الصفحة 94
فقيس حدث عمارا عن القتال. أهو من الرأي أم فيه عهد؟

فأجاب عمار على السؤال. ثم تحدث عن جماعة التخريب وهو لم يسأل عنها.

فهل يا ترى سقط السؤال من الناسخ؟ أم أن عمارا له مقصود خفي علينا وظهر لقيس. أم أن عمارا كان يقصد شيئا لا يعلمه إلا الله عز وجل؟

وروي أن عمارا قال وهو يشير إلى راية معاوية: لقد قاتلت صاحب هذه الراية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات. وهذه الرابعة (1). ما هي بأبر ولا أتقي (2). وقال: فالذي نفسي بيده لو ضربونا حي يبلغوا بنا سعفات هجر، لعرفت أن مصلحينا على الحق وأنهم على الضلالة - وفي رواية - لعلمنا أنا على الحق وأنهم على الباطل (3)، وروي أن رجلا جاء إلى معسكر عمار فقال: أيكم عمار بن ياسر؟ فقال عمار: أنا عمار، قال: أبو اليقظان؟

قال: نعم. قال: إن لي إليك حاجة. أفأنطق بها سرا أو علانية؟ قال: اختر لنفسك أيهما شئت. قال: لا بل علانية، قال: فانطق (4)... ثم بدأ الرجل يتحدث عن حاله في القتال، وأنه قد دخله الشك في صحة هذا القتال. لأن الأطراف يصلون صلاة واحدة ويقرؤون كتابا واحدا، وإنه ذهب إلى علي بن أبي طالب فذكر له ذلك فقال له: لقد لقيت عمار بن ياسر؟ فقال الرجل: لا، فقال له أمير المؤمنين: فألقه. فانظر ماذا يقول لك عمار فاتبعه. وأخبر الرجل عمارا بأنه جاءه لذلك.

" فقال عمار: أتعرف صاحب الراية السوداء المقابلة لي؟ فإنها راية عمرو بن العاص. قاتلتها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات

____________

(1) رواه الطبراني وقال الهيثمي رجاله ثقات (الزوائد 243 / 7) وابن سعد (الطبقات 253 / 3).

(2) الطبري 22 / 6.

(3) رواه أحمد ورجاله ثقات (الفتح الرباني 141 / 23) والحاكم وصححه (المستدرك 384 / 3) البداية والنهاية 267 / 7، الطبري 21 / 6، مروج الذهب 422 / 2، ابن أبي الحديد 260 / 2 الطبقات الكبرى 257 / 3.

(4) ابن أبي الحديد 260 / 2.

الصفحة 95
وهذه الرابعة. فما هي بخيرهن ولا أبرهن، بل هي شرهن وأفجرهن. ثم قال عمار للرجل: أشهدت بدرا وأحدا ويوم حنين؟ أو شهدها أب لك فيخبرك عنها؟

قال: لا. قال: فإن مركزنا اليوم على مراكز رايات رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ويوم أحد ويوم حنين. وإن مراكز رايات هؤلاء على مراكز رايات المشركين من الأحزاب. فهل ترى هذا العسكر ومن فيه؟ والله لوددت أن جميع من فيه ممن أقبل مع معاوية يريد قتالنا. مفارقا للذي نحن عليه. كانوا خلقا واحدا فقطعته وذبحته. والله لدماؤهم جميعا أحل من دم عصفور. أفترى دم عصفور حراما؟ قال: لا. بل حلال. قال: فإنهم حلال كذلك. أتراني بينت لك؟ قال: قد بينت لي. قال فاختر أي ذلك أحببت.

فانصرف الرجال. فدعاه عمار ثم قال: أما أنهم سيضربونكم بأسيافهم حتى يرتاب المبطلون منكم فيقولوا: لو لم يكونوا على حق ما أظهروا علينا. والله ما هم من الحق على ما يقذي عين ذباب، والله لو ضربونا بأسيافهم حتى يبلغونا سعفات هجر. لعلمنا أنا على حق. وإنهم على باطل.

وروي: جاء رجل إلى علي فقال: يا أمير المؤمنين، هؤلاء القوم الذي نقاتلهم، الدعوة واحدة، والرسول واحد، والصلاة واحدة، والحج واحد فماذا نسميهم؟ قال: سمهم بما سماهم الله في كتابه. قال: ما كل ما في الكتاب أعلمه. قال: أما سمعت الله تعالى يقول: (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض) - إلى قوله - (ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات، ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر) (1). فلما وقع الاختلاف. كنا نحن أولى بالله. وبالكتاب وبالنبي وبالحق. وهم الذين كفروا وشاء الله قتالهم. فقاتلهم بمشيئته وإرادته (2).

لقد كان عمار يقاتل وهو يعلم أن نتيجة القتال في نهاية المعركة ستكون لصالح معاوية، وكان يعلم أنه مقتول لا محالة بين صفين في هذه المعركة.

____________

(1) سورة البقرة: الآية 253.

(2) ابن أبي الحديد 260 / 2.

الصفحة 96
وبالرغم من ذلك كان يأخذ بأسباب الحياة الكريمة. لينظر الله إلى عمله وماذا يفعل ابتغاء مرضاته تعالى. كان يقول: أخبرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أني أقتل بين صفين (1). وقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: " آخر شربة تشربها من الدنيا شربة لبن " (2). وروي أن عمارا تقدم وقد جنحت الشمس للغروب، ومعه ضح من لبن ينتظر غروب الشمس أن يفطر، فقال غربت الشمس وشرب الضح: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: آخر زادك من الدنيا ضح من اللبن (3)، وكان عمار يتذكر هذا على امتداد أيام صفين، وتقدم عمار فقاتل ثم رجع.

وفي اليوم رجع عمار إلى موضعه فاستسقي. فأتته امرأة من نساء بني شيبان من مصافهم بعس فيه لبن. فدفعته إليه. فقال: الله أكبر الله أكبر، اليوم ألقى الأحبة تحت الأسنة، صدق الصادق. وبذلك أخبرني الناطق. وهو اليوم الذي وعدت فيه. ثم قال: أيها الناس. هل من رائح إلى الله تحت العوالي (أي تحت الرماح) والذي نفسي بيده لنقاتلنهم على تأويله كما قاتلناهم على تنزيله.

وتقدم وهو يقول:

نحن ضربناكم على تنزيله * فاليوم نضربكم على تأويله
ضربا يزيل الهام عن مقيله (4) * ويذهل الخليل عن خليله

أو يرجع الحق إلى سبيله (5).

وروي أن الذي سقاه هو أبو المخاريق (6)، وأنه بعد أن شرب اللبن نادي:

____________

(1) رواه البزار وإسناه حسن (الزوائد 365 / 9) وابن عساكر عن مولاة عمار (كنز العمال 531 / 13).

