله حرم حراما وأحل حلالا. وهذه الأمور لها أبواب. وكما علمنا أن سياسة القص وعدم الرواية تركت لها بصمات على أمور وبطانة السوء تركت لها بصمات على أمور أخرى. ودخل المنافقون في عصور الفتوحات بأحاديثهم التي تخدم مصالحهم. ونحن في هذا المقام سنترك تقسيم رواة هذا العصر لأمير المؤمنين علي. وبعد أن يحددهم لنا سنرى ما هو الباب الذي فتحه أمير المؤمنين في أول خطاب له لاغتراف العلم.

سئل الإمام عن أحاديث البدع. وعما في أيدي الناس من اختلاف الخبر.

فقال:

إن في أيدي الناس حقا وباطلا. وصدقا وكذبا. وناسخا ومنسوخا. وعاما وخاصا. ومحكما ومتشابها. وحفظا ووهما. ولقد كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم على عهده حتى قام خطيبا. فقال: من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار، وإنما أتاك الحديث أربعة رجال. ليس لهم خامس:

____________

(1) لأن الإخلاص والتوحيد داعيان إلى المحافظة على حقوق المسلمين صارفان عن انتهاك محارمهم.

(2) أي إلا بحق.

(3) أي سبقوكم.

(4) أي إنما ينتظر ببعث الموتى المتقدمين أن يموت الأواخر أيضا. فيبعث الكل جميعا في وقت واحد.

(5) ابن أبي الحديد 337 / 3.

الصفحة 485
رجل منافق مظهر لإيمان، متصنع بالإسلام، لا يتأثم ولا يتحرج. يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم متعمدا. فلو علم الناس أنه منافق كاذب لم يقبلوا منه. ولم يصدقوا قوله. ولكنهم قالوا: صاحب رسول الله رآه وسمع منه، ولقف عنه. فيأخذون بقوله. وقد أخبرك الله عن المنافقين بما أخبرك. ووصفهم بما وصفهم به لك. ثم بقوا بعده. فتقربوا إلى أئمة الضلالة. والدعاة إلى النار بالزور والبهتان. فولوهم الأعمال. وجعلوهم حكاما على رقاب الناس فأكلوا بهم الدنيا. وإنما الناس مع الملوك والدنيا. إلا من عصم الله. فهذا أحد الأربعة.

ويفهم من كلام الإمام رضي الله عنه أن الخلفاء بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرفوا المنافقين لأن المنافق يسير بما في قلبه ويعامله الناس بظاهره. وعندما فتحت البلاد وكثرت الغنائم اختلط المنافقون بالأمراء في الأمصار فولوهم الأعمال والخلفاء لو كانوا يعرفون المنافقين بأعيانهم ما استطاع الأمراء وضعهم على رقاب الناس. ثم يقول الإمام رضي الله عنه عن الصنف الثاني: ورجل سمع من رسول الله شيئا لم يحفظه على وجهه، فوهم فيه، ولم يتعمد كذبا. فهو في يديه. ويرويه ويعمل به. ويقول: أنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلو علم المسلمون أنه وهم فيه لم يقبلوه منه. ولو علم هو أنه كذلك لرفضه.

ثم يقول الإمام عن الصنف الثالث: ورجل ثالث سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا يأمر به ثم إنه نهى عنه وهو لا يعلم أو سمعه ينهي عن شئ ثم أمر به وهو لا يعلم فحفظ المنسوخ ولم يحفظ الناسخ فلو علم أنه منسوخ لرفضه. ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنه منسوخ لرفضوه.

ثم يقول الإمام في الصنف الأخير: وآخر رابع لم يكذب على الله ولا على رسوله. مبغض للكذب خوفا من الله. وتعظيما لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يهم بل حفظ ما سمع على وجهه فجاء به على سمعه لم يزد فيه ولم ينقص منه. فهو حفظ الناسخ فعمل به. وحفظ المنسوخ فجنب عنه

الصفحة 486
وعرف الخاص والعام. والمحكم والمتشابه. فوضع كل شئ موضعه. وقد كان يكون من رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلام له وجهان: فكلام خاص، وكلام عام، فيسمعه من لا يعرف ما عنى الله سبحانه به ولا ما عنى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحمله السامع. ويوجهه على غير معرفة بمعناه. وما قصد به وما خرج به أجله. وليس كل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان يسأله ويستفهمه. حتى إن كانوا يحبون أن يجئ الأعرابي والطارئ فيسأله عليه الصلاة والسلام حتى يسمعوا. وكان لا يمر بي من ذلك شئ إلا سألته عنه وحفظته. فهذه وجوه ما عليه الناس في اختلافهم وعللهم في رواياتهم (1).

وقول الإمام إنه كان لا يمر به شئ من ذلك إلا سأل النبي عنه وحفظه له شواهد كثيرة. فعلاوة على أنه كان لا يفارق النبي في مواطن كثيرة. فإنه كان له من رسول الله صلى الله عليه وسلم مدخلان مدخل بالليل ومدخل بالنهار (2) يقول له فيهما ما غاب عنه ويفسر له فيهما ما استفسر عنه. وحفظ علي رضي الله عنه لجميع ما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء في حديث صحيح وذلك في قوله تعالى: (وتعيها أذن واعية) فعن علي قال:

قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: سألت الله أن يجعلها أذنك يا علي.

فما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فنسيته " (3)، ولذا كان علي يقول: " إن ربي وهب لي قلبا عقولا ولسانا ناطقا " (4)، وقال: " سلوني عن كتاب الله فإنه ليس من آية إلا وقد عرفت بليل نزلت أم بنهار في سهل أم في جبل " (5)، وهذا كله كان لحكمة من ورائها هدف. وهذا الهدف يشع في أحاديث رواها أئمة الحديث عند قوله تعالى: (إنما أنت منذر ولكل قوم هاد)

____________

(1) ابن أبي الحديد 591 / 3.

(2) رواه النسائي 2 / 12.

(3) رواه الضياء بسند صحيح وابن مردويه وأبو نعيم (كنز العمال 177 / 13.

