فعن أنس أن معاذا قال: يا رسول الله. أرأيت إن كان علينا أمراء لا يستنون بسنتك، ولا يأخذون بأمرك، فما تأمرني في أمرهم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا طاعة لمن لم يطع الله عز وجل (1)، وعن عمران بن حصين قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. " لا طاعة في معصية الله تبارك وتعالى " (2)، وعلى هذا يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد ساق الناس إلى الصراط المستقيم أولا، ثم أخبرهم بالافتراق وماذا يفعلون ثانيا، ثم أمرهم بالأخذ بالأسباب ثالثا، ولا حجة لهم بعد ذلك كله.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل، كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده. فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض. ثم تلى قوله تعالى: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى بن مريم...)، ثم قال:
كلا والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، لتأخذن على يدي الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا (3)، ولتقصرنه على الحق قصرا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعنكم كما لعنهم " (4)، ولا حجة لهم بعد هذا.
وجاء معاوية بن أبي سفيان، وجعل سب الإمام علي سنة، جاء معاوية على طريق الاختلاف. ولو لم يكن الاختلاف قد وقع، ما جاء معاوية. ولكن الله
____________
(1) رواه عبد الله بن أحمد وقال في الفتح الرباني الحديث جيد الإسناد (الفتح 44 / 23).
(2) رواه الطبراني وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح (269 / 7 الزوائد).
(3) رواه أحمد وقال في الفتح الرباني: الحديث صحيح رواه مسلم بلفظه والبخاري بلفظ:
لا طاعة في معصية " الفتح 42 / 23 ".
(4) أي / لتردنه إلى الحق.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: " ما اختلفت أمة بعد نبيها إلا ظهر أهل باطلها على أهل حقها " (1). إن الله تعالى ذم الاختلاف في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فإذا وقع الاختلاف فلا بد من عقوبة يتذوقها الغالب الأعم. وأهل الحق لا يضرهم من ناوأهم أو من خذلهم أو من عاداهم، فهذا قانون الوجود. ومن يقف تحت مظلة الاختلاف فعليه أن يستقبل أبواب كل شئ، وهذا أيضا من قانون الوجود. يقول الصادق الأمين صلى الله عليه وآله وسلم: " إن الله تبارك وتعالى إذا أراد بقوم بقاء أو نماء، رزقهم القصد والعفاف.
وإذا أراد بقوم اقتطاعا، فتح لهم أو فتح عليهم باب خيانة " حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون. فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين " (2).
لقد جاء معاوية بعد أن اختلف الناس، وليس صحيحا أن معاوية جاء نتيجة لاجتماع الناس، فهو نفسه القائل لابنة عثمان: " يا بنت أخي إن الناس أعطونا سلطاننا فأظهرنا لهم حلما تحته غضب، وأظهروا لنا طاعة. تحتها حقد، فبعناهم هذا بهذا، وباعونا هذا بهذا... ومع كل إنسان منهم شيعة، وهو يرى مكان شيعته. فإن نكثناهم نكثوا بنا، ثم لا ندري أتكون لنا الدائرة أم علينا " (3)، ثم إن أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخبر بالغيب عن ربه جل وعلا، وأيضا حركة التاريخ. كل ذلك يثبت أن معاوية جاء على رقعة خلاف وليس على عصبة اجتماع. فمعاوية دخل من طريق كان الرجل فيه يلقى أخاه فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك. ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده. في الوقت الذي يحذر فيه النبي صلى الله عليه وسلم ويقول:
" يهلك أمتي هذا الحي من قريش ". قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله، قال: لو أن
____________
(1) رواه الطبراني (كنز العمال 183 / 1).
(2) أخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه (الدر المنثور 12 / 3).
(3) البداية والنهاية 133 / 8.
وعندما جاء معاوية ووضع ثقافة السب، تراجع الدين عند الذين أكلوا من زاد هذه الثقافة. وهذا أمر طبيعي لساحة لم يدر أصحابها مع القرآن، واختاروا حارسا غير الذي حدده النبي صلى الله عليه وسلم لحفظ الإسلام، لأن من سنن الوجود أن ما لا أس له يهدم وما لا حارث له ضائع. ونحن هنا سنلقي ضوءا على معالم الضياع. وفي البداية نقول إن حذيفة سجل لنا معالم الخفوت قبل وفاته (2) فقال: إنما كان النفاق على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فأما اليوم فإنما هو الكفر بعد الإيمان (3). وقال: إن المنافقين اليوم شر منهم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. كانوا يومئذ يسرون واليوم يجهرون (4)، وقال:
".... ابتلينا حتى جعل الرجل منا لا يصلي إلا سرا " (5)، وفي لفظ البخاري:
" فابتلينا حتى أن الرجل ليصلي وحده وهو خائف " (6)، فإذا كان هذا قد حدث في ساحة لم يكن معاوية على الكرسي الأول فيها، فما بالك إذا جلس معاوية ووصف نفسه بأنه أعلم الناس بشؤون الدنيا والآخرة.
