معارك الإمام
أولا - يوم الجمل
تحركت أم المؤمنين عائشة ومن معها نحو البصرة. وروي أن أمير المؤمنين علي خرج على رأس قوة وهو يرجو أن يدركهم فيحول بينهم وبين الخروج. نظرا لما سيترتب على خروجهم. وبينما هو يستعد للخروج لقيه عبد الله بن سلام. فقال: " يا أمير المؤمنين لا تخرج منها - أي من المدينة - فوالله لئن خرجت منها لا ترجع إليها. ولا يعود سلطان المسلمين أبدا " (1)، وابن سلام لا يقول هذا من فراغ. ولكنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا عندما اعترض عليه أصحاب أمير المؤمنين. قال لهم الإمام: دعوا الرجل فنعم الرجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم " (2)، ثم قال:
" وأيم الله لقد أخبرني به رسول الله صلى الله عليه وسلم " (3)، لقد عرف ابن سلام أن أمير المؤمنين باتجاهه نحو الناكثين يكون قد بدأ طريقا طويلا ينتهي بقتله. ولقد رأى أن الخطوة الأولى في اتجاه يوم الجمل تلتقي مع الخطوة الأخيرة يوم النهروان. فالأحداث ذات نسيج واحد وإن اختلفت الأعلام
____________
(1) الطبري 170 / 5، البداية والنهاية 234 / 7.
(2) الطبري 170 / 5.
(3) رواه أبو يعلى والبزار وقال الهيثمي رجاله ثقات (الزوائد 138 / 9)، ورواه الحاكم وصححه (المستدرك 140 / 3).
وبينما كان الإمام يتجهز لرد الناكثين جاء رجل من أهل الكوفة فقال: " ما هذا؟ فقالوا: أمير المؤمنين. قال: ما له، قالوا: غلبه طلحة والزبير فخرج يعترض لهما ليردهما. فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون. آتي عليا فأقاتل معه هذين الرجلين وأم المؤمنين أو أخالفه إن هذا لشديد " (2)، وكانت هذه أول صفحة على طريق الجمل وفيها التباس الأمور عند الناس.
وروي أن الحسن بن علي رضي الله عنه كان قد أشار على والده في أمور منها: " أنه قال له أخرج من المدينة يوم حصار عثمان. ولكن الإمام عصاه في ذلك وقال له: أما قولك لو خرجت من المدينة حين أحيط بعثمان. فوالله لقد أحيط بنا كما أحيط به " (3)، ويبقي سؤال: من الذي أحاط بأهل البيت وبعثمان في وقت واحد؟ لقد كان هناك حصار منظور وحصار غير منظور ولكن الإمام الخبير بالرجال يعلمه جيدا. إن الإجابة على هذا السؤال يتعذر الوقوف على علمها. ولا يعلم حقائقها إلا من شاهدها ولابسها. بل لعل الحاضرين المشاهدين لها لا يعلم الكثير منهم باطن الأمر، وروي أن الحسن بن علي كان له رأي في خروج طلحة والزبير ومن معهما. وهو أن يجلس الإمام في بيته ثم يراقب الأحداث. فقال الإمام: وأما قولك حين خرج طلحة والزبير فإن ذلك كان
____________
(1) رواه أبو يعلى والبزار ورجاله ثقات والحاكم وصححه والحميدي وابن حبان في صحيحه (الزوائد 138 / 9)، (المستدرك 140 / 3)، (الخصائص الكبرى للسيوطي 235 / 2).
(2) الطبري 170 / 5.
(3) الطبري 170 / 5.
فمن ينظر فيه، فكف عنك أي بني " (1).
لقد كان الإمام يتصرف تصرف الحجة. فهو لم يؤمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يرفع سيفا ما دام الناس لم يلتفوا حوله باختيارهم. فإذا التفوا حوله فقد لزمه أن يسوقهم إلى ما يعرف وإلا تعطل الدين. وهذا هو شأن الحجة على امتداد التاريخ الإنساني إن تركه الناس بعد دعوته إياهم. إما أن يعتزل بمن آمن معه. وإما أن يهاجر. فإن وقع على أتباعه ما يستأصلهم من حوله فهنا يدخل فقه الدفاع والقتال ولا قتال إلا بنص. وفي جميع الحالات فإن الحجة لا يهمل من لزمه أو من يريده. وروي أن أمير المؤمنين عندما كان يتجهز لرد الناكثين كان فريق أم المؤمنين قد خطا خطوات واسعة نحو الحرب الشاملة.
1 - الناكثون في البصرة:
دخلت أم المؤمنين فناء البصرة. فلقيها عمير بن عامر التميمي فأوصاها أن تراسل وجوه البصرة قبل اقتحامها (2). وكان على البصرة عثمان بن حنيف عاملا لأمير المؤمنين. فقالت أم المؤمنين لابن عامر: جئتني بالرأي وأنت امرؤ صالح.
وكتبت السيدة عائشة إلى رجال من أهل البصرة منهم الأحنف بن قيس. ثم تحركت بقواتها لتحسين أوضاعها حتى إذا كانت بالحفير انتظرت الجواب (3).
وروى البيهقي عن الحسن البصري أن الأحنف بن قيس قال لأم المؤمنين: يا أم المؤمنين. هل عهد إليك رسول الله هذا المسير؟ قالت: اللهم لا، قال: فهل
____________
(1) الطبري 170 / 5، الكامل 114 / 3.
(2) الطبري 173 / 5.
(3) الطبري 173 / 5.
فهل رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استعان بشئ من نسائه إذا كان في قلة والمشركين في كثرة؟ قالت: اللهم لا. فقال الأحنف: فإذن ما هو ذنبنا " (1).