(2) رواه أحمد (الزوائد 243 / 7) والحاكم (المستدرك 385 / 3) والطبراني (الزوائد 296 / 9)، البداية والنهاية 268 / 7، ابن أبي الحديد 810 / 2.

(3) الحاكم (385 / 3 المستدرك).

(4) المقيل / الموضع ومكان القيلولة.

(5) مروج الذهب 422 / 2، ابن أبي الحديد 810 / 2.

(6) الطبري (الزوائد 243 / 7).

الصفحة 97
إني لقيت الخيار وتزوجت الحور العين. اليوم نلقى الأحبة محمدا وحزبه (1).

وروى عن سعيد بن عبد العزيز أن عمار بن ياسر أقسم يوم أحد فهزم المشركون، وأقسم يوم الجمل فغلبوا أهل البصرة، وقيل له يوم صفين لو أقسمت. فقال: لو ضربونا بأسيافهم حتى نبلغ سعفات هجر، لعلمنا أنا على الحق وهم على الباطل، فلم يقسم. وروي أنه قال يوم أحد.

أقسمت يا جبريل ويا ميكائيل * لا يغلبنا معشر الضلال
أنا على الحق وهم جهال

ثم انطلق حتى خرق صف المشركين (2)، كان يعلم يوم صفين بأنهم سيتراجعوا عن مواقعهم وعبر عن ذلك بقوله: " لو ضربونا حتى نبلغ سعفات هجر "، ولكن النصر عند عمار لم يكن بامتلاك الأرض، وإنما بالمبادئ التي يحاربون عليها ومن أجلها، النصر بالأخلاق وفي الأخلاق، والباطل لا يمكث في الأرض وإن طالت الليالي. لأن الباطل طارئ لا أصالة فيه، والباطل مطارد من الله، ولا بقاء لشئ يطارده الله. كان عمار يعلم أنه في موقع المنتصر على الرغم من أن الموت قريب منه. فبالقرب من عمار وقف أبو الغادية قاتل عمار.. يقول أبو الغادية: كنا نعد عمارا من خيارنا، حتى سمعته يوما في مسجد قباء يقع في عثمان، فلو خلصت إليه لوطئته برجلي، فما صليت بعد ذلك صلاة إلا قلت: اللهم لقني عمارا (3). كان أبو الغادية يراقب عمارا، وكان عمار ينادي صاحبه هاشم بن عتبة: يا هاشم الجنة تحت ظلال السيوف، والموت في أطراف الأسل، وقد فتحت أبواب السماء، وتزينت الحور العين، اليوم ألقى الأحبة محمدا وحزبه (4). وتقدم عمار وهاشم، يقول أبو الغادية: فلما كان يوم صفين.

جعل عمار يحمل على الناس. فقيل: هذا عمار، فرأيت فرجة بين الرئتين وبين

____________

(1) رواه أحمد والطبراني ورجالهما ثقات (الزوائد 296 / 9)، ابن أبي الحديد 810 / 2.

(2) رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح (الزوائد 395 / 9).

(3) رواه أحمد والطبراني (الزوائد 298 / 9).

(4) الطبري 23 / 6.

الصفحة 98
الساقين. فحملت عليه فطعنته في ركبته فوقع فقتلته (1)، وفي رواية الإمام أحمد: فاختلفت أنا وهو ضربتين، فبدرته فضربته فكبا لوجهه ثم قتلته (2).

وهكذا قتل عمار بن ياسر رضي الله عنه، وكان يوم صفين شيخا كبيرا، يقول عبد الله بن سلمة: رأيت عمارا يوم صفين شيخا كبيرا آدم طوالا. أخذ الحربة بيده ويده ترعد ويقول: والذي نفسي بيده لقد قاتلت هذه الراية مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث مرات، وهذه الرابعة (3).

وبعد قتل عمار ظهر على الساحة لأول مرة " فقه البغاة " والعمود الفقري لهذا الفقه، إن الأمير إذا أمر بالسرقة أو بالقتل. فعند ظهور الضحية فإن الفاعل لن يكون الأمير بأي حال ربما يكون أقل جندي في قواته، وربما يكون بواب رواقه. وعلى سبيل المثال، لقد قتل النظام الحسين بن علي، ولكن النظام لم يظهر على امتداد التاريخ، وإنما ظهر ذو الجوشن الذي نفذ الخطة. ومن قبل الحسين ارتكبت جرائم عديدة كقتل حجر بن عدي واجتياح المدينة، وكل هذا فعله جندي من الجنود، أما أمير القوم فلم يكن يدري لأنه وقتئذ كان مشغولا بالصلاة.

روي أن عبد الله بن عمرو بن العاص، وكان يقاتل يوم صفين ومعه سيفان (4)، روي أنه قال لأبيه: يا أبت قتلتم هذا الرجل في يومكم، وقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال. ألم تكن معنا يوم أن آتاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجعل يمسح التراب عن وجهه ويقول: " ويحك تقتلك الفئة الباغية "؟ فدفع عمرو صدر فرسه. ثم جذب معاوية إليه. وأخبره بما يقول عبد الله فقال معاوية: إنك شيخ أخرق. ولا تزال تحدث بالحديث وأنت تدحض

____________

(1) ابن سعد (الطبقات 261 / 3).

(2) رواه الطبراني وأحمد وقال الهيثمي رجال أحمد والطبراني رجال الصحيح (الزوائد 298 / 9).

(3) البداية والنهاية 292 / 7.

(4) أسد الغابة 351 / 3 وروي أنه ندم بعد ذلك وكان يقول: ما لي ولصفين.

الصفحة 99
في بولك. أو نحن قتلنا عمارا. من جاء به؟ (1)، وفي رواية عند الإمام أحمد قال معاوية: أو نحن قتلناه. إنما قتله علي وأصحابه. جاؤوا به حتى ألقوه بين رماحنا (2)، ثم خرج عمرو بن العاص ليؤصل هذا الفقه العميق فقال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن قاتله وسالبه في النار ". فقيل لعمرو: فإنك هوذا تقاتله، فقال: إنما قال قاتله وسالبه) (3).

فقه واسع عميق. وروي أن ذا الكلاع سمع عمرو وهو يحدث معاوية بحديث: تقتله الفئة الباغية، فكان ذو الكلاع يقول: ويلك! ما هذا يا عمرو.

وشاءت الأقدار أن يقتل ذو الكلاع في المعركة. فقال عمرو لمعاوية: ما أدري بقتل أيهما أنا أشد فرحا. بقتل عمار أو ذي الكلاع. والله لو بقي ذو الكلاع بعد قتل عمار لأفسد علينا جندنا (4).