كانت الساحة بها خفوت، ثم جاء الضياع بعد ذلك. فعن زياد بن جارية أنه دخل مسجد دمشق وقد تأخرت صلاة الجمعة بالعصر. فقال: والله ما
____________
(1) رواه أحمد وإسناده صحيح (الفتح الرباني 39 / 23) والبخاري الصحيح (ك الفتن 280 / 2) ومسلم (الصحيح 41 / 18).
(2) من الثابت أن حذيفة مات بعد قتل عثمان بأيام معدودات.
(3) البخاري ك الفتن (الصحيح 230 / 4).
(4) البخاري ك الفتن (الصحيح 230 / 4).
(5) رواه أحمد (الفتح الرباني 40 / 23) ومسلم (الصحيح 179 / 2).
(6) البخاري (الصحيح 180 / 2) ك الجهاد.
____________
(1) ابن عساكر (كنز العمال 371 / 8).
(2) رواه أحمد ومسلم (الفتح الرباني 183 / 23).
(3) مقاتل الطالبين 329 / 1.
(4) رواه أحمد وإسناده جيد ورواه الترمذي بطريق آخر (الفتح الرباني 99، 200 / 1).
(5) رواه البخاري (الصحيح 13 / 1).
(6) الإصابة 46 / 5.
(7) الإصابة 72 / 1.
إن النبي صلى الله عليه وسلم ذم بني أمية، فهل ينتظر أن يحافظ بنو أمية على الصلاة وغيرها، والنبي صلى الله عليه وسلم لعن الحكم وما ولد فماذا ينتظر من مروان عندما يتقلد أمور المسلمين؟ ولقد اتفق العلماء على أنه أول من شق عصا المسلمين بلا شبهة (2)، إن الصورة بهتت في عهد عثمان، وعندما جاء علي بن أبي طالب قاتلوه، ثم جاء معاوية فكان أول من نقص التكبير في الصلاة (3)، في الوقت الذي كان فيه أول من اتخذ الحرس لحمايته، وأول من اتخذ الخصيان لخاص خدمته (4). وفي عام ستين دخل بالدولة نحو أعتاب المبايعة لولده يزيد. وفي الحديث الصحيح قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
" تعوذوا بالله من رأس الستين ومن إمارة الصبيان " (5)، وعندما وضع معاوية ابنه على رقبة الأمة سار على منهاج أبيه ورفع أعلام السب، فكان من نتيجة هذه الثقافة ظهور الإنسان المشوه الذي لا يمكن أن يحمل منهجا سماويا، ففي الحديث الصحيح يقول البني صلى الله عليه وسلم: " يكون خلف بعد الستين سنة أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، فسوف يلقون غيا، ثم يكون خلف يقرؤون القرآن لا يعدو تراقيهم. ويقرأ القرآن ثلاثة: مؤمن ومنافق وفاجر (6)، المنافق
____________
(1) رواه أحمد وابن حبان في صحيحه والحاكم (كنز 238 / 1) وقال السيوطي. رواه أحمد والطبراني والحاكم وصححه (الخصائص الكبرى 265 / 1).
(2) شذرات الذهب / ابن العماد الحنبلي 69 / 1.
(3) تاريخ الخلفاء 187 / 1.
(4) تاريخ الخلفاء 187 / 1.
(5) رواه أحمد بسند صحيح وأبو يعلى (كنز العمال 119 / 11).
(6) رواه أحمد وقال الهيثمي رجاله ثقات (الزوائد 231 / 6) وقال ابن كثير تفرد به أحمد وإسناده على شرط السنن (البداية 228 / 6) ورواه ابن جرير (كنز 314 / 11) والحاكم وأقره الذهبي (المستدرك 507 / 4)، والبيهقي (الخصائص الكبرى 236 / 2)، وابن حبان =
" مما أتخوف على أمتي أن يكثر فيهم المال حتى يتنافسوا، فيقتتلوا عليه. وإن مما أتخوف على أمتي أن يفتح لهم القرآن حتى يقرأه المؤمن والكافر والمنافق، فيحل حلاله المؤمن ابتغاء تأويله " (2). ومما هو محفوظ أن القرآن قد فتح للصالح والطالح منذ زمن بعيد، يوم أن قال الناس حسبنا كتاب الله، ولم يكن في الساحة وقتئذ العالم بتأويله، الأمر الذي أدى إلى تشعبات كانت الأمة في غنى عنها. وبعد عهد يزيد سارت أعلام بني أمية على الطريق الذي يضيعون فيه الصلاة، حتى جلس الوليد بن عبد الملك على رقبة الأمة. وروي أنه جلس يوم الجمعة على المنبر حتى اصفرت الشمس، فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين إن الوقت لا ينتظرك، وإن الرب لا يعذرك. قال: صدقت. ومن قال مثل مقالتك فلا ينبغي له أن يقوم مثل مقامك، ثم نادى: من هاهنا من أقرب الحرس يقوم إليه فيضرب عنقه (3).
إنه طريق إضاعة الصلاة، حتى أن سفيان الثوري كان يقول في الذين على طريق السلطان: لولا أن تكون سبة ما صليت على من يأتي السلطان حتى يكونوا عبرة (4)، وقال وهيب: هؤلاء الذين يدخلون على الملوك. إنهم لأضر على الأمة من المقامرين (5)، وقال سفيان: القبول مما في أيديهم من استحلال المحارم، والتبسم في وجوههم، علامة الرضا بفعالهم، وإدمان النظر إليهم يميت القلب (6). وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا قال الرجل
____________
= في صحيحه (كنز العمال 195 / 11).
