وما إن وصلت إلى النّجف الأشرف رسالة "التنزيه" حتّى انقسم الكتّاب فيها إلى معارضين وهم الأكثر، ومؤيدّين وهم القلّة القليلة، فألّف بعضهم رسائل ردّاً على رسالة الأمين، منها:
(1) رسالة "إرشاد الاُمّة للتمسّك بالأئمة (عليهم السلام) "، للحجّة الشيخ عبد المهدي المظفّر، طُبعت في النجف الأشرف سنة 1348هـ(1) .
(2) رسالة "إقالة العاثر في إقامة الشعائر"، للحجّة السيّد علي نقي اللكهنوي، طُبعت في النجف الأشرف سنة 1348هـ(2) .
(3) رسالة السيّد نور الدّين شرف الدّين، التي نشرَ بعضها في الصُحف اللبنانيّة على شكل مقالات(3) .
(4) رسالة "الشعائر الحسينيّة"، للحجّة الشيخ محمّد حسين المظفّر، طُبعت في مطبعة النجاح ببغداد سنة 1348هـ(4) .
(5) رسالة "كلمة حول التذكار الحسيني"، للحجّة الشيخ مهدي الحجّار(5) .
(6) رسالة "نصرة المظلوم"، للحجّة الشيخ ابراهيم المظفّر(6) .
____________
1 ـ الذريعة 1: 512/2510.
2 ـ الذريعة 2: 263/1072.
3 ـ أعيان الشيعة 10: 380.
4 ـ الذريعة 14: 191/2136 5 ـ شعراء الغري 12:207.
6 ـ الذريعة 24: 178/921.
(8) رسالة "النقد النزيه" للشيخ عبد الحسين قاسم الحلّي، طُبعت في النجف الأشرف سنة 1347هـ(2) .
وأمّا الكتّاب المؤيّدون للسيّد الأمين ـ وكانوا قلّة قليلة ـ فقد واجهوا موجةً عارمةً ملتهبة من كلّ حدب وصوب، أدّت إلى ابتعاد بعضهم عن الأنظار خوفاً من النّاس.
ومع ذلك كلّه فقد جمعوا قواهم وأوعزوا إلى أحدهم تأليف رسالة مؤيّدة لسيّد الأمين، فقام الحجّة الشيخ محمّد الگنجي بجمع فتاوى العلماء والمجتهدين المؤيّدين لما في رسالة "التنزيه"، وطبعها في رسالة مستقلّة سمّاها "كشف التمويه عن رسالة التنزيه"، طُبعت في المطبعة العلويّة في النجف الأشرف سنة 1347هـ(3) .
وفي الترجمة المفصّلة الكاملة لحياة السيّد الأمين ـ التي كُتبت أكثرها بقلمه الشريف ـ المطبوعة في آخر موسوعته الكبيرة "أعيان الشيعة" وردت عدّة عبارات لكتّاب معروفين، أيّدوا فيها آراء السيّد الأمين في رسالته "التنزيه":
قال الدكتور علي الوردي:
"يعجبني من المصلحين في هذا العصر رجلان: الشيخ محمّد عبده في مصر، والسيّد محسن الأمين في الشام... وإنّي لا أزال أذكر تلك الضجّة التي اُثيرت حول الدعوة الإصلاحيّة التي قام بها السيّد محسن قبل ربع قرن. ولكنّه صمد لها وقاومها
____________
1 ـ الذريعة 24: 196/1030.
2 ـ الذريعة 14: 279/1437.
3 ـ الذريعة 18: 24/492، أعيان الشيعة 10:382.
وقال الشيخ محمّد رضا الشبيبي:
"شنّ السيّد الأمين حرباً شعواء على الخرافات والأوهام الشائعة، وعلى العادات التي اعتبرت ديناً عند بعض الطبقات، وما هي من الدين ولا من الشرع الشريف في شيء، فهو في طليعة المنادين في الدعوة إلى الإصلاح الاجتماعي في الشرق العربي وفي غيره من الأقطار"(2) .