وروي أن عمارا لما قتل قال أمير المؤمنين علي لربيعة وهمدان. أنتم درعي ورمحي، فانتدب له نحو من اثني عشر ألفا، وتقدمهم علي - فحمل وحملوا معه حملة رجل واحد، فلم يبق لأهل الشام صف إلا انتقض، وقتلوا كل من انتهوا إليه. ثم نادي أمير المؤمنين وقال: يا معاوية علام تقتل الناس بيننا؟

هلم أحاكمك إلى الله. فأينا قتل صاحبه استقامت له الأمور. فقال عمرو لمعاوية: أنصفك الرجل. فقال معاوية: ما أنصفت. وإنك لتعلم أنه لم يبارزه رجل قط إلا قتله. قال له عمرو: وما يجمل بك إلا مبارزته، فقال معاوية:

طمعت فيها بعدي (5).

وعندما رفض معاوية مبارزة أمير المؤمنين، لأنه يعلم منه ما علم، ولأنه

____________

(1) الطبري 23 / 6.

(2) رواه أحمد والحاكم وأقره الذهبي (الفتح الرباني 143 / 23) وقال الهيثمي رواه الطبراني وأحمد وأبي يعلى والبزار ورجال أحمد وأبي يعلى ثقات (الزوائد 241، 242 / 7).

(3) رواه أحمد وقال الهيثمي رجاله ثقات (الفتح الرباني 143 / 23)، (الزوائد 241 / 7)، وابن عساكر (كنز العمال 532 / 13).

(4) البداية والنهاية 293 / 7.

(5) الطبري 23 / 6، البداية 272 / 7، الكامل 158 / 3، مروج الذهب 428 / 2.

الصفحة 100
علم أنه لا يجلس على أرضية الطمع وحده وإنما يشاركه فيها ابن العاص. اشتد القتال. وقتل في ذلك اليوم صفوان وسعد ابنا حذيفة بن اليمان. وقد كان حذيفة قد قال لابنيه: كونا مع علي، فستكون له حروب كثيرة، فيهلك فيها خلق من الناس. فاجتهدا أن تستشهدا معه، فإنه والله على الحق، ومن خالفه على الباطل (1). وقتل في هذا اليوم هاشم بن عتبة الذي كان عمار يناديه: يا هاشم الجنة تحت ظلال السيوف (2).

لقد قدمنا هنا بعض المشاهد على أرض صفين. يوم أن أخبر الإمام بأنه مقتول وأن معاوية سيملك ما تحت قدمه. ففي هذا اليوم أراد بعض الناس الدنيا فكاتبوا معاوية سرا. وأراد البعض الآخر الآخرة فقاتلوا وقتلوا رغم علمهم مقدما بما سيسفر عنه القتال في النهاية.

7 - عندما اتخذوا المصاحف جدارا!

بعد قتل عمار اشتعلت المعركة اشتعالا. وكان عمار لا يأخذ واديا من أو دية صفين إلا اتبعه من كان هناك من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (3). وروي عن محمد بن عمارة بن خزيمة بن ثابت قال: ما زال جدي - يعني خزيمة - كافا سلاحه يوم الجمل حتى قتل عمار بصفين، فسل سيفه فقاتل حتى قتل. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تقتل عمارا الفئة الباغية. فعندما قتل عمار بد أن ضربات الصحابة فيما سمي في التاريخ:

" ليلة الهرير " والهريز: صوت القوس. وصوت الكلب دون نباح.

يقول المسعودي: اختلط الناس، وبطل النبل، واستعملت السيوف، وجنهم الليل، وتنادوا بالشعار (أي الكلمة السرية المتفق عليها) وتقصفت الرماح. وتكادم القوم (أي آثروا العص) وكان يعتنق الفارس الفارس ويقعان إلى

____________

(1) مروج الذهب 425 / 2.

(2) البداية والنهاية 270 / 7.

(3) رواه أحمد (الفتح الرباني 142 / 23).

الصفحة 101
الأرض عن فرسيهما. وكان جملة من قتل علي بن أبي طالب في يومه وليلته خمسمائة وثلاثة وعشرون رجلا، أكثرهم في هذا اليوم، وكان علي إذا قتل رجل كبر إذا ضرب. ولم يكن يضرب إلا قتل (1).

وكان هذا اليوم للأشتر فيه نصيب كبير وروي أنه أنشد:

إن تقتلوا منا أبا * اليقظان شيخا مسلما
فقد قتلنا منكم * سبعين رأسا مجرما
أضحوا بصفين وقد * لاقوا نكالا مؤلما (2)

وكان الأشتر يحرض الناس على امتداد أيام صفين ويقول: إن هؤلاء القوم لا يقاتلونكم إلا عن دينكم ليميتوا السنة: ويحيوا البدعة، ويعيدوكم في ضلالة قد أخرجكم الله عز وجل منها بحسن البصيرة. فطيبوا عباد الله أنفسا بدمائكم دون دينكم، فإن ثوابكم على الله والله عنده جنات النعيم. وإن الفرار من الزحف فيه السلب للعز والغلبة على الفئ وذل المحيا والممات، وعار الدنيا والآخرة (3).

وفي ليلة الهرير كان الأشتر يضرب ضرباته بكل قوة حتى اخترق صفوف أهل الشام. وأجري حولهم عمليات الالتفاف والتطويق. يقول ابن كثير: حمل الأشتر على أهل الشام وتبعه علي. فتنقضت غالب صفوفهم، وكادوا ينهزمون، فعند ذلك رفع أهل الشام المصاحف فوق الرماح (4).

وخدعة رفع المصاحف أرست فيما بعد قاعدة المتاجرة بالشعار والشراء به ثمنا قليلا، وإذا كان الخوارج قد تاجروا بالدين بعد ذلك، فلا يمكن لباحث أن يهمل أول باب تم عنده المتاجرة بالكتاب على نطاق واسع. فالخوارج دخلوا من باب صفين بصورة من الصور، وكان ابن العاص صاحب فكرة رفع الشعار. ولم تأت الفكرة عشوائيا دون تجهيز وإعداد. فالقوم كانوا يعرفون من يواجهون -

____________

(1) مروج الذهب 431 / 2.

(2) مروج الذهب 432 / 2.

(3) الطبري 12 / 6.

(4) البداية والنهاية 273 / 7.

الصفحة 102
والروايات الكثيرة تثبت أنهم كانوا يتجنبون ملاقاة أمير المؤمنين في المعركة.

لهذا جرى الإعداد على قدم وساق لضرب القاعدة بعد أن قتل العديد من الصحابة الأجلاء الذين كانوا يمثلون العمود الفقري لجيش الإمام. فشق الصف هو المنفذ الوحيد لخروجهم من المعركة والسعي بعد ذلك في طريق الفتنة للوصول إلى الكرسي. وكان المصحف وسيلتهم الوحيدة في ذلك. فرفع الكتاب وطلب التحكيم سيؤدي إلى وجود مؤيد ومعارض داخل معسكر الإمام. فالمؤيد سيكون من بين الذين يحكمون عواطفهم في الأمور ولا يفهمون من الدين إلا القليل، أو من الذين يكاتبونهم سرا. وفي جميع الحالات فإن رفع المصاحف سيكون انتصار للإعلام الأموي أمام العامة الذين شربوا مقولة أن جيش الإمام لا يصلي فكيف بهم إذا أذيع عليهم أن الإمام رد المصحف.

