الصفحة 506
أزواجه " (1)، لقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم الحجة على منطقة الاختيار في الإنسان. وفي علم الله المطلق أن كثيرا من الصحابة لن يلتفتوا إلى هذه الحجة وهذا التحذير، ولكن العلم المطلق يقابله تحذير مطلق. وهذه سنة إلهية جارية منذ أن بعث الله تعالى رسله حتى لا يكون للناس على الله حجة.

والنبي صلى الله عليه وسلم عندما قال لعلي: " سيكون بينك وبين عائشة أمر. بين صلى الله عليه وسلم طريق هذا الأمر لتأخذ السيدة عائشة حذرها إذا سلكت هذا الطريق فقال لنسائه: ليت شعري. أيتكن صاحبة الجمل الأدبب. تخرج فتنبحها كلاب الحوأب. يقتل عن يمينها ويسارها قتلى كثير " (2).

وفي رواية قال لعائشة: إياك يا حميراء (3) وكان عند حذيفة خبر هذه الرحلة. لأنها في علم الله المطلق واقعة لا محالة ووقوعها لا ينفي ولا يقلل من وجود الحجة على بداية الطريق. قال حذيفة لرجل: ما فعلت أمك؟ قال: قد ماتت. فقال: أما إنك ستقاتلها. فعجب الرجل من ذلك حتى خرجت عائشة (4). ونظرا لاتساع وعمق مساحة اللارواية وما نتج عنها. كان حذيفة يقول: لو حدثتكم أن أمكم تغزوكم أتصدقوني؟ قالوا: أو حق ذلك! قال:

حق (5). وكان حذيفة يقول في مساحة اللارواية: لو حدثتكم ما أعلم لافترقتم على ثلاث فرق. فرقة تقاتلني، وفرقة لا تنصرني، وفرقة تكذبني (6). ولهذا اختصر حذيفة الطريق وأوصى الناس بأن يلزموا عمارا لأنه علم أن عمارا لا يفارق عليا. فإن لزموا عمارا لزموا عليا.

____________

(1) رواه أحمد والبخاري والترمذي (الفتح الرباني 34 / 23) (صحيح البخاري ك اللباس 33، 84 / 4)، (جامع الترمذي 488 / 4).

(2) رواه البزار (كشف الأستار 4 / 94) وقال الهيثمي رجاله ثقات (الزوائد 7 / 234).

(3) رواه أبو نعيم بسند صحيح (كنز العمال 334 / 11).

(4) رواه ابن أبي شيبة (كنز العمال 333 / 11).

(5) رواه أبو نعيم وابن عساكر (كنز العمال 218، 333 / 11).

(6) رواه ابن أبي شيبة (كنز العمال 227 / 11).

الصفحة 507
وعلى الرغم من أن مساحة اللارواية قد عتمت على تحذيرات كثيرة وتبشيرات أكثر، إلا أن الحجة كانت قائمة حتى في هذه العتمة. وكان العديد من الصحابة يعلمون أن لهم يوما يبتلون فيه وأن الجمل سيكون علامة ناصعة في هذا اليوم. فعن عمير بن سعيد قال: كنا جلوسا مع ابن مسعود وأبو موسى عنده.

فأخذ الوالي رجلا فضربه وحمله على جمل، فجعل الناس يقولون: الجمل الجمل. فقال رجل: يا أبا عبد الرحمن هذا الجمل الذي كنا نسمع؟ قال: فأين البارقة (1).

فمن هذا كله نستطيع القول بأن الحجة على الأحداث قد قامت على الجيل الأول وذلك في إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بالغيب عن ربه جل وعلا.

ويمكن أن نقول. إن الضجيج الذي حدث في مكة وإن كان مظهره يحمل قميص عثمان. إلا أن جوهره بخلاف ذلك. فالذين نكثوا البيعة أرادوا شق الأمة بوضع السيدة عائشة في أعلى مربع أهل البيت ليقطعوا الطريق على علي بن أبي طالب.

والدليل على ذلك ما حدث أثناء الهياج عندما هب الناس للبحث عن الحقيقة.

فلقد ذهبوا إلى أكابر الصحابة وقتئذ ليعرفوا من هم أهل البيت. روى الإمام مسلم أن يزيد بن حبان وحصين بن سبرة وعمر بن مسلم. ذهبوا إلى زيد بن أرقم فقال له حصين: من أهل بيته يا زيد. أليس نساؤه من أهل بيته. فقال زيد: لا - وفي رواية - نساؤه من أهل بيته ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده " (2)، قال النووي: نساؤه لا يدخلن فيمن حرم الصدقة (3). وسيأتي متابعة حرمة الناس في هذا الوقت في حينه.

