ومكث الحسين نهارا طويلا وحده لا يأتيه أحد، حتى آتاه رجل من كنده يقال له مالك بن النسير. أتاه فضربه على رأسه بالسيف، وعليه برنس له فقطع البرنس، وأصاب السيف رأسه فأدمى رأسه، فامتلأ البرنس دما. فقال له الحسين: لا أكلت بها ولا شربت، حشرك الله مع الظالمين، وألقى ذلك البرنس، ثم دعا بقلنسوة فلبسها واعتم. وقد أعيا. وجاء الكندي الذي ضربه حتى أخذ البرنس (2).
وأتى الحسين بصبي له فأجلسه في حجره، ثم جعل يقبله ويودعه. فرماه رجل من بني أسد بسهم فذبح ذلك الغلام. فتلقى الحسين دمه في يده. وألقاه نحو السماء وقال: رب إن تك حبست عنا النصر من السماء، فاجعل ذلك لما هو خير وانتقم لنا من هؤلاء الظالمين (3). وأحاطوا بالحسين، وأقبل إلى الحسين غلام من أهله، فأخذته أخته زينب ابنة علي لتحبسه. فقال لها الحسين:
أحبسيه، فأبى الغلام، وجاء يشتد إلى الحسين فقام إلى جنبه، فأهوى بحر بن كعب إلى الحسين بالسيف. فقال الغلام: أتقتل عمي، فضربه بالسيف فاتقاه الغلام بيده فأطنها سوى الجلدة، فإذا يده معلقة. فنادى الغلام: يا أمتاه، فأخذه الحسين فضمه إلى صدره، وقال: يا ابن أخي اصبر على ما نزل بك، واحتسب في ذلك الخير فإن الله يلحقك بآبائك الصالحين، برسول الله صلى الله عليه
____________
(1) البداية 186 / 8، الطبري 258 / 6.
(2) البداية 186 / 8، الطبري 256 / 6.
(3) البداية 186 / 8، الطبري 257 / 6.
وبعد أن فرغت القوات الأموية من الخيول، ثم من الرجال، ثم من الأطفال، بدءوا يتفرغون للنساء، وكان هذا كله وفق خطة محكمة، هدفها أن يرى الحسين كل شئ قبل أن يقتلوه. يقول عبد الله بن عمار: فوالله ما رأيت مكسورا قط، قد قتل ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشا، ولا أمضى جنانا منه، ولا أجرأ مقدما. والله ما رأيت قبله ولا بعده مثله. إن كانت الرجالة لتنكشف من عن يمينه وشماله. انكشاف المعزى إذ شد فيها الذئب، فوالله إنه لكذلك (2).
وتحرك شمر بن الجوشن في اتجاه منزل الحسين الذي فيه ثقله وعياله، ثم قام بقواته فحالوا بين الحسين وبين رحله. فقال الحسين: ويلكم إن لم يكن لكم دين، وكنتم لا تخافون يوم المعاد فكونوا في أمر دنياكم أحرارا ذوي أحساب، منعوا رحلي وأهلي من طغاتكم وجهالكم. فقال له شمر: ذلك لك يا ابن فاطمة (3).
إحدى عشر - سلام عليك أبا عبد الله:
وقف الحسين في ساحة المعركة وحده. وكان النبي صلى الله عليه وسلم، يراقب الحركة من عالم غير العالم الذي يعيش فيه الناس. فأم سلمة ستراه في المنام بعد قتل الحسين، وعلى لحيته التراب، ويقول لها: لقد شهدت قتل الحسين آنفا، لقد وقف الحسين في نهاية عمل أحسن أدائه، فأقام الحجة الدائمة التي شاء الله أن يجعلها حجة دامية لتقرع الذاكرة على امتداد التاريخ، وتدفع الذهن إلى طريق البحث عن الحقيقة، كان في مواجهة الحسين أنماط
____________
(1) البدية 187 / 8، الطبري 259 / 6.
(2) الطبري 259 / 6، البداية 188 / 8.
(3) الطبري 258 / 6، البداية 187 / 8.
1 - صرخات الحسين:
أمام المجموع التي تقرقع أنيابها كرقعة أنياب الحيتان، وقف الحسين والدماء تغطي وجهه بعد أن ضربه رجل من كنده بالسيف على رأسه، فقطع البرنس وأدمى الرأس. فقال لهم: أعلى قتلي تحاثون؟ أما والله ولا تقتلون بعدي عبدا من عباد الله، الله أسخط عليكم لقتله مني. وأيم الله، إني لأرجو أن يكرمني الله بهوانكم، ثم ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون. أما والله إن لو قد قتلتموني لقد ألقى الله بأسكم بينكم وسفك دماءكم، ثم لا يرضى لكم بذلك حتى يضاعف لكم العذاب الأليم (1). وكان قد قال: إني لم أخرج أشرا ولا بطرا، ولا مفسدا ولا ظالما، وإنما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي، محمد صلى الله عليه وسلم، أريد أن آمر بالمعروف وأنهي عن المنكر، وأسير بسيرة جدي محمد صلى الله عليه وسلم، وأبي علي بن أبي طالب.
فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق. ومن رد على هذا، أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم الظالمين (2).
____________
(1) البداية والنهاية 188 / 1، الطبري 260 / 6، الكامل 264 / 3.
(2) مقتل الحسين / الخوارزمي 189 / 1.
(إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين * ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم " (2).
كان يذكرهم بما يعرفون وبما يخفون. وتعالت الأصوات: الحق مع آل معاوية، وقطع ضجيجهم صوت الحسين: نعم الرب ربنا، وبئس العبيد أنتم....
يا أمة السوء بئسما خلفتم محمدا في عترته. ثم قال: أما إنكم لن تقتلوا بعدي عبدا من عباد الله فتهابوا قتله. بل يهون عليكم ذلك، عند قتلكم إياي، وأيم الله، إني لأرجو أن يكرمني الله بالشهادة، ثم ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون. فناداه الحصين بن مالك: وبماذا ينتقم لك منا يا ابن فاطمة فقال:
يلقي بأسكم بينكم ويسفك دماءكم، ثم يصب عليكم العذاب الأليم (3).
وبعد أن حذرهم الحسين التحذير الأخير، عطش الحسين حتى اشتد عطشه فدنا ليشرب من الماء، فرماه حصين بن تميم بسهم فوقع في فمه، فجعل يتلقى الدم من فمه، ويرمي به إلى السماء، ثم حمد الله وأثنى عليه، ثم جمع يديه فقال: اللهم احصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تذر على الأرض منهم أحدا (4).
____________
(1) مقتل الحسين / الخوارزمي 30 / 2.
(2) سورة آل عمران: الآية 33 و 34.
(3) مقتل الحسين 34 / 2.
(4) رواه الطبراني وقال الهيثمي رجاله ثقات (الزوائد 193 / 9) والبداية والنهاية 187 / 8، الطبري 258 / 6.
2 - والله إنه ليحزنني قتل الحسين:
وقف الحسين أمام رحله الذي به، ما تركته السيوف من بقايا أجساد أبنائه.
مكث نهارا طويلا وحده، لا يأتيه أحد، حتى نزف دمه. وبعد أن ارتوت الأرض من دمائه، نادى شمر بن ذي الجوشن: ويحكم ماذا تنتظرون بالرجل؟ فاقتلوه ثكلتكم أمهاتكم. فحملت الرجال من كل جانب على الحسين. وضربه زرعه بن شريك على كتفه اليسرى، وضرب على عاتقه. ثم انصرفوا عنه، وهو ينوء ويكبو. ثم جاء إليه سنان بن أبي عمرو، فطعنه بالرمح فوقع (1). يقول عبد الله بن عمار: رأيت الحسين حين اجتمعوا عليه، يحمل على من على يمينه حتى انذعروا عنه. فوالله ما رأيت مكثورا قط قد قتل أولاده وأصحابه أربط جأشا منه، ولا أمضى جنانا منه، والله ما رأيت قبله ولا بعده مثله (2) وروى الطبري:
كان مع الحسين سكين، فعندما أخذ سيفه قاتلهم بسكينة ساعة (3).
وعندما جاء شمر بن ذي الجوشن، نظر إليه الحسين وقال: صدق الله ورسوله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كأني أنظر إلى كلب أبقع يلغ في دماء أهل بيتي ". وكان شمر أبرص (4). ثم قال: اللهم أحبس عنهم القطر، وابعث عليهم سنين كسني يوسف، وسلط عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأسا مصيرة، فإنهم كذبونا وخذلونا. اللهم إن متعتهم إلى حين ففرقهم فرقا واجعلهم طرائق قددا، ولا ترضى الولاة عنهم أبدا. فإنهم دعونا لينصرونا ثم عدوا علينا فقتلونا.. ثم أراد الحسين أن يقف، ولكن قضى الله أن تنتهي أعمال الحسين بالدعاء إليه سبحانه. وأن تنتهي حركته في هذه البقعة من الأرض، لتبدأ الحركة بصورة أخرى على امتداد الزمان. وروي أن الحسين سأل عن هذه البقعة فقالوا: كربلاء، فقال: صدق الله ورسوله كرب وبلاء - وفي
____________
(1) البداية والنهاية 189 / 8، الطبري 360 / 2.
(2) البداية والنهاية 188 / 8.
(3) الطبري 360 / 6.
(4) البداية والنهاية 188 / 8، وابن عساكر (كنز العمال 226 / 12).
وشاء الله أن تحفر في ذاكرة المسلمين أحداث كربلاء، فالأحداث والأرض حزمة واحدة. داخل الذهنية الإسلامية، واسم كربلاء اسم مقصود له معنى، وللمعنى حكمة، ومن وراء الحكمة هدف. قال في لسان العرب: الكرب:
الحزن والغم، الذي يأخذ بالنفس. فإذا كان هذا وقودا لقاطرة، فإن هذه القاطرة ستدخل إلى دائرة البلاء، من مدخل الأمان. وقال في المجمع: البلاء على ثلاثة أوجه: نعمة، واختبار، ومكروه. قال تعالى: (لتبلون في أموالكم وفي أنفسكم) يريد توطين النفس على الصبر. وقال تعالى: (وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات). أي اختبره، بما تعبده به من السنن. (فأتمهن) أي عمل بهن، ولم يدع منهن شيئا. والبلاء يكون حسنا وسيئا، وأصله المحنة. والله يبلوا العبد، بما يحبه ليمتحن شكره، وبما يكرهه ليمتحن صبره. قال تعالى: (ونبلوكم بالشر والخير فتنة). وقال: (يوم تبلى السرائر)، أي تختبر السرائر في القلوب، من العقائد والنيات وغيرها. وما أسر وأخفى من الأعمال. فيتميز منها ما طاب وما خبث. وقال (ليبلوكم أيكم أحسن عملا)، أي ليعاملكم، معاملة المختبرين لكم، وإلا فعالم الغيب والشهادة، لا يخفى عليه شئ، وإنما يبلوا ويختبر من تخفى عليه العواقب. وقوله: (أيكم أحسن عملا) ليس يعني أكثركم عملا، ولكن أصوبكم عملا. وإنما الإصابة خشية الله والنية الصادقة. وسنة البلاء لا يستثنى فيها المؤمن والكافر، والمحسن والمسئ. وفي الحديث القدسي: " إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك قومك، من يتبعك، ومن يتخلف عنك، ومن ينافق معك.
