مقدمة الطبعة الثانية:
وبعد..
فإن بحث «الغدير والمعارضون» قد عالج بعض ما يرتبط بقضية الغدير، بطريقة موجزة، ولكنه ولا شك قد سلط الضوء على أمر قلما تعرض له الباحثون والدارسون لقضايا التاريخ والإمامة.
هذا الأمر الذي كان من الضروري إيضاح ولفت الأنظار إليه، ليحتل موقعه المناسب في التصور العام لحقيقة ما جرى بالنسبة لأخطر قضية في تاريخ الإسلام وأشدها حساسية.
وقد ظهر من خلال هذا البحث: أن إيضاح الواقع التاريخي، ومعرفة كل الظروف والأحداث التي أحاطت بهذا الأمر من شأنها أن تحل الكثير من العقد، وتزيل الشبهات التي حاول المغرضون أن يثيروها حول طبيعة هذا الأمر، وغاياته، وظروفه التي نشأ فيها.
على أننا لا نظلم أحداً إذا قلنا: إنه ليس من حق أي كان أن يشك في هذه القضية، أعني قضية النص على أمير المؤمنين بالإمامة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله، فإنها من الأمور الثابتة، التي لا يجوز لأي عاقل أو منصف أن يرتاب فيها. وذلك لصراحة النصوص القرآنية، والتواتر القاطع لكل عذر، مع صراحة الدلالة للنصوص النبوية المثبتة لإمامة علي [عليه السلام].
جعفر مرتضى العاملي
9 / 2 / 1417 هـ ق.
تقديم
والحمد لله، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين. واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى يوم قيام الدين.
وبعد..
فإن القضية التي عرفت في تاريخ الإسلام بـ «قضية الغدير» تعتبر من أهم القضايا الإسلامية، وأشدها خطورة وحساسية. وذلك لأنها تمثل المحور والأساس الذي يتم على أساسه تحديد الاتجاه العام للإنسان المسلم، ويرتسم خط مسيره إلى مصيره، إن من الناحية العقائدية، أو الفكرية، أو في نطاق التشريع، أو في مجال الارتباط الشعوري والعاطفي.
ولأجل ذلك، فإن البحث في هذه القضية، وإيضاح ما لها من أبعاد، ودلالات، والتعرف على ما اكتنفها من ظروف وملابسات، يصبح بالغ الأهمية لكل مسلم يؤمن بربه، يرجو ثوابه، ويخاف سخطه وعقابه، في يوم تتقلب فيه القلوب والأبصار.
وقد جاء هذا البحث المقتضب، الذي بين يدي القارىء الكريم ـ والذي نشر في سنة 1410 هـ. ق، في مجلة «تراثنا» التي تصدر في قم المشرفة ـ ليوضح جانباً مما يُعتقد أنه لم ينل قسطاً كافياً من العناية من قبل الباحثين والمحققين، أو هكذا خيِّل لكاتبه على الأقل.
إذ إن ما ورد فيه من نصوص ومصادر ما هو إلا غيض من فيض، وقطرة من بحر، وكله يؤيد بعضه بعضاً، ويشد بعضه أزر البعض الآخر.
ولكن كثرة الصوارف، واعتمادنا على نباهة القارئ الكريم، وإيثارنا أن نكتفي بتقديم النموذج والمثال قد شجعنا على الإقتصار على هذا القدر من النصوص والمصادر..
فإلى القارئ الكريم عذري، وله خالص حبي وشكري.
ومن الله نستمد العون والقوة. وهو ولينا، وهو الهادي إلى سبيل الرشاد والسداد.