(4) الطبقات الكبرى 338 / 2. (5) الطبقات 338 / 2.

الصفحة 487
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الهادي هو علي بن أبي طالب " (1).

وبعد أن بين الإمام مصادر الرواية بين ما ترتب على ذلك من اختلاف:

ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام. فيحكم فيها برأيه. ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره. فيحكم فيها بخلاف قوله. ثم يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم. فيصوب آراءهم جميعا وإلههم واحد ونبيهم واحد وكتابهم واحد. أفأمرهم الله تعالى بالاختلاف فأطاعوه. أم نهاهم عنه فعصوا. أم أنزل الله سبحانه دينا تاما فقصر الرسول عن تبليغه وأدائه. والله تعالى يقول: (ما فرطنا في الكتاب من شئ) (2)، وفيه تبيان كل شئ. وذكر أن الكتاب يصدق بعضه بعضا وأنا لا اختلاف فيه: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) (3)، وأن القرآن ظاهره أنيق وباطنه عميق. لا تفنى عجائبه. ولا تنقضي غرائبه ولا تكشف الظلمات إلا به " (4).

وبعد أن بين الإمام اختلاف الرواة وما ترتب عليه من اختلاف الفتوى. فتح أبواب البحث: أيها الناس إنه من استنصح الله وفق. ومن اتخذ قوله دليلا هدى للتي هي أقوم. فإن جار الله آمن. وعدوه خائف. وإنه لا ينبغي لمن عرف عظمة الله أن يتعظم. فإن رفعة الذين يعلمون ما عظمته أن يتواضعوا له. وسلامة الذين يعلمون ما قدرته أن يستسلموا له. فلا تنفروا من الحق نفار الصحيح من الأجرب. والباري من ذي السقم. واعلموا أنكم لن تعرفوا الرشد حتى تعرفوا الذي تركه. ولن تأخذوا بميثاق الكتاب حتى تعرفوا الذي نقضه. ولن تمسكوا به حتى تعرفوا الذي نبذه. فالتمسوا ذلك عند أهله. فإنهم عيش العلم. وموت الجهل، هم الذين يخبركم حكمهم عن علمهم. وصمتهم عن منطقهم.

وظاهرهم عن باطنهم، لا يخالفون الدين ولا يختلفون فيه. فهو بينهم شاهد

____________

(1) رواه ابن جرير (الفتح الرباني 185 / 18).

(2) سورة الأنعام: الآية 38.

(3) سورة النساء: الآية 82.

(4) ابن أبي الحديد 233 / 1.

الصفحة 488
صادق. وصامت ناطق " (1).

ومما سبق علمنا أن الإمام علي أمر بأخذ الخير وترك الشر. ثم بين ما في أيدي الناس من اختلاف الخبر. وما ترتب على ذلك من الاختلاف في الفتوى لتعدد الآراء. ثم فتح الإمام طريق البحث للوقوف على أسباب ذلك وقال:

" واعلموا أنكم لن تعرفوا الرشد حتى تعرفوا الذي تركه " ثم ساق الباحث إلى كتاب الله ليقف عند الذي نقضه. ثم اختصر المسافة للتيسير على الباحث فبين أن المعرفة والأخذ بميثاق الكتاب والتمسك به جميع ذلك في دائرة " أهله " وهو قوله: " فالتمسوا ذلك عند أهله " وروي أنه قال في أول خطبة خطبها في خلافته:

ألا إن أبرار عترتي وأطايب أرومتي. أحكم الناس صغارا. وأعلم الناس كبارا.

ألا وإنا أهل بيت من علم الله علمنا. وبحكم الله حكمنا. ومن قول صادق سمعنا. فإن تتبعوا آثارنا تهتدوا ببصائرنا " (2)، وقال: " نحن الشعار والأصحاب. والخزنة والأبواب. لا تؤتى البيوت إلا من أبوابها فمن آتاها من غير أبوابها سمي سارقا " (3)، وقال في أهل البيت: " هم عيش العلم. وموت الجهل، يخبركم حلمهم عن علمهم. وظاهرهم عن باطنهم. وصمتهم عن حكمة منطقهم. لا يخالفون الحق ولا يختلفون عليه. وهم دعائم الإسلام. وولائج الاعتصام " (4).

ومن الطبيعي أن النص ورواية شعر المجون لا مجال لهما في هذه المساحة الزمنية والمكانية. ومن الطبيعي أن توجيه الدعوة للبحث يقتضي عودة الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولقد حث الإمام على تدارس الحديث وقال: " تزاوروا وتدارسوا الحديث ولا تتركوه يدرس (أي اقرأوه

____________

(1) ابن أبي الحديد 203 / 3.

(2) ابن أبي الحديد.

(3) ابن أبي الحديد 247 / 3.

(4) ابن أبي الحديد 287 / 4.

الصفحة 489
وتعهدوه لئلا تنسوه) (1)، وحذر الإمام من خلط الحديث بما كان يجري بالساحة من فعل وخلافة. فقال: " تعلموا العلم. فإذا علمتموه فاكظموا عليه. ولا تخالطوه بضحك وباطل فتمحه القلوب (2) وزيادة في الاحتياط رد كل علم إلى عالمه حتى لا تخترق الرواية فقال ": إذا قرأت العلم على العالم فلا بأس أن ترويه عنه " (3)، ثم بشر الذين يروون الحديث فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم ارحم خلفائي (ثلاث مرات) قيل يا رسول الله: ومن خلفاؤك؟ قال: الذين يأتون من بعدي ويروون أحاديثي ويعلمونها للناس " (4).

أما بخصوص انسحاب القص روي عن أبي البحتري: قال: دخل علي بن أبي طالب المسجد، فإذا رجل يخوف. فقال: ما هذا؟ قالوا: رجل يذكر الناس. فقال: ليس برجل يذكر الناس. ولكنه يقول: أنا فلان بن فلان اعرفوني. فأرسل إليه. فقال: أتعرف الناسخ من المنسوخ، قال: لا، فقال أمير المؤمنين: فاخرج من مسجدنا ولا تذكر فيه (5).