(1) رواه الحاكم (المستدرك 507 / 4).
(2) رواه الحاكم (كنز العمال 200 / 10).
(3) العقد الفريد 62 / 1.
(4) رواه أحمد في الورع 193 / 1.
(5) أحمد في الورع 82 / 1.
(6) أحمد في الورع 97 / 1.
لقد ضاعت الصلاة عندما تم التعتيم على العلم وتشويه حملته، إن الله تعالى يقول: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير) (3)، قال المفسرون: تدل الآية على انقسام المؤمنين إلى طائفتين: مؤمن ومؤمن عالم ومن المحفوظ أن المؤمن العالم أفضل بقوله تعالى: (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) (4)، وقالوا: وبما أن المؤمن العالم أفضل، فإن ما ذكر من رفع الدرجات في الآية مخصوص بالذين أوتوا العلم. ويبقى لسائر المؤمنين من الرفع، الرفع درجة واحدة، ويكون التقدير أن الله يرفع الذين آمنوا درجة. ويرفع الذين أوتوا العلم درجات.
فإذا كان طريق بني أمية قد أضاع الصلاة فهل تكون أعلامهم في دائرة الذين أوتوا العلم؟ وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: " لكل قوم سادة، حتى أن للنحل سادة " (5)، فهل بني أمية سادة المؤمنين أو سادة الذين أوتوا العلم؟ وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: " إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يترك عالما، اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسألوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا " (6). فهل علماء بني أمية قبضوا؟ كيف وهم على سدة الحكم وأبواب المساجد مفتوحة لهم، ولهم المدارس والمعاهد والدواوين؟ فإذا كان ذلك كذلك، فلماذا ضيعوا الصلاة واعتمدوا عقائد المرجئة، وسارت السياسة المالية تحت أعلامهم بالوقود البيزنطي؟
____________
(1) رواه الحاكم والبيهقي (كنز العمال 170 / 1).
(2) رواه أحمد وأبو داود والنسائي (كنز العمال 170 / 1).
(3) سورة المجادلة: الآية 11.
(4) سورة الزمر: الآية 9.
(5) أبو يعلى (كنز العمال 88 / 6).
(6) رواه مسلم (الصحيح 224 / 16) وأحمد (الفتح الرباني 181 / 1).
____________
(1) رواه أحمد (الفتح الرباني 182 / 1)، والحاكم وأقره الذهبي وقال الهيثمي رواه الطبراني والبزار (الزوائد 200 / 1).
(2) سورة مريم: الآية 58، 60.
(3) سورة النساء: 69.
(4) سورة المائدة: 75.
ويقول البعض: إن النبي قال: " أيما عبد دعوت عليه فاجعل اللهم ذلك له أو عليه رحمة " ونحن نشك في هذا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، ولكن هب أن النبي قال ذلك. مع تحفظنا الشديد، فهل يسر بنو أمية أن رسول الله لعنهم فكان ذلك لهم رحمة؟ وقال البعض: يكفي بني أمية أنهم فتحوا الفتوح ومصروا الأمصار. ونحن نقول إن الفتوحات عمل عظيم، ولكن أي فتوحات؟ إن الإسلام جاء ليقول كلمة لا ليرفع سيفا. فإذا رفع السيف فإن هذا السيف لا يرفع إلا بإذن الله ووفقا لمنهج الله. والنبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يقوم بدين الله إلا من حاطه من جميع جوانبه " (1). ولقد ثبت أن بني أمية لا يحيطون به. وثبت أنهم ليسوا أولى الناس بالأنبياء، وليسوا من الذين أوتوا العلم، لقد فتحوا الفتوح ومصروا الأمصار، ولكن لحساب من؟ إننا ما زلنا نعاني من مقولة إن الإسلام انتشر بالسيف، والإسلام بري من هذه المقولة التي ألصقت به في عالم الفتن.
إن فتوحات بني أمية وغيرهم أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال لابن حولة: ليفتحن لكم الشام والروم وفارس، حتى يكون لأحدكم من الإبل كذا وكذا، ومن البقر كذا وكذا، ومن الغنم، وحتى يعطي أحدهم مائة دينار فيسخطها. ثم وضع رسول الله يده على رأس بن حولة وقال: يا ابن حولة، إذا رأيت الخلافة قد نزلت الأرض المقدسة فقد دنت الزلازل والبلايا والأمور العظام (2). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: إذا فتحت عليكم فارس والروم، أي قوم أنتم. قال عبد الرحمن بن عوف: نقول كما أمرنا الله. فقال النبي: أو غير ذلك تتنافسون ثم تتحاسدون ثم تتدابرون ثم
____________
(1) رواه أبو نعيم (كنز العمال 84 / 3).
(2) رواه أحمد وأبو داوود والحاكم وصححه (الفتح الرباني 29 / 24).