الصُحف:
ولأهميّة هذه القضيّة وحساسيّتها; لأنّها تُعدُّ من الشعائر والمعتقدات التي لايمكن المساس بها عند عامّة الناس، نرى أنّ الصحف وفي مختلف البلدان الإسلاميّة قد ألقت بِدَلْوِها وأعطت رأيها فيها.
والمؤيّدون للسيّد الأمين لجأوا إلى الصحف أكثر من المخالفين له; لأنّهم القلّة القليلة، وقد سُدّت الأبواب في وجوههم، ولا وسيلة للدفاع عن آرائهم; لذلك اتّخذوا من الصحافة الحرّة ميداناً رحيباً لأقلامهم، فكتبوا فيها وكتبوا، حتّى أنّ البعض منهم كتب بأسماء مستعارة كـ"حبيب بن مظاهر" و"أبي نؤاس"(3) .
____________
1 ـ أعيان الشيعة 10: 382.
2 ـ أعيان الشيعة 10: 383.
3 ـ أعيان الشيعة 10: 381.
صحيفة "ديوان ميسج" التي كانت تصدر باللغة الانگليزيّة في الهند، وقد كتب صاحبها محمّد علي سالمين مقالات عديدة مؤيّدة للسيّد الأمين، وترجم بعضها إلى العربية(1) .
وصحيفة "الهاتف" وإن كانت صدرت متأخّرة عن زمان الفتوى، إلاّ أنّ صاحبها الاُستاذ جعفر الخليلي كان له دور فعّال في مناصرة السيّد الأمين سنة 1344هـ وما بعدها، إذ يقول: "ولمّا كنتُ يومذاك موظّفاً فقد نشرتُ مقالاتي في الجرائد بتواقيع مستعارة"(2) .
وهكذا فعل الشيخ محسن شرارة، والاُستاذ سلمان الصفواني، إذ كتبا مقالات في الصحف اللبنانيّة بأسماء مستعارة.
وأمّا المعارضون للسيّد الأمين فلم يلجأوا إلى الصحف ـ كما قلنا ـ لوجود قنوات كثيرة لهم يُبيّنون فيها آراءهم، ومع ذلك فقد كتبَ أحدهم ـ وهو السيّد نور الدين شرف الدين ـ مقالا في صحيفة لبنانيّة يردُّ فيها على السيّد الأمين ورسالته "التنزيه". فانبرى له في هذه المرّة السيّد الأمين وردَّ عليه بمقالة مفصّلة، كما وانبرى للرّد عليه بمقالة مفصّلة اُخرى شخص آخر وقّع مقالته باسم "حبيب بن مظاهر"(3) .
____________
1 ـ أعيان الشيعة 10: 380.
2 ـ هكذا عرفتهم 1: 209.
3 ـ أعيان الشيعة 10: 381.
الشعراء والخطباء:
من الطبيعيّ جدّاً أن يشارك الخطباء ـ وبعضهم شعراء في نفس الوقت ـ في هذه المعمعة الفكرية، فيؤيّد بعضهم السيّد الأمين ويعارضه آخرون. وهو حقّ من حقوقهم، كغيرهم من العلماء والكتّاب والمثقّفين الذين أيّدوا وعارضوا.
لكن أن يأتي شاعر ويتعدّى الحدود المرسومة ويتجاسر على السيّد الأمين ومؤيّديه وينعتهم بنعوت باطلة، ويتلاعب بعقول الناس ويحاول تمويه الحقائق عليهم، فهذا غير مسموح به، ولا أعتقد أنّ التأريخ سوف يمحو هذا عن صفحاته.
وعلى كلّ حال، فمن الشعراء الخطباء الذين كان لهم دور بارز في هذه الأحداث، هو الشاعر الكبير والخطيب المفوّه السيّد صالح الحلّي (ت 1359هـ)، الذي مدحه وأثنى عليه وعلى مقدرته الخطابيّة محبّوه ومبغضوه(1) .