وروى مسدد بسند صحيح عن سعيد بن هند. أن عليا مر بقاص فقال: ما يقول؟ قالوا: يقص، قال: لا ولكن يقول اعرفوني (6)، وعن أبي يحيى قال: مر علي وأنا أقص فقال: هل عرفت الناسخ من المنسوخ؟ قلت: لا، قال: أنت أبو اعرفوني " (7).

والسياسة الإعلامية (إعرفوني) هي التي تقدم الناس إلى العامة بعد أن تنسج حولهم خيوطا براقة كما ساعدت على إيجاد شخصيات خرافية وقصص خرافية تخدم مصالح معينة. وكما انسحب القص انسحب شعر الجاهلية والأديرة

____________

(1) الخطيب (كنز العمال 304 / 10).

(2) عبد الله بن الإمام أحمد والخطيب (كنز العمال 304 / 10).

(3) المرهبي (كنز العمال 294 / 10).

(4) الطبراني والخطيب والديلمي وابن النجار (كنز العمال 295 / 10).

(5) العسكري والمرزوي (كنز العمال 281 / 10).

(6) مسدد (كنز العمال 282 / 10).

(7) المرزوي (كنز العمال 281 / 10).

الصفحة 490
والخمور، وروى ابن أبي الحديد. أن عليا كان يأمر بمحاربة شعراء أهل الشام الذين يروجون شعر الأديرة، وروى أن كعب بن جعيل عندما شرب الخمر وأقام علي بن أبي طالب عليه الحد. غضب ولحق بمعاوية وهجا عليا " (1)، ولما كانت الخمور زادا للشعراء والقصاصين فإن أمير المؤمنين حرق مركز صناعتها وذلك فيما رواه ربيعة بن زكار قال: نظر علي بن أبي طالب إلى قرية. فقال: ما هذه القرية؟ قالوا: قرية تدعى زرارة يلحن فيها ويباع فيها الخمر. فأتاها بالنيران وقال: إضرموها: فإن الخبيث يأكل بعضه بعضا. فاحترقت (2)، وكان علي رضي الله عنه يوصي الشعراء بتعلم القرآن.

وإذا كانت الإصلاحات العلوية قد شملت عزل الأمراء والتسوية في الأموال والرحمة بالإنسان والحيوان والعودة إلى رواية العلم كما كان على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم فإن هذه الإصلاحات فتحت على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أبوابا دخلت منها أصناف من الصدود. فنبلاء قريش وطبقتها العليا منهم من وجد أن عليا ساوى بينه وبين الطبقة السفلى فتحركت فيهم مشاعر لا تختلف كثيرا عن مشاعر الذين شعروا بالضجر يوم أن ساوى الرسول صلى الله عليه وسلم بينهم وبين بلال وخباب وعمار وغيرهم. وهؤلاء إما فروا إلى معاوية في الشام وإما تفرغوا للكيد داخل القوات الإسلامية العلوية. ومنهم من وجد أن عودة الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ستظهر فضل علي بن أبي طالب لا محالة وستدين أطرافا أخرى بصورة من الصور فوجدوا أن السبيل لقطع هذا الطريق هو تشكيك الناس في علي بن أبي طالب بأنه ليس وحده من أهل البيت وأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من أهل البيت أيضا ولهن ماله وعليهن ما عليه وأن خروجه على إحداهن هو شق لصف أهل البيت. والذين ذهبوا إلى هذا المسلك استندوا على عمق مساحة اللارواية وما ترتب عليها من نسيان أو تناس للرواية فضلا على وجود جيل كامل في الأمصار

____________

(1) ابن أبي الحديد 799 / 1.

(2) أبو عبيد (كنز العمال 504 / 5).

الصفحة 491
لم يسمع من النبي ولم يره وكثير منهم استمد علومه من فقهاء الأمراء وهي علوم لن تنصف علي بن أبي طالب في أكثر الأحوال.

ومنهم أيضا من كان يطمع في الكرسي بعد أن مهد يوم الشورى الطريق له كي يحلم بهذه الأحلام. ومن الأصناف الذين وجدوا في الاصلاح العلوي عقبة في طريقهم. صنف عمل على امتداد تاريخه في الجاهلية والإسلام من أجل الملك وحده. وذلك بعد استحواذ بني هاشم على مفاخر قريش في الجاهلية واختيار الله لهم في الإسلام. فهذه الأمور أصابت أطرافا أخرى بعقدة النقص.

ولو ردوا كل شئ إلى الله ما أصابتهم هذه العقد.

ونرى قبل تسليط الضوء على هذه الأمور أن نلقي نظرة سريعة على القيادة التي قامت بهذه الإصلاحات لنرى هل القيادة كانت تعمل من أجل الكرسي. أم أن المال مطلبها. أم أنها كانت قيادة الحجة. قيادة الزهد رداؤها وسيفها هو سيف الزهد ابتغاء وجه الله.

3 - العالم العامل الزاهد:

يقول الإمام الزاهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه: " إني متكلم بعدة الله وحجته. قال الله تعالى: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة. أن لا تخافوا ولا تحزنوا...)، وقد قلتم: " ربنا الله " فاستقيموا على كتابه. وعلى منهاج أمره. وعلى الطريقة الصالحة من عبادته. ثم لا تمرقوا منها.

ولا تبتدعوا فيها (1). ولا تخالفوا عنها. فإن أهل المروق منقطع بهم عند الله يوم القيامة " (2)، وقال: " فالله الله معشر العباد. وأنتم سالمون في الصحة قبل السقم.

وفي الفسحة قبل الضيق. فاسعوا فكاك رقابكم. من قبل أن تغلق رهائنها.

اسهروا عيونكم. وأضمروا بطونكم. واستعملوا أقدامكم. وأنفقوا أموالكم.

وخذوا من أجسادكم فجودوا بها على أنفسكم. ولا تبخلوا بها عنها. فقال قال

____________

(1) أي لا تحدثوا ما لم يأت به الكتاب والسنة.

(2) ابن أبي الحديد 385 / 3.