وروي أن عثمان بن حنيف عندما علم برسائل السيدة عائشة إلى وجوه أهل البصرة دعا عمران بن حصين وأبا الأسود الدؤلي وقال: انطلقا إلى هذه المرأة، فاعلما علمها وعلم من معها، فخرجا، ودخلا على عائشة بعد أن استأذنا وأذنت وقالا: إن أميرنا بعثنا إليك نسألك عن مسيرك. فهل أنت مخبرتنا. فقالت:
أطالب بدم عثمان، فقال أبو الأسود: إنه ليس في البصرة من قتلة عثمان أحد.
قالت: صدقت، ولكنهم مع علي بن أبي طالب في المدينة. وجئت أستنهض أهل البصرة لقتاله. أنغضب لكم من سوط عثمان ولا نغضب لعثمان من سيوفكم؟ فقال: ما أنت من السوط والسيف إنما أنت حبيس رسول الله صلى الله عيه وسلم. أمرك أن تقري في بيتك وتتلي كتاب ربك، وليس على النساء قتال ولا لهن الطلب بالدماء، وإن أمير المؤمنين لأولي بعثمان منك وأحسن رحما، فإنهما أبناء عبد مناف. قالت: لست بمنصرفة حتى أمضي لما قدمت إليه. أفتظن يا أبا الأسود أن أحدا يقدم على قتالي. فقال: أما والله لنقاتلنك قتالا أهونه لشديد. ورجعا إلى عثمان بن حنيف وقال أبو الأسود إنها الحرب فتأهب لها " (2).
ومما سبق يضاف إلى أسباب خروج السيدة عائشة. أن القوم ظنوا أن أحدا لن يجرؤ على قتالها. ويترتب على ذلك أن يقف أمير المؤمنين علي وحده في العراء ومعه قلة لا تغني عنه أمام الكثرة شيئا. وبدأ عثمان بن حنيف يتجهز لصد العدوان. وكان يعلم أن للناكثين أعوانا بالبصرة (3). وأقبلت قوات أم المؤمنين،
____________
(1) المحاسن والمساوئ / البيهقي 1 / 35.
(2) العقد الفريد 2 / 278، الإمامة والسياسة / ابن قتيبة 1 / 57.
(3) الطبري 175 / 5.
ودعا إلى الطلب بدمه. وقال: إن في ذلك إعزاز دين الله عز وجل. وتكلم الزبير بمثل ذلك. وبعد حديثهما انقسم الناس. فقال البعض: صدقا وبرا، وقال البعض الآخر: فجرا وغدرا، وقالا الباطل وأمرا به. قد بايعا ثم جاءا يقولان ما يقولان " (2)، وكان من نتيجة هذا الانقسام أن تحاتى الناس وتحاصبوا وأرهجوا (3). وعندئذ تكلمت أم المؤمنين. وكانت جهورية يعلو صوتها كثرة كأن صوت امرأة جليلة (4)، فقالت: كان الناس يتجنون على عثمان بن عفان ويزرون على عماله ويأتوننا بالمدينة فيستشيرونا فيما يخبروننا عنهم، ويرون حسنا من كلامنا في صلاح بينهم. ثم قالت: ألا إن مما ينبغي لا ينبغي لكم غيره. أخذ قتلة عثمان وإقامة كتاب الله عز وجل " (5)، وترتب على بيان السيدة عائشة. افتراق أصحاب عثمان بن حنيف أمير علي فرقتين. فرقة قالت: صدقت والله وجاءت والله بالمعروف. وقال الآخرون: كذبتم والله ما نعرف ما تقولون، فتحاتوا وتحاصبوا وأرهجوا (6)... ومال بعضهم إلى عائشة وبقي بعضهم مع عثمان.
وبينما يضرب الناس بعضهم بعضا بالحجارة. أقبل جارية بن قدامة السعدي وقال: يا أم المؤمنين. والله لقتل عثمان بن عفان أهون من خروجك من بيتك على هذا الجمل الملعون عرضة للسلاح. إنه كان لك من الله ستر وحرمة.
فهتكت سترك وأبحت حرمتك. إنه من رأي قتالك فإنه يرى قتلك. إن كنت أتيتنا
____________
(1) الطبري 175 / 5.
(2) الطبري 175 / 5.
(3) الطبري 175 / 5.
(4) الطبري 175 / 5 البداية والنهاية 333 / 7.
(5) الطبري 175 / 5 البداية والنهاية 333 / 7.
(6) الطبري 175 / 5 البداية والنهاية 333 / 7.
وأمر مجاشع بن مسعود وكان أحد جنود أم المؤمنين بضرب عثمان ونتف شعر لحيته: فضربوه أربعين سوطا ونتفوا شعر لحيته ورأسه وحاجبيه وأشفار عينيه وحبسوه (5) وخطبت أم المؤمنين: أيها الناس، إنه ما بلغ من ذنب عثمان ما يستحل به دمه. مصتموه كما يماص الثوب الرخيص. ثم عدوتم عليه فقتلتموه بعد توبته وخروجه من ذنبه وبايعتم ابن أبي طالب بغير مشورة من الجماعة ابتزازا وغصبا أتروني أغضب لكم من سوط عثمان ولسانه. ولا أغضب لعثمان من سيوفكم. ألا إن عثمان قتل مظلوما فاطلبوا قتلته. فإذا ظفرتم بهم فاقتلوهم. ثم اجعلوا الأمر شورى بين الرهط الذين اختارهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.
ولا يدخل فيهم من شرك في دم عثمان " (6).
وهكذا خرج علي بن أبي طالب من الخلافة عند أول خطوة داخل البصرة
____________
(1) الطبري 176 / 5، البداية والنهاية 233 / 7، الكامل 109 / 3.
(2) العقد الفريد 2 / 278، الإمام والسياسة 1 / 57.
(3) الطبري 177 / 5، البداية 333 / 7.
(4) الطبري 178 / 5، البداية والنهاية 233 / 7.
(5) الطبري 178 / 5، البداية والنهاية 233 / 7.
(6) الإمامة والسياسة 64، 65 / 1، ابن أبي الحديد 357 / 3.
الصلاة الصلاة يا أصحاب محمد، فقالت أم المؤمنين رضي الله عنها: يصلي محمد بن طلحة يوما وعبد الله بن الزبير يوما. وروى ابن الأثير: لما بايع أهل البصرة طلحة والزبير قال الزبير: أريد ألف فارس أسير بهم إلى علي بن أبي طالب أقتله بياتا أو صباحا قبل أن يصل إلينا. فلم يجبه أحد. فقال: إن هذه للفتنة التي كنا نحدث عنها. فقال له مولاه: أتسميها فتنة وتقاتل فيها؟ قال:
ويلك إنا نبصر ولا تبصر. ما كان أمر قط إلا وأنا أعلم موضع قدمي فيه. غير هذا الأمر. فإني لا أدري أمقبل أنا فيه أم مدبر (1)، وعندما لم يجب الزبير أحد. قال طلحة والزبير: إن قدم علينا علي ونحن على هذا الحال من القلة والضعف ليأخذن بأعناقنا. فأجمعا على مراسلة القبائل واستمالة العرب، فبايعهم.
على ذلك الأزد وضبة وقيس غيلان.
وبعث طلحة والزبير إلى أهل الشام بما صنعوا وصاروا إليه وقالا: " وإنا نناشدكم الله في أنفسكم. ألا نهضتم بمثل ما نهضنا به " (2)، وكتبت أم المؤمنين إلى أهل الكوفة بما كان منهم وأمرتهم أن يثبطوا الناس عن علي بن أبي طالب وتحثهم على طلب قتلة عثمان وكتبت إلى أهل اليمامة وإلى أهل المدينة بما كان منهم أيضا وسيرت الكتب (3) وروى ابن الأثير أن أم المؤمنين بعثت إلى أبي موسى الأشعري بكتاب تأمره فيه بملازمة بيته أو نصرتها (4). وكانت سيرة أبي موسى بعد ذلك هي نصره أم المؤمنين على امتداد الطريق. وكتبت عائشة إلى زيد بن صوحان (5) تقول له: " من عائشة ابنة أبي
____________
(1) الكامل 113 / 3، الطبري 183 / 5.
(2) الطبري 181 / 5، الكامل 112 / 3.
(3) الكامل 112 / 3.
(4) الكامل 117 / 3.
(5) كان من الذين سيرهم عثمان وقال النبي فيه: زيد وما زيد وأخبر بأنه في الجنة.
فإن لم تفعل فخذل الناس عن علي بن أبي طالب " (1)، فكتب إليها. من زيد بن صوحان إلى عائشة ابنة أبي بكر حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما بعد. فأنا ابنك الخالص إن اعتزلت هذا الأمر ورجعت إلى بيتك. وإلا فأنا أول من نابذك، وقال زيد رضي الله عنه: " رحم الله أم المؤمنين أمرت أن تلزم بيتها.
وأمرنا أن نقاتل فتركت ما أمرت به وأمرتنا به. وصنعت ما أمرنا به ونهتنا عنه " (2).
وروى ابن كثير أن أبا موسى وهو يثبط الناس عن علي. قام زيد بن صوحان وقال للناس: أيها الناس سيروا إلى أمير المؤمنين وسيد المسلمين.
سيروا إليه أجمعين " (3)، وإذا سبقنا الأحداث بخطوتين سنجد زيدا على أرض معركة الجمل شهيدا. وروي عنه أنه قال: لا تنزعوا عني ثوبا ولا تغسلوا عني دما فإني رجل مخاصم " (4).
2 - مسير الإمام علي:
لم يترك الإمام طريقا إلا أقام فيه حجة على القوم، فلقد بعث إليهم بالرسائل وبأصحابه وطالب بالتحكيم بينه وبينهم بواسطة أطراف تخلفت عنه وعنهم. ولكن القوم أبوا إلا المضي في طريقهم الذي خرجوا من أجله. فعندما علم الإمام بهياج المعارضين من مكة وجاءته رسالة من أم المؤمنين أم سلمة وفيها: أما بعد فإن طلحة والزبير وأشياعهم. أشياع الضلالة يريدون أن يخرجوا بعائشة ومعهم عبد الله بن عامر. يذكرون أن عثمان قتل مظلوما والله كافيهم
____________
(1) الطبري 184 / 5، البداية والنهاية 234 / 7، الإمامة والسياسة 1 / 60.
(2) الطبري 184 / 5، البداية والنهاية 234 / 7، الإمامة والسياسة 1 / 60.
(3) البداية والنهاية 237 / 7.
(4) رواه البخاري ويعقوب بن سفيان في تاريخهما (الإصابة 583 / 1)، (الإستيعاب 560 / 1).
وروي أن الإمام خطب يومئذ فقال: إن آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح أوله. فانصروا الله ينصركم ويصلح لكم أمركم. فقام أبو قتادة الأنصاري وقال: يا أمير المؤمنين إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قلدني هذا السيف وقد أغمدته زمانا. وقد حان تجريده على هؤلاء القوم الظالمين الذين لم يألوا الأمة غشا " (2)، وتحرك الإمام من المدينة إلى الربذة فأقام فيها أياما بمن معه من قوات. وفي أثناء مسيره بعث إلى أهل الكوفة وغيرهم. للإصلاح فقال: " أما بعد فإني خرجت من حيي هذا إما ظالما وإما مظلوما وإما باغيا وإما مبغيا عليه.
وإني أذكر الله من بلغه كتابي هذا. لما نفر إلى. فإن كنت محسنا أعانني وإن كنت مسيئا استعتبني " (3) إنه صوت الحجة - فالإمام يخاطب الحاضر وفقا لما يعلم عن المستقبل الذي كشف عنه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخبر بالغيب عن ربه عز وجل. والإمام يخبر الحاضر قبل أن يأتي المستقبل وهذا عين العدل في الشريعة الغراء وروي أنه كتب إلى الأمصار لما قدم إلى الربذة؟ كونوا لدين الله أعوانا وأنصارا وأيدونا وانهضوا إلينا فالإصلاح ما نريد لتعود الأمة
____________
(1) الطبري 5 / 167، الكامل 3 / 113، الحاكم (المستدرك 119 / 3) ابن أبي الحديد 411 / 2.
(2) الكامل 113 / 3، الطبري 167 / 5.
(3) ابن أبي الحديد.
ولعمري ما كنتما بأحق المهاجرين بالتقية والكتمان، وإن دفعكما هذا الأمر قبل أن تدخلا فيه. كان أوسع عليكما من خروجكما منه بعد إقراركما به.
وقد زعمتما أني قتلت عثمان. فبيني وبينكما من تخلف عني وعنكما من أهل
____________
(1) الطبري 185 / 5، الكامل 115 / 3.
فإن الآن أعظم أمركما بالعار. من قبل أن يجتمع العار والنار. والسلام " (1).
وبينما الإمام يبعث برسائله، علم وهو في الربذة بما حدث لعامله عثمان بن حنيفة في البصرة وبالقتلى الذين قتلوا ظلما وعدوانا (2)، كما علم أن أبا موسى الأشعري يثبط الناس عنه بالكوفة. وتحرك الإمام إلى ذي قار، يقول ابن عباس عندما دخل عليه: فأتيته فوجدته يخصف نعلا (3). فقلت له: نحن إلى أن تصلح من أمورنا أحوج منا إلى ما تصنع. فلم يكلمني حتى فرغ من نعله. ثم ضمها إلى صاحبتها وقال لي: قومهما. فقلت: ليس لهما قيمة، قال:
ذاك! قلت: كسر درهمه، قال: والله أيهما أحب إلى من أمركم هذا إلا أن أقيم حقا أو أدفع باطلا. ثم خرج فخطب الناس فقال:
إن الله سبحانه بعث محمدا صلى الله عليه وسلم، وليس أحد من العرب يقرأ كتابا، ولا يدعي نبوة. فساق الناس حتى بوأهم محلتهم (4) وبلغهم منجاتهم. فاستقامت قناتهم (5). واطمأنت صفاتهم (6). أما والله إن كنت لفي ساقتها. حتى تولت بحذافيرها. ما عجزت ولا جبنت وإن مسيري هذا لمثلها.
فلأنقبن الباطل حتى يخرج الحق من جنبه. ما لي ولقريش! والله لقد قاتلتهم كافرين، ولأقاتلنهم مفتونين، وإني لصاحبهم بالأمس. كما أنا صاحبهم اليوم والله ما تنقم منا قريش إلا أن الله اختارنا عليهم. فأدخلناهم في حيزنا " (7).
فالإمام في كلامه. كأنه جعل الباطل كشئ قد اشتمل على الحق. واحتوى عليه. وصار الحق في طيه. كالشئ الكامن المستتر فيه. فأقسم لينقبن ذلك.
____________
(1) ابن أبي الحديد 95 / 5.
(2) الطبري 186 / 5.
(3) يخصف بغله / أي يخرزها.
(4) أي أسكنهم منزلهم، أي ضرب الناس على الإسلام حتى أوصلهم إليه.
(5) أي كانت قناتهم معوجة فاستقامت.
(6) أي كانت تزلزله فاستقرت.
(7) ابن أبي الحديد 404 / 1.
وروي أن الإمام علي بعث إلى أبي موسى بعد أن علم خبره. أنه اختار الكوفة للنزول بين أظهرهم. وإنه اختارهم على الأمصار. لأنهم أشد الناس حبا له. فلما دخل مبعوثا علي قال أبو موسى: أما والله إن بيعة عثمان بن عفان في عنقي وعنق صاحبكما الذي أرسلكما. إن أردنا أن تقاتل لا نقاتل حتى لا يبقى أحد من قتلة عثمان إلا قتل حيث كان " (2)، فانطلق المبعوثان إلى علي بن أبي طالب بذي قار وأخبراه الخبر (3)، فأرسل الإمام علي مبعوثا آخر هو عبد الله بن عباس ومعه الأشتر (4)، وعندما لم تفلح هذه المحاولة أيضا مع أبي موسى.
بعث الإمام بالحسن بن علي وعمار بن ياسر، وروى ابن الأثير. أن عبد الخير الحيواني قال: يا أبا موسى. هل بايع طلحة والزبير؟ قال: نعم، قال: هل أحدث علي بن أبي طالب ما يحل به نقض بيعته. قال: لا أدري، فقال: لا دريت، نحن نتركك حتى تدري، هل تعلم أحدا خارجا من هذه الفتنة، إنما الناس أربع فرق، علي بظهر الكوفة، وطلحة والزبير بالبصرة. ومعاوية بالشام، وفرقة بالحجاز لا غناء بها ولا يقاتل بها عدو، قال أبو موسى: أولئك خير
____________
(1) ابن أبي الحديد 405 / 1.
(2) الطبري 184 / 5.
(3) الطبري 187 / 1.
(4) الطبري 187 / 5.
وعندما قدم الحسن بن علي وعمار بن ياسر إلى الكوفة. صعدا المنبر فكان الحسن فوق المنبر في أعلاه وقام عمار أسفل من الحسن (2)، قال في فتح الباري: فقال الحسن: إن عليا يقول: إني أذكركم الله رجلا رعي لله حقا إلا نفر فإن كنت مظلوما أعانني، وإن كنت ظالما خذلني. والله إن طلحة والزبير لأول من بايعني ثم نكثا. ولم أستأثر بمال. ولا بدلت حكما " (3)، والبخاري لم يرو شيئا من كلمة الحسن. علما بأنه ذكر أن الحسن كان في أعلى المنبر. وروى البخاري ما قاله عمار. فقال: قال عمار: إن عائشة قد سارت إلى البصرة ووالله إنها لزوجة نبيكم في الدنيا والآخرة، ولكن الله تبارك وتعالى ابتلاكم ليعلم إياه تطيعون أم هي " (4)، وقال في فتح الباري: قال بعض الشراح: الضمير في إياه.
لعلي بن أبي طالب، والظاهر خلافه وإنه لله تعالى (5)، وأقول: إن الكتاب وأهل البيت في حبل واحد كما روى مسلم وغيره. وروي أن أبا موسى قال لعمار: يا أبا اليقظان أعدوت فيمن عدا على عثمان أمير المؤمنين فأحللت نفسك مع الفجار. فقال عمار: لم أفعل ولم يسوءني (6)، قال الحسن،: يا أبا موسى لم تثبط الناس عنا. فوالله ما أردنا إلا الاصلاح، ولا مثل أمير المؤمنين يخاف على شئ. فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنها ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي والماشي خير من الراكب فقال عمار: يا أيها الناس. إنما قال له خاصة: أنت فيها قاعدا خير منك قائما. فقام رجل فقال لعمار: اسكت أيها العبد أنت أمس مع الغوغاء واليوم تسافه أميرنا. وثار زيد بن صوحان وطبقته وثار
____________
(1) الكامل 117 / 3، الطبري 190 / 5.
(2) البخاري (الصحيح 229 / 4) أحمد (الفتح الرباني 140 / 23).
(3) رواه أبو يعلى (فتح الباري 58 / 13).
(4) البخاري ك الفتن (الصحيح 229 / 4) أحمد (الفتح الرباني 140 / 23).
(5) فتح الباري / ابن حجر 58 / 13.
(6) الطبري 187 / 5، البداية والنهاية 236 / 7.
ثم ألقى زيد بالمفاجأة. جاء ومعه كتابان من عائشة إلى أهل الكوفة كتاب للخاصة وآخر للعامة وفيهما: أما بعد فثبطوا أيها الناس واجلسوا في بيوتكم إلا عن قتلة عثمان بن عفان. فلما فرغ زيد من قراءة الكتاب في المسجد قال: أمرت بأمر وأمرنا بأمر. أمرت أن تقر في بيتها وأمرنا أن نقاتل حتى لا تكون فتنة.
فأمرتنا بما أمرت به. وركبت ما أمرنا به (2). وبعد أن فرغ زيد من كلامه. انقسم الناس. فريق هنا وفريق هناك. وقام الحسن بن علي فقال: أيها الناس أجيبوا دعوة أميركم وسيروا إلى إخوانكم. فإنه سيوجد لهذا الأمر من ينفر إليه، والله لأن يليه أولو النهى. أمثل في العاجلة وخير في العاقبة. فأجيبوا دعوتنا. وأعينونا على ما ابتلينا به وابتليتم (3)، وقام حجر بن عدي فقال: أيها الناس أجيبوا أمير المؤمنين. وانفروا خفافا وثقالا. وأنا أولكم (4)، وقام زيد بن صوحان وقال:
أيها الناس. سيروا إلى أمير المؤمنين وسيد المسلمين. سيروا إليه أجمعين " (5).
ثم جاءت المفاجأة الأخرى على يد عمار بن ياسر، قال عمار: يا أبا موسى أنشدك الله. ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار، وأنا سائلك عن حديث. فإن صدقت وإلا بعثت عليك من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من يقررك به.
أنشدك الله. أليس إنما عناك رسول الله أنت نفسك فقال: إنها ستكون فتنة بين أمتي أنت يا أبا موسى فيه نائما خير منك قاعدا. وقاعدا خير منك قائما. وقائما خير منك ماشيا. فخصك رسول الله ولم يعم الناس. فخرج أبو موسى ولم يرد عليه شيئا " (6)، وعن أبي نجاء قال: كنت جالسا مع عمار، فجاء أبو موسى
____________
(1) الطبري 188 / 5.
(2) الطبري 188 / 5.
(3) الطبري 189 / 5، الكامل 118 / 3.
(4) الطبري 189 / 5، البداية والنهاية 237 / 7.
(5) البداية والنهاية 237 / 7.
(6) رواه ابن عساكر (كنز العمال 274 / 11)، وأبو يعلى (كنز 246 / 7) وحديث الفتنة التي
فقال عمار: قد شهدت اللعن ولم أشهد الاستغفار (1)، وإذا أخذنا خطوتين إلى الإمام نحو الأحداث. نجد أن الإمام عليا كان يرفض اشتراك أبي موسى في التحكيم بعد صفين (2). ولكن القوم أصروا على اشتراكه. فقال الإمام: إنه ليس لي بثقة قد فارقني. وخذل الناس عني ثم هرب مني (3). وعندما أصروا قال الإمام: لقد كنت بالأمس أميرا. فأصبحت اليوم مأمورا. وكنت بالأمس ناهيا فأصبحت اليوم منهيا. وسيأتي هذا في موضعه.
وروي أن أبا موسى لم يكف عن تثبيط الناس. فبعث الإمام علي قرظة بن كعب الأنصاري أميرا على الكوفة. وكتب معه إلى أبي موسى: إني قد بعثت الحسن وعمارا يستنفران الناس. وبعثت قرظة بن كعب واليا على الكوفة. فاعتزل عملنا مذموما مدحورا. وإن لم تفعل فإني قد أمرته أن ينابذك. فإن نابذته فظفر بك يقطعك إربا إربا (4) ثم بعث الأشتر فجاء وكان لا يمر بقبيلة فيها جماعة إلا دعاهم ويقول:
اتبعوني إلى القصر. فانتهى إلى القصر في جماعة من الناس فدخله. وأخرج الأشتر غلمان أبي موسى من القصر. فخرجوا ينادون: يا أبا موسى هذا الأشتر قد دخل القصر. فضربنا وأخرجنا. فنزل أبو موسى فدخل القصر. فصاح به الأشتر: أخرج لا أم لك. أخرج الله نفسك. فقال: أجلني هذه العشية، فقال: هي لك (5) فلما قدم الكتاب على أبي موسى اعتزل (6) واستجاب
____________
= يكون فيها القاعد خير من القائم رواه أبو داوود حديث 4262 ولكنه لم يخص فيه أبو موسى.
(1) رواه ابن عساكر (كنز العمال 608 / 13).
(2) الطبري 28 / 6، مروج الذهب 406 / 2.
(3) الطبري 28 / 6.
(4) الكامل 133 / 3.
(5) الكامل 118 / 3، البداية 237 / 7.
(6) الكامل 133 / 3.
وروي عن زيد بن علي عن ابن عباس قال: لما نزلنا مع علي ذي قار، قلت: يا أمير المؤمنين ما أقل من يأتيك من أهل الكوفة فيما أظن. فقال: والله ليأتيني منهم ستة آلاف وخمسمائة وستون رجلا. لا يزيدون ولا ينقصون. قال ابن عباس: فدخلني والله من ذلك شك شديد في قوله. وقلت في نفسي: والله إن قدموا لأعدنهم. وروى ابن إسحاق عن عمه بن يسار قال: نفر إلى علي إلى ذي قار من الكوفة في البحر والبر ستة آلاف وخمسمائة وستون رجلا حتى سمع صهيل الخيل وشحيح البغال حوله - فلما سار بهم منقلة (2) قال ابن عباس:
والله لأعدنهم فإن كانوا كما قال: وإلا أتممتهم من غيرهم. فإن الناس قد كانوا سمعوا قوله: قال: فعرضتهم فوالله ما وجدتهم يزيدون رجلا ولا ينقصون رجلا.
فقلت: الله أكبر. صدق الله ورسوله. ثم سرنا (3)، وقبل أن يأخذ الإمام على الخطوة التالية بعث عبد الله بن عباس وزيد بن صوحان إلى عائشة وقال لهما:
إذهبا إلى عائشة وقولا لها إن الله أمرك أن تقري في بيتك وألا تخرجني منه.
وإنك لتعلمين ذلك، غير أن جماعة قد أغروك فخرجت من بيتك. فوقع الناس لاتفاقك معهم في البلاء والعناء. وخير لك أن تعودي إلى بيتك. ولا تحومي حول الخصام والقتال. وإن لم تعودي ولم تطفئي هذه النائزة فإنها سوف يعقب القتال. ويقتل فيها خلق كثير. فاتقي الله يا عائشة وتوبي إلى الله فإن الله يقبل التوبة من عباده ويعفو. وإياك أن يدفعك حب عبد الله بن الزبير وقرابة طلحة إلى أمر تعقبه النار. فجاءا إلى عائشة وبلغا رسالة علي إليها. فقالت: إني لا أرد علي بن أبي طالب بالكلام لأني لا أبلغه في الحجاج. فرجعا إليه وأخبراه بما قالت (4)، ثم بعث عبد الله بن عباس إلى الزبير قبل وقوع الحرب ليستفيئه إلى
____________
(1) البداية والنهاية 237 / 7.
(2) مرحلة السفر.
(3) ابن أبي الحديد 406 / 1، البداية والنهاية وقال ابن كثير رواه الطبراني 212 / 6.
(4) تاريخ ابن أعثم ص 175.
يركب الصعب (3) ويقول: هو الذلول، ولكن الق الزبير فإنه ألين عريكة (4) فقل له: يقول لك ابن خالك. عرفتني بالحجاز وأنكرتني بالعراق. فما عدا مما بدا " (5).
ورجع رسل الإمام يؤذونه بالحرب، فقام فحمد الله وأثني عليه وصلى على رسول الله ثم قال: أيها الناس إني راقبت هؤلاء القوم كي يرعووا أن يرجعوا ووبختهم بنكثهم. وعرفتهم بغيهم فلم يستجيبوا. وقد بعثوا إلى أن أبرز للطعان.
وأصبر للجلاد. وإنما تمنيك نفسك أماني الباطل. وتعدك الغرور. ألا هبلتهم.
الهبول. لقد كنت وما أهدد بالحرب. ولا أرهب بالضرب. ولقد أنصف القارة من رماها فليرعدوا وليبرقوا. فقد رأوني قديما. وعرفوا نكايتي. فكيف رأوني.
أنا أبو الحسن. الذي فللت حد المشركين. وفرقت جماعتهم. وبذلك القلب ألقى عدوي اليوم. وإني لعلى ما وعدني ربي من النصر والتأييد. وعلى يقين من أمري. وفي غير شبهة من ديني أيها الناس. إن الموت لا يفوته المقيم. ولا يعجزه الهارب. ليس عن الموت محيد ولا محيص. من لم يقتل. مات، إن أفضل الموت القتل. والذي نفس علي بيده لألف ضربة بالسيف أهون من موتة واحدة على الفراش. الله إن طلحة نكث بيعتي وألب على عثمان حتى قتله. ثم عضهني (6) به ورماني. اللهم فلا تمهله. اللهم إن الزبير قطع رحمي ونكث بيعتي، وظاهر علي عدوي. فاكفينه اليوم بما شئت... ثم نزل (7).
____________
(1) ليستفيئه / أي يسترجعه.
(2) عاقصا قرنه / أي قد التوى قرناه على أذنيه.
(3) يركب الصعب / أي يستهين بالمستصعب من الأمور.
(4) العريكة / أي الطبيعة.
(5) ابن أبي الحديد 388 / 1.
(6) عضهه / قال فيه ما لم يكن.
(7) ابن أبي الحديد 247 / 1.
3 - على أعتاب الحرب:
واجه الإمام علي صعوبات كثيرة على طريق الحرب وكان تفادي هذه الصعوبات ليس بالأمر اليسير. فهي ستدور بين أهل القبلة وفي كل طرف من الأطراف يوجد رجال من أهل بدر. وعلى رأس هذه الأطراف أعلام لا يمكن تجاهلها. والحرب ستدور بعد أن غاب عن ذهن الغالب الأعم أحاديث كثيرة كان النبي صلى الله عليه وسلم يحذر فيها من أمور ويسمى فيها رؤوس الفتن بأسمائهم وأسماء آبائهم كما في حديث حذيفة وغيره. وعندما أمر الإمام برواية الحديث لم يعط الوقت الكافي لغربلة هذه الأحاديث وبيان مقاصد الصحيح منها. فعندما أصبحت الحرب على الأبواب ظهرت أحاديث الاعتزال والتماس سيوف من خشب والقاتل والمقتول في النار. وأحاديث في أعماقها سلب مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كي تصبح الأمة بلا مهمة وتمهد الطريق لأغيلمة قريش، وكان الإمام علي وسط هذه الأمواج المتلاطمة حجة بذاته ومن حوله نجوم ساطعة كعمار وزيد وحذيفة وغيرهم، وفي هؤلاء نصوص من النبي صلى الله عليه وسلم تدعو للالتفاف حول علي. وعلى الرغم من هذا فإن الإنسان هو الإنسان. فالإنسان الذي ارتدي ثياب النفاق بينما كان الوحي ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان من السهل عليه أن يشق طريقه في عهود ما بعد النبي وإن كان في هذه العهود من هو خبير بمعرفة الرجال، ولأن الساحة بها الحق والباطل وبها باطل ابتلع الحق في بطنه ليتكلم على لسانه. كان الإمام علي يحشد الناس من حوله متفاديا لكل جدل عقيم يكون في صالح التيارات المعادية. كان يسأل فيجب إجابة الخبير، وكان يعرض عن كل إنسان لا يريد أن ينتظم في جيشه. وذلك لأنه يعرف نتيجة الحرب مقدما وفقا لما كان النبي صلى الله عليه وسلم يخبره. ومن كان هذا شأنه فهو في دائرة الحجة وليس في دائرة الحشد من أجل الأموال والغنائم. ونحن هنا سنلقي ضوءا على بعض ما كان يجري على أعتاب الحرب، لنري حجم الصعوبات التي كان الإمام يواجهها وهو يأخذ بالأسباب ليصل إلى نتيجة وهو يعرفها مقدما. وكان يسير في اتجاهها على الرغم من معرفته أنه مقتول في نهاية طريقها. لأنه كان
وأول ضوء نلقيه هنا سيكون على ما برز من طروحات فكرية في هذه الآونة، روي أن الحارث الليثي دخل على أمير المؤمنين فقال: يا أمير المؤمنين.
أي فتنة أعظم من هذه، إن أصحاب بدر يمشون بعضهم إلى بعض بالسيف، فقال الإمام: ويحك أتكون فتنة أنا أميرها وقائدها. والذي بعث محمدا بالحق وكرم وجهه. ما كذبت ولا كذبت. ولا ضللت ولا ضل بي. ولا زللت ولا زل بي. وإني لعلى بينة من ربي. بينها الله لرسوله. وبينها رسوله لي. وسأدعى يوم القيامة ولا ذنب لي. ولو كان لي ذنب لكفر عني ذنوبي ما أنا فيه من قتالهم " (1).
وروي أن الإمام خطب الناس فقال عن الفتن: إنما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع. وأحكام تبتدع. يخالف فيها كتاب الله. ويتولى عليها رجال رجالا... " (2)، وذكر ابن أبي الحديد: إن الإمام تكلم عن الفتنة. فقال:
" عليكم بكتاب الله " أي إذا وقع الأمر واختلط الناس. فعليكم بكتاب الله. وقد قام إليه من سأله عن الفتنة فقال: أخبرنا عن الفتنة وهل سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وقد روى كثير من المحدثين عن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: إن الله قد كتب عليك جهاد المفتونين. كما كتب علي جهاد المشركين. فقال علي: يا رسول الله. ما هذه الفتنة التي كتب علي فيها الجهاد؟ قال: قوم يشهدون أن لا إله إلا الله وأني رسول الله. وهم مخالفون للسنة. فقلت: يا رسول الله، فعلام أقاتلهم وهم يشهدون كما أشهد؟
قال: علي الإحداث في الدين. ومخالفة الأمر. فقلت: يا رسول الله. إنك كنت وعدتني الشهادة. فأسأل أن يجعلها لي بين يديك. قال: فمن يقاتل الناكثين
____________
(1) ابن أبي الحديد.
(2) ابن أبي الحديد 667 / 1.
يعني رأسك. فتخضب هذه - يعني لحيتك. فكيف صبرك إذن؟ قلت: يا رسول الله ليس ذا بموطن صبر. هذا موطن شكر. قال: أجل. فأعد للخصومة فإنك مخاصم. فقلت: يا رسول الله. لو بينت لي قليلا. فقال: إن أمتي ستفتتن من بعدي. فتتأول القرآن وتعمل بالرأي. وتستحل الخمر بالنبيذ. والسحت بالهدية. والربا بالبيع... فكن جليس بيتك حتى تقلدها. فإذا قلدتها جاشت عليك الصدور. وقلبت لك الأمور. تقاتل حينئذ على تأويل القرآن. كما قاتلت على تنزيله... فقلت يا رسول الله: فبأي المنازل أنزل هؤلاء المفتونين من بعدك أبمنزلة فتنة أم بمنزلة ردة؟ فقال: بمنزلة فتنة يعمهون فيها إلى أن يدركهم العدل. فقلت: يا رسول الله. أيدركهم العدل منا أم من غيرنا؟ قال: بل منا. بنا فتح الله وبنا يختم. وبنا ألف الله القلوب بعد الشرك. وبنا يؤلف بين القلوب بعد الفتنة " (1).
وقتال المفتونين وشدته وضع في دائرة الذهن. وكان أبو ذر رضي الله عنه يحدث به. قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، " والذي نفسي بيده.