لقد كان فقه الرمز يعمل من أجل إيجاد فترة زمنية. إما أن يهلك جيش الإمام بعضه بعضا فيها. وإما أن يستدرج إلى فخ التحكيم. فإذا رفض الإمام قرارات هيئة التحكيم فهو أمام العامة والغوغاء خارج عن القانون. وإذا قبلها كان الكرسي لمعاوية ويسحب بساط العلم بالتأويل من تحت الإمام. وبسحب هذا البساط ضاع الدين. وابن العاص عندما عرض خطته على معاوية لم يجعل العمود الفقري فيها النجاة من حصار الأشتر لمعسكر أهل الشام، وإنما كان العمود يقوم على اجتماع تيارهم وتشتيت معسكر الإمام. وروي أنه قال لمعاوية:

هل لك في أمر أعرضه عليك لا يزيدنا إلا اجتماعا ولا يزيدهم إلا فرقة. قال:

نعم، فقال: نرفع المصاحف. ثم نقول: ما فيها حكم بيننا وبينكم. فإن أبى بعضهم أن يقبلها. وجدت فيهم من يقول: بل ينبغي أن نقبل. فتكون فرقة تقع بينهم. وإن قالوا: بلى نقبل ما فيها. رفعنا هذا القتال عنا وهذه الحرب إلى أجل أو إلى حين " (1).

وأقر معاوية الخطة. وخرج ابن العاص ليعلن سياسة الرمز، فقال: أيها الناس. من كان معه مصحفا فليرفعه على رمحه. ونادوا: كتاب الله بيننا وبينكم.

____________

(1) الطبري 26 / 6، الكامل 161 / 3، البداية والنهاية 273 / 7.

الصفحة 103
من لثغور الشام بعد أهل الشام؟ ومن لثغور العراق بعد أهل العراق. ومن لجهاد الروم؟ ومن للترك؟ ومن للكفار؟ (1).

يقول المسعودي: ورفع في عسكر معاوية نحو من خمسمائة مصحف، فلما رأى كثير من أهل العراق ذلك، قالوا: نجيب إلى كتاب الله. وقيل لعلي:

قد أعطاك معاوية الحق. ودعاك إلى كتاب الله فاقبل منه وكان أشدهم في طلب التحكيم الأشعث بن قيس (2)، وكان أمير المؤمنين يعلم أن القوم يسيرون في طريق أخبره به النبي صلى الله عليه وسلم. لقد تم ابتلاؤهم والنصر على الأعتاب. لقد خيروا بين الشعار والشعور بالشعار. فاختاروا الشعار بلا شعور.

اختاروا الطريق الذي تسير فيه أكثر من سبعين فرقة وكل فرقة تدعي أنها على الشعار الحق. وهل الشعار إلا حقا محضا وأن الابتلاء لا يكون إلا في الشعور.

كان الإمام يعلم أن القوم قد اختاروا طريق اللادعوة، واللادعوة تعني اللاممارسة وهذا ينتهي إلى جحود الذين من قبلهم ليزاحموا أصحابها فيها، ويتبعونهم شبرا بشبر وذراعا بذراع، ثم ينتهي بهم المطاف فيكونوا غثاء، رخيصا، تافها، لا قيمة له. في علم تقرقع فيه أنياب الحيتان. وفي هذا العالم يذوقوا الذل، أي ذل.

وأخذ الإمام بالأسباب كما علمه أستاذ البشرية محمد صلى الله عليه وسلم فقال لهم: عباد الله. امضوا على حقكم وصدقكم قتال عدوكم، فإن معاوية وعمرو بن العاص وابن أبي معيط وحبيب بن مسلمة وابن أبي السرح والضحاك بن قيس ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، أنا أعرف بهم منكم. قد صحبتهم أطفالا وصحبتهم رجالا، فكانوا شر أطفال وشر رجال. ويحكم أنهم ما رفعوها ثم لا يرفعونها ولا يعلمون بما فيها. وما رفعوها لكم إلا خدعة ومكيدة. قالوا: ما يسعنا أن ندعي إلى كتاب الله عز وجل فنأبى أن نقبله. فقال:

ويحكم. أنا أول من دعا إلى كتاب الله. وأول من أجاب إليه. وليس يحل لي، ولا يسعني في ديني أن أدعي إلى كتاب الله فلا أقبله. إني أقاتلهم ليدينوا

____________

(1) مروج الذهب 432 / 2، الطبري 26 / 6، ابن أبي الحديد 423 / 1.

(2) مروج الذهب 432 / 2.

الصفحة 104
بحكم القرآن، فإنهم قد عصوا الله عز وجل فيما أمرهم ونسوا عهده ونبذوا كتابه (1). فقالوا: يا علي أجب إلى كتاب الله عز وجل إذا دعيت إليه. وهددوه بالقتل إذا رفض إجابة الدعوة (2) فقال لهم: احفظوا عني نهي إياكم، واحفظوا مقالتكم لي. أما أنا فإن تطيعوني تقاتلوا، وإن تعصوني فاصنعوا ما بدا لكم (3).

لقد كان أمير المؤمنين أول حاكم تظلمه رعيته. فالحكام على امتداد التاريخ ليس لهم إلا أن يأمروا وعلى الرعية أن تنفذ. أما الإمام لأن له مهمة محددة لا يجوز له أن يجبر فردا على عمل ما، فهو فقيه وعلى علم بالطريق، وعلى امتداد هذا الطريق يسير بمصباحه. فمن أراد أن يتجنب الحفر على سنة الله ورسوله - فعليه بحامل المصباح. وعلى امتداد هذا الطريق عهد إليه بعهود. ومع كل عهد شروط تنفيذه. وأهم هذه الشروط أن يجتمع الناس حوله ليضرب بهم من صد عن طريقه... فإذا فقد هذا الشرط فعليه أن يقيم الحجة وفقا لحركة الدعوة وحركة الواقع.

