الصفحة 72
وأكثر الأحاديث التي ذكر فيها أسماء بعض الناس أو القبائل كي تحذرهم الأمة. استغلها كعب الأحبار. وكان من المتخصصين في القص مستغلا أحاديث آخر الزمان والجنة والنار. فكعب على مساحة اللارواية. جاء بأحاديث من دائرة التخدير ووضع عليها رداء التبشير، ولقد استفاد من هذا خط بني أمية من بدايته إلى نهايته. ومن الثابت بل ومن المشهور أن كعبا كان من المنحرفين عن علي بن أبي طالب (1)، وكان أبو ذر يهاجمه في وجود عثمان إذا رآه يتدخل في توزيع الخراج. وبلغت المأساة ذروتها. عندما ألقى كعب في نفس معاوية بأحاديثه المختلفة وقصصه الإسرائيلية. وأخبره بأنه الخليفة بعد عثمان.

وبعد هذا البيان لا يستغرب أن نسمع أمير المؤمنين علي يقول لأصحابه يوم صفين: انفروا إلى بقية الأحزاب، امضوا بنا إلى ما قاله الله ورسوله. إنا نقول صدق الله ورسوله. ويقولون: كذب الله ورسوله " (2)، وليس معنى أنهم يقولون هذا. أنهم يسيرون بين الناس ويرددونها. وإنما المعنى: أن لهم تأويلا خاصا في مال الله. ودين الله وعباد الله. ولهم موقفهم الخاص من رسول الله والذي يعلمه الله. وبينه رسوله عندما وضعهم ضمن الذين يبغضونه. ولا يستغرب أيضا أن نسمع الإمام يقول بعد أن رفع معسكر معاوية المصاحف ليعبر عن أهدافه من تحتها " إن معاوية وابن العاص وابن أبي معيط وحبيب بن سلمة وابن أبي السرح والضحاك، ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، أنا أعرف بهم منكم " (3)، وقوله أيضا في معاوية وأبيه " طليق بن طليق، حزب من الأحزاب.

لم يزل حربا لله ورسوله هو وأبوه. حتى دخلا في الإسلام كارهين " (4)، وقوله:

" والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما أسلموا. ولكن استسلموا، وأسروا الكفر. فلما وجدوا عليه أعوانا. رجعوا إلى عداوتهم لنا. إلا أنهم لم يتركوا

____________

(1) قال ابن أبي الحديد: روى جماعة من أهل السير أن عليا كان يقول عن كعب الأحبار:

إنه لكذاب. وقال: وكان كعب منحرفا عن علي (ابن أبي الحديد 792 / 1).

(2) رواه البزار بإسناده (الزوائد 239 / 7).

(3) الطبري 27 / 6، الكامل 161 / 3، مروج الذهب 433 / 2، البداية والنهاية 298 / 7.

(4) الكامل 148 / 3.

الصفحة 73
الصلاة " (1)، ولا يستغرب أن نرى عمار بن ياسر الذي ورد فيه أنه يدعو إلى الجنة وخصومه يدعون إلى النار - إلى غير ذلك من الأحاديث التي ذكرناها - يقول يوم صفين وهو يشير إلى راية معاوية: قاتلت صاحب هذه الراية ثلاثا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذه الرابعة " (2)، وروي أن رجلا سأل عمارا: يا أبا اليقظان، ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: قاتلوا الناس حتى يسلموا. فإذا أسلموا عصموا مني دماءهم وأموالهم؟ قال: بلى، ولكن والله ما أسلموا ولكن استسلموا وأسروا الكفر حتى وجدوا عليه أعوانا " (3)، ولا يستغرب أن نسمع ابن مسعود وهو يحدث بحديث فيه اسم من الأسماء التي حذر النبي صلى الله عليه وسلم منها، قال عبد الله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا رأيتم معاوية بن أبي سفيان يخطب على منبري فاضربوا عنقه "، وكان الحسن يقول: فوالله ما فعلوا ولا أفلحوا " (4)، وليس معنى قتله لأنه دخل المسجد، وإنما لأنه يخطب. لأن الخطبة لا بد أن تحمل فكره وثقافته في معنى مال الله ودين الله وعباد الله، وخطورة هذه الثقافة تبلغ مداها إذا كان معاوية ورجاله هم حراس الأمة، لهذا وجدنا الحسن بن علي بعد وفاة أمير المؤمنين. يقيم الحجة على الناس في كل ميدان. فلقد تجهز لقتال معاوية ولكنه خذل، ثم حث الناس على الصمود ولكنهم قالوا: البقية البقية!!

وطلبوا الصلح. ثم اشترط الحسن شروطا. ولكن معاوية لم يف بها لسبب بسيط هو أن الأمة كانت تغط في نوم عميق. والحجة لا يأتي إلى الناس وإنما الناس هم الذين يأتون إليه لأن قانون الاختيار يدور على قوله تعالى: (ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون " (5).

____________

(1) ابن أبي الحديد 760 / 1.

(2) رواه الطبراني وقال الهيثمي رجاله ثقات (الزوائد 243 / 7) وابن سعد (الطبقات 257 / 3) والطبري 21 / 6.

(3) ابن أبي الحديد 760 / 1.

(4) المصدر السابق 760 / 1.

(5) سورة يونس: الآية 14.

الصفحة 74
فالرايات يوم صفين، كان فيها من الله برهان. فالذي يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا معروف. وقتال بني أمية من أجل الملك مشهور. وهذا القتال له بذور غرست في الفتن. وروى أنه قد قيل لسفينة: إن بني أمية يزعمون أن الخلافة فيهم. فقال: كذبوا بنو الزرقاء (1)، بل هم ملوك من شر الملوك " (2)، وبنو أمية ما زعموا هذا إلا على أساس. فلقد سمعوا الأحاديث التي تخبر بأنهم سيصلون إلى الملك (3). ولأن هذه الأحاديث أحاديث تحذيرية. رفعوها من دائرة التحذير إلى دائرة التبشير. وقاتلوا على ذلك. ساروا وسط الأمة يتعوذون من الفتنة وهم في الفتنة سقطوا لأنهم الذين حفروا حفرتها. وسنرى فيما بعد ماذا صنعوا كي بخبرهم أمير المؤمنين بخبرهم في المستقبل. وسنرى أن حركتهم خلال أحداث صفين ما تركت بابا يساعد على تأصيل هذا الشذوذ إلا فتحوه ليخلطوا الأمور على الناس فيما بعد. فالذي يبحث في الخلافة يجدهم. والذي يبحث في الملك يجدهم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

وإذا كنا قد تحدثنا عن الرايات على أرض الاصطفاف. فلنتحدث عن بعض الرجال الذين تحت هذه الرايات. أما معسكر أمير المؤمنين. روى أنه كان في جيش علي ثمانون بدريا ومائة وخمسون ممن بايع تحت الشجرة (4)، وكان جميع من شهد معه من الصحابة ألفين وثمانمائة (5) على رأس هؤلاء: عمار بن ياسر. الذي بشره النبي صلى الله عليه وسلم بأن الفئة الباغية تقتله وقال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من عادي عمارا عاداه الله ومن أبغض

____________

(1) الزرقاء امرأة من أمهات بني أمية، رواه ابن حبان (تحفة الأحواذي 479 / 6).