ومن الدليل أيضا على أن المقصود من حركة الناكثين الإطاحة بعلي من دائرة أهل البيت. أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن هذا الالتباس سيحدث. وأوصى بعلي. وذلك فيما رواه حذيفة قال: كيف أنتم وقد خرج أهل بيت نبيكم صلى الله عليه وسلم فرقتين. يضرب بعضهم وجوه بعض. قالوا:

____________

(1) رواه الطبراني وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح (الزوائد 237 / 7).

(2) رواه مسلم (الصحيح 179 / 15) في فضل على ما.

(3) النووي شرح مسلم (180 / 15)

الصفحة 508
يا أبا عبد الله. وإن هذا لكائن! وقال بعض أصحابه: فكيف نصنع إن أدركنا ذلك الزمان؟ قال: انظروا الفرقة التي تدعوا إلى أمر علي فإلزموها فإنها على الهدى (1).

وعلى هذا وذاك يمكن القول بأن الناكثين خلطوا الأمور أمام السيدة عائشة. فخرجت للإصلاح ولكنهم ساروا بها في طريق شق الصف. وعندما نبحت عليها كلاب الحوأب. أرادت الرجوع ولكنهم قالوا لها: تقدمي ويراك الناس ويصلح الله عزو جل ذات بينهم (2). وتقدمت السيدة عائشة. ومن ورائها تحذير يخوفها من الشيطان. روى البخاري عن عبد الله قال قال النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا فأشار نحو مسكن عائشة فقال: " ها هنا الفتنة - ثلاث مرات - من حيث يطلع قرن الشيطان " (3)، لقد كانت الأهواء تحيط بمسكن أم المؤمنين. ويريد أصحابها شق الصف أولا: ليبحث كل صاحب هوى عن كرسي له ثانيا: يركب به على أعناق الأمة. ولم تتبين أم المؤمنين هذه الأهواء في وقتها. ولكنها علمت حقيقتها بعد ذلك. فلم تجد رضي الله عنها إلا الدمع تعبر به عن ندم طويل (4). وسنذكر ذلك بتفاصيله في حينه.

2 - الناكثون في أعماق الحجة:

كان الإمام علي يعلم إلى أين ستنتهي الأحداث. أولا: لأن هناك نصا أنه سيقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين. ومن كان هذا شأنه فلا بد أن يعرف البدايات التي ستنتهي إلى ميدان القتال. وثانيا: لأنه كان قد تعلم رؤوس الفتن ورؤوس النفاق، روى أنه قال: " ما من ثلاثمائة تخرج إلا ولو شئت سميت

____________

(1) رواه البزار وقال الهيثمي رجاله ثقات (الزوائد 236 / 7).

(2) رواه الحاكم (المستدرك 120 / 3).

(3) رواه البخاري (فتح الباري حديث رقم 3104، ص 243 / 6 ط الربان)، ومسلم (الصحيح 31 / 18)، والإمام أحمد والترمذي (الفتح الرباني 18 / 24).

(4) ندم السيدة عائشة رواه الطبراني (الزوائد 238 / 7) وابن سعد (الطبقات 74 / 8) والحاكم (المستدرك 6 / 4).

الصفحة 509
سائقها وناعقها إلى يوم القيامة " (1)، وعن حذيفة قال: "... والله ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم من قائد فتنة إلى أن تنقضي الدنيا يبلغ من معه ثلاثمائة فصاعدا إلا قد سماه لنا باسمه واسم أبيه واسم قبيلته " (2). ولأن الإمام يعلم الرجال ومقاصدهم. كانت حركته كلها حجة عليهم. روي أنه بعد قتل عثمان جاء علي بن أبي طالب فقال لطلحة: أبسط يدك يا طلحة لأبايعك. فقال طلحة: أنت أحق وأنت أمير المؤمنين فابسط يدك فبسط علي يده فبايعه (3).