جعفر مرتضى العاملي
الفصل الأول
الغدير والامامة
ليتضح ما نرمي إليه:
إن من المناسب قبل أن ندخل في الموضوع الذي هو محط النظر ـ أن نشير إلى تفسير تاريخي مقتضب لمصطلح شائع ومعروف هو مصطلح:
«حديث الغدير»:
فنقول:
إن كلمة «حديث الغدير» تتضمن إشارة إلى حادثة تاريخية وقعت في السنة الأخيرة من حياة الرسول الأكرم [صلى الله عليه وآله]. وبالذات في الأشهر الأخيرة منها. حيث إنه صلى الله عليه وآله قد حج حجته المعروفة
نزل جبرائيل عليه في ذلك الموضع، في يوم الخميس، في الثامن عشر من ذي الحجة بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} (1)، حيث أمره الله سبحانه أن يقيم علياً إماماً للأمة، ويبلغهم أمر الله سبحانه فيه.
فأمر الرسول [صلى الله عليه وآله] برد من تقدم من الناس، وحبس من تأخر منهم. ثم صلى بهم الظهر، وبعدها قام بهم خطيباً على أقتاب الإبل، وذلك في حر الهاجرة. وأعلن، وهو آخذ بضبع علي [عليه السلام]: أن علياً أمير المؤمنين، ووليهم، كولاية رسول الله [صلى الله عليه وآله] لهم. حيث قال:
«من كنت مولاه فعلي مولاه «قاله ثلاث أو أربع مرات» اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وأحب من أحبه، وأبغض من أبغضه، وانصر من نصره، واخذل من خذله..».
ثم طفق القوم من الصحابة يهنئون أمير المؤمنين [عليه السلام]، وفي مقدمتهم الشيخان: أبو بكر، وعمر، وغيرهما من المعروفين من صحابة رسول الله [صلى الله عليه وآله](3).
هذه صورة موجزة عن هذه القضية ذكرناها توطئة، وتمهيداً للبحث الذي هو محط نظرنا، فإلى ما يلي من مطالب وصفحات.
توطئة وتمهيد:
قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}(4).
نزلت هذه الآية الشريفة في حجة الوداع، لتؤكد على لزوم تبليغ النبي [صلى الله عليه وآله] ما أمر به من أمر الإمامة. وولاية علي [عليه الصلاة والسلام] على الناس. كما ذكرته المصادر
وقد يرى البعض: أن هذه الآية قد تضمنت تهديداً للرسول نفسه، بالعذاب والعقاب إن لم يبلِّغ ما أنزل إليه من ربه، وفي بعض الروايات: أنه [صلى الله عليه وآله] قد ذكر ذلك في خطبته للناس يوم الغدير، وستأتي بعض تلك الروايات إن شاء الله تعالى.
ولكننا نقول:
إن التهديد الحقيقي موجه لفئات من الناس كان يخشاها الرسول، كما صرح هو نفسه [صلى الله عليه وآله] بذلك ولم يكن النبي [صلى الله عليه وآله] ممتنعاً عن الإبلاغ، ولكنه كان ممنوعاً منه، فالتهديد له ـ إن كان ـ فإنما هو من باب: «إياك أعني، واسمعي يا جارة».
وهذا بالذات، ما نريد توضيحه في هذا البحث، بالمقدار الذي يسمح لنا به المجال، والوقت فنقول:
الغدير والإمامة:
إن من يراجع كتب الحديث والتاريخ، يجدها طافحة بالنصوص والآثار االثابتة، والصحيحة، الدالة على إمامة علي أمير المؤمنين [عليه الصلاة والسلام]، ولسوف لا يبقى لديه أدنى شك في أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأل جهداً، ولم يدخر وسعاً في تأكيد
وقد استخدم في سبيل تحقيق هذا الهدف مختلف الطرق والأساليب التعبيرية، وشتى المضامين البيانية: فعلاً وقولاً، تصريحاً، وتلويحاً، إثباتاً ونفياً، وترغيباً وترهيباً، إلى غير ذلك مما يكاد لا يمكن حصره، في تنوعه، وفي مناسباته.