وبعد رفع المصاحف ظلمت الرعية قائدها. وأصدرت إليه الأوامر: قالوا له: ابعث إلى الأشتر ليأتينك. وكان الأشتر صبيحة ليلة الهرير أشرف على عسكر معاوية ليدخله (4). وتدخل القوم في سير الأعمال العسكرية، يشير إلى أن عددهم وقوتهم ولم يكن من السهل تجاهلهم أو تجاهل خطرهم على باقي القوات فضلا على حركة الدعوة. ولقد روي أن الذين اعتزلوا بحروراء فقط كانوا اثنا عشر ألف مقاتل (5). وروي أن الإمام عندما بعث للأشتر أن يأتيه. قال الأشتر لمبعوث الإمام: ليس هذه الساعة، إني قد رجوت أن يفتح لي فلا

____________

(1) ابن أبي الحديد 426 / 1. الطبري 27 / 6، البداية والنهاية 298 / 7، مروج الذهب 433 / 2، الكامل 161 / 3.

(2) الطبري 27 / 6، البداية والنهاية 298 / 7، مروج الذهب 433 / 2، ابن أبي الحديد 426 / 1.

(3) الطبري 27 / 6، البداية والنهاية 299 / 7، ابن أبي الحديد 426 / 1.

(4) ابن أبي الحديد 426 / 1، الطبري 27 / 6، البداية 299 / 7.

(5) الطبري 35 / 6.

الصفحة 105
تعجلني. وعندما سمع القوم هذا ارتفع الهرج وعلت الأصوات، وقالوا للإمام:

ابعث إليه فليأتك وإلا والله اعتزلناك. فبعث الإمام: أقبل إلي فإن الفتنة قد وقعت. وجاء الأشتر فقال لهم: يا أهل العراق، يا أهل الذل والوهن، حين علوتم القوم ظهرا، وظنوا أنكم لهم قاهرون. رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها، وقد والله تركوا ما أمر الله عز وجل به فيها وسنة من أنزلت عليه صلى الله عليه وسلم، فلا تجيبوهم إمهلوني عدو الفرس، فإني قد طمعت في النصر.

قالوا: إذا ندخل معك في خطيئتك، ثم قالوا: لقد قاتلناهم في الله عز وجل، وندع قتالهم لله سبحانه. إنا لسنا مطيعيك ولا صاحبك فاجتنبنا. فقال: خدعتم والله فانخدعتم. ودعيتم إلى وضع الحرب فأجبتم، يا أصحاب الجباه السود، كنا نظن صلواتكم زهادة في الدنيا وشوقا إلى لقاء الله عز وجل، فلا أري قراركم إلا إلى الدنيا من الموت إلا قبحا، يا أشباه النيب الجلالة. وما أنتم برائين بعدها عزا أبدا، فابعدوا كما بعد القوم الظالمين، فسبوه وسبهم. وقال الناس: قد قبلنا أن نجعل القرآن بيننا وبينهم حكما (1).

وروي أن الإمام كان ساكتا لا يتكلم، ثم قام فسكت الناس كلهم. فقال:

لقد فعلتم فعلة ضعضعت قوة، وأسقطت منه، وأوهنت وأورثت وهنا وذلة، ولما كنتم الأعليين وخاف عدوكم الاجتياح واستحربهم القتل ووجدوا ألم الجراح، رفعوا المصاحف، ودعوكم إلى ما فيها ليفثؤكم عنها ويقطعوا الحرب فيما بينكم وبينهم. ويتربصون ريب المنون خديعة ومكيدة. فأعطيتموهم ما سألوا. وأبيتم إلا أن تدهنوا وتجوزوا. وأيم الله ما أظنكم بعدها توافقون رشدا، ولا تصيبون باب خدم (2). وقال: أيها الناس. إن أمري لم يزل معكم على ما أحب. إلى أن أخذت منكم الحرب. وقد والله أخذت منكم وتركت. وأخذت من عدوكم فلم تترك. وإنها فيهم أنكى وأنهك. ألا إني كنت أمس أمير المؤمنين فأصبحت اليوم مأمورا، وكنت ناهيا فأصبحت منهيا. وقد أحببتم البقاء. وليس

____________

(1) الطبري 28 / 6، الكامل 161 / 3، ابن أبي الحديد 427 / 1، البداية 300 / 7.

(2) الطبري 31 / 6.

الصفحة 106
لي أن أحملكم على ما تكرهون ثم قعد (1).

وعندئذ بدأ نجم الأشعث بن قيس في الظهور. قال ابن أبي الحديد: كل فساد كان في خلافة أمير المؤمنين علي، وكل اضطراب حدث فأصله الأشعث (2). جاء الأشعث إلى أمير المؤمنين فقال: ما أرى الناس إلا قد رضوا، وسرهم أن يجيبوا القوم إلى ما دعوهم إليه من حكم القرآن. فإن شئت أتيت معاوية فسألته ما يريد. قال: آته إن شئت. فآتاه. فسأله: يا معاوية لأي شئ رفعتم هذه المصاحف؟ قال: لنرجع نحن وأنتم إلى ما أمر الله به فيها. فابعثوا رجلا منكم ترضونه، ونبعث منا رجلا، ونأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله ولا يعدواه، ثم نتبع ما اتفقنا عليه، فقال الأشعث: هذا هو الحق، وانصرف وأخبر أمير المؤمنين. واجتمع قراء الشام وقراء العراق. وقال أهل الشام: إنا قد رضينا واخترنا عمرو بن العاص. وقال الأشعث والقراء الذين صاروا خوارج فيما بعد: قد رضينا نحن واخترنا أبا موسى الأشعري. فقال الإمام: فإني لا أرضى بأبي موسى ولا أرى أن أوليه. فقال الأشعث ومن معه: إنا لا نرضى إلا به. قال الإمام: إنه ليس لي برضا. وقد فارقني وخذل الناس عني وهرب مني حتى أمنته بعد أشهر، ولكن هذا ابن عباس أوليه ذلك. قالوا: والله ما نبالي. أكنت أنت أو ابن عباس. ولا نريد إلا رجلا هو منك ومن معاوية سواء، وليس إلى واحد منكما بأدنى من الآخر. فقال أمير المؤمنين: فإني أجعل الأشتر. فقال الأشعث:

وهل سعر الأرض علينا إلا الأشتر. وهل نحن إلا في حكم الأشتر. قال أمير المؤمنين: وما الحكمة؟ قال: حكمة أن يضرب بعضنا بعضا بالسيف حتى يكون ما أردت وما أراد (3).

لقد كان الإمام يأخذ بأسباب الحياة الكريمة. فهو يعلم أن أبا موسى سيأتي لا محالة ليشارك في تحكيم الإمام يرفضه من البداية. وكان الإمام قد قال لأبي

____________

(1) ابن أبي الحديد 428 / 1، مروج الذهب 432 / 2.

(2) ابن أبي الحديد 468 / 1.

(3) الطبري 28 / 6، ابن أبي الحديد 433 / 1، الكامل 162 / 3، مروج الذهب 434 / 2.

الصفحة 107
موسى قبل موقعة الجمل: اعتزل عملنا يا ابن الحائك مذموما مدحورا. فما هذا أول يومنا منك. وإن لك فينا لهنات وهنيات (1)، وروي أن عمار بن ياسر قال لأبي موسى: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلعنك ليلة الجبل.