وطلحة كان يطمع في الخلافة. وكان لا يشك أن الأمر بعد عثمان سيكون له لوجوه منها: سابقته. ومنها أنه ابن عم لأبي بكر. وكان لأبي بكر في نفوس أهل ذلك العصر منزلة عظيمة، ومنها أنه كان سمحا جوادا. وقد كان نازع عمر في حياة أبي بكر. وأحب أن يفوض أبو بكر الأمر إليه من بعده (4). وقال لأبي بكر: ما تقول لربك وقد وليت علينا فظا غليظا. وكان له في أيام عمر قوم يجلسون إليه. ويحادثونه سرا في معنى الخلافة. ويقولون له: لو مات لبايعناك بغتة. وعندما بلغ ذلك عمر. خطب الناس بالكلام المشهور: إن قوما يقولون:

إن بيعة أبي بكر كانت فلتة. وإنه لو مات عمر لفعلنا وفعلنا... " (5) وعندما جعلها عمر شورى لم يجد طلحة لنفسه مخرجا للفوز بالخلافة. حيث إن الشورى ما كانت لتصب إلا في إناء بني أمية لأن عثمان و عبد الرحمن وسعدا حزمة واحدة. بالإضافة إلى أن وجود عبد الرحمن في فريق يرجح هذا الفريق على الفريق الآخر كما نصت لائحة الشورى. ورضي طلحة بالأمر الواقع حتى جاءت الأحداث التي أطاحت بعثمان. وكما رأينا أنه كان من المؤلبين عليه واستولى على مفتاح بيت المال أثناء هذه الثورة. لأنه كان لا يشك في أن الأمر سيصب في سلته. ومن العجيب أن أم المؤمنين عائشة كانت على علم بهذه

____________

(1) رواه نعيم بن حماد بإسناد صحيح (كنز العمال 271 / 11).

(2) رواه أبو داوود حديث 4222.

(3) الطبري 156 / 5.

(4) ابن أبي الحديد 146 / 3.

(5) الطبري 200 / 3.

الصفحة 510
الأحداث وهي في مكة. روي أن ابن عباس مر بها في الصلصل. فقالت: يا ابن عباس أنشدك الله. فإنك قد أعطيت لسانا إزعيلا (1). أن تخذل عن هذا الرجل - يعني عثمان - وأن تشكك فيه الناس. فقد بانت لهم بصائرهم. وأنهجت ورفعت لهم المنار. وتحلبوا من البلدان لأمر قد جم وقد رأيت طلحة بن عبيد الله. قد اتخذ على بيوت الأموال والخزائن مفاتيح. فإن يل يسر بسيرة ابن عمه أبي بكر رضي الله عنه. فقال ابن عباس: يا أمه لو حدث بالرجل حدث. ما فزع الناس إلا إلى صاحبنا - يعني عليا - فقالت: إيها عنك. إني لست أريد مكابرتك ولا مجادلتك " (2). وعندما بلغها قتل عثمان قالت: أحق الناس بهذا الأمر لذي الإصبع - تعني طلحة - فلما جاءت الأخبار ببيعة علي قالت: تعسوا تعسوا لا يردون الأمر في تيم أبدا " (3). فهذا الطريق الطويل أقام الإمام علي عليه الحجة في أوله عندما قال لطلحة: أبسط يدك يا طلحة لأبايعك. وذلك ليقطع طريق الهوى (4). وهو يعلم أن طريق الهوى سيصب في ميدان القتال حيث يكون قتاله مع الناكثين. وليس معنى قتال الناكثين أن الحجة لم تقم عليهم في أول الطريق.

وإنما قامت لأن الطريق سيكون عليه دماء. وهذه الدماء لها قانون. وهذا القانون تنيره حجة ظاهرة ناصعة.

وروي أن طلحة والزبير سألا علي بن أبي طالب أن يؤمرهما على الكوفة والبصرة. وكانا لهما أتباع فيهما. فقال علي: " تكونان عندي. فأتحمل بكما، فإني وحش لفراقكما " (5). وروى ابن قتيبة. أنهما قالا: ولكنا بايعناك على أنا شريكان في الأمر. فقال علي لا. ولكنكما شريكان في القوة والاستقامة والعون

____________

(1) ابن أبي الحديد.

(2) الطبري 140 / 5، البلاذري 217 / 2.

(3) ابن أبي الحديد 409 / 2.

(4) روي أن طلحة والزبير قالا بعد أن قال لهما على ذلك: عرفنا أنه لم يكن ليبايعنا (الطبري 153 / 5).

(5) الطبري 153 / 5.

الصفحة 511
على العجز والأود " (1)، وبقي طلحة والزبير في المدينة أربعة أشهر يراقبان عليا من قريب (2).