ومع ذلك كلّه نرى أنّ السيّد الحلّي يقف موقفاً معارضاً بل معادياً ومعانداً للسيّد الأمين، ويتعرّض له في مجالسه بالتصريح تارةً وبالإشارة اُخرى، ويصفه بصفات باطلة، ومما قاله فيه:
يا راكِباً أمْا مَرَرتَ بـ (جِلَّقِ)(2) | فأَبْصق بِوَجْهِ (أَمِينها) المُتَزَندِقِ(3) |
ولم يكتف بذلك فقط، بل شنَّ حملة شعواء على كلّ المؤيّدين والمناصرين للسيّد الأمين، فأخذ ينهال عليهم بالطعن والاتهامات الباطلة، حتّى وصل به الأمر
____________
1 ـ انظر: البابليّات 4:133، أدب الطف 9:204 ـ 205.
2 ـ جِلّق: دمشق. معجم البلدان 2: 154 "جِلّق".
3 ـ هكذا عرفتهم 1:208.
"فشَّ عليه غارة واسعة عنيفة بكلّ معنى العنف، ولم يترك لوناً من ألوان الرزاية بالكناية والتصريح إلاّ وصبغ به السيّد أبا الحسن من فوق المنابر التي كان يرقاها، فكان يتصرّف من فوقها بعقول المستمعين تصرّف المالك، ويميل بها أنّى شاء، بما كان يملك من مقدرة وموهبة وجرأة رفعته إلى أعلى الدرجات في سماء الخطابة والبلاغة"(1) .
فأصدر السيّد أبو الحسن الأصفهاني فتوى حرّم بها الاستماع لقراءة السيّد صالح الحلّي، فأرّخ ذلك الشاعر الشيخ علي بازي قائلا:
أبو حسن أفتى بتفسيقِ (صالح) | قراءته أرّختها (غير صالحة)(2) |
وقال أيضاً يهجوه:
مُذ تردّى الشقيّ بالغَي جهلا | وإمام الزمانِ طُراً جفاه |
قلتُ: يا مَن قد أرخوا (أحقيق | قد رمى الله صالحاً بشقاه)(3) |
ويقال: إنّ السيّد رضا الهندي كان من المعارضين للسيّد الأمين، وقد قال فيه:
ذريّة الزهراء إن عددتَ | يوماً ليطرى الناس فيها الثنا |
فلا تَعدوا (محسناً) منهم | لأنّها قد أسقطت محسنا |
وقيل: إنّ هذين البيتين في السيّد محسن أبو طبيخ(4) .
ووقف الشاعر الشيخ مهدي الحجّار (ت 1358هـ) موقف المؤيّد للسيّد محسن
____________
1 ـ هكذا عرفتهم 1:108.
2 ـ شعراء الغري 6:369، هكذا عرفتهم 1:111.
3 ـ شعراء الغري 6:369.
4 ـ هكذا عرفتهم 1:31.
يا حُر رأيكَ لا تحفل بمنتقدِ | إنَّ الحقيقةَ لا تخفى على أحدِ |
فهل على الشمسِ بأس حيث لم تَرها | عينٌ اُصيبت بداءِ الجهل لا الرمدِ |
ومصلحٌ فاه بـ (التنزيه) ليس لهُ | غير الحقيقة إي والعدل من صددِ |
إنّا على (عامل) نأسى لأنّ بها | من لا يُفرّق بين الزُبد والزَبدِ |
تأسَّ يا (محسن) فيما لقيت بما | لا قاه جدّك من بغي ومن حسدِ(1) |
هذا ما عرفتهُ عمّا دار في حلبة الشعر حول هذا الموضوع، ولعلَّ المستقبل يُطلعنا على أكثر من ذلك.
عامّه الناس:
لم يكن النّاس، سواء في العراق أو لبنان أو غيرهما من البلدان الإسلاميّة، بعيدين عن هذه المعركة الفكرية القائمة آنذاك.
ومن طبيعة عوامّ الناس أن تحرّكهم العاطفة، خصوصاً إذا كان المتحدّثون أو القائمون على عمل معيّن من الذين يُجيدون التلاعب بعقول البسطاء. فكيف إذا كانت القضيّة تتعلّق بالشعائر الدينيّة؟! فمن الطبيعي أن يُشارك الناس فيها مشاركة فعّالة، ومن المتاسلم عليه أن يخسر المصلحون الساحةَ لوقت ما; لأنّ كلّ حركة إصلاحيّة لابُدَّ لها من تضحية.
وفي هذه القضيّة بالذات كانت هنالك عدّة شخصيّات علميّة واجتماعيّة بارزة قد أعطت رأيها، وعملت على تحريك الساحة ضدّ فتوى السيّد الأمين:
____________
1 ـ أعيان الشيعة 10: 381، شعراء الغري 12: 207، هكذا عرفتهم 1: 208، أدب الطف 10: 314.
وبعض الكتّاب ردّ على "التنزيه" برسائل طُبعت ووزّعت مجاناً.
والعلاّمة الجليل المجتهد والمصلح الشيخ محمّد جواد البلاغي على كبر سنة وضعفه يتقدّم مواكب العزاء بشكل مؤثّر جدّاً.
والخطيب البارع المفوّه السيّد صالح الحلّي يُحرّض الناس على السيّد الأمين من فوق المنابر التي يعتليها، وهكذا.
فكانت ردّة الفعل عنيفة جدّاً، يصوّرها لنا أحد المعاصرين لها، وهو الاُستاذ جعفر الخليلي قائلا:
"وانقسم الناس إلى طائفتين ـ على ما اصطلح عليه العوام ـ: "علويّين"، و"أمويّين". وعُني بالأمويين: أتباع السيّد محسن الأمين، وكانوا قلّة قليلة لا يعتدّ بها، وأكثرهم كانوا متستّرين خوفاً من الأذى.
واتّخذ البعض هذه الدعوة وسيلة لمجرّد مهاجمة أعدائه واتهامه بالأمويّة، فكثر الاعتداء على الأشخاص، واُهين عدد كبير من الناس، وضُرب البعض منهم ضرباً مبرحاً.
وبدافع إعجابي بالسيّد محسن، وانطباعاتي عنه منذ الصغر، وإيماني بصحّة دعوته، أصبحتُ أمويّاً وأمويّاً قُحّاً في عرف الذين قسّموا الناس إلى أمويّين وعلويّين. وكنتُ شاباً فائر الدم كثير الحرارة، فصببتُ حرارتي كلّها في مقالات هاجمتُ بها العلماء الذين خالفوا فتوى السيّد أبي الحسن والذين هاجموا السيّد محسن.
وكنتُ أجد في كثير من الأحيان رسالة أو أكثر وقد اُلقي بها من تحت باب الدار، وهي تتضمّن ـ إلى جانب التهديد بالقتل ـ شتائم بذيئة تدلّ على خسّة وجبن.
وكان التيّار جارفاً، والقوّة كلّها كانت في جانب العلويّين، وكان هؤلاء العلويّون وأتباعهم يتفنّون في التشهير بالذين سمّوهم بالأمويّين.
ولا تسل عن عدد الذين شُتموا وضُربوا واُهينوا بسبب تلك الضجّة التي أحدثتها فتوى السيّد الأمين يومذاك، وكان السبب الأكبر في كلّ ذلك هو العامليّون ـ أعني أهل جبل عامل ـ الذين كانوا يسكنون النجف طلباً للعلم، وكان معظمهم من مخالفي السيّد محسن"(1) .
وقال الخليلي أيضاً:
"لم يكن يمرّ على صدور هذه الرسالة اُسبوع أو أكثر وتنتقل من الشام ـ حيث ثمّ طبعها ـ إلى العراق حتّى رافقها كثير من الدعايات ضدّها، ووجدت هذه الدعايات هوىً في نفوس البعض، فأشعلوها فتنةً شعواء تناولت السيّد محسن الأمين وأتباعه بقساوة لا تُوصف من الهجاء والذمّ والشتم المقذع.
وخاف الذين آمنوا بقدسيّة هذه الرسالة وصحّة فتاوى العلماء، لقد خافوا أن يُعلنوا رأيهم في وجوب الذبّ عن موضوع الرسالة والدفاع عن شخص مؤلّفها.
ومَن الذي كان يجرأ أن يُخالف للناس رأياً؟! ومن كان يستطيع الظهور بمظهر المخالف في ذلك اليوم؟!"(2) .
والغريب في الأمر أنّ تسمية المؤيّدين لآراء السيّد محسن الأمين بـ"الأمويّين" و"المتسنّنين" لم يصدر من عوامّ الناس فحسب، بل صدر من بعض العلماء
____________
1 ـ هكذا عرفتهم 1: 208 ـ 210.
2 ـ هكذا عرفتهم 1: 122.
فالشيخ ابراهيم المظفّر قال في رسالته "نصرة المظلوم":
"فعلمتُ من أين جاءت هذه البليّة التي تقضي ـ إن تمّت ـ على حياة الشيعة، وتيقّنتُ إنّ كيد المموهّين والمنافقين وخاصّةً أفراد "الجمعيّة الأمويّة" ذلك الكيد الذي لا ينطلي إلاّ على السُذّج والبسطاء"(1) .
وقال المتتبّع الكبير الشيخ الطهراني (ت 1389هـ) عند ذكره لهذه الرسالة "نصرة المظلوم": "كتبها جواباً على بعض المتجدّدين المتسنّنين"(2) .
وقال أيضاً عند ذكره لرسالة "النظرة الدامعة" التي ألّفها الشيخ مرتضى آل ياسين الكاظمي ردّاً على السيّد الأمين: "كتبه ردّاً على بعض المتسنّنين المتجدّدين"(3) .
والأغرب من ذلك كلّه أنّ الشيخ عبد الحسين قاسم الحلّي، في مقدّمة رسالته "النقد النزيه لرسالة التنزيه" أشار إلى السيّد مهدي البصري ـ باعتبار من أهل البصرة ـ وإلى السيّد محسن الأمين ـ باعتباره من أهل الشام ـ بقوله: "إنّ الحسين (عليه السلام) لمّا قُتل بكى عليه جميع ما خلق الله ممّا يُرى وممّا لا يُرى إلاّ ثلاثة أشياء لم تبك عليه: البصرة، والشام، وآل الحكم بن أبي العاص"(4) .
____________
1 ـ نصرة المظلوم: 3.
2 ـ الذريعة 24: 178/921.
3 ـ الذريعة 24:196/1030.
4 ـ النقد النزيه: 3.
الفصل الثاني
النصّ الكامل لرسالة التنزيه
تمهيد
انتهى السيّد محسن الأمين من تأليفه هذه الرسالة في بيروت في الثامن عشر من شهر محرّم سنة 1346هـ، وطُبعت أوّلا في مطبعة العرفان سنة 1347هـ في اثنتين وعشرين صفحة(1) ، ثمّ توالت طباعتها في لبنان والعراق وايران، وتُرجمت إلى عدّة لغات(2) .
وطُبعت أكثر هذه الرسالة في الجزء الأخير من موسوعته "أعيان الشيعة" في الحقل المُخصّص لترجمة السيّد الأمين(3) .
والنسخة الموجودة عندي ـ والتي اعتمدتُ عليها في تصحيحها ـ قد طُبعت في مطبعة دار الهداية للطباعة والنشر، تقع في اثنتين وثلاثين صفحة، خالية من تأريخ الطبع، ويظهر من مقدّمتها أنّها طُبعت سنة 1392هـ.
وطُبعت هذه الرسالة أخيراً في كتاب "الاختلاف والنقد ثمّ الإصلاح" لمؤلّفه مختار الأسدي، سنة 1418هـ، في مؤسّسة الأعراف للنشر في مدينة قم المقدّسة.
والظاهر أنّ الطبعتين الأخيرتين لهذه الرسالة قد سقطت منها عدّة عبارات وجُمل، وقفتُ عليها عند مقابلتهما مع الطبعة الاُولى لها، التي اعتمد عليها وحكى عباراتها الشيخ عبد الحسين قاسم الحلّي في رسالته "النقد النزيه"، والشيخ محمّد
____________
1 ـ الذريعة 4:455/1027.
2 ـ أعيان الشيعة 10:380.
3 ـ أعيان الشيعة 10:373 وما بعدها.
عملنا في الرسالة
ضبطتُ نصّ الرسالة بمقابلتها مع الطبعات المتوفّرة لدينا ـ التي تقدّم الحديث عنها قبل عدّة أسطر ـ وأشرتُ في الهامش إلى الاختلافات والسقوط الواردة فيها، وخرّجتُ كلّ ما يحتاج إلى تخريج: من آيات قرآنيّة كريمة، وأحاديث شريفة، وأماكن وبقاع.
كما وأوضحتُ معنى الكلمات اللغويّة التي تحتاج إلى إيضاح، وترجمتُ ترجمةً مختصرةً لبعض الأعلام الذين أوردهم المصنّف، وعرّفتُ بشكل مختصر بأسماء الكتب الواردة فيها.
نص الرسالة:
الحمد لله، وصلّى الله على سيّدنا وآله وسلّم.
وبعد، فإنّ الله سبحانه وتعالى أوجب إنكار المُنكر بقدر الإمكان بالقلب أو اليد أو اللسان، ومن أعظم المُنكرات اتّخاذ البدعة سنّة والسنّة بدعة والدعاية إليها وترويجها.
ولمّا كان إبليس وأعوانه إنّما يضلّون الناس من قِبل الأمر الذي يروج عندهم، كانوا كثيراً ما يضلّون أهل الدين من طريق الدين، بل هذا من أضرِّ الإضلال، وقلّما تكون عبادة من العبادات أو سنّة من السنن لم يدخل فيها إبليس وأعوانه ما يفسدها.
فمن ذلك إقامة شعائر الحزن على سيّد الشهداء، أبي عبد الله الحسين بن علي (عليهما السلام)، التي استمرّت عليها طريقة الشيعة من عصر الحسين (عليه السلام) إلى اليوم.
ولمّا رأى إبليس وأعوانه ما فيها من المنافع والفوائد، وأنّه لا يمكنهم إبطالها بجميع ما عندهم من الحِيل والمكائد، توسّلوا إلى إغواء النّاس بحملهم على أن يُدخلوا فيها البدع والمنكرات وما يشينها عند الأغيار; قصداً لإفساد منافعها وإبطال ثوابها، فأدخلوا فيها اُموراً أجمع المسلمون على تحريم أكثرها وأنّها من المنكرات، وبعضها من الكبائر التي هدّد الله فاعله وذمّه في كتابه العزيز.
(1) فمنها: الكذب بذكر الاُمور المكذوبة المعلوم كذبها وعدم وجودها في خبر ولا نقلها في كتاب، وهي تُتلى على المنابر وفي المحافل بكرةً وعشيّا، ولا من منكر ولارادع. وسنذكر طرفاً من ذلك في كلماتنا الآتية إن شاء الله، وهو من الكبائر
(2) ومنها(1) : التلحين بالغناء الذي قام الإجماع على تحريمه، سواء كان لإثارة السرور أو الحزن، وهذا يستعمله جملة من القرّاء بدون تحاش. ولم يستثنِ الفقهاء من ذلك إلاّ غناء المرأة في الأعراس بشرط أن لا تقول باطلا ولا يسمع صوتها الأجانب، وعدّه العلاّمة الطباطبائي من الكبائر(2) في ما حكاه عنه صاحب "الجواهر"(3) لقوله تعالى: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْم وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}(4) .