فقال أبو موسى: إنه قد استغفر لي. قال عمار: قد شهدت اللعن ولم أشهد الاستغفار (2)، وعندما هرب أبو موسى من علي بن أبي طالب قيل لعمار: قد هاجر أبو موسى، فقال عمار: والله ليخذلن جنده، وليفرن جهده، ولينقضن عهده (3). ثم أخبر عمار عن معركة صفين قبل وقوعها. فقال بعد أن سلط الضوء على أبي موسى: " والله إني لأرى قوما ليضربنكم ضربا يرتاب له المبطلون، والله لو قاتلوا حتى بلغوا بنا سعفات هجر لعلمت أن صاحبنا على الحق وهم على الباطل (4).

لقد قال لهم الإمام عندما قالوا: لا نرضى إلا بأبي موسى، قال، ويحكم هو ليس بثقة. قد فارقني (5)! وقال لهم: قد عصيتموني في أول هذا الأمر. فلا تعصوني الآن. إني لا أرى أن أولي أبا موسى الأشعري. فقال الأشعث ومن معه: لا نرضى إلا بأبي موسى الأشعري (6).

وانتهت المواجهة العسكرية بصفين بعد رفع المصاحف، وكان جملة من قتل من الفريقين جميعا سبعين ألفا. من أهل الشام خمسة وأربعون ألفا، ومن أهل العراق خمسة وعشرون ألفا فيهم خمسة وعشرون بدريا. وقيل غير ذلك نظرا لأن في قتلى الفريقين من غرق ومن قتل في البر فأكله السباع.

فروي أن عدد القتلى مائة ألف وعشرة آلاف من أهل الشام تسعون ألفا.

____________

(1) مروج الذهب 396 / 2.

(2) رواه ابن عساكر (كنز العمال 608 / 13).

(3) رواه الطبراني وقال الهيثمي رجاله ثقات (الزوائد 243 / 7).

(4) رواه الطبراني وقال الهيثمي رجاله ثقات (الزوائد 243 / 7).

(5) مروج الذهب 434 / 2، الطبري 28 / 6، ابن أبي الحديد 433 / 1، الكامل 162 / 3.

(6) مروج الذهب 434 / 2، الطبري 28 / 6، ابن أبي الحديد 433 / 1، الكامل 162 / 3.

الصفحة 108
ومن أهل العراق عشرون ألفا (1). وروي أن مدة المقام بصفين كانت مائة يوم وعشرة أيام. وقال آخرون: كان سبعة أشهر. وقيل: تسعة أشهر. وكان بينهم في هذه المدة تسعون زحفا (2).

وعندما جاء أبو موسى ودخل المعسكر، قال الأحنف للقوم: لقد أبيتم إلا أبا موسى فادفئوا ظهره بالرجال. وجاء عمرو بن العاص ومن معه. جلس الطرفان. فكتبوا: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما تقاضى عليه علي أمير المؤمنين. فقال عمرو: اكتب اسمه واسم أبيه. هو أميركم. فأما أميرنا فلا. قال أمير المؤمنين: الله أكبر سنة بسنة ومثل بمثل. والله إني لكاتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، إذ قالوا لست رسول الله ولا نشهد لك به. ولكن اكتب اسمك واسم أبيك فكتبه. فقال عمرو: سبحان الله. أتشبهنا بالكفار ونحن مسلمون؟ فقال علي: يا ابن النابعة. ومتى لم تكن للكافرين وليا وللمسلمين عدوا؟ فقام عمرو وقال: والله لا يجمع بيني وبينك مجلس بعد اليوم، فقال علي: وإني لأرجو أن يطهر الله عز وجل مجلسي منك ومن أشباهك. وكتب الكتاب (3).

ولقد تحدثنا فيما سبق أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد صلح الحديبية كان قد أنذر قريش بأن لهم في المستقبل يوما يقاتلهم فيه رجلا امتحن الله قلبه بالإيمان، وهو خاصف النعل. وظل هذا الأمر في ذهن دائرة الاستكبار وتوارثوه وكانت حركتهم مرتبطة بما في دائرة ذهنهم.

وروى ابن أبي الحديد عن أبي إسحاق الشيباني قال: قرأت كتاب الصلح عند سعيد بن أبي بردة في صحيفة صفراء. عليها خاتمان: خاتم من أسفلها.

وخاتم من أعلاها. على خاتم علي بن أبي طالب: " محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم " وعلى خاتم معاوية " محمد رسول الله " وقيل لعلي حين أراد أن

____________

(1) مروج الذهب 436 / 2.

(2) البداية والنهاية 275 / 7.

(3) الطبري 29 / 6، أبي الحديد 436 / 1.

الصفحة 109
يكتب الكتاب بينه وبين معاوية وأهل الشام: أتقر أنهم مؤمنون مسلمون! فقال علي: ما أقر لمعاوية ولا لأصحابه أنهم مؤمنون ولا مسلمون. ولكن يكتب معاوية ما شاء بما شاء، ويقر بما شاء لنفسه ولأصحابه. ويسمي نفسه بما شاء وأصحابه (1).

وكان فيما كتب في الصحيفة. أن يحيى الحكمان ما أحياء القرآن، ويميتا ما أمات القرآن، ولا يتبعان الهوى ولا يداهنان (2) في شئ من ذلك. فإن فعلا فلا حكم لهما، والمسلمون في حكمهما براء (3). وقال أمير المؤمنين للحكمين:

على أن تحكما بما في كتاب الله. وكتاب الله كله لي. فإن لم تحكما بما في كتاب الله فلا حكومة لكما (4).

واتفقوا على موضع التحكيم بين الكوفة والشام. وخرج الأشعث ليقرأ الصحيفة على الناس. وجرى بين الأشعث وبين أناس منهم خطب طويل، وعندئذ قام عروة بن أذية، وهو أخو بلال الخارجي، فقال: أتحكمون في دين الله وأمره ونهيه الرجال؟ لا حكم إلا لله. فكان أول من قالها (5) وما أن قال عروة هذا حتى تباغض القوم جميعا، وأقبل بعضهم يتبرأ من بعض. تبرأ الأخ من أخيه والابن من أبيه، وأمر علي بن أبي طالب بالرحيل. لعلمه باختلاف الكلمة. وتفاوت الرأي. وعدم النظام لأمورهم، وما لحقه من الخلاف منهم.

وكثر التحكيم في جيش أهل العراق، وتضارب القوم بالمقارع ونعال السيوف وتسابوا. ولام كل فريق منهم الآخر في رأيه. وسار على نحو الكوفة. ولحق معاوية بدمشق (6).

____________

(1) ابن أبي الحديد 437 / 1.