لقد كان طلحة يعلم أنه لن يكون له في ظل عهد أمير المؤمنين إلا ما يستحقه. ولذلك قال بعد أن بايع الناس عليا " ما لنا من هذا الأمر إلا كلحسة أنف الكلب " (3)، وفي هذا اليأس جاءته رسالة من معاوية وفيها: أما بعد. فإنك أقل قريش وترا. مع صباحة وجهك. وسماحة كفك. وفصاحة لسانك. فأنت بإزاء من تقدمك في السابقة. وخامس المبشرين بالجنة. ولك يوم أحد وشرفه وفضله. فسارع رحمك الله إلى ما تقلدك الرعية من أمرها مما لا يسعك التخلف عنه. ولا يرضى الله منك إلا بالقيام به. فقد أحكمت لك الأمر قبلي. والزبير متقدم عليك بفضل. وأيكما قدم صاحبه فالمقدم الإمام. والأمر من بعده للمقدم له. سلك الله بك قصد المهتدين. ووهب لك رشد الموفقين. والسلام " (4).

ولم يكن طلحة وحده الذي أرسل إليه معاوية الرسالة الفخ. وإنما أرسل إلى الزبير أيضا. وفيها:... واعلم يا أبا عبد الله. أن الرعية أصبحت كالغنم المتفرقة لغيبة الراعي. فسارع رحمك الله إلى حقن الدماء ولم الشعث. وجمع الكلمة. وصلاح ذات البين. قبل تفاقم الأمر وانتشار الأمة. فقد أصبح الناس على شفا جرف هار وعما قليل ينهار إن لم يرأب. فشمر لتأليف الأمة. وابتغ إلى ربك سبيلا. فقد أحكمت الأمر على من قبلي لك ولصاحبك. على أن الأمر للمقدم. ثم لصاحبه من بعده. جعلك الله من أئمة الهدى. وبغاة الخير والتقوى والسلام " (5).

وبينما لوح لطلحة والزبير بالخلافة. نجده في رسائله إلى مروان بن الحكم وسعيد بن العاص و عبد الله بن عامر والوليد بن عقبة ويعلى بن منبه. يطالب

____________

(1) الإمامة والسياسة 51 / 1.

(2) تاريخ اليعقوبي 127 / 2، ابن أبي الحديد 577 / 3، الطبري 153 / 5.

(3) الطبري 153 / 5.

(4) ابن أبي الحديد 533 / 3.

(5) ابن أبي الحديد 533 / 3.

الصفحة 512
بالحذر والسهر حتى لا يفلت الأمر من أيدي بني أمية. فهو يقول لمروان: فإذا قرأت كتابي هذا فكن كالفهد لا يصطاد إلا غيلة. ولا يتشازر إلا عن حيلة.

وكالثعلب لا يفلت إلا روغانا. واخف نفسك منهم إخفاء القنفذ رأسه عند لمس الأكف. وامتهن نفسك إمتهان من ييأس القوم من نصره وانتصاره وابحث عن أمورهم بحث الدجاجة عن حب الدخن عند فقسها. وأنغل (1) الحجاز فإني منغل الشام والسلام " (2).

وكتب إلي يعلى بن منبه،... فأما الشام فقد كفيتك أهلها. وأحكمت أمرها. وقد كتبت إلى طلحة بن عبيد الله. أن يلقاك بمكة. حتى يجتمع رأيكما على إظهار الدعوة والطلب بدم عثمان أمير المؤمنين المظلوم. وكتبت إلى عبد الله بن عامر يمهد لكم العراق. ويسهل لكم حزونة عقابها (3). واعلم يا ابن أمية أن القوم قاصدوك بادئ بدء لاستنطاف ما حوته يداك من المال فاعلم ذلك واعمل على حسبه إن شاء الله " (4).

وكتب إلى سعيد بن العاص:... إن أمير المؤمنين عتب عليه فيكم.

وقتل في سبيلكم. ففيم القعود عن نصرته والطلب بدمه. وأنتم بنو أبيه. ذوو رحمه وأقربوه. وطلاب ثأره... فإذا قرأت كتابي هذا فدب دبيب البرء في الجسد النحيف. وسر سير النجوم تحت الغمام... فقد أيدتكم بأسد وتيم " (5).

وكتب إلى عبد الله بن عامر: ساور الأمر مساورة الذئب الأطلس كسيرة القطيع. ونازل الرأي. وانصب الشرك. وارم عن تمكن. وضع الهناء (6) مواضع النقب (7) واجعل أكبر عدتك الحذر. وأحد سلاحك التحريض... وقم قبل أن

____________

(1) أنغلهم / أجملهم على الضعن.

(2) ابن أبي الحديد 533 / 3.

(3) العقاب / المرقى الصعب من الجبال.