وقد توجت جميع تلك الجهود المضنية، والمتواصلة باحتفال جماهيري عام نصب فيه النبي صلى الله عليه وآله رسمياً علياً [عليه السلام] في آخر حجة حجها [صلى الله عليه وآله]. وأخذ البيعة له فعلاً من عشرات الألوف من المسلمين، الذين يرون نبيهم للمرة الأخيرة.
وقد كان ذلك في منطقة يقال لها «غدير خم» واشتهرت هذه الحادثة باسم هذا المكان. وهي أشهر من أن تذكر. وقد ذكرنا موجزاً عنها في أول هذا البحث.
ولسنا هنا بصدد البحث عن وقائع ما جرى، واستعراض جزئياته، ولا نريد توثيقه بالمصادر والأسانيد، ولا البحث في دلالاته ومراميه المختلفة. فقد كفانا مؤونة ذلك العلماء الأبرار،
وإنما هدفنا هو الإلماح إلى حدث سبقه بفترة وجيزة، وهو ما حصل ـ تحديداً ـ في نفس حجة الوداع التي هي حجته الوحيدة، والتي نصب فيها النبي [صلى الله عليه وآله] علياً إماماً للأمة، وهو في طريق عودته منها إلى المدينة.
وذلك لأن التعرف على هذا الحدث الذي سبق قضية الغدير لسوف يمكننا من أن نستوضح جانباً من المغزى العميق الذي يكمن في قوله تعالى: {وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}(6). ولكننا قبل ذلك، لا بد لنا من إثارة بعض النقاط المفيدة في هذا المجال فنقول:
الحدث الخالد:
إن من طبيعة الزمن في حركته نحو المستقبل، وابتعاده عن قضايا الماضي، هو أن يؤثر في التقليل من أهمية الأحداث الكبيرة، التي يمر بها، وتمر به، ويساهم في أفولها شيئاً فشيئاً، حتى تصبح على حد الشبح البعيد البعيد، ثم قد ينتهي بها الأمر
ولا تحتاج كبريات الحوادث في قطعها لشوط كبير في هذا الاتجاه إلى أكثر من بضعة عقود من الزمن، مشحونة بالتغيرات والمفاجآت.
وحتى لو احتفظت بعض معالمها ـ لسبب أو لآخر ـ بشيء من الوضوح، ونالت قسطاً من الاهتمام، فلا يرجع ذلك إلى أن لها دوراً يذكر في حياة الإنسان وفي حركته، وإنما قد يرجع لأنها أصبحت تاريخاً مجيداً، يبعث الزهو والخيلاء لدى بعض الناس، الذين يرون في ذلك شيئاً يشبه القيمة، أو يعطيهم بعضاً من الاعتبار والمجد بنظرهم، وربما يكون ثمة أسباب أخرى أيضاً.
ولكن قضية الغدير، رغم مرور الدهور والأحقاب، وبعد ألف وأربع مائة سنة زاخرة بالتقلبات العجيبة، وبالقضايا الغريبة، ومشحونة بالحروب والكوارث، وبالعجيب من القضايا والحوادث.
ورغم المحاولات الجادة، والمتتابعة للتعتيم عليها، وإرهاقها بالتعليلات والتعللات غير المعقولة، باردة كانت أو ساخنة، بهدف حرفها عن خطها القويم، وعن الاتجاه الصحيح والسليم.
وكذلك رغم ما عاناه ويعانيه المهتمون بها من اضطهاد
نعم، رغم ذلك كله وسواه، فإن هذه الحادثة بما تمثله من قضية كبرى للإيمان وللإنسان، قد بقيت ولسوف تبقى القضية الأكثر حساسية وأهمية، لأنها الأكثر صلة بالإيمان وبالإنسان، والأعمق تأثيراً في حياة هذا الكائن، وفي بنية شخصيته من الداخل، وعلى علاقاته بكل من وما يحيط به، أو يمت إليه بأدنى صلة أو رابطة من الخارج.