إن أصحاب المقاعد الأولى أساءوا أبلغ إساءة إلى الفتوحات. ومن لطف الله تعالى أن عامة المسلمين من التجار وغيرهم، والعديد من العلماء الأفاضل، كانوا الصورة النقية التي عبرت عن الإسلام في البلاد المفتوحة. أما أصحاب المقاعد الأولى الذين لا فقه لهم فيقول عنهم النبي صلى الله عليه وسلم: " إنه سيفتح لكم مشارق الأرض ومغاربها، وإن عمالها في النار، إلا من اتقى الله وأدى الأمانة " (2). وللأمانة تعاريف طويلة وعريضة، وأما علماء السوء الذين اتخذوا الفتوحات وغيرها تجارة يقول فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: " ويل لأمتي من علماء السوء، يتخذون هذا العلم تجارة، يبيعونها من أمراء زمانهم ربحا لأنفسهم، لا أربح الله تجارتهم " (3).
إن الذين وضعوا بني أمية في دائرة مناقب الفتوحات، لم يصيبوا الحق في رأينا، لأن بني أمية دخلوا هذه الأبواب من طريق أضاعوا فيه الصلاة، واتبعوا الشهوات، فجاءت الفتن المقروءة والمسموعة وغير ذلك. ثم كيف يوضعوا في دائرة المناقب هذه في الوقت الذي ضاعت فيه الأمانة؟ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا ضيعت الأمانة فانتظروا الساعة. وقيل: يا رسول الله: كيف أضاعتها؟ قال: إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة (4). ولما كان إسناد الأمر إلى غير أهله بهذه الأهمية، فكان لا بد أن يبين لهم من هم أهله هؤلاء، ولقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قد بين ذلك في أكثر من موضع (5). ومن
____________
(1) رواه مسلم (الصحيح 97 / 18).
(2) رواه أحمد وقال في الفتح إسناده حسن (الفتح الرباني 25 / 23).
(3) رواه الحاكم في تاريخه (كنز 205 / 10) (4) رواه البخاري (الصحيح 128 / 4).
(5) كان علي في دائرة أهل بمكة عندما نزل قوله تعالى: (وأنذر عشيرتك الأقربين) وكان في دائرة أهله عندما نزل قوله تعالى: (... وأنفسنا وأنفسكم)، وكان في دائرة أهل يوم تبوك عندما قال له: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى.... "، وفي العام التاسع عندما بعثه بسورة براءة، ويوم الكساء (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل =
وهكذا نعود إلى حيث بدأنا، ولقد بدأنا هذا الضوء بقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الإسلام والسلطان أخوان توأمان، لا يصلح واحد منهما إلا بصاحبه. فالإسلام أس والسلطان حارس، وما لا أس له يهدم، وما لا حارس له ضائع " (3). ثم إخباره: " إن رحى الإسلام دائرة وإن الكتاب والسلطان سيفترقان فدوروا مع الكتاب حيث دار " (4). ولقد بينا كيف تم الافتراق، وكيف رفعت أعلام الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات.
____________
= البيت...)، ويوم غدير خم: (من كنت مولاه فعلي مولاه).
(1) رواه البخاري (الصحيح 222 / 4)، ورواه ابن أبي عاصم وقال الألباني رجاله ثقات (كتاب السنة 493 / 2).
(2) رواه أحمد والحاكم وأقره الذهبي الطبراني (الفتح الرباني 32 / 23)، (المستدرك 415 / 2)، (الزوائد 245 / 5).
(3) رواه الديلمي (كنز العمال 10 / 6).
(4) رواه الطبراني عن معاذ. وابن عساكر عن ابن مسعود (كنز 216 / 1).
ثانيا - دماء حول كهف النفاق
احذروا إن القانون هنا يقوم على أعمدة، قال معاوية: " إياك والسلطان، فإنه يغضب غضب الصبيان، ويأخذ أخذ الأسد، وإن قليلة يغلب كثير الناس " (1). وقال: " إني لا أحول بين الناس وألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين ملكنا " (2). وكتب إلى نائبه زياد: " إنه لا ينبغي أن نسوس الناس سياسة واحدة باللين فيمرحوا، ولا بالشدة فنحمل الناس على المهالك، ولكن كنت أنت للشدة والفظاظة والغلظة. وأنا للين والألفة والرحمة... " (3).
لقد وضع بني أمية بذرة الاضطهاد في الإسلام، ومن هذه البذرة خرجت شجرة تحت ظلالها وضعت الأرائك للملك العضوض، ونصبت الخيام للجبرية والطواغيت. وعلى طرقها توجه التهم للشرفاء فيتهموا بالعمالة تارة، وبالتحريض تارة، وبالسعي للاستيلاء على السلطة تارة أخرى، وبالتهمة تقطع الرؤوس، ويطاف بها هنا وهناك، على هدير هتاف يدعو للسلطان بدوام البغاء. والقانون لا يجوز الطعن فيه، لأن الذي أملاه صحابي شاهد النبي وسمع منه. ومرحا للطلقاء وأبناء الطلقاء، مرحا لاثني عشر رجلا كانوا يريدون أن يقتلوا النبي صلى الله عليه
____________
(1) البداية والنهاية 135 / 8.
(2) الطبراني 187 / 6.
(3) البداية والنهاية 136 / 8.