(2) رواه الترمذي وصححه وقال رواه غير واحد (الجامع 503 / 4) وأبو داوود حديث 4646.

(3) الحديث تحدث به أبو ذر في وجود عثمان وكعب الأحبار، ومعاوية كانت يقرب مروان منه لمعرفته أن في صلبه ملوكا. والإمام علي أخبر مروان بالأحاديث التحذيرية بعد الجمل.

(4) الحاكم (المستدرك 104 / 3) البداية 255 / 7.

(5) مروج الذهب 361 / 2.

الصفحة 75
عمارا أبغضه الله " (1)، وقال: " ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة، ويدعونه إلى النار " (2)، وتحت راية علي نجد أيضا أويس بن عامر القرني. الذي لم ير النبي صلى الله عليه وسلم. وأخبر النبي أن أويسا خير التابعين - وظهر أويس في عهد عمر بن الخطاب واستغفر لعمر. وعندما طلب عمر أن يكون أويس بجانبه. فضل أويس أن يذهب إلى الكوفة. وعندما ود عمر أن يكتب للأمراء بشأنه. قال أويس إنه يفضل أن يعيش في غبراء من الناس. وعاش أويس زاهدا حتى جاء عهد علي فخرج مقاتلا يضرب بالسيف ويصيح: يا خيل الله اركبي! وهناك الكثير تحت راية الأمير كرم الله وجهه.

أما راية بني أمية، فتحتها التجار بجميع عناوينهم، روي أن معاوية بعث رجلا إلى أمير المؤمنين وقال له: أبلغ عليا أني أقاتله بمائة ألف. ما فيهم من يفرق بين الناقة والجمل. وقد بلغ من أمرهم في طاعته لهم. أنه صلى بهم عند سيرهم إلى صفين الجمعة يوم الأربعاء، وأعاروه رؤوسهم عند القتال وحملوه بها (3). إنهم العامة والغوغاء، الذين يمهدون الطريق لكل فتنة. أما قادة الألوية الذين قاتلوا بجلد وقوة. فعلى رأسهم: أبو الأعور السلمي، وورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعنه. وبسر بن أرطاة الذي فعل الأفاعيل في مكة والمدينة واليمن. وأخباره مشهورة، ومنهم أيضا عبيد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد. وحبيب بن مسلمة الفهري، وعندما قطعوا الماء كان على الميسرة عبد الله بن عمرو بن العاص. وحابس بن سعيد.

والضحاك بن قيس. وغير هؤلاء كثير (4). وروي عن ابن إسحاق أنه قال:

اجتمع عند معاوية في ليلة من ليالي صفين عمرو بن العاص. وعتبة بن أبي سفيان. والوليد بن عقبة ومروان بن الحكم وعبد الله بن عامر وابن طلحة الطلحات الخزاعي، فقال عتبة: إن أمرنا وأمر علي بن أبي طالب لعجيب. ما

____________

(1) رواه أحمد والطبراني ورجاله رجال الصحيح (الفتح 329 / 22) (الزوائد 293 / 9).

(2) رواه أحمد (الفتح 142 / 23) والبخاري (كنز العمال 722 / 11).

(3) مروج الذهب 41 / 3.

(4) ابن أبي الحديد 649 / 1. والطبري أحداث سنة 36.

الصفحة 76
فينا إلا موتور محتاج. أما أنا فقتل جدي عتبة بن ربيعة. وأخي حنظلة، وشرك في دم عمي شيبة يوم بدر، وأما أنت يا وليد، فقتل أباك صبرا، وأما أنت يا ابن عامر. فصرع أباك وسلب عمك، وأما أنت يا ابن طلحة، فقتل أباك يوم الجمل وأيتم إخوتك، وأما أنت يا مروان فكما قال الشاعر:

وأفلتهن عليا جريصا * ولو أدركنه صفر الوطاب (1)

فقال معاوية: هذا الاقرار فأين الغير؟ قال مروان: وأي غير تريد؟ قال:

أريد أن تشجروه بالرماح، قال: والله يا معاوية ما أراك إلا هاذيا أو هازئا. وما أرانا إلا ثقلنا عليك، فقال ابن عقبة:

يقول لنا معاوية بن حرب * أما فيكم لواتركم طلوب
يشد على أبي حسن علي * بأسمر لا تهجنه الكعوب

إلى أن قال:

فقلت له: ألكعب يا بن هند * كأنك بيننا رجل غريب
أتغرينا بحية بطن واد * إذا نهشت فليس لها طبيب (2)

فهم يخافون لأنهم لا يستندون إلى حقيقة. وإنما إلى فتنة شقوا فيها طريقهم. ولأنهم خائفون كان لا بد لهم من جدر تحميهم وتحمي تاريخهم.

ومن أجل إقامة هذه الجدر بعثروا المال على العقول والنفوس. وما تركوا خدعة إلا فعلوها ولا مصحفا إلا رفعوه. وهذا الأسلوب لا يقدم عليه أمير المؤمنين.

أولا: لأنه حجة ويعلم أنه مقتول. وثانيا: لأن الغادر يرفع له لواء يوم القيامة.

ويظهر غدره على رؤوس الأشهاد.

5 - القتال:

قبل أن يتوجه معاوية إلى صفين، كان قد صالح ملك الروم على مال

____________

(1) لامرئ القيس، علياء / قاتل والد امرئ القيس، الجريص / الذي يؤخذ بريقه، صفر الوطاب / كناية عن القتل.

(2) ابن أبي الحديد 478 / 2.

الصفحة 77
يحمله إليه لشغله بعلي (1). والذي أشار عليه بالتقريب إلى الروم لتفرغ لعلي هو عمرو بن العاص (2)، وعندما توجه إلى صفين حاول السيطرة على مصادر المياه، ولكن خطته باءت بالفشل أمام قوات أمير المؤمنين عليه السلام. وعندما اصطف الفريقان قبل القتال يقول ابن عباس: عقم النساء أن يأتين بمثل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، والله ما رأيت ولا سمعت رئيسا يوزن به. رأيت في هذا اليوم عليا وعليه عمامة بيضاء وكأن عينيه سراجا سليطا (3)، وهو يقف على طوائف الناس في مراتبهم يحثهم ويحرضهم، حتى انتهى إلي وأنا في كثيف (4) من الناس. فقال: يا معشر المسلمين، عموا الأصوات، وأكملوا اللامة (5)، واستشعروا الخشية، وافلقوا السيوف في الأجفان قبل السل، والحظوا الشزر (6)، واطعنوا الهبر (7)، ونافحوا (8) بالظبأ (9)، وصلوا السيوف بالخطا (10)، والنبال بالرماح، وطيبوا عن أنفسكم، فإنكم بعين الله، ومع ابن عمر رسول الله، عاودوا الكر، واستقبحوا الفر، فإنه عار في الأعقاب، ونار يوم الحساب، ودونكم هذا السواد الأعظم، والرواق (11) المطنب (12)، فاضربوا نهجه، فإن الشيطان راكب صعيده، مفترض ذراعيه، قد قدم للوثبة يدا وأخر

____________

(1) مروج الذهب 418 / 2.

(2) الطبري 186 / 6.

(3) السراج السليط / المتقد بالزيت الجيد.

(4) كثيف / أي حشد وجماعة.

(5) اللامة / الدرع.

(6) الشزر / النر بمؤخرة العين.

(7) الهبر / اللحم الكثير.

(8) نافخوا / دافعوا.

(9) الظبأ / حد السيف.

(10) الخطا / الرمي بالسهام.

(11) الرواق / ما بين يدي البيت.

(12) المطنب / المشدود.

الصفحة 78
للنكوص (1) رجلا، فصبر جميل حتى تنجلي عن وجه الحق، وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم، وتقدم أمير المؤمنين على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم الشهباء " (2).

ومن آراء أمير المؤمنين قبل القتال روي أنه قال: لا تقتلوا القوم حتى يبدؤكم. فأنتم بحمد الله عز وجل على حجة، وترككم إياهم حتى يبدؤكم حجة أخرى لكم. فإذا قاتلتموهم فهزمتموهم، فلا تقتلوا مدبرا، ولا تجهزوا على جريج، ولا تكشفوا عورة، ولا تمثلوا بقتيل. فإذا وصلتم إلى رحال القوم، فلا تهتكوا سترا، ولا تدخلوا دارا إلا بإذن، ولا تأخذوا من أموالهم إلى ما وجدتم في عسكرهم، ولا تهجوا امرأة بأذى - وإن شتمن أعراضكم وسبين أمراءكم وصلحاءكم فإنهم ضعاف القوى والأنفس (3).

وبعد هذه التعليمات الرفيعة المستوي، نادي أمير المؤمنين: يا كهيعص (4) اللهم إليك رفعت الأبصار وبسطت الأيدي، ونقلت الأقدام، ودعت الألسن، وأفضت القلوب، وتحوكم إليك في الأعمال، فاحكم بيننا وبينهم بالحق، وأنت خير الفاتحين. اللهم إنا نشكو إليك غيبة نبينا، وقلة عددنا، وكثرة عدونا، وتشتت أهوائنا، وشدة الزمان، وظهور الفتن، فأعنا على ذلك بفتح منك تعجله، ونصر به سلطان الحق وتظهره (5).

وبعد أن فرغ أمير المؤمنين، روي عن الحارث أنه قال: رأيت بعيرا من أهل الشاء جاء وعليه راكبه وثقله (6) فألقى ما عليه، وجعل يتخلل الصفوف إلى علي بن أبي طالب. فجعل شفره فيما بين رأس علي ومنكبه، وجعل يحركها

____________

(1) النكوص / الفرار والهرب.

(2) مروج الذهب 420 / 2، ابن عساكر (كنز العمال 347 / 11).

(3) الطبري 6 / 6، ابن أبي الحديد 757 / 1.

(4) ابن أبي الحديد 209 / 2.

(5) ابن أبي الحديد 209 / 2.

(6) ثقله / حملة.

الصفحة 79
بجرانه، فقال أمير المؤمنين: والله إنها للعلامة بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم (1). وروي كان درع علي بن أبي طالب لا ظهر لها. فقيل له في ذلك، فقال: إذا استمكن عدوي من ظهري فلا يبقى (2). وروي إنه كان بعد المعركة وفي نهاية كل يوم كان يظهر في إزار ورداء. فقيل له: أتقتل أهل الشام بالغداة وتظهر بالعشي في إزار ورداء؟! فقال: أبا لموت تخوفوني؟! فوالله ما أبالي أسقطت على الموت أم سقط علي (3).

ولم يكن هدف الإمام القتل، وإنما إقامة الحجة، وفتح طريق الهداية أمام الذين وقعوا تحت تأثير الإعلام الأموي، وكان هذا الإعلام قد بث في الناس أن عليا لا يصلى وأنه قتل عثمان، وإذا وقع في يده أسير فإن عليا يقتله صبرا. ومن معالم إقامة الحجة أثناء المعركة على الذين سقطوا ضحية للإعلام الأموي. روي أن عليا أتي بأسير يوم صفين، فقال له الأسير: لا تقتلني صبرا، فقال الإمام: لا أقتلك صبرا إني أخاف الله رب العاملين، وخلى سبيله، ثم قال له: أفيك خير يتابع (4).

وروي أن شابا من معسكر معاوية أنشد:

أنا ابن أرباب الملوك غسان * والدائن اليوم بدين عثمان
نبأنا قراؤنا بما كان * أن عليا قتل ابن عفان

وظل الشاب يشتم ويلعن، فلقيه هاشم بن عتبة وكان من أصحاب علي فقال له: يا هذا إن الموقف وما أردت به. قال: فإني أقاتلكم لأن صاحبكم لا يصلي كما ذكر لي، وأنتم لا تصلون أيضا. وأقاتلكم لأن صاحبكم قتل خليفتنا وأنتم ساعدتموه على قتله، فقال له هاشم: وما أنت وابن عفان، إنما قتله أصحاب محمد وأبناء الصحابة وقراء الناس، حين أحدث الأحداث وخالف حكم

____________

(1) رواه أبو نعيم وابن عساكر (كنز العمال 350 / 11)، (الخصائص الكبرى 234 / 2).

(2) العقد الفريد 209 / 1.

(3) العقد الفريد 119 / 1. وابن كثير بلفظ آخر (البداية 265 / 7.

(4) رواه الشافعي والبيهقي (كنز العمال 348 / 10).

الصفحة 80
الكتاب!! وهم أهل الدين وأولى بالنظر في أمور الناس منك ومن أصحابك...

وأما قولك إن صاحبنا لا يصلي، فهو أول من صلى، وأفقه خلق الله في دين الله، وأولى بالرسول، وأما كل من ترى معي فكلهم قارئ لكتاب الله، لا ينام الليل تهجدا، فلا يغوينك عن دينك هؤلاء الأشقياء المغرورون. فقال له الفتى: يا عبد الله إني أظنك أمرأ صالحا فتخبرني، هل تجد لي من توبة؟ قال هاشم: نعم يا عبد الله تب إلى الله يتب عليك فإنه يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويحب المتطهرين. فرجع الفتى. فقال له أهل الشام: خدعك العراقي، خدعك العراقي. قال: لا ولكن نصح لي (1).

وروي أن معاوية بعث وفدا ليستلم القتلى، فقابل الإمام علي هذا الوفد وقال لهم: معاوية الذي لم يجعل له سابقة في الدين، ولا سلف صدق في الإسلام، طليق ابن طليق، حزب من الأحزاب، لم يزل حربا لله ورسوله هو وأبوه، حتى دخلا في الإسلام كارهين، ولا عجب إلا من انقيادكم له وتتركون آل بيت نبيكم الذين لا ينبغي لكم شقاقهم ولا خلافهم. ألا إني أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه وإماتة الباطل وإحياء الحق ومعالم الدين. فقالوا: تشهد أن عثمان قتل مظلوما. قال: لا أقول أنه قتل مظلوما ولا ظالما. فقالوا: الذي لا يتبرأ من قتل عثمان نحن نتبرأ منه (2). فتلى الإمام (فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين. وما أنت بهاد العمي عن ضلالتهم أن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون) (3).

ولم يكتف الإعلام الأموي بهذه النتيجة، وهذا الحشد من الذين صلوا الجمعة يوم الأربعاء. وإنما جلسوا على أرض صفين يشتمون الإمام، ليثبتوا الباطل داخل الجماجم الآدمية، ليشق الباطل طريقه في عالم الاحتناك، روي أن الإمام مر على جماعة من أهل الشام فيها الوليد بن عقبة وهم يشتمونه فخبر

____________

(1) الطبري 23 / 6، الكامل 159 / 3.

(2) الكامل 148 / 3.

(3) سورة الروم: الآية 52،، 53.

الصفحة 81
بذلك، فوقف فيمن يليهم من أصحابه. فقال: انهضوا إليهم عليكم السكينة والوقار، وقار الإسلام وسيما الصالحين، فوالله لأقرب قوم من الجهل قائدهم ومؤذنهم معاوية، وابن النابغة، وأبو الأعور السلمي، وابن أبي معيط شارب الخمر المجلود جلدا في الإسلام. وهم أولى من يقومون فينتقصونني ويجذبونني. وقبل اليوم ما قاتلوني وأنا إذ ذاك أدعوهم إلى الإسلام، وهم يدعونني إلى عبادة الأصنام، الحمد الله قديما عاداني الفاسقون فعبدهم الله، ألم يفتحوا؟ إن هذا لهو الخطب الجليل، إن فساقا كانوا غير مرضيين وعلى الإسلام وأهله متخوفين. خدعوا شطر هذه الأمة. وأشربوا قلوبهم حب الفتنة ما استمالوا أهواءهم بالإفك والبهتان. قد نصبوا لنا الحرب في إطفاء نور الله عز وجل، اللهم فافضض خدمتهم، وشتت كلمتهم، وأبسلهم بخطاياهم، فإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت (1).

لقد جلسوا على الطرقات يشتمون، فإذا أمير المؤمنين يصدر أوامره لاتباعه: انهدوا إليهم عليكم السكينة والوقار، وقار الإسلام وسيما الصالحين!!

فأي فرق بين هذا وذاك!؟ لقد كان عليه السلام في قتاله يقود الناس إلى صراط الله العزيز الحميد، رغم ضراوته في القتال. كان يقيم الحجة أولا ثم يضرب بكل قوة أصحاب الرقاب الغليظة الذين يشيدون الطرق نحو سنن اليهود والنصارى، حتى لا يقذفون بالأمة في دروبها المظلمة، وبقدر صمود الناس من حوله تكون قوة الضربات. روي أنه كان في صفين لا يرجع حتى يخصب سيفه، وأنه حمل ذات يوم على أعدائه فلم يرجع حتى انثنى سيفه، فألقاه إليهم وقال:

لولا أنه انثنى ما رجعت (2). وذكر علماء التاريخ وغيرهم أنه بارز في أيام صفين، وقتل خلقا حتى ذكر بعضهم أنه قتل خمسمائة (3). وكانت أقوى ضرباته بعد أن قتل عمار بن ياسر. وروي أنه في يوم من أيام صفين، قال الناس: إن

____________

(1) الطبري 25 / 6.

(2) البداية والنهاية 294 / 7.

(3) البداية والنهاية 264 / 7.

الصفحة 82
معاوية قد مات. فقال أمير المؤمنين: قد أكثرتم من نعي معاوية، والله ما مات، ولا يموت حتى يملك ما تحت قدمي. وإنما أراد ابن آكلة الأكباد أن يعلم ذلك مني، فبعث من يشيع ذلك فيكم، ليعلم ويتيقن ما عندي فيه، وما يكون من أمره في المستقبل من الزمان. ثم ذكر أمير المؤمنين ما يكون من أمر معاوية وذكر الحجاج وما يسومهم من العذاب. فارتفع الضجيج. فقال رجل: إن ذلك كائن؟

قال الإمام: والله إن ذلك لكائن. فقال آخر: متى يكون؟ قال: إذا خضبت هذه من هذه - ووضع إحدى يديه على لحيته والأخرى على رأسه - وأكثر الناس من البكاء فقال: لا تبلوا في وقتكم هذا. فستبكون بعدي طويلا. وبعد أن حدثهم الإمام، كاتب أكثر أهل الكوفة إلى معاوية سرا في أمورهم. واتخذوا عنده الأيادي (1).

هنا تكمن حقيقة الابتلاء، وهنا ترى حركة التاريخ، فالإمام يقاتل بضراوة وهو يعلم أنه مقتول وأن معاوية سيملك ما تحت قدمه، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يجاهد ويحذر وهو يعلم أن غلمان قريش سينزون على منبره نزو القردة، وكان ينادي بوحدة الأمة وهو يعلم أنها ستفترق إلى أكثر من سبعين شعبة، وكان يحذر من اتباع اليهود والنصارى وهو يعلم أن مساحة كبيرة من الأمة ستتبعهم شبرا بشبر وذراعا بذراع، والإمام علي من بايعه الناس وهو يخوض حروبا فتحوها عليه من كل جانب. ومع ذلك لم يهمل الاصلاح وإقامة الحجة وحشد الحشود، وهو يعلم أن الحشود من حوله ستنفض، ثم تأتيه ضربة من أشقى الناس فتخضب لحيته من رأسه، فما معنى هذا؟ لقد ذكرنا في هذا الكتاب أن كليات الدين موجودة في فطرة الإنسان نفسه، وهذه الفطرة تهدي الإنسان إلى صراط الله العزيز. ومعنى أنها تهديه إلى طريق وإن هناك طريقا آخر يحمل معالم أخرى لا تهدي إلى صراط الله العزيز. ودائرة الفطرة يسهر عليها أنبياء الله ورسله - فالله يبعثهم بالدين، والدين طريق خاصة في الحياة تؤمن صلاح الدنيا بما يوافق الكمال الأخروي. أما دائرة اللاهدى، فيسهر عليها

____________

(1) مروج الذهب 465 / 2.

الصفحة 83
الشيطان. وبرنامج الشيطان يعتمد على التزيين والإغواء، ليصل بالإنسان إلى مرحلة الاحتناك، وهي مرحلة خدمة الأهواء والسياسة الشيطانية، والإنسان بين برنامج الفطرة وبين برنامج الشيطان حر مختار، بمعنى أن الله تعالى حاصر الإنسان بجميع الحجج في نفسه وفي الوجود حتى لا تكون له على الله حجة. ثم أمر سبحانه الجوارح أن تطيع صاحبها فيما يريد، ويختار، وكلما اختار الإنسان شيئا من دائرة الشيطان، انطفأ نور من أنوار الفطرة بداخله - فإذا اختار الكفر خرج الإيمان من قلبه، وفي كل إنسان قلب واحد وهذا القلب لا يحمل إلا شيئا واحدا.

قال تعالى: (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه) (1)، ولأن الله تعالى يعلم أن وسائل الشيطان لها بريقها، وأن هذا البريق سيكون عاملا مهما في الصد عن سبيل الله، بعث سبحانه الرسل على فترات، ليبينوا للناس أسباب الهدى كي تطرد القلوب الكفر وتعمر بالإيمان.

والرسالة الخاتمة جاءت لتدعو الناس إلى صراط الله العزيز، وحذرت من دوائر الشيطان أشد التحذير، وما تركت الرسالة سبيلا إلى الهدى إلا بينته. ومن فضل الله تعالى على الأمة الخاتمة أنه سبحانه أوحي إلى رسوله بما سيحدث في أمته حتى قيام الساعة، وأخبره بخطوات الشيطان في بعض القبائل وداخل بعض النفوس ليحذر أمته من هذا ومن ذاك، وأخبره سبحانه بعلمه المطلق أنه رغم تحذيره إياهم إلا أن الغالب الأعم من الأمة لن ينصت إلى هذا التحذير وأن الأمة ستختلف ثم ستفترق ثم ستتبع سنن الأولين شبرا بشبر وذراعا بذراع، وعلى امتداد هذا الطريق فإن الحجة فوق الرؤوس، وفي الكون وفي أعماق أعماق النفس حيث الفطرة والموعد الله. ومعنى أن الحجة فوق الرؤوس أن الحجة مستمرة وتسوق الناس إلى صراط الله العزيز. ولا يضرها من خالفها أو خذلها أو ناوأها. ولا يضرها قتل أو قطع رؤوس أو سجن أو طرد أو نفي. فالملك لله، والموعد الله.

وفي عهد الإمام علي كان الإمام يعلم نهايته. فلم يتألم لأنه سيضرب على

____________

(1) سورة الأحزاب: الآية 4.

الصفحة 84
رأسه، وإنما كان يقول: فوالله ما أبالي أسقطت على الموت أم سقط علي " (1).

ولم يكن الإمام يتألم من هذا، وإنما كان يتألم أن يرى باطلا ولا يستطيع كسره.

وذلك لأنه يعيش في دائرة الإيمان الكامل. وأصحاب هذه الدائرة لا تشعر جوارحهم إلا بما في مخزون الفطرة ودائرة العبادة الحق. لقد كان الإمام يعلم بأنه مقتول، ولكنه كان يأخذ بأسباب إقامة المجتمع الصالح. وليس معنى أن الله تعالى كتب على كل إنسان الموت وأن يجلس الإنسان على سريره لينتظر الموت، وإنما عليه أن يكد ويحصل العلوم ويأخذ بأسباب الحياة الكريمة التي تؤمن صلاح الدنيا بما يوافق الكمال الأخروي.

والإمام أعلن أمام الجميع إخبار الرسول له بأنه مقتول. وهناك فرق بين مقتول وميت. فإذا كانت الأمة ستقتل الإمام، فهل هذا أخذا بأسباب الحياة الكريمة؟ قد يقال إن الذي قتله إنسان واحد، فنقول إن الذي قتل الناقة كان إنسان واحد، ولكن الله عندما أخبرنا بقتلها قال: " فكذبوه فعقروها " ثم أخبرهم الإمام أن بعد القتل سيأتيهم العذاب. والعجيب أن الإمام عندما أخبرهم بأنه سيقتل وأن معاوية سيملك ما تحت قدمه. سارع البعض بإرسال الرسائل إلى معاوية واتخذوا عنده الأيادي. فهل هذا أخذا بالأسباب الكريمة؟. فإذا جاء العذاب فهل يكون العذاب إلا نتيجة طبيعية لأعمالهم. لأن الله لا يظلم مثقال ذرة.

إن الإنسان الذي يفسد دينه الفطري لا تتعادل قواه الحسية الداخلية، وتصبح معظم ملكات نفسه في حالة جوع دائم. واليهود عندما فسد دينهم الفطري جاعت نفوسهم، وعندما جاء إليهم أنبياء الله ورسله لإطعامهم الحلال، لم يجدوا في الحلال كفاية، فقتلوا الأنبياء، ولما كان لا بد أن يسير اليهود وراء إمام لهم، بشرط أن يكون هذا الإمام موافق لما يريدون، بدأوا ينقبون في أحاديث الغيب وأخبار المستقبل التي تركتها رسلهم. فوجدوا أحاديث عليها علامات تحذيرية وأخرى عليها علامات تبشيرية، واختلط الأمر عليهم فهناك

____________

(1) العقد الفريد 119 / 1.

الصفحة 85
أشياء يريدونها وعليها تحذير وأخرى لا يريدونها وعليها تبشير. ووجدوا أن الغيب فيه مسيحان الأول يولد من عذراء والآخر دجال. ووجدوا أن ابن العذراء لن يعطيهم إلا بميزان بينما الآخر سيصب عليهم الدنيا صبا، واختلط عليهم الأمر، وهنا تدخل أحبار السوء في كل زمان وكل مكان، الأحبار الذين يسعون في الأرض فسادا، فقالوا أنهم أحباء الله والله لا يعطي أحباءه بميزان. وقد يكون الأولون قد أخطأوا في تحديد التحذير والتبشير. ثم استقروا على المسيح الثاني.

وحاولوا قتل المسيح الأول عندما بعثه الله إليهم، ولما كان المسيح الذي وقعوا عليه هو الدجال الذي وصفته الأحاديث بأنه يهودي أي أنه على هوى اليهود (1).

وعالم ابتغاء الفتنة عالم طويل عريض، ويبحث أصحابه دائما في أصولهم التي في صدورهم، ثم يعملوا من أجل إيجاد رداء لهم يسيرون به في الحياة، وكلما كان الرداء له قداسة كانت العقبات في طريقهم أقل. ولقد استغل تيار النفاق الجلباب الإسلامي. بل استغلوا فيما بعد القرآن، قال تعالى: (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة) (2)، ثم استغلوه عندما رفعوه طلبا للتحكيم بينهم وبين أمير المؤمنين الذي يقاتلهم أصلا على التأويل. وكانوا يريدون من وراء ذلك أولا: الخروج من المعركة أحياء، وثانيا: إخراج الإمام من دائرة أنه الأعلم بالتأويل. كما حاولوا من قبل إخراجه من دائرة التطهير.

6 - مشاهد من ميدان القتال:

لقد كان هناك من خذل الإمام من البداية، عندما علموا أن الأمر سيكون لمعاوية في النهاية. وكان هناك أيضا الذين علموا بنهاية الإمام ولكنهم أخذوا بالأسباب نحو الحياة الكريمة. ومنهم من كان يعلم أن الفئة الباغية ستقتله في هذه المعركة لا محالة، ولكن لم يمنعه ذلك من أن يسير وراء أمير المؤمنين.

باختصار: كان هناك من يأخذ بالأسباب لينظر الله إلى عمله وهو يسير نحو

____________

(1) راجع بحوثنا في المسيح الدجال وصدر منها خمس بحوث.

(2) سورة آل عمران: الآية 7.

الصفحة 86
غايته. أما نتيجة هذا العمل فعند الله أمرها.

  • من هؤلاء (يزيد بن قيس الأرجي):

    لقد حرض الناس فقال: إن المسلم السليم من سلم دينه ورأيه، وإن هؤلاء القوم والله إن يقاتلوننا على إقامة دين رأونا امتناه. وإن يقاتلوننا إلا على هذه الدنيا، ليكونوا جبابرة فيها ملوكا. فلو ظهروا عليكم لا أراهم الله ظهورا ولا سرورا. ألزموكم بمثل سعيد والوليد وعبد الله بن عامر السفيه الضال. يجيز أحدهم في مجلسه بمثل ديته ودية أبيه وجده، يقول هذا لي ولا إثم علي. كأنما أعطى تراثه عن أبيه وأمه، وإنما هو مال الله عز وجل، أفاءه علينا بأسيافنا وأرماحنا. فقاتلوا عباد الله القوم الظالمين الحاكمين بغير ما أنزل الله، ولا يأخذكم في جهادهم لوم لائم. ثم فإنهم ما ازدادوا إلى يومهم إلا شرا (1).

  • ومنهم (عبد الله بن بديل):

    قال في الناس: إلا أن معاوية ادعي ما ليس أهله، ونازع هذا الأمر من ليس مثله، وجادل بالباطل ليدحض به الحق، وصال عليكم بالأعراب والأحزاب قد زين لهم الضلالة وزرع في قلوبهم حب الفتنة. وليس عليهم الأمر، وزادهم رجسا إلى رجسهم، وأنتم على نور من ربكم، وبرهان مبين. فقاتلوا الطغاة الجفاة ولا تخشوهم. فكيف تخشونهم وفي أيديكم كتاب الله عز وجل طاهرا مبرورا؟ " أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين. قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين "، وقد قاتلناهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة، وهذه ثانية، والله ما هم في هذه بأتقى ولا أزكي ولا أرشد قوموا إلى عدوكم، بارك الله عليكم، فقاتل قتالا شديدا هو وأصحابه (2).

    وروي: كان على عبد الله بن بديل بصفين ومعه سيفان فكان يضرب

    ____________

    (1) الطبري 10 / 6، الكامل 152 / 3.

    (2) الطبري 9 / 6، الكامل 151 / 3، الإصابة 40 / 4.

    الصفحة 87
    أهل الشام وهو يقول:

    لم يبق إلا الصبر والتوكل * ثم التمشي في الرعيل الأول
    مشى الجمال في حياض المنهل * والله يقضي ما يشاء ويفعل (1)

    وروي أن الصحابي الجليل عبد الله بن بديل هو ونفر من أصحابه على الموت، فاقتحم هو وأصحابه قبة معاوية وكان عدد أصحابه بين المائتين والثلثمائة. وعندما أرسل إليه الأشتر أن يقاتل بين الناس لأن في هذا بقاء له ولأصحابه أبى. وانطلق نحو معاوية وكان حول معاوية رجال كالجبال يقول الطبري: كان في يده سيفان وخرج أمام أصحابه. فأخذ كلما دنا منه رجل ضربه فقتله حتى قتل سبعة، ودنا من معاوية فنهض إليه الناس من كل جانب، وأحبط به وبطائفة من أصحابه، فقاتل حتى قتل وقتل ناس من أصحابه ورجعت طائفة (2).

  • ومنهم (أويس بن عامر القرني):

    أخبر عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليكون حجة على التابعين كي ينصروا عليا، روي الإمام مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن خير التابعين رجل يقال له أويس " (3)، وقال الحاكم: أويس لم يصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما ذكره رسول الله ودل على فضله (4)، وقال النووي: هو من دلائل النبوة لأنه أخبر عن اسمه واسم أبيه ونعته وقبيلته، وإنه يجتمع بعمر، وكل ذلك غيب، فكان ذلك. ولفظ مسلم " يأتي عليكم أويس بن عامر مع إمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن، وكان به برص. فبرأ منه إلا موضع الدرهم. له والدة هو بها بر، لو أقسم على الله لأبره... "، وقال لعمر:

    ____________

    (1) الإصابة 40 / 4.

    (2) الطبري 13 / 6.

    (3) مسلم في فضل أويس (الصحيح 95 / 16).

    (4) الحاكم (المستدرك 402 / 3).

    الصفحة 88
    " فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل " (1).

    وعندما التقى بعمر قال له عمر: لا تفارقني. فأملس منه (2)، وكان عمر قد سأله: أين تريد؟ قال: الكوفة. فقال عمر: ألا أكتب لك إلى عاملها فيستوصي بك. قال: لا. أكون في غبراء الناس أحب إلى (3).

    وعن الحسن البصري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يدخل الجنة بشفاعة رجل من أمتي وأكثر من ربيعة ومضر. قال الحسن: إنه أويس.

    وقال أبو بكر بن عياش: قلت لرجل من قوم أويس بأي شئ بلغ هذا؟ قال:

    فضل الله يؤتيه من يشاء (4)، وظل أويس في الكوفة زاهدا في عالم اكتنز الذهب والفضة، وجارت فيه الولاة، وفي عهد علي خرج الزاهد ليقف تحت لواء سيد الزاهدين، عن الأصبغ بن نباته قال: شهدت عليا يوم صفين وهو يقول: من يبايعني على الموت! فبايعه تسع وتسعون. فقال علي: أين التمام؟ أين الذي وعدت به؟ فجاء رجل عليه أطمار صوف. محلوق الرأس فبايعه على الموت والقتل. فقال: هذا أويس القرني، فما زال يحارب بين يديه حتى قتل (5).

    وروى الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: نادي رجل من أهل الشام يوم صفين: أفيكم أويس القرني؟ قالوا: نعم، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن من خير التابعين أويس القرني (6). وهكذا كان أويس حجة على نهاية جيل وبداية جيل آخر. وروى الإمام الحاكم: لما كان يوم صفين. نادي مناد من أصحاب معاوية: أفيكم أويس القرني؟ قالوا: نعم.

    فضرب دابته حتى دخل معهم. ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم

    ____________

    (1) مسلم (الصحيح 95 / 16)، (كنز العمال 75 / 12).

    (2) أي تخلص وأفلت (كنز العمال 4 / 14).

    (3) رواه مسلم وابن سعد وأبو عوانة وأبو يعلى وأبو نعيم والبيهقي والروباني (كنز العمال 4 / 14).

    (4) الحاكم (المستدرك 405 / 3).

    (5) الحاكم (المستدرك 403 / 3).

    (6) رواه أحمد وقال الهيثمي إسناده جيد (الفتح 445 / 22).


    الصفحة 89
    وسلم يقول: خير التابعين أويس القرني (1).

    إن كان ورقة تسقط علمها عند الله، وكل خطوة في حركة التاريخ عليها حجة من الله، وما من بصمة إلا ولها جذور، وما خلق الله شيئا إلا لهدف.

    وعلى امتداد أيام صفين ضرب الزاهد بسيفه فماذا كان يريد هذا الزاهد؟ وما معنى أن الله سبحانه يخبر رسوله صلى الله عليه وسلم بهذا الزاهد ومكانته؟

    وما المقصود من وراء هذا؟ ولماذا قاتل مع علي بالذات؟ وما هي أهدافهما؟ إن هذه أسئلة وغيرها يتركها الباحث دون إجابة لمن أراد أن يتفكر ويتدبر.

    والآن كيف كانت نهاية هذا المقاتل الزاهد؟ يقول ابن حجر في حديث صحيح الإسناد، نادى منادي علي: يا خيل الله اركبي وابشري، قصف الناس، فانتضى أويس سيفه حتى كسر جفنه فألقاه، ثم جعل يقول:

    يا أيها الناس تموا تموا ليتمن وجوه، ثم ينصرف حتى يرى الجنة.

    فجعل يقول ذلك ويمشي. حتى إذا جاءته رمية فأصابت فؤاده فقتل (2)، وعن يحيى بن معين قال: قتل أويس القرني بين يدي علي بن أبي طالب يوم صفين (3).

    ويبدو أن وجود أويس في معسكر علي بن أبي طالب لم يرق للبعض وفقا لأمور سياسة غير خافية. وكان العلماء يخافون من الحكام. يقول النووي في حديث " خير التابعين أويس "، هذا صريح في أنه خير التابعين. وقد يقال: قد قال أحمد بن حنبل وغيره. أفضل التابعين سعيد بن المسيب. والجواب: إن مرادهم أن سعيدا أفضل في العلوم الشرعية. كالتفسير والحديث والفقه. لا في الخير عند الله!!؟ (4). وقال ابن الصلاح: حديث خير التابعين قاطع للنزاع.

    ولكن في رأي السخاوي. إن تفضيل أحمد لابن المسيب، لعله أراد الأفضلية في

    ____________

    (1) الحاكم (المستدرك 402 / 3) وابن سعد (الخصائص الكبرى 220 / 2).

    (2) الإصابة 117 / 1.

    (3) الحاكم وأقره الذهبي (المستدرك 402 / 3).

    (4) النووي شرح مسلم (الصحيح 95 / 16).

    الصفحة 90
    العلم لا الخيرية (1). وهكذا اختلفوا مع وجود نص صريح، كما اختلفوا من قبل في مولى المؤمنين.

    وربما يعود ذلك إلى الخوف والله أعلم. أما اختيار سعيد بن المسيب. فإن لابن المسيب تاريخه الذي لا ينكره عليه باحث. ولكن هذا الاختيار يقتضي أن ننظر في الأحداث بجملتها. وابن المسيب عندما سمع من عامر بن سعد حديث " أنت مني بمنزلة هارون من موسى " لم يطمئن وذهب بنفسه إلى سعد وراجعه فأقسم له سعد أنه سمعه من رسول الله (2)، وابن المسيب عندما يتأكد بنفسه من صحة حديث. فلا غبار على هذا، ولكن ابن أبي الحديد قال وهو يتحدث عن المنحرفين عن علي بن أبي طالب " وكان سعيد بن المسيب منحرفا عن علي " (3).

    وقتل أويس بن عامر القرني بين يدي علي بن أبي طالب، وهو يأخذ.

    بأسباب الحياة الكريمة. وبعد قتل أويس ازدادت المعركة ضراوة، واقتتلوا كأشد القتال، وكثرت القتلى بينهم. وتحاجزوا عند الليل.

  • ومنهم (عمار بن ياسر):

    ولقد ذكرنا ما ورد فيه على امتداد هذا البحث، فعمار كان الميزان على امتداد معارك أمير المؤمنين. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي عندما ذكر عمار: أما أنه سيشهد معك مشاهد أجرها عظيم، وذكرها كثير، وثناؤها حسن " (4)، وكان عمار حجة على الذين انحرفوا عن أمير المؤمنين أو اعتزلوه في وقت لا يجب فيه الاعتزال. روي أن رجلا جاء إلى ابن مسعود فقال: إن الله قد أمننا أن يظلمنا ولم يؤمنا أن يفتننا.

    أرأيت إذا نزلت فتنة كيف أصنع. قال: عليك بكتاب الله. فقال: أرأيت أن

    ____________

    (1) تبسيط علوم الحديث / المطيعي ص 203.

    (2) رواه مسلم (الصحيح 174 / 15).

    (3) ابن أبي الحديد 809 / 1.

    (4) رواه أبو نعيم (كنز العمال 723 / 11).

    الصفحة 91
    جاء قوم كلهم يدعون إلى كتاب الله. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا اختلف الناس كان ابن سمية مع الحق (1). ومن قبل رأينا كيف أوصى حذيفة بالتزام عمار. والنبي صلى الله عليه وسلم وضع حول عمار مناقب لهدف حتى لا يكون للناس حجة في عدم التزام علي والقتال تحت رايته.

    وعمار، كما ورد في البخاري، أجاره الله من الشيطان " (2)، وكما ورد عند الإمام أحمد: " ما عرض عليه أمران قط إلا اختار الأرشد منهما " (3)، وأيضا:

    " من عادي عمار عاداه الله " (4). وكما ورد عند البزار والطبراني: " أبو اليقظان على الفطرة لا يدعها حتى يموت " (5)، وكما ورد عن ابن عساكر: عمار خلط الله والإيمان ما بين قرنه إلى قدمه وخلط الإيمان بلحمه ودمه يزول مع الحق حيث زال. وليس ينبغي للنار أن تأكل منه شيئا " (6).

    وعمار عهد إليه النبي صلى الله عليه وسلم بعهد قال له: يا عمار إن رأيت عليا قد سلك واديا وسلك الناس واديا غيره فاسلك مع علي ودع الناس.

    إنه لن يدلك على ردي ولن يخرجك من الهدى (7).

    وعندما حدد النبي صلى الله عليه وسلم الراية والدليل قال: أبشر يا

    ____________

    (1) ابن كثير وقال رواه ديزيل (البداية 296 / 7)، والطبراني (كنز العمال 721 / 11).

    (2) البخاري (الصحيح 305 / 2) في فصل عمار.

    (3) أحمد والحاكم والترمذي وصححه (الفتح الرباني 330 / 22)، (الجامع 668 / 5).

    المستدرك 388 / 3).

    (4) أحمد والطبراني ورجاله رجال الصحيح (الفتح 329 / 22)، (الزوائد 293 / 9) وابن عساكر والطبراني وابن حبان وابن أبي شيبة بلفظ آخر (كنز العمال 533 / 13، 722، 726 / 11) والحاكم (المستدرك 389 / 3).

    (5) البزار والطبراني ورجالهم ثقات (الزوائد 295 / 9).

    (6) ابن عساكر (كنز العمال 72 / 11).

    (7) الديلمي (كنز العمال 614 / 11).

    الصفحة 92
    عمار تقتلك الفئة الباغية " (1).

    والقتل لم يكن من أجل القتل، ولكن لكل قتل أسبابه، ويمكن ملاحظة هذه الأسباب في قول النبي صلى الله عليه وسلم: " ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار " (2)، ثم يتعدى التحذير أرض المعركة ويشمل مساحة أوسع وذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمار: " ستقتلك الفئة الباغية وأنت مع الحق. فمن لم ينصرك يومئذ فليس مني " (3).

    هذا هو عمار، جندي علي بن أبي طالب! فماذا قال عمار على أرض صفين؟

    روي أن عمارا خرج إلى الناس فقال: اللهم إنك تعلم إني لو أعلم أن رضاك في أن أقذف بنفسي في هذا البحر لفعلته - اللهم إنك تعلم أني لو أعلم رضاك في أن أضع ظبة سيفي في صدري، ثم انحني عليها حتى تخرج من ظهري لفعلت، وإني لا أعلم اليوم عملا هو أرضى لك من جهاد هؤلاء الفاسقين ولو أعلم أن عملا من الأعمال هو أرضى لك منه لفعلته.

    وقال عمار: أيها الناس اقصدوا بنا نحو هؤلاء الذين يبتغون دم ابن عفان ويزعمون أنه قتل مظلوما. والله ما طلبتهم بدمه. ولكن القوم ذاقوا الدنيا فاستحبوها واستمرؤها، وعلموا أن الحق إذا لزمهم حال بينهم وبين ما يتمرغون فيه من دنياهم. ولم يكن للقوم سابقة في الإسلام يستحقون بها طاعة الناس والولاية عليهم. فخدعوا أتباعهم أن قالوا: إمامنا قتل مظلوما. ليكونوا بذلك جبابرة ملوكا. وتلك مكيدة بلغوا بها ما ترون. ولولا هي ما تبعهم من الناس رجلان. اللهم إن تنصرنا فطالما نصرت. وإن تجعل لهم الأمر. فادخر لهم بما

    ____________

    (1) الترمذي وصححه (الجامع 679 / 5).

    (2) أحمد والبخاري وابن عساكر والطبراني (الفتح الرباني 331 / 22)، (كنز العمال 722، 724 / 11).

    (3) ابن عساكر (كنز العمال 351 / 11).

    الصفحة 93
    أحدثوا في عبادك العذاب الأليم (1)، وروي أن عمارا شاهد عمرو بن العاص في أرض المعركة فقال: يا أهل العراق أتريدون أن تنظروا إلى من عادى الله ورسوله، وجاهدهما وبغى على المسلمين وظاهر المشركين؟ فلما رأى الله عز وجل يعز دينه ويظهر رسوله أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأسلم. وهو فيما نرى راهب غير راغب، ثم قبض الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فوالله إنه زال بعده معروفا بعداوة المسلم وهوادة المجرم، فاثبتوا له وقاتلوه، فإنه يطفئ نور الله ويظاهر أعداء عز وجل (2)... وعندما سمع ابن العاص هذا زال وذهب يبحث له عن خدعة يختفي ورائها من هذا العار.

    وروي أن قيسا بن عبادة قال لعمار: أرأيت قتالكم رأيا رأيتموه، فإن الرأي يخطئ ويصيب أو عهد عهده إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمار: " ما عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا لم يعهده إلى الناس كافة ". أي أن تعليمات النبي صلى الله عليه وسلم بخصوص قتال البغاة مع علي بن أبي طالب لم تكن لفئة دون فئة، ولكن لأمر شمل الناس كافة. ثم انتقل وهو يجيب قيس إلى أمر آخر فقال: " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن في أمتي اثني عشر منافقا لا يدخلون الجنة ولا يجدون ريحها حتى يلج الجمل في سم الخياط. ثمانية منهم تكفيكهم الدبيلة (3) سراج من نار يظهر في أكتافهم حتى ينجم في صدورهم " (4).

    ولا ندري ما هو الدافع الذي جعل عمار يذكر المنافقين في هذا الموضع؟

    ومن المعروف أن عمارا وحذيفة كانا مع النبي صلى الله عليه وسلم عند عودته من تبوك. يوم أن أرادت تيارات الهدم والتخريب أن يغتالوا النبي صلى الله عليه وسلم

    ____________

    (1) الطبري 21 / 6 ذ، الكامل 157 / 3، البداية والنهاية 267، 292 / 7.

    (2) الطبري 7 / 6، الكامل 150 / 3.

    (3) الدبيلة / نار تظهر في أكتافهم.

    (4) مسلم كتاب صفات المنافقين (الصحيح 124 / 17) أحمد (الفتح الرباني 140 / 23) وابن عساكر (كنز العمال 351 / 11).