وهي كذلك القضية الأكثر مساساً وارتباطاً بمستقبل هذا الإنسان، وبمصيره، إنْ في الدنيا، وإنْ في الآخرة.
وهذا بالذات هو السر في احتفاظ هذه القضية بكل حيويتها، وحساسيتها بالنسبة إليه، على مر الدهور، وتعاقب العصور، ولسوف تبقى كذلك كما سيتضح فيما يأتي.
مفتاح الحل:
وإذا كان الأمر كذلك فلا يبقى مجال للإصغاء لما قد يثيره البعض، من أنه: سواء أكان الحق في ذلك لعلي [عليه السلام]، وقد اغتُصِبَ منه، وأقصي عن منصب هو له، أم لم يكن الأمر كذلك، فإن هذه القضية قد تجاوزتها الأحداث، وأصبحت تاريخاً يحكيه
فلم يعد الوقوف عندها والاهتمام بها مجدياً، ولا مفيداً، إن لم نقل: إن فيه ما يوجب الفرقة، ويرسخ التباعد، بما يثيره من كوامن وضغائن.
نعم.. لا مجال لهذا القول؛ فإن قضية الغدير، لا تزال ولسوف تبقى هي القضية الأساسية والرئيسة بالنسبة للمسلمين بل للناس جميعاً، وهي المفتاح للباب الذي لا بد من الدخول منه لحل المشاكل المستعصية الكبرى، وبعث الإسلام العزيز من جديد، وبناء قوته، وبث الحياة والحيوية في أبنائه.
وبدون ذلك، فإن على الجميع أن يستعدوا لمواجهة المزيد من المصائب، وأن يقبلوا ـ شاؤوا أم أبوا ـ باستمرار حالة الضعف والتقهقر، بل وانهيار بناء الإسلام الشامخ.
خلافة أم إمامة:
وما ذلك إلا لأن القضية لا تقتصر على أن تكون مجرد قضية خلافة وحكم وسلطة في الحياة الدنيا، ولا هي قضية: أن يحكم هذا، أو يحكم ذاك، لسنوات معدودة، وينتهي الأمر.. وإن كان ربما يقال: إن الذين تصدوا للحكم، واستأثروا به لأنفسهم قد قصدوا ذلك.
ولكننا نجد شواهد كثيرة قد لا تساعد على هذا الفهم الساذج للأمور.
وقد سرت تلك المفاهيم المخترعة في الناس، وأصبحت أمراً واقعاً، لا مفر منه ولا مهرب، ولا ملجأ منه ولا منجى. وتفرقت الفرق، وتحزبت الأحزاب، رغم أن غير الشيعة من أرباب الفرق والمذاهب الإسلامية يدَّعون شيئاً، ويمارسون شيئاً آخر، فهم يعتقدون بالخلفاء أكثر مما يعتقده الشيعة في أئمتهم، ويمارسون ذلك عملاً، ولكنهم ينكرون ذلك، ولا يعترفون به قولاً، بل هم ينكرون على الشيعة اعتقادهم في أئمتهم ما هو أخف من ذلك وأيسر.
دور الإمامة في بناء الإنسان والحياة:
وليس من الغريب القول بأن معرفة قضية الإمامة وتحديد الموقف منها هو الذي يحدد مسار الإنسان واتجاهه في هذه الحياة. وعلى أساس هذا التحديد، والمعرفة والاعتراف يتحدد مصيره، ويرسم مستقبله، وبذلك تقوم حياته، فيكون سعيداً أو شقياً، في خط الإسلام
فعلى أساس الاعتقاد بالإمامة وطريقة التعامل معها يجسد الإنسان على صعيد الواقع، والعمل، مفهوم الأسوة والقدوة، الذي هو حالة طبيعية، يقوم عليها ـ من حيث يشعر أو لا يشعر ـ بناء وجوده وتكوين شخصيته، منذ طفولته.
كما أن لذلك تأثيره الكبير في تكوينه النفسي، والروحي، والتربوي، وفي حصوله على خصائصه الإنسانية، وفي حفاظه على ما لديه منها.