ونحن هنا سنلقي الضوء على كيفية تعامل القانون مع المسلمين تحت ثقافة السب. بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بما يقرب من ثلاثين عاما.
1 - قلوب من نحاس:
يوم غدير خم قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من كنت مولاه فعلي مولاه.... " الحديث، وفي نفس الخطبة أوصى الأمة بوصايا وحذرهم من أمور منها قوله: " لعن الله من ادعى إلى غير أبيه ولعن الله من تولى غير مواليه الولد للفراش وللعاهر الحجر " (1). ولقد اخترت هذه الرواية، لأنها لزيد بن أرقم وفيها: " كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بغدير خم، ونحن نرفع غصن شجرة عن رأسه فقال.... "، ثم ساق الحديث. وهذا الحديث رواه أحمد عن أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الولد للفراش وللعاهر الحجر وحسابهم على الله، ومن ادعى إلى غير أبيه، أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله إلى يوم القيامة " (2). ورواه أحمد والشيخان عن أبي عثمان أنه لقي أبا بكرة فقال له: ما هذا الذي صنعتم؟ إني سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: سمع أذني من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: من ادعى أبا في الإسلام غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه، فالجنة عليه حرام. فقال أبو بكرة: وأنا سمعت من رسول الله (3).
وإذا كان معاوية قد حارب الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم يوم الغدير: " من كنت مولاه فعلي مولاه "، فإن معاوية تتبع الخطبة إلى نهايتها، وألحق زياد بن أبيه بالخيمة الأموية، ضاربا بالتحذير عرض الحائط. وزياد هو
____________
(1) رواه الطبري (الزوائد 15 / 4).
(2) رواه أحمد (الفتح الرباني 218 / 21) والترمذي وقال في تحفة الأحواذي أخرجه الجماعة إلا أبو داود (التحفة 321 / 4).
(3) رواه أحمد والشيخان (الفتح الرباني 41 / 17).
وادعاه معاوية وألحقه بأبيه أبي سفيان وصار من جملة أصحابه. وكان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قد حذر زياد من معاوية فقال له: " إن معاوية يأتي المرء من بين يديه ومن خلفه فاحذره " (1).
وكان معاوية يريد أن يخترق جبهة علي، فبعث إلى زياد يغريه بهذا الاستلحاق، وكان زياد وقتئذ عاملا لعلي. وبعد وفاة أمير المؤمنين راسل معاوية زياد رغبة منه في أن يستعين به في تأسيس ملكه والقضاء على المعارضة.
وبدخول زياد خيمة معاوية جرت الدماء أنهارا، ولم تقف حتى بعد وفاة زياد الذي خلفه ابنه فكان شر خلف لشر سلف.
وروى الطبري: كان زياد أول من شد أمر السلطان، وأكد الملك لمعاوية، وألزم الناس الطاعة، وتقدم في العقوبة، وجرر السيف، وأخذ بالظنة، وعاقب على الشبهة، وخافه الناس في سلطانه خوفا شديدا (2). وكان زياد أول من سير بين يديه بالحراب، ومشى بين يديه بالعمد (3). وضم معاوية إلى زياد الكوفة، فكان أول من جمع له الكوفة والبصرة (4). وقام زياد بتعيين سمرة بن جندب عاملا له على البصرة، وكان يقيم ستة أشهر بالكوفة وستة أشهر بالبصرة (5).
وسمرة بن جندب شرب من إناء زياد كل معالم القسوة، يقول الطبري:
سئل أنس بن سيرين، هل كان سمرة قتل أحدا؟ قال: وهل يحصى من قتل سمرة بن جندب؟، استخلفه زياد على البصرة، فقتل ثمانية آلاف من الناس، وعندما قيل له: هل تخاف أن تكون قد قتلت أحدا بريئا قال: لو قتلت إليهم ا
____________
(1) أسد الغابة 272 / 2.
(2) الطبري 126 / 6.
(3) الطبري 127 / 6.
(4) الطبري 128 / 6.
(5) الطبري 131 / 6.
فهذه القوة الحديدية التي يتحرك بها رجال لهم قلوب من نحاس، حذر النبي صلى الله عليه وسلم من مقدماتها يوم غدير خم. وذلك لأن أصحاب العقول البرونزية، التي تقرقع أنيابهم كقرقعة أنياب الحيتان، لن يجدوا فريسة يغرسون فيها أنيابهم سوى الذين يحبون علي بن أبي طالب، فيوم الغدير دثر النبي علي بن أبي طالب بدثار " من كنت مولاه... " في الوقت الذي كان النبي يقول فيه: " لعن الله من ادعى إلى غير أبيه.... ".
2 - مقتل حجر بن عدي:
قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخبر بالغيب عن ربه جل وعلا:
" سيقتل بعذراء أناس يغضب الله لهم وأهل السماء " (4). وروي عن الإمام علي أنه قال: " يا أهل العراق سيقتل منكم سبعة نفر بعذراء، مثلهم كمثل أصحاب الأخدود " (5). وحجر بن عدي هو الذي قام بفتح عذراء، قال: إني لأول فارس من المسلمين هلل في واديها، وأول رجل من المسلمين نبحته كلابها (6).