الصفحة 492
الله سبحانه: (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) (1)، وقال تعالى: (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم) (2)، فلم يستنصركم من ذل. ولم يستقرضكم من قل. استنصركم وله جنود السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم. واستقرضكم وله خزائن السماوات والأرض وهو الغني الحميد.

وإنما أراد أن يبلوكم أيكم أحسن عملا. فبادروا بأعمالكم تكونوا مع جيران الله في داره. رافق بهم رسله. وأزارهم ملائكته. وأكرم أسماعهم أن تسمع حسيس نار أبدا. وصان أجسادهم أن تلقى لغوبا ونصبا: " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم " (3).

مما سبق يتبين أن المتكلم حجة. همته بالله وشغله فيه وفراره إليه. وكان الإمام يقول مخاطبا ساحة عريضة اكتنز فيها الذهب والفضة " لطلب المال والثروة أسرع من خراب دين الرجل من ذئبين ضاريين باتا في حظيرة غنم. ما زالا فيها حتى أصبحا (4)، وقال: " الزهد كله بين كلمتين من القرآن ". قال الله سبحانه:

* (لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم) (5)، ومن لم يأس على الماضي ولم يفرح بالآتي فقد أخذ الزهد بطرفيه " (6)، وقال: " فلا تنافسوا في عز الدنيا وفخرها. ولا تعجبوا بزينتها ونعيمها. ولا تجزعوا من ضرائها وبؤسها.

فإن عزها وفخرها إلى انقطاع. وزينتها ونعيمها إلى زوال. وضراءها وبؤسها إلى نفاد. وكل مدة فيها إلى انتهاء. وكل حي فيها إلى فناء. أو ليس لكم في آثار الأولين مزدجر. وفي آبائكم الأولين تبصرة ومعتبر إن كنتم تعقلون. أولم تروا إلى الماضين منكم لا يرجعون. وإلى الخلف الباقين لا يبقون. أو لستم ترون أهل الدنيا يمسون ويصبحون على أحوال شتى: فميت يبكي. وآخر به يعزي

____________

(1) سورة محمد: الآية 7.

(2) سورة الحديد: الآية 11.

(3) ابن أبي الحديد 454 / 3.

(4) رواه العسكري في المواعظ (كنز العمال 718 / 3).

(5) سورة الحديد: الآية 23.

(6) ابن أبي الحديد 795 / 3.

الصفحة 493
وصريع مبتلي. وعائد يعود وآخر بنفسه يجود. وطالب للدنيا الموت يطلبه.

وغافل وليس بمغفول عنه.. " (1)، وقال: " أوصيكم عباد الله بتقوى الله الذي ضرب الأمثال، ووقت لكم الآجال. وألبسكم الرياش (2). وأرفغ لكم المعاش (3). وأحاط بكم الاحصاء، وأرصد (4) لكم الجزاء. وآثركم بالنعم السوابغ، والرفد الروافغ (5). وأنذركم بالحجج البوالغ (6). فأحصاكم عددا.

ووظف لكم مددا. وفي قرارة خبرة. ودار عبرة. وأنتم مختبرون فيها.

ومحاسبون عليها " (7).

فهكذا كان أمير المؤمنين يخاطب رقعة واسعة عليها العديد من النبلاء.

وكان أمير المؤمنين خير قدوة لسياسة الدنيا والآخرة. يقول الشعبي: دخلت الكوفة وأنا غلام. فإذا أنا بعلي بن أبي طالب قائما على صبرتين (8) من ذهب وفضة. ومعه محففة. وهو يطرد الناس بمحففته. ثم يرجع إلى المال فيقسمه.

بين الناس. حتى لم يبق منه شيئا. ثم انصرف ولم يحمل إلى بيته قليلا ولا كثيرا. فرجعت إلى أبي فقلت له: لقد رأيت اليوم خير الناس أو أحمق الناس.

قال: من هو يا بني؟ قلت: علي بن أبي طالب أمير المؤمنين. رأيته يصنع كذا.

فقصصت عليه، فبكى أبي وقال: يا بني بل رأيت خير الناس (9)، وروى ابن كثير عن ابن عنترة عن أبيه قال: دخلت على علي بن أبي طالب وعليه قطيفة وهو يرعد من البرد. فقلت: يا أمير المؤمنين. إن الله قد جعل لك ولأهل بيتك نصيبا في هذا المال وأنت ترعد من البرد. فقال: إني والله لا أرزأ من مالكم شيئا. وهذه

____________

(1) ابن أبي الحديد 632 / 2.

(2) الرياش / اللباس.

(3) أرفغ / أي واسعا خصبا.

(4) أرصد / أي أعد.

(5) الرفد الروافغ / الواسعة.

(6) أي الظاهرة المبنية.

(7) ابن أبي الحديد 429 / 2.

(8) أي ما جمع بلا كيل ولا وزن.

(9) ابن أبي الحديد 414 / 1.

الصفحة 494
القطيفة هي التي خرجت بها من بيتي - أو قال - من المدينة (1)، وروى أن عليا قال: أيها الناس والله الذي لا إله إلا هو ما رزأت من مالكم قليلا ولا كثيرا إلا هذه. وأخرج قارورة من كم قميصه فيها طيب وقال: أهداها إلي داهقان (2) وروى أنه كان يختم على الجراب الذي فيه دقيق الشعير الذي يأكل منه. ويقول:

لا أحب أن يدخل بطني إلا ما أعلم (3)، وروى أنه لم يبن آجرة على آجرة ولا لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة وكان يأتي بحبوية من المدينة في جراب ليأكل منها (4) وروى أنه كان يكنس بيت المال كل جمعة ويصلي فيه ركعتين ويقول:

ليشهد لي يوم القيامة (5).

والإمام علي بن أبي طالب لم يطالب بفدك وهي حقه. ليس لأن الزمان كان زمان ثورة على المال والذهب والفضة ومطالبته بها سيفتح عليه أبوابا. وإنما لأن فدك كانت ابتلاء لعصر. وإذا كان الإمام لم يأخذ حقه ومفتاح بيت المال في يده. فهو أيضا لم يطالب بفدك وهو على رأس السلطة. وذلك لأنه كان يتعامل مع الأحداث من باب إقامة الحجة ووفقا لمتطلبات الدعوة أما عن أمواله روى أنه قال: " بلى كانت في أيدينا فدك. من كل ما أظلته السماء. فشحت عليها نفوس قوم. وسخت عنها نفوس أخرين. ونعم الحكم الله. وما أصنع بفدك وغير فدك " (6)، وشرح ابن أبي الحديد كلام الإمام فقال: أبي لا مال لي. ولا اقتنيت فيما مضى مالا. وإنما كانت في أيدينا فدك. فشحت عليها نفوس قوم (أي نحلت) وسخت عنها نفوس آخرين. (أي سامحت واغضت)، ثم بين الإمام بعد ذلك. أن تقلله واقتصاره من المطعم والملبس على الجشب والخشن رياضة لنفسه. وأنه يعمل ذلك خوفا من الله. فالرياضة هنا هي رياضة في الحقيقة

____________

(1) البداية والنهاية 3 / 8.

(2) رواه مسدد والحاكم (كنز العمال 168 / 13).

(3) الكامل 201 / 3.

(4) الكامل 201 / 3.

(5) الإمام أحمد في الزهد (كنز العمال 182 / 13).

(6) ابن أبي الحديد 823 / 4.

الصفحة 495
بالتقوى لا بنفس التقلل والتقشف. لتأتي نفسه آمنة يوم الفزع الأكبر وتثبت في مداحض الزلق (1).

وهكذا ترك الإمام الذي له. وعلى مقربة منه جاء قوم ليأخذوا ما ليس لهم. ليكون الذي للإمام حجة عليهم ولقد رأينا مما سبق بعض معالم الحكومة الدينية التي تفتح أبواب التوبة فترسى قواعد حرية الإنسان مما يتوافق مع فطرته التي فطره الله عليها. ولقد رأينا أن الإمام لم يفرض نفسه ولم يهدد معارضيه.

ونشر العلم ولم يتصد للقصاصين وغيرهم بقوة السلاح وإنما بقوة الحجة. ولم يبعث العمال على الأمصار لهدف جمع الأموال وإنما ليكونوا دعاة رحمة يستظل بها الإنسان والحيوان. وكان الإمام أمام هذه المساحة الطويلة والعريضة قدوة ومثل أعلى للعامة والخاصة.

____________

(1) ابن أبي الحديد 824 / 4.

الصفحة 496

الصفحة 497

ثانيا - البغاة والقمر

بعد مقتل عثمان انطلق النعمان بن بشير بقميص عثمان إلى معاوية. وفي الشام بدأ إعلام معاوية يعبأ الناس حول القميص. وعندما اطمئن معاوية لنتيجة سياسته الإعلامية. روى ابن كثير أنه بعث رجلا فدخل على علي بن أبي طالب.

وعندما قال له علي: ما وراءك؟ قال: جئتك من عند قوم لا يريدون إلا القود.

كلهم موتور. تركت سبعين ألف شيخ يبكون تحت قميص عثمان وهو على منبر دمشق. فقال علي: اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان (1).

لقد كانت هذه رسالة مبكرة من معاوية بعد أن أراد أمير المؤمنين عزله من على الشام. وبدأ إعلام بني أمية يبث في الأمصار أن عثمان قتل مظلوما وأن عليا اشترك في دمه. وعندما علم أمير المؤمنين بهذا قال: " أولم ينه بني أمية علمها عن قرفي؟ أو ما وزع الجهال سابقتي عن تهمتي؟ ولما وعظمهم الله به أبلغ من لساني. أنا حجيج المارقين. وخصيم الناكثين المرتابين. وعلى كتاب الله تعرض الأمثال. وبما في الصدور نجازي العباد قال ابن أبي الحديد ومعناه: أما كان في علم بني أمية بحالي ما ينهاها عن قرفي بدم عثمان. وذكر أن علمهم بها يقتضي ألا يقرفوه بذلك. وحاله التي يعلمها بنو أمية. هي منزلته في الدين التي لا منزلة

____________

(1) البداية والنهاية 230 / 7.

الصفحة 498
أعلى منها. وما نطق به الكتاب الصادق من طهارته وطهارة بنيه وزوجته في قوله: " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا " وأيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى " وذلك يقتضي عصمته عن الدم الحرام كما أن هارون معصوم عن مثل ذلك... فكيف ساغ لأعداء أمير المؤمنين. مع علمهم بمنزلته العالية في الدين التي لم يصل إليها أحد من المسلمين. أن يطلقوا ألسنتهم فيه وينسبوه إلى قتل عثمان أو الممالاة عليه. لاسيما وقد ثبت عندهم أنه كان من أنصاره لا من المجلبين عليه. ثم قال: إن الذي وعظهم الله تعالى به في القرآن. من تحريم الغيبة والقذف وتشبيه ذلك بأكل لحم الميت أبلغ من وعظى لهم. لأنه لا عظة أبلغ من عظة القرآن. ثم قال: أنا حجيج المارقين وخصيم المرتابين يوم القيامة وروي عنه أنه قال: أنا أول من يجثوا للحكومة بين يدي الله تعالى "، ثم أشار إلى ذلك بقوله: على كتاب الله تعرض الأمثال. يريد بذلك قوله تعالى: (هذان خصمان اختصموا في ربهم) (1)، ثم قال: إن كنت قتلت عثمان أو مالأت عليه. فإن الله سبحانه سيجازيني بذلك. وإلا فسوف يجازى بالعقوبة والعذاب من اتهمني به ونسبني إليه (2).

لقد أرادوا باتهام أمير المؤمنين في دم عثمان أمورا منها: إخراجه من دائرة التطهير التي ستظهرها رواية الحديث في عهده، وهم يريدون إخراجه من هذه الدائرة ليسهل عليهم مواجهته وتعبئة العامة من حولهم على اعتبار أنهم أولياء عثمان والأحق به. أي يجردونه من الرداء الذي وضعه عليه الله ورسوله. بينما يكون على أبدان بني أمية رداء تأويل قوله تعالى: (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل) (3)، فيكونون هم في دائرة الدين. ويكون أمير المؤمنين واحدا من الناس حرص على الحكم ليجعله في أعقابه.

____________

(1) سورة الحج: الآية 19.

(2) ابن أبي الحديد 379 / 2.

(3) سورة الإسراء: الآية 33.

الصفحة 499
ولقد بلغ الإعلام الأموي مداه حتى أن الأمر قد التبس عند العديد من الصحابة فهذا زيد من أرقم يقول لأمير المؤمنين علي، أنشدك الله، أنت قتلت عثمان؟ فأطرق الإمام ساعة ثم قال: والذي فلق الحبة. وبرأ النسمة ما قتلت ولا أمرت بقتله (1). وأمام طوفان الإعلام الأموي خطب الإمام علي في الناس فقال:

لو أمرت به لكنت قاتلا. أو نهيت عنه لكنت ناصرا. غير أن من نصره لا يستطيع أن يقول: خذله من أنا خير منه. ومن خذله لا يستطيع أن يقول: نصره من هو خير مني. وأنا جامع لكم أمره. استأثر فأساء الأثرة. وجزعتم فأسأتم الجزع.

ولله حكم واقع في المستأثر والجازع (2). وخلاصة هذا الكلام: أنه فعل ما لا يجوز وفعلتم ما لا يجوز. أما هو فاستأثر فأساء الأثرة. أي استبد بالأمور فأساء في الاستبداد. وأما أنتم فجزعتم مما فعل. أي حزنتم فأسأتم الجزع. لأنكم قتلتموه. وقد كان الواجب عليه أن يرجع عن استئثاره. وكان الواجب عليكم ألا تجعلوا جراءه عما أذنب القتل. بل الخلع والحبس وترتيب غيره في الإمامة. ثم قال: ولله حكم سيحكم به فيه وفيكم (3).

وأما هذه الأحداث طلب منه قوم من أصحابه أن يعاقب من أجلب على عثمان. ولكن من هؤلاء الذين سيعاقبهم الإمام؟ وهناك من مهد ومن أفتى ومن ناصر القتلة ومن خذل المقتول ومن قتل. ولهذا قال الإمام لأصحابه: يا إخوتاه، إني لست أجهل ما تعلمون. ولكن كيف لي بقوة والقوم المجلبون على حد شوكتهم يملكوننا ولا نملكهم!! دهاهم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم والتفت إليهم أعرابكم (4) (لاحظ أن المجلبين هنا ليسوا في جيش الإمام) وهم خلالكم (5) يسومونكم (6) ما شاؤا. وهل ترون موضعا لقدرة على شئ تريدونه؟

____________

(1) رواه الحاكم (المستدرك 106 / 3).

(2) ابن أبي الحديد 363 / 1.

(3) ابن أبي الحديد 365 / 1.

(4) أي انضمت واختلطت بهم.

(5) أي بينكم.

(6) أي يكلفونكم.

الصفحة 500
إن هذا الأمر أمر جاهلية. وإن لهؤلاء القوم مادة. إن الناس من هذا الأمر إذا حرك على أمور: فرقة ترى ما ترون. وفرقة ترى ما لا ترون. وفرقة لا ترى هذا ولا هذا. فاصبروا حتى يهدأ الناس وتقع القلوب مواقعها. وتؤخذ الحقوق مسمحة. فأهدأوا عني (1)، وانظروا ماذا يأتيكم به أمري. ولا تفعلوا فعلة تضعضع قوة (2). وتسقط منه (3). وتورث وهنا (4) وذلة. وسأمسك الأمر ما استمسك وإذا لم أجد بدا فآخر الدواء الكي (5). قال ابن أبي الحديد: واعلم أن هذا الكلام يدل على أنه كان في نفسه عقاب الذين حصروا عثمان والاقتصاص ممن قتله. ولهذا قال: إني لست أجهل ما تعلمون. فاعترف بأنه عالم بوجوب ذلك. واعتذر بعدم التمكن كما ينبغي. وصدق في ذلك. فإن أكثر أهل المدينة أجلبوا عليه... ولا يأمن لو شرع في عقوبة الناس والقبض عليهم. من تجدد فتنة أخرى كالأولى وأعظم. فكان الأصوب في التدبير. والذي يوجبه الشرع والعقل. الامساك إلى حين سكون الفتنة... وكان يأمل أن يطيعه معاوية وغيره وأن يحضر بنو عثمان عنده يطالبون بدم أبيهم. ويعينون قوما بأعيانهم. بعضهم للقتل. وبعضهم للحصار. وبعضهم للتشور. كما جرت عادة المتظلمين إلى الإمام والقاضي. فحينئذ يتمكن من العمل بحكم الله تعالى. ولكن الأمر لم يقع على هذا النحو. وعصى معاوية وأهل الشام. والتجأ ورثة عثمان إليه. وفارقوا أمير المؤمنين. ولم يطلبوا القصاص طلبا شرعيا. وإنما طلبوه مغالبة. وجعلها معاوية عصبية جاهلية. ولم يأت أحد منهم الأمر من بابه. وقد قال أمير المؤمنين لمعاوية فيما بعد: (فأما طلبك قتلة عثمان فادخل في الطاعة. وحاكم القوم إلي أحملك وإياهم على كتاب الله وسنة رسوله... وهذا عين الحق. ومحض الصواب لأنه يجب دخول الناس في طاعة الإمام ثم تقع المحاكمة

____________

(1) أي فاسكتوا.

(2) أي تضعف وتهد.

(3) منة / القوة.

(4) وهن / ضعف.

(5) ابن أبي الحديد 339 / 1، الطبري حوادث عام 35.

الصفحة 501
إليه (1). ولكن بني أمية ما كانوا يريدون حقا لأن الحق وضعهم ورفع غيرهم.