وهكذا تكون دائرة الكرب، مدخلا إلى دائرة البلاء. وهكذا كان للحدث كله حكمة من ورائها هدف. لقد أراد الحسين، أن يقف في وجه أعدائه، آخذا بكل سبب من الأسباب. ولكن الله قضى أن تقطع الأسباب، وأن يقع على أرض كربلاء. وروي أنهم تركوه نهارا طويلا وهو ينوء ويكبو، ثم التفوا حوله بعد أن
____________
(1) رواه الطبراني وقال الهيثمي رجاله ثقات (الزوائد 189 / 9).
يقول ابن كثير: كان معه رؤوس بقية أصحابه وهو المشهور، ومجموعها اثنان وسبعون رأسا. وذلك أنه ما قتل قتيل إلا احتزوا رأسه. وحملت هذه الرؤوس إلى ابن زياد. ثم بعث بها ابن زياد إلى يزيد بن معاوية إلى الشام (1).
وسلب الحسين ما كان عليه، فأخذ سرواله بحر بن كعب، وأخذ قيس بن الأشعث قطيفته، وأخذ نعليه رجل من بني أود يقال له الأسود، وأخذ سيفه رجل من بني نهشل بن دارم. ومال الناس على الورس والحلل والإبل وانتهبوها، ومال الناس على نساء الحسين وثقله ومتاعه. فإن كانت المرأة لتنازع ثوبها عن ظهرها، حتى تغلب عليه فيذهب به منها (2). ووجد بالحسين عليه السلام، حين قتل ثلاث وثلاثون طعنة، وأربع وثلاثون ضربة (3). وأمر عمر بن سعد عشرة فرسان، أن يدوسوا الحسين، فداسوا الحسين بحوافر خيولهم، حتى ألصقوه بالأرض يوم المعركة (4). وكان عمر الحسين يوم قتل، ثمان وخمسين سنة (5).
وقتل معه سبعة عشر كلهم، ارتكض في رحم فاطمة عليها السلام (6). وجميع من قتل مع الحسن اثنان وسبعون رجلا (7).
وعن حميد بن مسلم قال: انتهيت إلى علي بن الحسين بن علي الأصغر، وهو منبسط على فراش له وهو مريض. وإذا شمر بن الجوشن في رجاله معه يقولون: ألا تقتل هذا. فقال حميد: إنما هذا صبي، حتى جاء عمر بن سعد فقال: لا يعرضن لهذا الغلام المريض. فقال لي علي بن الحسين: جزيت من رجل خيرا. فوالله
____________
(1) البداية 190 / 8.
(2) الطبري 360 / 6.
(3) الطبري 260 / 6.
(4) البداية 189 / 8، الطبري 261 / 6.
(5) رواه الطبراني وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح (الزوائد 198 / 9).
(6) رواه الطبراني وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح (198 / 9) البداية 189 / 8.
(7) الطبري 261 / 6، البداية 189 / 8.
قتلت حسين بن علي بن أبي طالب، وابن فاطمة ابنة رسول الله. قتلت أعظم رجال العرب خطرا، جاء إلى هؤلاء يريد أن يزيل ملكهم. فأت أمراءك فاطلب ثوابك منهم. وإنهم لو أعطوك، بيوت أموالهم في قتل الحسين كان قليلا. فأقبل على فرسه، فأقبل حتى وقف، على باب فسطاط عمر بن سعد، ثم نادى بأعلى صوته:
فقال عمر: أشهد أنك لمجنون، أدخلوه علي. فلما أدخل قال: يا مجنون أتتكلم بهذا الكلام أما والله لو سمعك ابن زياد لضرب عنقك (1).
اثنى عشر - بكاء وأحداث:
في دار أم سلمة رضي الله عنها:
عن سلمى قالت: دخلت على أم سلمة، وهي تبكي، فقلت: ما يبكيك؟
قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، وعلى رأسه ولحيته التراب. فقلت: ما لك يا رسول الله. قال: شهدت قتل الحسين آنفا (2). وكان النبي صلى الله عليه وسلم، قد أعطى أم سلمة التربة التي أتى بها جبريل عليه السلام يوم أن أخبره، بأن أمته ستقتل حسينا، وقال لها: " إذا تحولت هذه التربة دما فاعلمي أن ابني قد قتل. فجعلتها في قارورة (3) - وفي رواية - فأخذتها أم سلمة، فصرتها في خمارها (4). وممكن أن تكون فعلت هذا وذاك، لأن الإخبار بالحدث تكرر أكثر من مرة.
____________
(1) البداية والنهاية 189 / 8، الطبري 261 / 16.
(2) رواه الترمذي (البداية 217 / 8) والحاكم والبيهقي (الخصائص الكبرى 214 / 2) أسد الغابة 23 / 2.
(3) أبو نعيم (الخصائص الكبرى 213 / 2.
(4) رواه أحمد وأبو يعلى وقال الهيثمي رجال أبو يعلى رجال الصحيح (الزوائد 187 / 9).
في دار عبد الله بن عباس:
عن ابن عباس قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، نصف النهار أشعث أغبر، معه قارورة فيها دم. فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله، ما هذا؟ قال: هذا دم الحسين وأصحابه (4). وهكذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، عن قتل الحسين. أخبر أثناء حياته، وفي مماته. ولا يحدث شئ في كون الله عبثا. إن جبريل عليه السلام، نزل وأخبر بأن الحسين سيقتل. ومعنى أنه يقتل، أن جريمة قد حدثت، ولكل جريمة عقوبة، بمعنى أن جبريل عليه السلام أخبر بجريمة، وعقوبتها. فمن دخل في دائرة الجريمة، ضربته العقوبة. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إن جبريل أخبرني أن ابني هذا يقتل، وأنه اشتد غضب الله على من يقتله " (5). وكان النبي يحذر ويقول: " من آذى شعرة مني فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله " (6). ولقد تحدثنا فيما سبق أن الله لا يجعل لقاتل مؤمن توبة. لأن هذا النمط من بني الإنسان، له ضربة لا بد أن ينالها في الدنيا،
____________
(1) البداية 218 / 8.
(2) رواه الطبراني وقال الهيثمي رجاله ثقات (الزوائد 194 / 9).
(3) البداية 232 / 8.
(4) رواه أحمد وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح (الزوائد 194 / 9) البداية 217 / 8.
(5) ابن عساكر (كنز العمال 127 / 12).
(6) ابن عساكر (كنز العمال 96 / 12).
وعن مرثد قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم، عن القاتل والآمر، قالا: قسمت النار، سبعين جزءا فللآمر تسع وتسعون، وللقاتل جزء، وحسبه.
(أي يكفيه هذا المقدار من العذاب) (2). إنه عدل الله، الذي تحت سلطانه لا يفر الظالمين. إن العصفور سيبحث عن قاتله يوم القيامة. فما بالك بالمؤمن وقاتله.
روى الطبراني، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من أحد يقتل عصفورا، إلا عج يوم القيامة، فقال: يا رب هذا قتلني عبثا، فلا هو انتفع بقتلي ولا هو تركني أعيش في أرضك " (3).
في قصر الإمارة:
عند ما سارت القافلة الأموية، ومعها الرؤوس ومن بقي من آل الحسين، من كربلاء إلى الكوفة، كان لآل الحسين نداء، يقول قرة بن قيس: نظرت إلى تلك النسوة، لما مررن بحسين وأهله وولده، صحن ولطمن وجوههن. فما نسيت من الأشياء لا أنسى قول زينب ابنة فاطمة، حين مرت بأخيها الحسين صريعا وهي تقول: يا محمداه، يا محمداه صلى عليك ملائكة السماء، هذا حسين بالعراء مرمل مقطع الأعضاء، يا محمد وبناتك سبايا وذريتك مقتلة تسفي عليها الصبا " (4) وبني أمية من قبل طافوا، برأس عمرو بن الحمق، وهي في
____________
(1) رواه أحمد والنسائي وابن ماجة بسند صحيح (الفتح الرباني 4 / 16).
(2) رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح (الفتح الرباني 5 / 16).
(3) رواه الطبراني (الإصابة 349 / 6).
(4) الطبري 262 / 6.
ودخل الموكب إلى قصر الإمارة. فقام عبيد الله بن زياد، ونودي الصلاة جامعة فاجتمع الناس في المسجد، فصعد المنبر ابن زياد فقال: الحمد لله الذي أظهر الحق ونصر أهله ونصر أمير المؤمنين يزيد بن معاوية، وحزبه وقتل الكذاب بن الكذاب، الحسين بن علي وشيعته. فلم يفرغ ابن زياد من مقالته، حتى وثب عليه عبد الله بن عفيف، وكان من شيعة علي عليه السلام، وكانت عينه اليسرى ذهبت يوم الجمل مع علي، فلما كان يوم صفين، ضرب على رأسه ضربة، وأخرى على حاجبه، فذهبت عينه الأخرى، فكان لا يفارق المسجد يصلى فيه إلى الليل، فلما سمع مقالة ابن زياد قال: يا ابن مرجانة إن الكذاب ابن الكذاب، أنت وأبوك، والذي ولاك وأبوه، يا ابن مرجانة أتقتلون أبناء النبيين وتتكلمون بكلام الصديقين! فقال ابن زياد علي به. فوثب عليه الجلاوزة فأخذوه، ثم أمر بقتله، وأمر بصلبه في السبخة، فصلب (2).
وفي القصر جلس ابن زياد للناس، وجاءت الوفود فأدخلهم. يقول حميد بن مسلم: وأذن للناس، فدخلت معهم، فإذا رأس الحسين موضوع بين يديه، وإذا هو ينكث بقضيب بين ثنيتيه. فما رآه زيد بن أرقم، لا ينجم عن نكته بالقضيب قال له: أعل بهذا القضيب، عن هاتين الثنيتين، فوالذي لا إله غيره، لقد رأيت شفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، على هاتين الشفتين يقبلهما، ثم بكى زيد. فقال له ابن زياد: أبكى الله عينيك، فوالله لو لا أنك شيخ قد خرفت، وذهب عقلك لضربت عنقك. فنهض فخرج. فلما خرج قال الناس: والله لقد قال زيد بن أرقم قولا لو سمعه ابن زياد لقتله.
فقلت: ما قال. قالوا: مر بنا وهو يقول: ملك عبد عبدا، فاتخذهم تلدا، أنتم يا معشر العرب العبيد بعد اليوم، قتلتم ابن فاطمة وأمرتم ابن مرجانة، فهو يقتل خياركم، ويستعبد شراركم، فرضيتم بالذل فبعدا لمن رضي
____________
(1) البداية 193 / 58، الطبري 223 / 6.
(2) الطبري 264 / 6، البداية والنهاية 191 / 8.
وروي أنه لما دخل، برأس الحسين، وصبيانه، وأخوته، ونسائه، على عبيد الله بن زياد، لبست زينب بنت فاطمة أرذل ثيابها، فلما دخلت جلست، فقال ابن زياد: من هذه؟ فلم تكلمه. فقال ذلك ثلاث، كل ذلك لا تكلمه فقال بعض إمائها هذه زينب ابنة فاطمة. فقال لها ابن زياد: الحمد الله الذي فضحكم وقتلكم، وأكذب أحدوثتكم. فقالت: الحمد لله، الذي أكرمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وطهرنا تطهيرا، لا كما تقول أنت، إنما يفتضح الفاسق، ويكذب الفاجر. فقال: فكيف رأيت صنع الله بأهل بيتك؟ قالت: كتب عليهم القتل، فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاجون إليه، وتخاصمون عنده. فغضب ابن زياد. فقال له عمرو بن حريث: أصلح الله الأمير، إنما هي امرأة، وهل تؤاخذ المرأة بشئ من منطقها... فقال لها ابن زياد: قد أشفى الله نفسي من طاغيتك، والعصاة المردة من أهل بيتك. فبكت، ثم قالت: لعمري: لقد قتلت كهلي، وأبرت أهلي، وقطعت فرعي، واجتثثت أصلي، فإن يشفك هذا، فقد اشتفيت. فقال لها: هذه شجاعة قد لعمري كان أبوك شاعرا شجاعا. قالت: ما للمرأة والشجاعة إن لي عن الشجاعة لشغلا، ولكني نفثي ما أقول.
ونظر ابن زياد إلى علي بن الحسين، فقال له: ماسمك؟ قال: أنا علي بن الحسين. فقال: أولم يقتل الله علي بن الحسين؟ فسكت. فقال له: ما لك لا تتكلم؟ قال: قد كان لي أخ، يقال له أيضا علي فقتله الناس. فقال ابن زياد:
إن الله قد قتله. قال: الله يتوفى الأنفس حين موتها، وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله. فقال: أنت والله منهم، انظروا هل أدرك، والله إني لأحسبه رجلا.
فقال مري بن معاذ: نعم قد أدرك. قال: اقتله. فتعلقت به زينب عمته، وقالت:
حسبك منا أما رويت من دمائنا، وهل أبقيت منا أحدا، إن قتلته
____________
(1) رواه أبو داوود والطبراني (البداية والنهاية 190 / 8) الكامل 296 / 3.
ثم نصب ابن زياد رأس الحسين بالكوفة، فجعل يدار به فيها، ثم دعا حر بن قيس. وأمره بحمل رأس الحسين، ورؤوس أصحابه إلى يزيد بن معاوية (2).
في قصر الخلافة:
لقد كانت سياسة معاوية أن يكون الأمراء للشدة وهو للين (3). وكذلك كان ابنه، لقد مزقوا الأمة، وعندما تعرض قضاياها عليهم، تراهم يرفعون الحقائق، ويبررون المصائب، ويلقون جميع الأخطاء على جهات خارجية، أو معارضة داخلية. ويزعمون أن هؤلاء سببا في كل مشكلة، نظرا لأنهم يحسدون بني أمية على ما آتاهم الله من فضله. وعندما قدمت القافلة التي تحمل الرؤوس، وتأسر الأحياء، وعلم يزيد بن معاوية بذلك. روي أنه قال: لعن الله ابن سمية أما والله، لو أني صاحبه لعفوت عنه، فرحم الله الحسين " (4). فالذي يقول هذا، هو نفسه الذي قام بتعيين ابن زياد، وفقا لمشورة سرجون الرومي، من أجل التصدي لأهل الكوفة. وهو نفسه الذي أمر ابن زياد بمراقبة الحسين على جميع أبواب الكوفة. وهو نفسه الذي كشف عن وجهه الحقيقي، عندما دخل علي بن الحسين، وصبيان الحسين، ونساؤه عليه، والناس ينظرون. روي أنه قال لعلي:
يا علي أبوك الذي قطع رحمي، وجهل حقي، ونازعني سلطاني، فصنع الله به ما قد رأيت. فقال علي: ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها. فقال يزيد لابنه خالد رد عليه. فما درى خالد ما يرد عليه، فقال يزيد لابنه قل: ما أصابكم من مصيبة فيما كسبت أيديكم (5).
____________
(1) الطبري 262 / 6.
(2) الطبري 264 / 6.
(3) البداية والنهاية 136 / 8.
(4) البداية 191 / 8، الطبري 264 / 6.
(5) رواه الطبراني ورجاله ثقات (الزوائد 195 / 9) الطبري 265 / 6، البداية 194 / 8.
أنت أمير مسلط، تشتم ظالما، وتقهر بسلطانك (1).
إنها خبايا تعرف في لحن القول. وروي عن مجاهد قال: لما جئ برأس الحسين فوضع بين يدي يزيد، تمثل بهذه الأبيات:
قال مجاهد: نافق فيها. والله ثم والله ما بقي في جيشة، أحد إلا ذمه وعابه (2)، على هذا الشعر، وروي أن يزيد قال أيضا ورأس الحسين بين يديه، ينكتها بقضيب كان في يده: إن هذا وإيانا كما قال الحصين بن الحمام:
فقال له أبو برزة الأسلمي: ارفع قضيبك، فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلثمه (3). وروى الطبري أن يزيد، كان مسرورا بقتل
____________
(1) رواه الطبراني (الزوائد 195 / 9) والبداية 195 / 8، الطبري 265 / 6.
(2) البداية 192 / 8.
(3) البداية 192 / 8.
____________
(1) الطبري 19 / 7.
(2) الطبري 267 / 6.
(3) تاريخ الخلفاء 229 / 1.
(4) شذرات من ذهب / ابن العماد الحنبلي ص 68 / 1.
(5) المصدر السابق 67 / 1.
(6) المصدر السابق 67 / 1.
(7) البداية 230 / 8.
أبدع مما كان. لقد جاء يزيد، وعليه أن يستمر. وأن يورث الخلافة لولده ولولده أن يفعل من يشاء، فهذا حقه الذي كتبه الله له. ومن أراد أن ينهاه عن المنكر، فمن حق أبناء معاوية، أن يؤدبونه، حتى يرجع إلى الطاعة، ولزوم الجماعة (2).
الظهور والتشويه:
تحركت قافلة أهل البيت إلى المدينة. وفي المدينة نادى المنادي: قتل الحسين بن علي. يقول عبد الملك: لم أسمع والله واعية قط، مثل واعية نساء بني هاشم في دورهن على الحسين. فقال عمر بن سعيد بن العاص: هذه واعية، بواعية عثمان بن عفان (3). وبكى ابن عباس. على آل البيت، حتى فقد بصره في آخر عمره (4). وروي أن رأس الحسين مكث في خزائن السلاح حتى ولي سليمان، فبعث فجئ به، فكفنه ودفنه في مقابر المسلمين. فلما دخل العباسيون سألوا عن موضع الرأس، وأخذوه. وقيل غير ذلك، وليس هذا مجال بحثنا وبعد قتل الحسين، بدأ الشعر يشق طريقه وهو يحمل معالم الألم على هذه الجريمة الشنعاء، ومن هذا قالت ابنة عقيل بن أبي طالب:
وأنشد الحاكم أبو عبد الله النيسابوري:
____________
(1) البداية 223 / 8.
(2) البداية 224 / 8.
(3) الطبري 268 / 8.
(4) مروج الذهب 121 / 3.
(5) رواه الطبراني (الزوائد 200 / 9) الطبري 268 / 6، البداية 198 / 8.
وفي دور أهل الإيمان بدأت أحاديث الحوض، تطفوا على الساحة، بجانب الشعر، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " إني تارك فيكم ثقلين، أحدهما أكبر من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء والأرض وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض " (2). وقوله صلى الله عليه وسلم:
" أنا فرطكم على الحوض من ورد شرب ومن شرب لم يظمأ. وليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفونني ثم يحال بيني وبينهم " (3) وهذه الأحاديث، كانت تمثل صفعة قوية للتيار الأموي، الذين قتلوا أهل البيت فإذا كانت مهمتهم سهلة في مواجهة الشعر، فإنها لم تكن كذلك مع أحاديث الحوض، التي أصبحت، كمنشور سري يقره صحابة النبي صلى الله عليه وسلم الأوفياء. ويشق طريقه في الساحة التي بدأت تشعر بالندم بعد قتل الحسين، وتبحث عن مدخلا تقدم توبتها منه، إلى الله جل وعلا. ولم يجد التيار الأموي، غير عبيد الله بن زياد ليتصدى، لما استجد في الساحة بعد قتل الحسين. فبدأ ابن زياد صده بإنكار هذه الأحاديث، ثم مواجهة الذين يروونها بكل قسوة وكل عنف.
روي أنه ذكر الحوض عند ابن زياد، فأنكر ذلك. فبلغ ذلك أنسا فقال: ما أنكرتم من الحوض؟ قالوا: سمعت النبي يذكره؟ قال: نعم. ولقد أدركت عجائز بالمدينة، لا يصلين صلاة، إلا سألن الله تعالى أن يوردهن حوض محمد صلى الله عليه
____________
(1) البداية 198 / 8.
(2) رواه أحمد والترمذي وحسنه والطبراني وقال المناوي رجاله موثقون " الفتح الرباني 186 / 1 ".
(3) البخاري ك الدعوات ب الصراط جسر جهنم (الصحيح 141 / 4) مسلم (الصحيح 53 / 15).
وعن زيد بن أرقم قال: بعث إلي، عبيد الله بن زياد فأتيته. فقال: ما أحاديث تبلغنا وتروونها عن رسول الله لا نسمعها في كتاب الله، وتحدث أن له حوضا. قال زيد: لقد حدثنا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأوعدناه. فقال ابن زياد: كذلك ولكنك شيخ قد خرفت. قال زيد: إني قد سمعته أذناي، ووعاه قلبي من رسول الله صلى الله عليه وسلم - وفي رواية - سمعته أول خطبة النبي في غدير خم، في الوصية بكتاب الله وأهل بيته (3). وفي رواية قال ابن زياد: أرأيتم الحوض الذي تذكرون، ما أراه شيئا. فقال له ناس من أصحابه: عندك رهط من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليهم فسلهم. فأرسل إلى زيد بن أرقم، فسأله عن الحوض. فحدثه حديثا موثقا. فقال: أنت سمعت هذا من رسول الله... " الحديث (4).
وعن أبي سبرة الهذلي قال: كان عبيد الله بن زياد، يكذب بالحوض، بعدما سأل عنه أبا برزة والبراء بن عازب، وعائذ بن عمرو، ورجلا آخر (5).
وكان تكذيب ابن زياد بالحوض تكذيبا له ثقافته الواسعة، على أرض اتخذت من قبل ثقافة سب أمير المؤمنين علي عنوانا لها، وتحت خيام هذه الثقافات، نشأت أجيال يقرؤن القرآن، لا يجاوز تراقيبهم، وهذه الأجيال ما خرجت إلا من تحت
____________
(1) رواه ابن أبي عاصم وقال الألباني إسناده صحيح على شرط مسلم وأخرجه أحمد (كتاب السنة 321 / 2.
(2) قال الألباني أخرجه الآجري في الشريعة وإسناده صحيح رجاله كلهم ثقات (كتاب السنة 322 / 2).
(3) رواه ابن أبي عاصم وقال الألباني إسناده صحيح على شرط مسلم (كتاب السنة 322 / 2).
(4) رواه ابن أبي عاصم وقال الألباني رجاله ثقات رجال الشيخين (كتاب السنة 322 / 2).
(5) رواه ابن أبي عاصم وقال الألباني إسناده ثقات (كتاب السنة 323 / 2).
وكان في ذاكرتهم أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: " أنا فرطكم على الحوض، ولأنازعن أقواما، ثم لأغلبن عليهم فأقول: يا رب أصحابي أصحابي.
فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك " (2). وقوله: " إني تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وإنهم لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض " (3).
لقد كان في ذاكرة طائفة الحق، الذين لا يضرهم من خذلهم أو من ناوأهم أو من عاداهم، الكثير من أقوال النبي صلى الله عليه آله وسلم. وكانوا يعلمون أن في الحبل الممدود من السماء إلى الأرض، عنوان أصيل للأخذ بأسباب المعرفة. لهذا هرولوا إلى دائرة الطهر، في وسط هذا الليل الذي لا نجوم فيه.
ولقد صدق في هؤلاء قول النبي صلى الله عليه وسلم لحذيفة: " يا حذيفة، إن في كل طائفة من أمتي قوما شعثا غبرا. إياي يريدون، وإياي يتبعون، ويقيمون كتاب الله أولئك مني وأنا منهم وإن لم يروني " (4).
____________
(1) رواه أحمد وابن أبي عاصم وابن حبان في صحيحه (الفتح الرباني 30 / 23) (كتاب السنة 352 / 2).
(2) رواه البخاري ك الدعوات ب الصراط جسر جهنم (الصحيح 141 / 4) ومسلم (الصحيح 59 / 15).
(3) رواه أحمد والترمذي وحسنه والطبراني وقال المناوي رجاله موثقون (الفتح الرباني 186 / 1).
(4) رواه أبو نعيم (كنز العمال 184 / 12).
نظرات على كربلاء:
عندما خرج الحسين كان خروجه، من تحت مظلة المثل الأعلى المرتفع.
وكان خصومه قد خرجوا من كهف المثل الأعلى المنخفض. ولم يكن خروج الحسين، نتيجة لوجود المجتمع الحر، وإنما كان الخروج من أجل خلق المجتمع الحر، لأن المجتمع الحر هو الذي يقيم الحضارة الحق. والحضارة لا تقاس بسجونها وبريق ذهبها، وإنما تقاس بعدلها. وعندما توجه الحسين إلى الكوفة، وعلم بمقتل رسله هناك، وبأن الذين أرسلوا إليه قد خذلوه، لم يتراجع وسار في إتجاه الطريق، الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن مقتله فيه. وذلك بعد أن حدد مصدر البلاء، الذي أكره الناس على عدم إقامة الحق والعدل. لقد توجه الحسين إلى كربلاء، ليس من أجل مقاومة الجماهير، وإنما من أجل مواجهة السلطة التي اتخذت مال الله دولا، ودين الله دغلا، وعباد الله خولا، وأصبحت تفرخ الذين يقرؤون القرآن، لا يجاوز تراقيهم. أي تفرخ خوارج جدد، ولكن تحت مظلة بني أمية. لقد اتجه الحسين نحو كربلاء، على امتداد الطريق كان يعلم أنه يسير، بين حراب الذين يكرهون، ويخافون أن يفقدوا ما يحبون. ولكنه واصل المسير، وحوله نداء خالد من الرسول الأعظم يقول فيه: " من حضره فلينصره "، وفيه أيضا: " أنا حرب لمن حاربتم... "، كان الحسين في خطاه، يقيم الحجة على كل صامت، أو متراجع، أو متردد اعتلالا بفساد المناخ، وسطوة القبائل، وتقاليدها وقوانينها، وتمادى الارهاب، وقطع الرؤوس وقتل الأطفال والنساء، كما فعل بسر بن أرطاة وغيره وعلى أرض كربلاء، فاض الدم القاني، الذي أراد صاحبه، أن يخرج الأمة من خيام القبائل حيث الحقد والحسد والإرهاب، الذي رفع بنو أمية أعلامه زمنا طويلا. وعلى مقربة من الوادي الذي يفيض بالدم القاني، تربع قاضي، على كرسي من الصلب، والنحاس الأصفر، وكأنه يصرخ في أتباعه: اسلكوا هذا السبيل، فلن تجدوا أنفسكم إلا فيه، ومن أبى فإن له من خنجري معولا ولأمزقن به أحشاء الأرض.