فمن الذي قتل في عذراء؟ الإجابة: إنه حجر بن عدي. فماذا قتل؟
____________
(1) الطبري 132 / 6.
(2) الطبري 132 / 6.
(3) الطبري 132 / 6.
(4) ابن عساكر ويعقوب بن سفيان (كنز العمال 126 / 1) ابن كثير (البداية 55 / 8).
(5) البداية والنهاية 55 / 8.
(6) الكامل 241 / 3، أسد الغابة 412 / 1، الطبري 154 / 6.
يقول ابن كثير: كان المغيرة بن شعبة على الكوفة إذا ذكر عليا في خطبته يتنقصه بعد مدح عثمان، فيغضب حجر... فلما توفي المغيرة وجمع معاوية لزياد الكوفة مع البصرة، فعل ما كان يفعله المغيرة، فكان حجر يغضب كغضبه أيام المغيرة (2). وروي أن زياد خطب يوما في الجمعة، فأطال الخطبة وأخر الصلاة، فقال له حجر: الصلاة، فمضى زياد في خطبته، وكما ذكرنا من قبل أن بني أمية كانوا يتعاملون مع الصلاة بطريقة خاصة بهم. وعند ما مضى زياد في الخطبة، خشى حجر فوات الصلاة فضرب بيده إلى الحصا. وثار إلى الصلاة وثار الناس معه (3). فلما رأى زياد. نزل وصلى بالناس. ثم كتب إلى معاوية في أمر حجر. فكتب إليه معاوية: أن شده في الحديد واحمله إلي (4). وتم القبض على حجر، وأحضر الشهود الذين يشهدون عليه أنه سب الخليفة، وحارب الأمير، وأنه قال: إن هذا الأمر لا يصلح إلا في آل علي بن أبي طالب (5).
وروي أنه لما أخذ في قيوده سائرا إلى الشام، تلقته بناته في الطريق وهن يبكين، فمال نحوهن وقال: اسكتن، فسكتن، فقال: اتقين الله عز وجل واصبرن، فإني أرجو من ربي في وجهي هذا إحدى الحسنيين، إما الشهادة وهي السعادة، وإما الانصراف إليكن في عاقبة. وإن الذي كان يرزقكن ويكفيني مؤونتكن هو الله تعالى، وهو حي لا يموت، أرجو أن لا يضيعكن. وأن يحفظني فيكن (6).
وروي أنه ذهب إلى معاوية أولا في دمشق، ثم أمر معاوية بقتله في
____________
(1) الحاكم (المستدرك 470 / 3).
(2) البداية والنهاية 51 / 8، الطبري 143 / 6.
(3) الطبري 143 / 6، الكامل 243 / 3.
(4) البداية 51 / 8، الطبري 143 / 6، الكامل 243 / 3، كتاب المحن 120 / 1.
(5) البداية 51 / 8.
(6) الطبري 152 / 6.
وروي أن معاوية عندما أمر بقتل حجر وأصحابه، جاء رسول معاوية فقال لهم: إنا قد أمرنا أن نعرض عليكم البراءة من علي بن أبي طالب واللعن له، فإن فعلتم تركناكم، وإن أبيتم قتلناكم. وإن أمير المؤمنين معاوية يزعم أن دماءكم قد حلت له بشهادة أهل مصركم عليكم. غير أنه قد عفى عن ذلك، فابرؤوا من هذا الرجل نخلي سبيلكم. فقالوا: إنا لسنا فاعلي ذلك. فأمر بقبورهم فحفرت، وأدنيت أكفانهم، فقاموا الليل كله يصلون. فلما أصبحوا قال أصحاب معاوية:
يا هؤلاء لقد رأيناكم البارحة قد أطلتم الصلاة، وأحسنتم الدعاء، فاخبرونا ما قولكم في عثمان. قالوا: هو أول من جار في الحكم وعمل بغير الحق. فقال أصحاب معاوية: أمير المؤمنين معاوية أعلم منكم. ثم قالوا: تبرؤون من هذا الرجل؟ قالوا: بل نتولاه ونتبرأ ممن تبرأ منه. فأخذ كل رجل من أصحاب معاوية رجلا منهم ليقتله. فقال لهم حجر: دعوني أتوضأ. قالوا: توضأ. فلما توضأ قال لهم: دعوني أصلي ركعتين، فأيمن الله ما توضأت قط إلا صليت ركعتين. فتركوه يصلي. فلما صلى قال: والله ما صليت صلاة قط أخف منها.
ولولا أن تظنوا في جزعا من الموت لاستكثرت فيها (1).
وروي أن بعض أصحاب حجر قالوا: ابعثوا بنا إلى معاوية، فلما دخلوا عليه دخل الخثعمي قال: الله الله يا معاوية! فإنك منقول من هذه الدار الزائلة إلى الدار الآخرة الدائمة، ثم مسؤول عما أردت بسفك دمائنا. فقال له معاوية: ما تقول في علي؟ قال: أقول فيه قولك. أتبرأ من دين علي الذي يدين الله به.
فسكت معاوية ثم قال لعبد الرحمن العنزي: ما تقول في علي: فقال لمعاوية:
دعني ولا تسألني فهو خير لك. قال: والله لا أدعك حتى تخبرني عنه، فقال:
أشهد أنه كان من الذاكرين الله كثيرا، ومن الأمرين بالحق، والقائمين بالقسط،
____________
(1) الطبري 154 / 6، الكامل 241 / 3، أسد الغابة 462 / 1.
لم يأمر معاوية بقتل العنزي في مرج عذراء، بل اختاره من بين أصحاب حجر ليرى أهل العراق قتله. روى أن معاوية بعث به إلى زياد وكتب إليه: إن هذا العنزي شر من بعثت، فعاقبه عقوبته التي هو أهلها، واقتله شر قتلة (2).
وروي أن العنزي قبل أن يغادر عذراء قال لحجر: نعم أخو الإسلام كنت. ثم حمل إلى العراق فلما قدم به على زياد، أمر بدفنه حيا (3).
وروي أن حجرا لما مشى إليه فياض الأعور بالسيف، ارتعدت فرائصه، فقيل له: يا حجر أليس زعمت أنك لا تجزع من الموت؟ فقال: وما لي لا أجزع، وأنا أرى قبرا محفورا وكفنا منشورا وسيفا مشهورا (4). وروي أنه قال:
اللهم إنا نستعديك على أمتنا، فإن أهل الكوفة شهدوا علينا، وإن أهل الشام يقتلوننا، أما والله لئن قتلتموني بها، إني لأول فارس من المسلمين هلل في واديها، وأول رجل من المسلمين نبحته كلابها. فمشى إليه الأعور، هدية بن فياض بالسيف، فأرعدت خصائله، فقال لحجر: أنا أدعك فابرأ من صاحبك.
فقال حجر: لا أقول ما يسخط الرب. فقتله، وأقبلوا يقتلونهم واحدا واحدا حتى قتلوا ستة (5). روى الطبري: قال الحسن: حجوهم ورب الكعبة (6)، وفي قتل حجر قالت هند ابنة زيدان الأنصارية:
____________
(1) الطبري 155 / 6، الكامل 242 / 3.
(2) الطبري 155 / 6، الكامل 242 / 3.
(3) الطبري 155 / 6، الكامل 242 / 3.
(4) الطبري 154 / 6، الكامل 241 / 1، الحاكم (المستدرك 469 / 3) كتاب المحن 188 / 1.
(5) الطبري 155 / 6، الكامل 241 / 3، كتاب المحن 188 / 1.
(6) الطبري 155 / 6.
وروي أن حجرا أوصى قبل قتله فقال: لا تغسلوا عني دما، ولا تطلقوا عني قيدا، وادفنوني في ثيابي، فأنا سألقى معاوية غدا (2). وفي رواية: فإني لاق معاوية بالحادة، وإني مخاصم (3).
وقتل أصحاب عذراء الذين وصفهم الحديث بأن مثلهم كمثل أصحاب الأخدود. لقد لفت النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأنظار إليهم، ليعلم الذين عاصروا الحدث حقيقة الأحداث. فحجر لم يكن مجرد قتيل، ولكنه شاهد على تاريخ مضى، وشاهد على إمارة تقلدها رجل وقع في دائرة اللعن يوم غدير خم، يوم أن قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " لعن الله من ادعى إلى غير أبيه... ". وكان حجر شاهدا أيضا على كرسي كبير يجلس عليه شيخ في دمشق له زئير، وهذا أيضا مخالف لما قيل يوم الغدير. ترى هل فهم أحد يومئذ الحكمة التي رواء قتل حجر. إنني أميل إلى القول بأن الكثرة لم تفهم المغزى بدليل أن حجرا دعا ربه وقال: اللهم إنا نستعديك على أمتنا، فإن أهل الكوفة شهدوا علينا وإن أهل الشام يقتلوننا. وأغلب الظن أن أهل الشام ما كانوا في حاجة إلى شهود، فالذي يضيع الصلاة على أقل تقدير ليس بعيدا عليه أن يضيع الشهود - وها هو سمرة بن جندب الذي قتل الآلاف وما خاف أن يكون فيهم بريئا واحدا.
وبعد أن فرغ معاوية من قتل حجر ورفاقه ذهب إلى المدينة، وروي أنه دخل على عائشة ولم يشهد كلامهما أحد إلا ذكوان مولى عائشة (4)، فقالت: ما حملك على قتل أهل عذراء حجر وأصحابه؟ قال: يا أم المؤمنين، إني رأيت
____________
(1) الطبري 157 / 6.
(2) الحاكم (المستدرك 469 / 3).
(3) الحاكم (المستدرك 470 / 3) ابن عساكر (كنز العمال 353 / 11) أسد الغابة 462 / 1.
(4) البداية 143 / 8.
" الإيمان قيد الفتك ". ثم قال: كيف أنا في الذي بيني وبينك وفي حوائجك؟
قالت: صالح، فقال: فدعينا وإياهم حتى نلقى ربنا (3). وفي رواية قال: كيف بري بك يا أمة، قالت: إنك محب لنا، فقال: يكفيني هذا عند الله (4).