(4) ابن أبي الحديد 536 / 3.

(5) ابن أبي الحديد 534 / 3.

(6) هنأ البعير / طلاء بالقطران.

(7) النقب / هو أول ما يبدو من الجرب.

الصفحة 513
يقام لك. واعلم أنك غير متروك ولا مهمل. فإني لكم ناصح أمين... " (1)، ودخل طلحة والزبير في فخاخ بني أمية بعد أن علم معاوية موطن الداء فيهما، وبدأ كل من طلحة والزبير يعد العدة للذهاب إل مكة حيث توجد السيدة عائشة وأذرع بني أمية التي ترتدي قفازات من حرير غمست في السم أياما طويلة.

وعن أم راشد قالت: سمعت طلحة والزبير يقول أحدهما لصاحبه: بايعته أيدينا ولم تبايعه قلوبنا. فقلت لعلي بن أبي طالب فقال: " من نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد الله عليه فسيؤتيه أجرا عظيما " (2)، وجاء طلحة والزبير. فاستأذناه في الخروج إلى مكة للعمرة. فأذن لهما. بعد أن أحلفهما ألا ينقضا بيعته. ولا يغدرا به. ولا يشقا عصا المسلمين ولا يوقعا الفرقة بينهم وأن يعودا بعد العمرة إلى بيوتهما بالمدينة. فحلفا على ذلك كله ثم خرجا " (3).

وروي أنه لما خرج طلحة والزبير إلى مكة وأوهما الناس أنهما خرجا للعمرة.. قال علي لأصحابه: والله ما يريدان العمرة وإنما يريدان الغدرة " ومن نكث فإنما ينكث على نفسه " (4)، وهكذا قامت الحجة في البداية وفي النهاية.

3 - لقاء في مكة:

لما قتل عثمان كانت عائشة بمكة. وبينما هي في طريقها من مكة إلى المدينة لقيها رجل يقال له عبد الله بن أبي سلمة. يعرف بأمه أم كلاب. فقال لها: لا تدري. قتل عثمان. قالت: ثم صنعوا ماذا؟ قال: اجتمعوا على بيعة علي. فقالت: ليت هذه انطبقت على هذه إن تم الأمر لصاحبك، ردوني ردوني.

فانصرفت إلى مكة وهي تقول: قتل والله عثمان مظلوما والله لأطلبن بدمه. فقيل

____________

(1) ابن أبي الحديد 534 / 3.

(2) رواه ابن أبي شيبة (كنز العمال 235 / 11).

(3) ابن أبي الحديد 576 / 3، الطبري 163 / 5.

(4) ابن أبي الحديد 576 / 3.

الصفحة 514
لها: ولم والله إن من أول من أمال حرفه لأنت. ولقد كنت تقولين: اقتلوا نعثلا فقد كفر. قالت: إنهم استتابوه ثم قتلوه. وقد قلت وقالوا. وقولي الأخير خير من قولي الأول فقال لها ابن أم كلاب:

فمنك البداء ومنك الغير * ومنك الرياح ومنك المطر
وأنت أمرت بقتل الإمام * وقلت لنا أنه قد كفر
فهبنا أطعناك في قتله * وقاتله عندنا من أمر (1)

وروي من طرق مختلفة أن عائشة كانت من أشد الناس على عثمان. وهي أول من سمى عثمان نعثلا. وكانت لا تشك في أن طلحة هو صاحب الأمر بعد عثمان. وروي أن عائشة نزلت على باب المسجد. وقصدت للحجر فسترت فيه.

واجتمع الناس إليها فقالت: يا أيها الناس إن الغوغاء من أهل الأمصار وأهل المياه وعبيد أهل المدينة. إجتمعوا إن عاب الغوغاء على هذا المقتول بالأمس الأرب. واستعمال من حدثت سنه، وقد استعمل أسنانهم قبله. ومواضع من مواضع الحمى حماها لهم. وهي أمور قد سبق بها لا يصلح غيرها. فتابعهم ونزع لهم عنها استصلاحا لهم. فلما لم يجدوا حجة ولا عذرا. خلجوا وبادءوا بالعدوان. ونبا فعلهم عن قولهم. فسفكوا الدم الحرام واستحلوا البلد الحرام وأخذوا المال الحرام واستحلوا الشهر الحرام. والله لإصبع عثمان خير من طباق الأرض أمثالهم. فنجاة من اجتماعكم عليهم. حتى ينكل بهم غيرهم. ويشرد من بعدهم. ووالله لو أن الذي اعتدوا به عليه كان ذنبا. لخلص منه كما يخلص الذهب من خبثه " (2). وروى ابن أبي الحديد أن طلحة والزبير كتبا إلى عائشة وهي بمكة كتابا: أن خذلي الناس عن بيعة علي. وأظهري الطلب بدم عثمان.