(3) ومنها: إيذاء النفس وإدخال الضرر عليها بضرب الرؤوس وجرحها بالمُدى(5) والسيوف حتّى يسيل دمها، وكثيراً ما يؤدّي إلى الإغماء بنزف الدم الكثير، وإلى المرض أو الموت، وطول برء الجرح. وبضرب الظهور بسلاسل الحديد، وغير ذلك. وتحريم ذلك ثابت بالعقل والنقل، وما هو معلوم من سهولة الشريعة وسماحتها الذي تمدّح به رسول الله (صلى الله عليه وآله) بقوله: "جئتكم بالشريعة السهلة السمحاء"(6) ، ومن رفع الحرج والمشقّة في الدين بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ
____________
1 ـ هذا الإشكال بكامله لم يرد في النسخة المتوفّرة لدينا من رسالة التنزيه، حكاه عنها الشيخ عبد الحسين قاسم الحلّي في "النقد النزيه": 28، والشيخ محمّد الگنجي في "كشف التمويه": 30.
2 ـ رياض المسائل 8:155.
3 ـ جواهر الكلام 22:44.
4 ـ سورة لقمان: الآية 6.
5 ـ المُدْيَةُ، بالضم: الشَفرة، وقد تُكسر، والجمع مُدْيَاتٌ ومُدىً. الصحاح 6:2490 "مدى".
6 ـ الكافي 5:494 باب "كراهية الرهبانيّة وترك الباه" الحديث الأوّل، وفيه "بعثني بالحنيفية السهلة السمحة".
ومسند أحمد بن حنبل 5:266، تفسير القرطبي 19:39، الطبقات الكبرى 1:140 وفيها "بُعثتُ بالحنيفية السمحة".
(4) ومنها: استعمال آلات اللهو كالطَبْلِ(2) والزَمْر(3) (الدمّام)(4) والصنوج(5) النحاسيّة، وغير ذلك، الثابت(6) تحريمها في الشرع، ولم يستثنِ الفقهاء من ذلك إلاّ طبل الحرب والدف في العرس بغير صنج.
(5) ومنها: تشبيه الرجال بالنساء في وقت التمثيل، وتحريمه ثابت في الشرع(7) .
(6) ومنها: إركباب النساء الهوادج مكشّفات الوجوه، وتشبيههنّ ببنات رسول الله (صلى الله عليه وآله). وهو في نفسه محرّم; لما يتضمّنه من الهتك والمثلة، فضلا عمّا إذا اشتمل على قبح وشناعة اُخرى، مثلما جرى في العام الماضي في البصرة من تشبيه امرأة
____________
1 ـ سورة الحجّ: الآية 78.
2 ـ وهي عدّة أنواع، يأتي الحديث عنها في الفصل الثالث.
3 ـ يقصد به المِزْمار، والزَمْرُ: التغنّي بالمزمار.
4 ـ لا معنى لهذه الكلمة هنا، فهي إمّا خطأ مطبعيّ، أو سهو من قلمه الشريف. والدمّام بلغة العامّة في عرف العراقيين: هو الطَبْل.
5 ـ وهي عدّة أنواع، يأتي الحديث عنها في الفصل الثالث.
6 ـ من هنا إلى آخر هذه العبارة لم يرد في رسالة "التنزيه" المطبوعة المتوفّرة لدينا، أثبتناها من رسالتي "النقد النزيه": 117، و"كشف التمويه":49.
7 ـ وتحريمه ثابت في الشرع: لم ترد في رسالة "التنزيه" المطبوعة المتوفّرة لدينا، أثبتناها من رسالتي "النقد النزيه": 143، و"كشف التمويه": 50.