ولقد كان معاوية برا بأم المؤمنين، فعن سعيد بن عبد العزيز قال: قضى معاوية عن عائشة أم المؤمنين ثمانية عشر ألف دينار، وما كان عليها من الدين الذي كانت تعطيه الناس (5). وعن عطاء قال: بعث معاوية إلى عائشة وهي بمكة بطوق قيمته مائة ألف فقبلته (6). وروي أن زيد بن منبه، أخو يعلى بن منبه صاحب حجل عائشة، ومتولي تلك الحرب دخل على معاوية وشكا إليه دينا لزمه فأمر معاوية له بثلاثين ألف، وعندما هم زيد بالانصراف قال معاوية: وليوم الجمل ثلاثين ألف أخرى (7).
وليس معنى هذا أن أم المؤمنين تبحث عن الثروة، معاذ الله. فلقد كانت تأخذ المال من معاوية لتعطي المحتاجين. ولقد روي عن عائشة قالت: جلست
____________
(1) ابن عساكر ويعقوب بن سفيان (كنزل العمال 588 / 13) كتاب المحن 119 / 1.
(2) البداية والنهاية 143 / 8.
(3) رواه أحمد (الفتح الرباني 234 / 19) كتاب المحن 120 / 1.
(4) البداية والنهاية 57 / 8.
(5) البداية والنهاية 136 / 8.
(6) البداية والنهاية 137 / 8.
(7) العقد الفريد 68 / 2.
3 - هل رأيت آية النار؟
كان عمر بن الحمق من أتباع حجر بن عدي، وكان يعترض على ما يعترض عليه حجر، وكما كان حجر حجة على جموع أحاط بها العذاب من كل مكان، ودعوة لهم كي يأخذوا بالأسباب لدفع هذا العذاب، كذلك كان عمرو بن الحمق أيضا. روي عن عمرو أنه قال: هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فبينما أنا عنده ذات يوم قال لي: يا عمرو هل لك أن أريك آية الجنة تأكل وتشرب الشراب، وتمشي في الأسواق؟ قلت: بلى بأبي أنت. قال: هذا وأشار بيده إلى علي بن أبي طالب. ثم قال لي: يا عمرو هل لك أن أريك آية النار، تأكل الطعام وتشرب الشراب وتمشي في الأسواق؟ قلت: بلى بأبي أنت.
قال: هذا وقومه آية النار، وأشار إلى رجل! فلما وقعت الفتنة ذكرت قول النبي صلى الله عليه وسلم ففرت من آية النار إلى آية الجنة. ثم قال عمرو: ويرى بنو أمية قتلي بعد هذا. والله إن كنت في حجر في جوف حجر، لاستخرجني بنو أمية حتى يقتلوني، حدثني به حبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال لي: إن رأسي أول رأس تحتز في الإسلام وينقل من بلد إلى بلد (2).
وروي أن عمرو بن الحمق كان من جملة من أعان حجر بن عدي، فطلبه زياد فهرب وكان مريضا، وخرجت الخيل في طلبه. وفي الطريق سأله رجل: من
____________
(1) أبو سعيد الأعرابي في الزهد (كنز العمال 731 / 3).
(2) رواه الطبراني في الأوسط وقال الهيثمي فيه عبد الله بن عبد الملك وهو ضعيف (الزوائد 406 / 9) وله شاهد قوي عند الطبراني في الكبير. (كنز العمال 627 / 11) ورواه ابن عساكر بلفظ آخر بسند صحيح (كنز العمال 496 / 13).
بل انثر نبلي ثم أرميهم حتى إذا فنيت معك. قال عمرو: لا ولكني سأزودك مني ما ينفعك الله به. فاسمع مني: آية الجنة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلامتهم علي بن أبي طالب! وتوارى زاهر، فأقبل القوم، وقتل عمرو، ونزل إليه رجل منهم فقطع رأسه. فكان أول رأس في الإسلام نصب في الناس.
وخرج زاهر إليه فدفنه (2). وفي رواية: أن حية نهشته فمات فقطعوا رأسه (3).
وبعد أن رفعت رأس عمرو بن الحمق ليراها أهل العراق، كان لا بد أن يراها أهل الشام. يقول البخاري: أول رأس بعث في الإسلام رأس عمرو بن الحمق. بعثه زياد إلى معاوية (4) لكي تشاهد الأمة الرأس المقطوع. يقول ابن كثير: وبعث برأسه إلى معاوية فطيف به في الشام وغيرها، فكان أول رأس طيف به (5).
وكان معاوية قد ألقى القبض على زوجه عمرو بعد أن فشل في القبض على عمرو، وألقى بها في سجونه. ورأى معاوية بعد أن أطمئن إلى أن الأمة قد شاهدت الرأس، أن يبعث برأس عمرو إلى زوجته في السجن. يقول ابن كثير:
ثم بعث معاوية برأسه إلى زوجته آمنة بنت الشريد، وكانت في سجنه فألقي في حجرها، فوضعت كفها على جبينه، ولثمت فمه وقالت: عيبتموه عني طويلا،
____________
(1) الطبري 148 / 6، البداية 48 / 8.
(2) رواه ابن عساكر وقال ابن حجر في الإصابة سنده جيد (الإصابة 533 / 2) (كنز العمال 498 / 13).
(3) البداية 48 / 8، ابن عساكر (كنز العمال 498 / 13).
(4) التاريخ الصغير للبخاري 105 / 1.