وحملا الكتاب مع ابن أختها عبد الله بن الزبير " (3).

وبدأت إذاعة المعارضين تعمل من أجل إيجاد رأي عام. واجتمع القوم في

____________

(1) الكامل / ابن الأثير 106 / 3، الطبري 172 / 5.

(2) الطبري 165 / 3، الكامل 106 / 3.

(3) ابن أبي الحديد 409 / 2.

الصفحة 515
بيت أم المؤمنين عائشة، وقالوا: نسير إلى علي بن أبي طالب فنقاتله. فقال البعض: ليس لكم طاقة بأهل المدينة. ولكنا نسير حتى ندخل البصرة والكوفة ولطلحة بالكوفة شيعة وهوى. وللزبير بالبصرة هوى ومعونة. فاجتمع رأيهم على أن يسيروا إلى البصرة (1). وأعلنت عائشة الاتفاق فقالت: أيها الناس إن هذا حدث عظيم وأمر منكر. فانهضوا فيه إلى إخوانكم. من أهل البصرة وأنكروه.

فقد كفاكم أهل الشام ما عندهم - يعني معاوية - لعل الله عز وجل يدرك لعثمان وللمسلمين بثأرهم " (2)، ورفع بنو أمية رؤوسهم. وقام سعيد بن العاص والوليد بن عقبة وسائر بني أمية. وقدم عليهم عبد الله بن عامر من البصرة ويعلى بن أمية - وينسب إلى أمه منبه - من اليمن (3). وجاء طلحة والزبير من المدينة. وكان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قد استحلفهما أن لا يوقعا الفرقة بين المسلمين. فحلفا على ذلك وغيره. وعندما التقت بهما عائشة قالت لهما:

ما وراءكما؟ قالا: فارقنا قوما حيارى لا يعرفون حقا ولا ينكرون باطلا " (4).

وبدأ الإعداد للغزو وقال يعلى بن أمية: معي ستمائة ألف وستمائة بعير فاركبوها. وقال عبد الله بن عامر معي كذا وكذا فتجهزوا به (5). ونادى المنادي:

إن أم المؤمنين وطلحة والزبير شاخصون إلى البصرة. فمن كان يريد إعزاز الإسلام وقتال المحلين. والطلب بثأر عثمان. ولم يكن عنده مركب ولم يكن له جهاز فهذه جهازه وهذه نفقته " (6)، وكان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في مكة وقتئذ. وانطلق القوم إلى أم المؤمنين حفصة يسألونها رأيها في الأحداث فقالت: رأيي يتبع لرأي عائشة، وأرادت حفصة الخروج. فأتاها عبد الله بن عمر وطلب منها أن تقعد. فبعثت إلى عائشة أن عبد الله حال بيني وبين الخروج

____________

(1) الطبري 168 / 5.

(2) الطبري 167 / 5.

(3) الطبري 166 / 5.

(4) الطبري 166 / 5.

(5) الطبري 166 / 5.

(6) الطبري 167 / 5، البداية والنهاية 231 / 7.

الصفحة 516
فقالت عائشة: يغفر الله لعبد الله " (1).

وبدأ التحرك. وذكر الطبري: أن مروان بن الحكم أذن للصلاة حين خرجوا من مكة. ثم جاء إلى طلحة والزبير وقال: على أيكما أسلم بالإمرة وأؤذن بالصلاة؟ فقال عبد الله بن الزبير: علي أبي عبد الله. وقال محمد بن طلحة: علي أبي محمد. فأرسلت عائشة إلى مروان وقالت: ما لك أتريد أن تفرق أمرنا.

ليصل ابن أختي!! فكان يصلي بهم عبد الله بن الزبير حتى قدم إلى البصرة (2).

وبينما الركب في الطريق. شاهدوا رجلا معه جمل. فقالوا: يا صاحب الجمل تبيع جملك؟ قال: نعم. قيل له: بكم؟ قال: بألف درهم.. قيل: لو تعلم لمن نريده لأحسنت بيعنا. قال: ولمن تريده، فقيل له: لأمك. قال: تركت أمي في بيتها قاعدة. قيل: إنما نريده لأم المؤمنين عائشة، قال: فهو لك فخذه بغير ثمن. قيل له: لا ولكن ارجع معنا إلى الرحل فلنعطك ناقة مهرية ونزيدك دراهم. وبعد أن أعطوه، قالوا له: يا أخا عرينة هل لك دلالة بالطريق. قال:

نعم: أنا من أدرك الناس. قالوا: فسر معنا. فسار معهم وكان لا يمر على واد ولا ماء إلا سألوه عنه. حتى طرقوا ماء الحوأب فنبحتهم كلابها. قالوا: أي ماء هذا. قال: ماء الحوأب. فصرخت عائشة. ثم قالت: أنا والله صاحبة كلاب الحوأب. طروقا ردوني (3). فقالوا لها: بل تقدمين فيراك المسلمون فيصلح الله عزو جل ذات بينهم، قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وآله قال لها ذات يوم: كيف بإحداكن تنبح عليه كلاب الحوأب وانطلقت أم المؤمنين نحو البصرة، في الركب الذي أقيمت عليه الحجة.

____________

(1) الطبري 167 / 5.

(2) الطبري 169 / 5، الكامل 107 / 3.

(3) رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح ونعيم بن حماد وقال ابن كثير إسناده صحيح، وقال الهيثمي رواه أحمد وأبو يعلى والبزار، ورجال أحمد رجال الصحيح، ورواه الحاكم وذكر أن القائل: تقدمي هو الزبير (الفتح الرباني 137 / 23) (البداية والنهاية 211 / 6)، (المستدرك 120 / 3)، الطبري 178 / 5.

الصفحة 517

4 - نظرات على طريق البغي:

عندما بلغ أمير المؤمنين عليا ما استقر عليه طلحة والزبير. قال: والله ما أنكروا منكرا. ولا جعلوا بيني وبينهم نصفا (1) وإنهم ليطلبون حقا هم تركوه.

ودماهم سفكوه. فإن كنت شريكهم فيه. فإن لهم نصيبهم منه. وإن كانوا ولوه دوني فما المطالبة إلا قبلهم. وإن أول عدلهم للحكم على أنفسهم. وإن معي لبصيرتي. ما لبست ولا لبس علي.

وإنها للفئة الباغية فيها الحمأ والحمة (2). والشبهة المغدقة (3). وإن الأمر لواضح. وقد زاح الباطل عن نصابه (4). وانقطع لسانه عن شغبه (5). وأيم الله لأفرطن لهم حوضا أنا ماتحه (6). لا يصدرون عنه بري، ولا يعبون (7) بعده من حسي " (8).

قال ابن أبي الحديد: والمعنى: والله ما أنكروا علي أمرا هو منكر في الحقيقة. وإنما أنكروا ما الحجة عليهم فيه لا لهم. وحملهم على ذلك الحسد وحب الاستئثار بالدنيا. وقال: ولا جعلوا بيني وبينهم نصعا أي وسيطا يحكم وينصف. بل خرجوا عن الطاعة بغتة. وإنهم ليطلبون حقا تركوه. أي يظهرون أنهم يطلبون حقا بخروجهم إلى البصرة. وقد تركوا الحق بالمدينة. وقال: إن هؤلاء خرجوا ونقضوا البيعة. وقالوا: إنما خرجنا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وإظهار العدل وإحياء الحق. وإماتة الباطل. وأول العدل أن يحكموا على أنفسهم. فإنه يجب على الإنسان أن يقضي على نفسه ثم على غيره. وإذا

____________

(1) النصف / الأنصاف.

(2) الحمأ / الطين الأسود، حمة العقرب / سمها.

(3) الشبهة المغدقة / أي الخفية.

أي بعد وذهب عن مركزه ومقره.

(5) الشغب / تهييج الشر.

(6) لأفرطن لهم حوضا / أي لأملأن، الماتح / المستفي من فوق.

(7) العب / الشرب بلا مص كما تشرب الدابة.

(8) الحس / ماء كامن في رمل يحفر عنه.

الصفحة 518
كان دم عثمان قبلهم. فالواجب أن ينكروا على أنفسهم قبل إنكارهم على غيرهم. وقال: إن معي لبصيرتي. أي عقلي أي أوضح النبي صلى الله عليه وآله وسلم لي كل شئ وعرفنيه. وإنها للفئة الباغية. أي الفئة التي وعدت بخروجها علي ثم ذكر بعض العلامات. وقال: إن الأمر لواضح. وقوله هذا يؤكد به عند نفسه وعند غيره. أن هذه الجماعة هي تلك الفئة الموعود بخروجها. ثم أخبر:

وقد ذهب الباطل وزاح. وخرس لسانه. ثم أقسم: ليملأن لهم حوضا هو ماتحه - يسقيهم من فوقه - وهذه كناية عن الحرب والهجاء وما يتعقبهما من القتل والهلاك (1).