إن فيكم لرجلا يقاتل الناس من بعدي على تأويل القرآن كما قاتلت المشركين على تنزيله. وهم يشهدون أن لا إله إلا الله. فيكبر قتلهم على الناس. حتى يطعنون على ولي الله ويسخطون عمله كما سخط موسى أمر السفينة والغلام والجدار. فكان ذلك كله رضي الله تعالى " (2)، ورغم أن أبا ذر كان يحدث بقتال المفتونين قبل أن يأتي زمانه. إلا أن زمانه عندما جاء، قال من قال: يا أمير المؤمنين أي فتنة أعظم من هذه. ولقد رأينا كيف أجاب الإمام على هذا. ولم تكن هذه العقبة الوحيدة التي أزاحها الإمام. وإنما كانت هناك عقبات وعقبات أوجدتها ثقافات متعددة، وروي أن الحارث بن حوط الليثي دخل على أمير المؤمنين. فقال: يا أمير المؤمنين ما أري طلحة والزبير وعائشة: أضحوا إلا
____________
(1) ابن أبي الحديد 277 / 3، ورواه وكيع (كنز المال 183 / 16).
(2) رواه الديلمي (كنزل العمال 606 / 11).
ولكن الإمام في إجابته أخذ الحارث بعيدا عن البريق والزخرف. فقال: يا حارث. إنك نظرت تحتك ولم تنظر فوقك: إن الحق والباطل لا يعرفان بالناس. ولكن إعرف الحق باتباع من اتبعه. والباطل باجتناب من اجتنبه (1).
وعلق الغزالي في كتابه المنقذ من الضلال على هذا القول فقال: العاقل من يقتدي بسيد العقلاء علي كرم الله وجهه حيث قال: " لا يعرف الحق بالرجال إعرف الحق تعرف أهله ".
وإذا كانت هناك عقبات فكرية قد واجهت الإمام. فلقد رأينا كيف تعامل الإمام مع أصحاب هذا الفكر بالمنطق وإقامة الحجة. وبنفس المنطق واجه الإمام العقبات التي واجهته عند التعبئة العامة قبل الحرب، وكما ذكرنا أن بعض الأحاديث قد ظهرت على السطح ويكمن فيها الاعتزال في غير موضعه. ومن هذه الأحاديث ما روي عن الأحنف أنه قال: خرجت وأنا أريد نصر ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقيني أبو بكرة فقال: يا أحنف ارجع فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار. فقلت: يا رسول الله هذا القاتل، فما بال المقتول؟
قال: إنه قد أراد قتل صاحبه " (2)، يقول سعيد حوي وهو يعقب على هذا الحديث: إن القتال مع علي بن أبي طالب كان حقا وصوابا. ولكن أبو بكرة حمل حديثا ورد في غير الحالة التي قاتل فيها علي. على حالة قتال علي للباغين. وهو فهم من أبي بكرة. ولكنه فهم في غير محله. ومن هذه الروايات ندرك أن عقبات متعددة واجهت عليا في معركته مع الآخرين. منها أمثال هذه الفتوى التي هي أثر من الورع أكثر منها أثر عند فتوى تصيب محلها " (3).
وورد عن الإمام علي قد حث الناس أن يعقلوا الخبر فقال: " إعقلوا الخبر
____________
(1) البيان والتبين / الجاحظ 112 / 2، تاريخ اليعقوبي 152 / 2.
(2) رواه مسلم (الصحيح 11 / 18).
(3) الأساس في السنة 1711 / 4.
وقال: " ما اختلفت دعوتان إلا كانت إحداهما ضلالة " (2)، وروي أنه لما بلغه حديث أبو بكرة قال: القاتل والمقتول منهم... ونحن إذا نظرنا في جانب آخر.
نجد أن أبا بكرة كان يرجح أن أهل الجمل لن يفلحوا. ووفقا على ترجيحه هذا حدد خطوات نفسه. ولم يحدد خطواته على حديث القاتل والمقتول في النار.
روى البخاري عنه أنه قال: " لقد نفعني الله بكلمة أيام الجمل لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن فارسا ملكوا ابنة كسرى قال: " لن يفلح قوم ولوا.
أمرهم امرأة " (3)، وقال في فتح الباري: زاد الإسماعيلي عن طريق عوف " قال أبو بكرة: فعرفت أن أصحاب الجمل لن يفلحوا "، ونقل ابن بطال عن المهلب أن ظاهر حديث أبي بكرة يوهم توهين رأي عائشة فيما فعلت (4)، وروى الترمذي أن أبا بكرة بعد أن ساق الحديث قال: " فلما قدمت عائشة ذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فعصمني الله " (5).
مما سبق نعلم أن أبا بكرة كان يرجح أن الهزيمة ستصب على أهل الجمل. لكنه قال لمن أراد أن يلتحق بجيش علي " القاتل والمقتول في النار " وهذا من خوفه على الأحنف من شدة القتال. وترتب على هذا اعتزال الأحنف بأتباعه وكان معه زهاء ستة آلاف مقاتل (6). وفي موقف آخر التبست فيها الأمور عند عملية حشد القوات. روي أن الإمام علي ذهب إلى لاهيان بن صيفي. وكان له صحبة. فقام الإمام على باب حجرته وقال له: كيف أنت يا أبا مسلم. قال:
بخير. فقال الإمام: ألا تخرج معي إلى هؤلاء القوم فتعينني. قال: إن خليلي عليه الصلاة والسلام وابن عمك. عهد إلى إذا كانت فتنة بين المسلمين أن اتخذ
____________
(1) ابن أبي الحديد 374 / 5.
(2) ابن أبي الحديد 449 / 5.
(3) البخاري ك الفتن (الصحيح 228 / 4).
(4) فتح الباري 56 / 13.
(5) الترمذي وصححه (الجامع 528 / 4)، والحاكم وأقره الذهبي (المستدرك 119 / 3).