وجوهر الأمر لم يكن قتلة عثمان وإنما الملك وكان الإمام علي يعلم هذا ولهذا قال: " وسأمسك الأمر ما استمسك. فإذا لم أجد بدا فآخر الدواء الكي " أي: أمسك نفسي عن محاربة هؤلاء الناكثين للبيعة ما أمكنني وأدفع الأيام بمراسلتهم وتخويفهم وإنذارهم. واجتهد في ردهم إلى الطاعة بالترغيب والترهيب. فإذا لم أجد بدا من الحرب. فآخر الدواء الكي. أي الحرب. لأنها الغاية التي ينتهي أمر العصاة إليها.

لقد كان الإمام يعلم أن هؤلاء هدفهم الحكم وليس قميص عثمان إلا رمزا وشعارا، ولهذا قال: لو أعلم أن بني أمية يذهب ما في نفوسها. لحلفت لهم خمسين يمينا مردودة بين الركن والمقام. أني لم أقتل عثمان. ولم أمال على قتله (2) وقال: " أما بنو أمية هيهات هيهات أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لو كان الملك من وراء الجبال. ليثبوا عليه حتى يصلوا " (3)، والإمام قال ذلك لأنه سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخبر بالغيب عن ربه جل وعلا.

فعن ثروان قال: كنا جلوسا في المسجد. فمر علينا عمار بن ياسر. فقلنا له:

حدثنا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتنة. فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يكون بعدي قوم يأخذون الملك. يقتل عليه بعضهم بعضا. قلنا له: لو حدثنا غيرك ما صدقناه قال: فإنه سيكون (4) فالملك لو كان من وراء الجبال لوثب عليه بنو أمية. ولا يقتلون عليه من خالفهم إن كان من غيرهم فقط. وإنما يقتلون أيضا بعضهم بعضا عليه.

وفي نص سابق علمنا أن الإمام عليا أخذ على نفسه أن يراسل القوم

____________

(1) ابن أبي الحديد 340 / 3.

(2) اللالكائي (كنز العمال 91 / 13).

(3) ابن عساكر (كنز العمال 364 / 11).

(4) رواه أحمد (الفتح الرباني 24 / 23) وقال الهيثمي رواه أحمد والطبراني وأبو يعلى ورجاله ثقات (الزوائد 292 / 7).

الصفحة 502
وينذرهم ويجتهد في ردهم إلى الطاعة. وقد فعل رضي الله عنه ذلك ليقيم على الظالمين الحجة أمام الله جل وعلا. وروى أنه كتب إلى معاوية: " أما بعد. فقد علمت إعذاري فيكم. وإعراضي عنكم. حتى كان ما لا بد منه ولا دفع له.

والحديث طويل. والكلام كثير. وقد أدبر ما أدبر. وأقبل ما أقبل. فبايع من قبلك. وأقبل إلي في وفد من أصحابك " (1)، لقد أقام الحجة وهو يعلم أن معاوية له يبايع. وكيف يبايع وعينه طامحة إلى الملك والرئاسة منذ أمره عمر على الشام. ومن خلفه وصية أمه وأبيه. وكيف يطيع عليا وبين علي بن أبي طالب وبين النبي صلى الله عليه وسلم مساحة واسعة من اللارواية ومساحة أوسع من القص وعليها من المحرضين على علي أكثر من عدد الحصى ويكفي الوليد بن عقبة الذي بعث إلى معاوية يقول:

فوالله ما هند بأمك إن مضى * النهار ولم يثأر بعثمان ثائر
أيقتل عبد القوم سيد أهله * ولم تقتلوه ليت أمك عاقر

يقول ابن أبي الحديد: وتالله لو سمع هذا التحريض أجبن الناس وأضعفهم نفسا وأنقصهم همه لحركه وشحذ من عزمه فكيف معاوية. وقد أيقظ الوليد بشعره من لا ينام (2) ولم يكتف أمير المؤمنين برسالة واحدة إلى معاوية. وإنما بعث إليه بأكثر من رسالة بعد بيعته بخصوص دم عثمان. وفي رسالة قال له:

ولعمري يا معاوية. لئن نظرت بعقلك دون هواك. لتجدني أبرأ الناس من دم عثمان. ولتعلمن أني كنت في عزله عنه. إلا أن تتجنى. فتجن ما بدا لك.

والسلام (3).

ولم يكف الإعلام الأموي عن الباطل بل بعث إلى مكة وبقية الأمصار بمن يحملون إذاعته ويعملون من أجل شق صف الأمة.

وفي هذا الوقت استأذن طلحة والزبير عليا في العمرة فأذن لهما فلحقا

____________

(1) ابن أبي الحديد 247 / 5.

(2) ابن أبي الحديد 248 / 5.

(3) ابن أبي الحديد 311 / 4.

الصفحة 503
بمكة (1) وبدأ أهل المدينة يحومون حول أمير المؤمنين، ليعرفوا رأيه في معاوية، وقتال أهل القبلة. أيجسر عليه أم ينكل عنه. ووجد أهل المدينة في زياد بن حنظلة التميمي ضالتهم المنشودة. فدسوا زيادا إلى علي وكان من الذين يدخلون عليه. وذات يوم قال أمير المؤمنين لزياد: يا زياد تيسر. فقال: لأي شئ. فقال الإمام: تغزو الشام فخرج زياد على الناس والناس ينتظرونه.

فقالوا: ما وراءك؟ قال: السيف يا قوم (2) وبدأ الإمام علي يجهز قواته ليضرب الفرقة وطلاب الملك عند المهد وقبل أن يستفحل الأمر. وخطب أهل المدينة.

فدعاهم إلى النهوض في قتال أهل الفرقة. وقال: إن الله عز وجل بعث رسولا هاديا مهديا بكتاب ناطق. وأمر قائم واضح. لا يهلك عنه إلا هالك. وإن المبتدعات والشبهات هن المهلكات. إلا من حفظ الله. وإن في سلطان الله عصمة أمركم. فاعطوه طاعتكم غير ملتوية. ولا مستكره بها. والله لتفعلن أو لينقلن الله عنكم سلطان الإسلام. ثم لا ينقله إليكم أبدا حتى يأرز الأمر إليها.