وعلى أساس هذا الاعتقاد، وذلك الموقف ـ أيضاً ـ يختار أهدافه، ويختار السبل التي يرى أنها توصله إليها.
وعلى أساس الالتزام بخطها يرتبط بهذا الإنسان أو بذاك، ويتعاون معه، ويتكامل، أو لا يفعل ذلك.
كما أنها هي التي تقدم للإنسان المعايير والنظم، والمنطلقات التي لا بد أن يلتزم بها، وينطلق منها، ويتعامل ويتخذ المواقف ـ إحجاماً أو إقداماً ـ على أساسها.
أضف إلى ذلك: أنها تتدخل في حياته الخاصة، وفي ثقافته، وفي أسلوبه وفي كيفية تفكيره.
ومن الإمام يأخذ معالم الدين، وتفسير القرآن، وخصائص العقائد، ودقائق المعارف. وهذا بالذات هو السر في اختلاف الناس في ذلك كله، واختلفوا في تحديد من يأخذون عنه دينهم، وفي من يتخذونه أسوة وقدوة.
إذن.. فموضوع الغدير، ونصب الإمام للناس، وتعريفهم به، لا يمكن أن يكون على حد تنصيب خليفة، أو حاكم، أو ما إلى ذلك، بل الأمر أكبر وأخطر من ذلك.. كما أنه ليس حدثاً عابراً فرضته بعض الظروف، لا يلبث أن ينتهي ويتلاشى تبعاً لتلاشي وانتهاء الظروف التي فرضته أو أوجدته، وليصبح في جملة ما يحتضنه التاريخ من أحداث كبيرة، وصغيرة، لا يختلف عنها
بل أمر الإمامة، يمس في الصميم حقيقة هذا الإنسان، ومصيره ومستقبله، ودنياه وآخرته، ويؤثر في مختلف جهات وجوده وحياته.
ومعنى ذلك هو أنه لا بد من حسم الموقف في هذا الأمر، ليكون الإنسان على بصيرة من أمره، فلا يموت ميتة جاهلية. كما تقدم عن الرسول الأعظم [صلى الله عليه وآله].
واشتراط الحديث الشريف تحصيل معرفة الإمام في النجاة من الهلكة، وذلك في صيغة عامة تشمل كل إنسان، حتى ولو لم يكن يعتنق الإسلام، حيث قال: «من مات ولم يعرف إمام زمانه..»، ولم يقل: إذا مات المسلم ولم يعرف.. الخ..
إن هذا الاشتراط يوضح لنا:
أن تجاهل قضية الإمامة، وعدم حسم الأمر في موضوع الأسوة والقدوة يساوي رفضها، وإبعادها عن محيط الحياة والإنسان في كونه يوجب الميتة الجاهلية، ويترك آثاره السلبية المهلكة والمبيدة، على مجمل حياة هذا الكائن وعلى مستقبله ومصيره، في الدنيا والآخرة.
ومما يدل على ذلك، ويثبته ويؤكده: أنه تعالى قد اعتبر
فما بلغت رسالته:
وبعد أن عرفنا: أن القضية ليست قضية شخص، وإنما هي قضية الرسالة، أن تكون، أو لا تكون، حتى لقد قال تعالى، مخاطباً نبيه [صلى الله عليه وآله]، في مجال الحث على حسم أمر الإمامة {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}(8) بعد أن عرفنا ذلك. فإن المنع من إبلاغ الرسالة والإمامة معناه حرمان الإنسان من الهداية الإلهية، ومن الرعاية الربانية، وليس هناك جريمة أعظم ولا أخطر من ذلك.