(2) المداهنة / الخداع.

(3) مروج الذهب 435 / 2، ابن أبي الحديد 437 / 1، الطبري 29 / 6.

(4) ابن عساكر وابن أبي شيبة (كنز العمال 319 / 11)، مروج الذهب 435 / 2.

(5) مروج الذهب 436 / 2، ابن أبي الحديد 438 / 1.

(6) مروج الذهب 437 / 2.

الصفحة 110
وروي عن علقمة والأسود أنهم قالا: أتينا أبا أيوب الأنصاري عند منصرفه من صفين. فقلنا له: يا أبا أيوب. إن الله أكرمك بنزول محمد صلى الله عليه وسلم وبمجئ ناقته تفضلا من الله وإكراما لك. حين أناخت ببابك دون الناس.

ثم جئت بسيفك على عاتقك تضرب به أهل لا إله إلا الله! فقال لهما: يا هذا إن الرائد لا يكذب أهله، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بقتال ثلاثة مع علي: بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين. فأما الناكثون فقد قاتلت. وهم أهل الجمل وطلحة والزبير، وأما القاسطون. فهذا منصرفنا من عندهم - يعني معاوية وعمرو - وأما المارقون فهم أهل الطرقات وأهل السعيفات وأهل التخيلات وأهل النهروان. والله ما أدري أين هم! ولكن لا بد من قتالهم إن شاء الله. ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعمار: يا عمار تقتلك الفئة الباغية. وأنت مذ ذاك مع الحق والحق معك. يا عمار بن ياسر، إذا رأيت عليا قد سلك واديا وسلك الناس غيره، فاسلك مع علي، فإنه لن يدليك في ردى ولن يخرج من هدى. يا عمار، من تقلد سيفا أعان به عليا على عدوه.

قلده الله يوم القيامة وشاحين من در. ومن تقلد سيفا أعان به عدو علي عليه، قلده الله يوم القيامة وشاحين من نار. فقال علقمة والأسود لأبي أيوب: يا هذا حسبك! حسبك رحمك الله! حسبك رحمك الله (1) وأنا أقول: حسبك رحمك الله.

____________

(1) رواه ابن عساكر عن أبي صادق (كنز العمال 352 / 11) والخطيب البغدادي (البداية والنهاية 307 / 7)، وابن جرير عن مخنف باختصار (كنز العمال 352 / 11).

الصفحة 111

ثالثا - التخاذل وغياب القمر

قال الإمام عند انصرافه من صفين:

أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالدين المشهور، والعلم المأثور، والكتاب المسطور، والنور الساطع، والضياء اللامع، والأمر الصادع (1)، إزاحة للشبهات، واحتجاجا بالبينات، وتحذيرا بالآيات وتخويفا بالمثلات، والناس في فتن انجذم (2) فيها حبل الدين، وتزعزعت سواري (3) الدفين: واختلف الفجر (4)، وتشتت الأمر، وضاق المخرج، وعمي المصدر، فالهدى حامل، والعمى شامل، عصى الرحمن، ونصر الشيطان، وخذل الإيمان، فانهارت (5) دعائمه، وتنكرت معالمه، ودرست سبله، وعفت شركه (6). أطاعوا الشيطان فسلكوا سالكه، ووردوا مناهله. بهم سارت أعلامه، وقام لواؤه في فتن داستهم

____________

(1) الصادع / الظاهر الجلي.

(2) انجذم / انقطع.

(3) السارية / الدعامة.

(4) النحر / الأصل.

(5) انهارت / تساقطت.

(6) الشرك / الطرائق.

الصفحة 112
بأخفافها (1) ووطئتهم بأظلافها (2). وأقامت على سنابكها، فهم فيها تائهون حائرون، جاهلون مفتونون، في خير دار (3) وشر جيران (4). نومهم سهود (5).

وكحلهم دموع (6). بأرض عالمها ملجم (7) وجاهلها مكرم (8)... (9).

ودخل أمير المؤمنين إلى الكوفة ولم يدخل معه الذين اختلفوا معه، ونزلوا بحروراء وكان عددهم يومئذ اثنى عشر ألفا، ونادى مناديهم أن أمير القتال شبث بن ربعي وأمير الصلاة عبد الله بن الكواء، والأمر شورى والبيعة لله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (10).

لقد رفعوا صوتهم فوق صوت أمير المؤمنين. أمروه بأن يقبل التحكيم، وأن يسحب قوات الأشتر إلى الخلف، وأن يقر أبا موسى. وبعد أن نالوا ما أرادوا اختلفوا فيما بينهم. وهذا لا يستغرب منه لأنه من شيمة الذين يسلكون طريق الشيطان، فالاختلاف والبغي على هذا الطريق أمر طبيعي ولا ينبغي البحث عن أسبابه.

1 - خيمة التحكيم:

قبل التحكيم جاء المغيرة بن شعبة إلى معاوية، فقال له معاوية: يا مغيرة ما ترى؟ قال: يا معاوية لو وسعني أن أنصرك لنصرتك، ولكن على أن آتيك بأمر

____________

(1) الخفاف / الإبل.

(2) الأظلاف / للبقر والمعاعز.

(3) خير دار / قيل يقصد الكوفة وقيل الشام.

(4) شر جيران / أي أصحاب معاوية.

(5) نوفهم سهود / يعني أصحاب معاوية. لا ينامون الليل ويرتبون أمره.

(6) كحلهم دموع / أي نفاقا.

(7) أي المؤمن في تقية وخوف.

(8) أي المكذب في عز ومنعة.

(9) ابن أبي الحديد 123 / 1.

(10) الطبري 35 / 6.

الصفحة 113
الرجلين - أي عمرو وأبو موسى - فرحل حتى دخل على أبي موسى كالزائر له.

فقال: يا أبا موسى. ما تقول فيمن اعتزل هذا الأمر وكره الدماء - وكان المغيرة مقيما بالطائف ولم يشهد الحرب - قال: أولئك خير الناس، خفت ظهورهم من دمائهم وخمصت بطونهم من أموالهم. ثم ذهب المغيرة إلى عمرو. فقال: يا أبا عبد الله، ما تقول فيمن اعتزل هذا الأمر وكره الدماء، قال: أولئك شرارة الناس لم يعرفوا حقا ولم ينكروا باطلا. فرجع المغيرة إلى معاوية فقال له: قد ذقت الرجلين. أما أبو موسى فخالع صاحبه وجاعلها لرجل لم يشهد هذا الأمر، وهواه في عبد الله بن عمر، وأما عمرو بن العاص، فهو صاحبك الذي تعرف.

وقد ظن الناس أنه يرومها لنفسه. وأنه لا يرى أنك أحق بهذا الأمر منه (1).

لم يكن ابن العاص يمثل أي مشكلة لمعاوية، وإنما الذي كان يهم معاوية هو معرفة خامات أبي موسى الأشعري. وبعد أن تذوق المغيرة الخامات وأخبر بها معاوية، بدأت السياسة الأموية تعمل من أجل الوصول إلى أهدافها.

وروي: لما أراد أبو موسى المسير إلى دومة الجندل وهو المكان الذي اتفق ليكون مقرا للتحكيم. قال له ابن عباس: إن عليا لم يرض بك حكما لفضل عندك، والمتقدمون عليك كثير، وإن الناس أبوا غيرك، وإني لأظن ذلك لشر يراد بهم. وقد ضم داهية العرب معك - يعني عمرو - إن نسيت فلا تنسى أن عليا بايعه الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان. وليس فيه خصلة تباعده من الخلافة.

وليس في معاوية خصلة تقربه من الخلافة (2). وقال له: واعلم يا أبا موسى أن معاوية طليق الإسلام، وأن أباه رأس الأحزاب، وأنه يدعي الخلافة من غير مشورة ولا بيعة، فإن زعم لك أن عمر وعثمان استعملا فلقد صدق، استعمله عمر وهو الوالي عليه. بمنزلة الطبيب يحميه ما يشتهي ويوجره ما يكره. ثم استعمله عثمان برأي عمر، وما أكثر من استعملا ممن لم يدع الخلافة. واعلم أن لعمرو مع كل شئ يسرك خبيثا يسؤوك. ومهما نسيت فلا تنسى أن عليا بايعه.

____________

(1) ابن أبي الحديد 449 / 2.

(2) مروج الذهب 439 / 2.

الصفحة 114
القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان. وأنه لم يقاتل إلا العاصين والناكثين (1).

وانطلق أبو موسى إلى خيمة التحكيم. وروي أن معاوية وصى عمرا عندما فارقه وهو يريد الاجتماع بأبي موسى فقال له: يا أبا عبد الله. إن أهل العراق قد أكرهوا عليا على أبي موسى. وأنا وأهل الشام راضون بك. وقد ضم إليك رجل - أي أبو موسى - طويل اللسان قصير الرأي، فأخر الخلا. وطبق المفصل. ولا تلقه برأيك كله (2).

وروي أن عمرا أعطى لأبي موسى صدر المجلس. وكان لا يتكلم قبله.

وأعطاه التقدم في الصلاة وفي الطعام. لا يأكل حتى يأكل، وإذا خاطبه فإنما يخاطبه بأجمل الأسماء ويقول له: يا صاحب رسول الله، حتى أطمئن إليه، فظن أنه لا يغشه (3). ودعا عمرو بصحيفة وكاتب، ثم قال لكاتبه: اكتب فإنك شاهد علينا. ولا تكتب شيئا يأمر به أحدنا حتى تستأمر الآخر فيه، فإذا أمرك فاكتب، وإذا نهاك فانته، حتى يجتمع رأينا. ثم قال عمرو: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما تقاضى عليه فلان وفلان، فكتب وبدأ بعمرو، فقال له عمرو: لا أم لك أتقدمني قبله كأنك جاهل بحقه؟ فكتب فبدأ باسم عبد الله بن قيس.

وكتب: تقاضيا على أنهما يشهدان أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، ثم قال عمرو: ونشهد أن أبا بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عمل بكتاب الله وسنة رسوله حتى قبضه الله إليه، وقد أدى الحق الذي عليه، قال أبو موسى موافقا: اكتب. ثم قال في عمر بن الخطاب مثل ذلك. فقال أبو موسى اكتب. ثم قال عمرو: واكتب: وأن عثمان ولي هذا الأمر بعد عمر على إجماع من المسلمين وشورى من أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم. ورضى منهم وأنه كان مؤمنا. فقال أبو موسى

____________

(1) ابن أبي الحديد 445 / 2.

(2) مروج الذهب 439 / 2، ابن أبي الحديد 444 / 1.

(3) الكامل 168 / 3، وابن أبي الحديد 451 / 3، الطبري 39 / 6.

الصفحة 115
الأشعري: ليس هذا مما قعدنا له. قال عمرو: والله لا بد من أن يكون مؤمنا أو كافرا. فقال أبو موسى: كان مؤمنا. قال عمرو: فمره يكتب، قال أبو موسى:

اكتب. قال عمرو: فظالما قتل عثمان أو مظلوما؟ قال أبو موسى: بل قتل مظلوما، قال عمرو: أفليس قد جعل الله لولي المظلوم سلطانا يطب بدمه؟ قال أبو موسى: نعم، قال عمرو: فهل تعلم لعثمان وليا أولى من معاوية؟ قال: أبو موسى: لا، قال عمرو: أفليس لمعاوية أن يطلب قاتله حيثما كان حتى يقتله أو يعجز عنه؟ قال أبو موسى: بلى، قال عمرو للكاتب: اكتب وأمره أبو موسى فكتب، قال عمرو: فإنا نقيم البينة أن عليا قتل عثمان. فقال أبو موسى: هذا أمر قد حدث في الإسلام. وإنما اجتمعنا لغيره. فهلم إلى أمر يصلح الله به أمر أمة محمد، قال عمرو: وما هو؟ قال أبو موسى: قد علمنا أن أهل العراق لا يحبون معاوية أبدا، وأن أهل الشام لا يحبون عليا أبدا. فهلم نخلعهما جميعا ونستخلف عبد الله بن عمر. وكان عبد الله بن عمر على بنت أبي موسى (1).

وروي عن أبي جناب أن أبا موسى قال غير مرة: والله إن استطعت لأحيين اسم عمر بن الخطاب. فقال له عمرو: إن كنت إنما تريد أن تبايع ابن عمر لدينه. فما يمنعك من ابني عبد الله وأنت تعرف فضله وصلاحه؟ قال: إن ابنك رجل صدق. ولكنك قد غمسته في هذا الفتن (2).

وروى الطبري: أراد أبو موسى عبد الله بن عمر فأبي عليه عمرو، وأراد عمرو ابنه فأبى أبو موسى، فقال له عمرو: خبرني ما رأيك؟ قال: رأيي أن نخلع هذين الرجلين ونجعل الأمر شورى بين المسلمين، فيختار المسلمون لأنفسهم من أحبوا، فقال له عمرو: فإن الرأي ما رأيت. فأقبلا إلى الناس وهم مجتمعون، فقال عمرو: يا أبا موسى أعلمهم بأن رأينا قد اجتمع واتفق. فتكلم أبو موسى فقال: إن رأيي ورأي عمرو قد اتفق على أن نرجوا أن يصلح الله

____________

(1) مروج الذهب 440 / 2.

(2) الطبري 38 / 6، ابن أبي الحديد 450 / 1، البداية والنهاية 283 / 7، مروج الذهب 441 / 2.