إنهضوا إلى هؤلاء القوم الذين يريدون يفرقون جماعتكم لعل الله يصلح بكم ما أفسد أهل الآفاق وتقضون الذي عليكم (3)، وبينما كان أمير المؤمنين يحشد القوة لمواجهة أهل الشام (4) جاءه الخبر أن مكة قد هاجت وأن أم المؤمنين عائشة وطلحة والزبير لهم رأي آخر، واشتد على أهل المدينة الأمر!!

1 - ضجيج في أعماق الحجة:

كانت مكة منطلقا للأحداث بين أم المؤمنين عائشة وبين أمير المؤمنين علي، وبالنظر في خطب أمير المؤمنين بعد نكث طلحة والزبير وخروج أم المؤمنين عائشة. ترى أن جميع الخطب تدور على محور واحد هو: "... فإنه لما قبض الله نبيه صلى الله عليه وسلم. قلنا: نحن أهله وورثته وعترته.

____________

(1) ابن أبي الحديد 163.

(2) الطبري 163 / 5.

(3) الطبري 164 / 5.

(4) الطبري 169 / 5.

الصفحة 504
وأولياؤه من دون الناس. لا ينازعنا سلطانه أحد ولا يطمع في حقنا طامع. إذ انبرى لنا قومنا فغصبونا سلطان نبينا. فصارت الإمرة لغيرنا. وصرنا سوقة. يطمع فينا الضعيف. ويتعزز علينا الذليل..... " (1)، وفي جميع هذه الخطب يبين الإمام مبايعة الناس له بعد مقتل عثمان وأن من بين الذين بايعوه طلحة والزبير.

وقد نكثا وغدرا ونهضا إلى البصرة بعائشة ليفرقا الجماعة. والباحث لا يعلم حقيقة الأحداث التي دعت أمير المؤمنين أن يطرح قضية الخلافة في ساحة تواجهه فيها السيدة عائشة. وقبل هذه الأحداث كانت خطب أمير المؤمنين تدور حول الاصلاح وفي قليل منها كان يشيد بأهل البيت.

والذي يمكن أن يؤكده البحث العلمي هو أن علاقة السيدة عائشة بأمير المؤمنين لم تكن على المستوى المطلوب وهذه العلاقة كان النبي صلى الله عليه وسلم يقيم عليها الحجة في عهده لما سيترتب عليها. من ذلك ما رواه ابن حجر عن معاذة الغفارية قالت: كنت أخرج مع رسول الله في الأسفار. أقوم على المرضى، وأداوي الجرحى. فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت عائشة وعلي خارج من عندها. فسمعته يقول لعائشة: إن هذا أحب الرجال إلي وأكرمهم علي فاعرفي له حقه وأكرمي مثواه " (2)، وعن رافع مولى عائشة قالت:

كنت غلاما أخدمها إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عندها. وإنه قال:

" عادى الله من عادى عليا " (3). وكانت السيدة عائشة تعلم علم اليقين موضع علي وفاطمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فعن النعمان قال: إستأذن أبو بكر صلى الله عليه وسلم. فسمع صوت عائشة عاليا وهي تقول: والله لقد عرفت أن عليا وفاطمة أحب إليك مني ومن أبي - مرتين أو ثلاثا - فاستأذن أبو بكر فأهوى إليها فقال: " يا بنت فلانة لا أسمعك ترفعين صوتك على رسول الله صلى الله عليه وسلم " (4).

____________

(1) راجع هذه الخطب في ابن أبي الحديد 248 / 1 وما بعدها.

(2) الإصابة 183 / 8.

(3) أخرجه ابن منده بسند صحيح (الإصابة 191 / 2).

(4) رواه الإمام أحمد وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح (الفتح الرباني 4 / 275) (الزوائد

الصفحة 505
فالنبي صلى الله عليه وسلم أقام الحجة في هذا الأمر. والسيدة عائشة عرفت بهذه الحجة وأقرت. والملاحظ أن العلاقة بين السيدة عائشة وبين أمير المؤمنين علي لم تتقدم بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فعندما ذكر عندها: هل أوصى النبي صلى الله عليه وسلم إلى علي؟ قالت: ما قاله؟ (1)، ثم أخبرت بأن الرسول توفي بين سحرها ونحرها وقال: فمتى أوصى؟ ولقد بينا من قبل أن هناك طائفة من الأحاديث الصحيحة أيضا تقول بأن النبي صلى الله عليه وسلم توفي وهو مستند إلى صدر علي وهو الذي غسله.

وبعيدا عندما يتعلق بقضية الخلافة. نرى أن السيدة عائشة وهي تصف ذهاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيتها عند مرضه تقول: فخرج وهو بين رجلين تخط رجلاه في الأرض. بين عباس بن عبد المطلب وبين رجل آخر.

الأمر الذي جعل ابن عباس يقول: هل تدري من الرجل الآخر الذي لم تسم عائشة: هو علي " (2)، ومن الدليل على أن العلاقة لم يحدث فيها تقدم على المستوى المطلوب قول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: إنه سيكون بينك وبين عائشة أمر. قال: أنا يا رسول الله! قال: نعم (3).

ولما كانت الدعوة لا تجامل أحدا. فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أصحابه بأن الفتن الكبرى ستكون على أيديهم. وقال: " إني لأرى مواقع الفتن خلال بيوتكم " (4)، ولم يستثن أزواجه من هذا وإنما قال: " لا إله إلا الله ما فتح الليلة من الخزائن. لا إله إلا الله ما أنزل من الفتن. من يوقظ صواحب الحجرات رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة " قال البخاري: " يريد به

____________

= 201 / 9).

(1) رواه البخاري (الصحيح 95 / 3) ك المغازي باب مرض النبي.

(2) البخاري ك المغازي، ب مرض النبي (الصحيح 93 / 3) ومسلم (الصحيح 139 / 4).

(3) رواه الإمام أحمد (المسند 6 / 393) والبزار (كشف الأستار 4 / 94) وقال الهيثمي ورجاله ثقات (الزوائد 234 / 7).

(4) رواه البخاري (الصحيح 322 / 1)، ومسلم (الصحيح 7 / 18).