ومن هنا، كان لا بد من إلقاء نظرة على ما كانت عليه الحال في زمن الرسول الأكرم [صلى الله عليه وآله]، فيما يرتبط بهذه النقطة بالذات، لنتعرف على أولئك الناس الذين حاولوا منع الرسول الأكرم [صلى الله عليه وآله] من إبلاغ أمر الإمامة إلى الناس، وزعزعة أركان هذا الأمر الخطير، والعبث بمستقبل الإنسان، وبكل حياته، ووجوده.. وتلك هي الجريمة الأكبر والأضر، والأخطر والأشر.. فإلى الفصل التالي لنتعرف فيه على بعض ما جرى في هذا الإتجاه..
الفصل الثاني
الموتورون، الحاقدون
المعارضون:
إننا إذا رجعنا إلى القرآن الكريم، فسنجد أنه قد أفصح لنا عن وجود فئات من الناس، كانت تقف في وجه الرسول [صلى الله عليه وآله] مباشرة، وتمنعه من بيان أمر الإمامة وإقامة الحجة فيها، حتى احتاج [صلى الله عليه وآله] إلى طلب العصمة من الله سبحانه، ليتمكن من مواجهة هؤلاء، وكبح جماحهم.
فمن هم هؤلاء الأشرار الأفَّاكون، والعتاة المجرمون؟!. الذين يجترؤون على مقام النبوة الأقدس، ويقفون في وجه إبلاغ أوامر الله، وأحكامه.
الجواب:
إن كتب التاريخ والحديث، والسيرة زاخرة بالشواهد
ونحن في مقام التعريف بهم، والدلالة عليهم نبادر إلى القول: إنهم ـ للأسف ـ قوم رسول الله [صلى الله عليه وآله]، وقريش، بالذات.. قريش، التي حاربت الإسلام في بدء ظهوره، وحاربته وهو غض طري العود، ثم حاربته بعد أن ضرب بجرانه، وعملت على زعزعة أركانه، حينما أرادت حرمانه من العنصر الضروري والأهم للحياة وللاستمرار، والبقاء.. وأعني به عنصر الإمامة والقيادة. والنصوص التالية خير شاهد على سياسات قريش هذه. فلنقرأها بتمعن، وصبر، وأناة.
النصوص الصريحة:
قال عثمان بن عفان لابن عباس: «لقد علمت: أن الأمر لكم، ولكن قومكم دفعوكم عنه».
ثم تذكر الرواية له كلاماً آخر، وجواب ابن عباس له، فكان مما قال:
«فأما صرف قومنا عنا الأمر، فعن حسد ـ قد والله ـ عرفته،
وحين ظهرت نتائج الشورى التي عينها عمر بن الخطاب، قال رجل من بني مخزوم لعمار: «ما أنت وتأمير قريش لأنفسها»؟!
ثم تستمر الرواية إلى أن تذكر:
أن المقداد قال: «تالله، ما رأيت مثل ما أتي إلى أهل هذا البيت. وا عجبا لقريش، لقد تركت رجلاً، ما أقول، ولا أعلم أحداً أقضى بالعدل.. الخ..»(10).
وخطب أبو الهيثم بن التيهان بين يدي أمير المؤمنين علي [عليه السلام]، فقال:
«إن حسد قريش إياك على وجهين:
أما خيارهم فتمنوا أن يكونوا مثلك منافسة في الملأ، وارتفاع الدرجة.
وأما شرارهم فحسدوك حسداً أنغَل القلوب، وأحبط الأعمال.
وذلك أنهم رأوا عليك نعمة قدَّمك إليها الحظ، وأخَّرهم عنها الحرمان، فلم يرضوا
فلما تقدمتهم بالسبق، وعجزوا عن اللحاق بك بلغوا منك ما رأيت، وكنت والله أحق فريش بشكر قريش»(11).
وعمرو بن عثمان بن عفان أيضاً قال:
«ما سمعت كاليوم إن بقي من بني عبد المطلب على وجه الأرض أحد بعد قتل الخليفة عثمان ـ إلى أن قال ـ: فيا ذلاه، أن يكون حسن وسائر بني عبد المطلب ـ قتلة عثمان ـ أحياء يمشون على مناكب الأرض..»(12).