ويتحدث عن العدل، ولم يكن يعلم أن من العدل أن يقتص الله من الظالم. ومن العدل، أن دم القتيل لا تضيع سدى.. إن ساعة الانتقام، ومكانه، وكيفيته، هي في علم الله تعالى، الذي أخبر عن مقتل الحسين، وساعته، ومكانه، وكيفيته. لقد ركب أتباع بني أمية بسفينة التي ربانها معاوية ويزيد ومروان. ولن يرى للسفينة شراع، إذا ما قلب البحر الهائج سطحه، وقد عبثت به الرياح والمد كيما تستمر حركة الأمواج. وعندئذ سيعلم ركاب السفينة وأن من العبث أن ينشد المرء العدالة على ظهرها. وسيعلمون، أن معنى نزول جبريل عليه السلام بخبر مقتل الحسين، يعني في مقدمته الأولى، أن هذه الجريمة عليها من الله عقوبة.
وعلى الجميع أن يأخذوا بأسباب السلامة، حتى لا يدخلوا تحت العقوبة.
وأسباب السلامة، أصل أصيل في دائرة الاختيار. لكنهم صادروا السلامة وأسبابها، وصرخ فيهم صارخهم: لا مناص من موت الحسين، إذا أردنا نحن أن نعيش.
وبين الأمواج، سيعلمون أن السماء عادلة، وأن القتل لا يمكن إخفاؤه وسيخرج الزمان فعلتهم الغادرة إلى الضوء، لترى الأجيال أن الجراح ما زالت تتفجر منها الدماء. دماء تنادي بالحرية الحقيقية، تحت مظلة العبادة الحق.
وتعلم الأجيال أن خروج الحسين، وضع على الجبابرة، والعتاة، وقواتهم الضاربة، لباس الذل والعار. ويا له من عار تخجل منه أي قوة ضاربة على امتداد الزمان.
5 - الاستعباد:
بعد قتل الحسين، في إمكان كل رسام أن يرسم لك دمعة، أو جرحا، أو آهة. في إمكانه أن يرسم لك شجرة كهذه، أو يرسم لك شابا، اخترقت جسده سيوف المجرمين من كل جهة، وقد علقوه على هذه الشجرة، ومن حوله الغيوم تتلبد، والقمر معتما. يستطيع الرسام، أن يقوم بذلك، لتكرار الجرائم بعد الحسين. فلم يكن يمر يوما، إلا وترى فيه رجلا مصلوبا، أو رأس معلقة تتطوح
أولا - يوم الحرة أو يوم الأنصار:
حدر النبي صلى الله عليه وسلم من الكيد لأهل المدينة، أو من فعل أي عمل يؤدي إلى خوفهم، فقال: " لا يكيد أهل المدينة أحد. إلا انماع كما ينماع الملح في الماء " (1). وقال: " لا يريد أحد المدينة بسوء إلا أذابه الله في النار ذوب الرصاص. (2) وقال: " من أخاف أهل المدينة ظلما، أخافه الله وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا " (3). وبعد هذا التحذير أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أن الحرة سيقتل بها خيار الناس من أصحابه الذين ساروا على هديه. فماذا حدث لأهل المدينة يوم الحرة؟
روي أن معاوية حين حضره الموت قال ليزيد: قد وطأت لك البلاد، وفرشت لك الناس، ولست أخاف عليكم إلا أهل الحجاز، فإن رابك منهم ريب، فوجه إليهم مسلم بن عقبة. فإني قد جربته مرة، فلم أجد له مثلا لطاعته (4).
فمعاوية أوصى، وهو على فراش الموت بالكيد، ويضرب أهل المدينة إذا
____________
(1) قال ابن كثير رواه البخاري (البداية 223 / 8) البخاري (الصحيح 322 / 1) ك الحجج ب إثم من كاد للمدينة.
(2) قال ابن كثير رواه مسلم (البداية 223 / 8) مسلم (الصحيح 121 / 4).
(3) قال ابن كثير رواه أحمد (البداية 223 / 8)، (كنز العمال 238 / 12).
(4) رواه الطبراني ورجاله ثقات (الزوائد 250 / 7) وابن كثير (البداية 239 / 8) والطبري
179 / 6، فتح الباري 71 / 13، الكامل 311 / 3.