وبعد أن كشف الإمام النقاب عن بداية حرب البغاة التي تحمل أسماء مختلفة وتدور رحاها في ميادين مختلفة. بين أن البغاة يسيرون نحو هدف واحد يقتلون عليه بعضهم بعضا ويبذلون في سبيله كل نفيس. وهذا الهدف هو الحكم. قال الإمام بعد نكث طلحة والزبير: " كل واحد منهم يرجو الإمام له.

ويعطفه عليه دون صاحبه ولا يمتان (2) إلى الله بحبل ولا يمدان إليه بسبب. كل واحد منهما حامل ضب (3) لصاحبه. وعما قليل يكشف قناعه به. والله لئن أصابوا الذي يريدون لينتزعن هذا نفس هذا. وليأتين هذا على هذا. قد قامت الفئة الباغية فأين المحتسبون (4). قد سنت لهم السنن. وقدم لهم الخير. ولكل ضال علة. ولكل ناكث شبهة. والله لا أكون كمستمع اللدم (5). يسمع الناعي ويحضر الباكي. ثم لا يعتبر " (6).

فطريق البغي لا يتمسك بحبل الله وأصحاب الرؤوس الكبيرة من صفاتهم أن كل واحد منهم يريد الأمر لنفسه. ولأن هذه هي الحقيقة فإن تحت راياتهم لا

____________

(1) ابن أبي الحديد 151 / 3.

(2) يمتان / يتوسلان.

(3) انصب / الحقد.

(4) المحتسبون / طالبو الأجر (5) مستمع اللدم / كناية عن الضبع حين تسمع وقع الحجر فتستسلم للصائد.

(6) ابن أبي الحديد 206 / 3.

الصفحة 519
يدري المقتول في أي شئ قتل. ولا يرى القاتل إلا طعاما له بريق. والقاتل والمقتول لا يدريان شيئا عن الحقيقة. لأن الراية عمية ومرفوعة في ساحات العصبية. وقد يكون قتال الرجل في هذه الساحات لينصر عصبته. ولكن الحقيقة أن هذا الغضب والقتال والنصر سيصب في نهاية المطاف داخل سلة رؤوس البغاة. ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " لو أن الناس اعتزلوهم " لأن في الاعتزال نجاة من الموتة الجاهلية يقول النبي صلى الله عليه وسلم:

" من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات فميتته جاهلية " (1)، وقال: " من قتل تحت راية عمية ينصر العصبية ويغضب للعصبية فقتلته جاهلية " (2). وفي عصر الإمام علي قال الإمام: قد قامت الفئة الباغية. فأين المحتسبون. أي أين طلاب الأجر؟ ثم قال: لكل ضال علة. ولكل ناكث شبهة. كأنه يقول: إذا كانوا قد خرجوا فلا بد أن يكون لهم تأويل في خروجهم. وكل ناكث لا بد له من شبهة يستند إليها.

ولأن الإمام خبير في معرفة الرجال. ولأنه يقاتل على التأويل كما قاتل النبي صلى الله عليه وسلم على التنزيل. قال: والله لا أكون كمستمع اللدم.

أي: لن يكون كالضبع. تسمع وقع الحجر بباب حجرها من يد الصائد. فتنخذل وتكف جوارحها إليها حتى يدخل عليه فيربطها. ولن يكون مقرا بالضيم راعنا، يسمع المخبر عن القتلى فلا يكون عنده شئ من التغيير والإنكار.

ومن رحمة الله تعالى أنه سبحانه جعل في عصر الصحابة من يرشدهم إلى طريق الصواب. على الرغم من سياسة اللارواية. فأبو ذر كان رواية متحركة في عهد ما وهذه الرواية ينطق بها صمت أبو ذر ويسمعها من أراد الله أن يقيم الحجة عليه. فالرواية المتحركة لها إيقاع خاص ومذاق خاص عند نمط خاص. وكان أبو ذر يبشر الذين يكنزون الذهب والفضة بمكاو من نار. وفي عصر الإمام علي كان عمار رواية متحركة، حجة بذاتها على نوع خاص يدعوهم إلى الجنة

____________

(1) رواه أحمد ومسلم (الفتح الرباني 52 / 23).

(2) رواه مسلم وابن ماجة (كنز العمال 509 / 3).