إنهم يقولون هذا مع أنهم يعلمون: أن الحسن [عليه السلام] كان يدافع عن عثمان وهو محاصر في داره.
وعن علي بن الحسين [عليه السلام]، أنه قال:
«ما بمكة والمدينة عشرون رجلاً يحبنا»(13).
ودخل العباس على رسول الله [صلى الله عليه وآله]، فقال: «يا رسول الله. إنا لنخرج فنرى قريشاً تُحَدِّث؛
فغضب رسول الله [صلى الله عليه وآله]، ودرّ عرق بين عينيه(14).
وسئل الإمام السجاد [عليه السلام] ـ وابن عباس أيضاً:
ما أشد بغض قريش لأبيك؟!.
قال: «لأنه أورد أولهم النار، وألزم آخرهم العار»(15).
وعن ابن عباس: قال عثمان لعلي [عليه السلام]:
«ما ذنبي إذا لم يحبك قريش، وقد قتلت منهم سبعين رجلاً، كأن وجوههم سيوف الذهب»(16).
وروي أن العباس قال لرسول الله [صلى الله عليه وآله]:
«إن قريشاً، جلسوا، فتذاكروا أحسابهم، فجعلوا مثلك مثل نخلة في كبوة من الأرض، فقال [صلى الله عليه وآله].. الخ.
وحسب نص آخر: أن ناساً من الأنصار جاؤوا إلى النبي [صلى الله عليه وآله] فقالوا: إنا لنسمع من قومك، حتى يقول القائل منهم:
«إنما مثل محمد مثل نخلة»(18).
أي أن النبي فقط هو الإنسان المقبول في بني هاشم، وهو كنخلة. وهم بمثابة المزبلة التي نبتت تلك النخلة فيها.
ويقولون أيضاً: قد كان هوى قريش كافة ما عدا بني هاشم في عثمان(19).
وقال المقداد: وا عجباً لقريش، ودفعهم هذا الأمر عن أهل بيت نبيهم(20).
وقال الثقفي: كانت قريش كلها على خلافه مع بني
وبعد بيعة عثمان تكلم عمار، فذكر: أن قريشاً هي التي صرفت هذا الأمر عن أهل البيت [عليهم السلام]، ثم قال المقداد لعبد الرحمن بن عوف:
«يا عبد الرحمن، اعجب من قريش، إنما تطوُّلهم على الناس بفضل أهل هذا البيت، قد اجتمعوا على نزع سلطان رسول الله [صلى الله عليه وآله] بعده من أيديهم. أما وأيم الله يا عبد الرحمن، لو أجد على قريش أنصاراً لقاتلتهم كقتالي إياهم مع النبي [عليه الصلاة والسلام] يوم بدر»(22).
«وبعد أن بايع الناس علياً [عليه السلام] قام أبو الهيثم، وعمار، وأبو أيوب، وسهل بن حنيف، وجماعة معهم، فدخلوا على علي [عليه السلام]، فقالوا: يا أمير المؤمنين، انظر في أمرك، وعاتب قومك هذا الحي من قريش، فانهم قد نقضوا عهدك، واخلفوا وعدك، ودعونا في السر إلى رفضك»(23).
كما أن البراء بن عازب قد ذكر: أنه حين توفي رسول الله [صلى الله عليه وآله] تخوف أن تتمالأ قريش على
وروي: أن النبي [صلى الله عليه وآله] قد قال لعلي [عليه السلام]:
«إن الأمة ستغدر بك بعدي»(25).
كما أنه [صلى الله عليه وآله] قد أخبر أمير المؤمنين، بأن في صدور أقوام ضغائن، لا يبدونها له إلا بعده.
وفي بعض المصادر: أن ذلك كان منه [صلى الله عليه وآله] حين حضرته الوفاة(26).
الخليفة الثاني يتحدث أيضاً: