لأنّا نقول: أوّلا: الغير مشروع (كذا) في الإسلام من الاُمور الضرريّة: هو ما خرج عن وسع المكلّف ونطاق طاقته; لقبح التكليف حينئذ بغير مقدور. أمّا ما كان مقدوراً، فلم يقم برهان عقلي ولا نقلي على منع جعله.
وكونه شاقّاً ومؤذياً لا ينهض دليلا على عدم جعله، إذ التكاليف كلّها مشتقّة من الكلفة وهي المشقّة، وبعضها أشدّ من بعض. "وأفضلها أحمزها"(1) . وعلى قدر نشاط المرء يكون تكليفه، وبزنة رياضة المرء نفسه وقوّة صبره وعظمة معرفته يكلّف بالأشقّ; زيادة للأجر وعلوّاً للرتبة ومزيداً للكرامة.
ومن ها هنا كانت تكاليف الأنبياء أشقّ من غيرها، ثمّ الأوصياء، ثمّ الأمثل فالأمثل. وفي الخبر "إنّ عظيم البلاء يكافئة عظيم الجزاء"(2) وفي آخر "إنّ أشدّ الناس بلاءً الأنبياء، ثمّ الأوصياء، ثمّ الأمثل فالأمثل من المؤمنين وعباد الله الصالحين"(3) وهكذا
____________
1 ـ بحار الأنوار 67: 191 و237 و82:332 وفيها "أفضل الأعمال أحمزها" و79: 279 وفيه "أفضل العبادات أحمزها".
2 ـ روى الشيخ الكليني في الكافي 2:109 باب كظم الغيظ الحديث 2 بسنده عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: "فإنّ عظيم الأجر لمن عظيم البلاء، وما أحبّ الله قوماً إلاّ ابتلاهم".
ورواه أيضاً في الصفحة 252 باب شدّة ابتلاء المؤمن الحديث 3 وفيه "لمع" بدل "لمن".
وروى في نفس الباب الحديث 8 عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: "إنّ عظيم البلاء يُكافأ به عظيم الجزاء، فإذا أحبّ الله عبداً ابتلاه بعظيم البلاء".
3 ـ في الكافي 2:252 باب شدّة ابتلاء المؤمن الحديث الأوّل عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: "إنّ أشدّ الناس بلاءً الأنبياء، ثمّ الذين يلونهم، ثمّ الأمثل فالأمثل".
وفي الحديث الثاني من نفس المصدر وفي نفس الباب، قال الإمام الصادق (عليه السلام): "سُئل رسول الله (صلى الله عليه وآله): مَن أشد الناس بلاءً في الدنيا؟ فقال: النبيّون، ثمّ الأمثل فالأمثل".
قوله: "لا يترتّبان على عمل ضرري غير مجعول في دين الله".
فيه: أنّ الجعل للأحكام لا للأعمال، فيقال: هذا الحكم مجعول في دين الله، أو غير مجعول في دين الله، أو غير مجعول. ولا معنى لقولنا: هذا العمل مجعول في دين الله، أو غير مجعول. بل يقال: جائز أو غير جائز، أو نحو ذلك.
قوله: "لأنّا نقول: أوّلا: الغير مشروع (كذا) في الإسلام... إلى آخره".
فيه: أولا: أنّ قوله: "الغير مشروع" لحن غير مسموع تكرّر وقوعه منه، كما نبّهنا عليه; إذ لا يجوز دخول "ال" على المضاف إلاّ إذا دخلت على المضاف إليه كالجعد الشعر.
ثانياً: أنّه ذكر أوّلا ولم يذكر ثانياً.
قوله: "أمّا ما كان مقدوراً فلم يقم برهان عقلي ولا نقلي على منع جعله".
فيه: أوّلا: أنّ الكلام في العمل الذي فيه ضرر، كما صرّح به في قوله: "لا يترتّبان على عمل ضرري"، والجعل للحكم لا للعمل كما مرّ، فكأنّه اشتبه عليه ما سمعه من أنّ الله لم يجعل حكماً ضرريّاً بمقتضى قوله (صلى الله عليه وآله): "لا ضرر ولا ضرار"(2) ، وما يريد أن يثبته من أنّ الله يجوز أن يكلّف بما فيه ضرر كشقّ الرؤوس، فخلط أحدهما بالآخر.
____________
1 ـ الصفحة: 79.
2 ـ سنن الدارقطني 4:228/84 و85.
إن أراد به أنّه لم يقم برهان على جواز أن يكلّف الله بما فيه ضرر، فأين قول الفقهاء: دفع الضرر المظنون واجب؟
وأين اكتافؤهم باحتمال الضرر الموجب لصدق خوف الضرر في إسقاط التكليف؟
وأين قولهم بوجوب الإفطار لخائف الضرر من الصوم، وببطلان غسل مَن يخاف الضرر; لحرمة الغسل، واقتضاء النهي الفساد في العبادة، ووجوب التيمّم في العبادة؟
وأين قولهم بوجوب الصيام وإتمام الصلاة على المسافر الذي يخاف الضرر على نفسه بالسفر; لكون سفره معصية؟ وقولهم بسقوط الحجّ عمّن يكون عليه عسر وحرج في الرّكوب والسفر، أو يخاف الضرر بسفره؟ إلى غير ذلك من الأحكام المنتشرة في أبواب الفقه.
قوله: "وكونه شاقّاً ومؤذياً لا ينهض دليلا على عدم جعله".
فيه: أنّه أعاد لفظ الجعل، وقد عرفت أنّه ليس له هنا محلّ. وجمع بين الشاقّ والمؤذي، وهما غيران حكماً وموضوعاً، فالمؤذي ـ وهو الضّار ـ يحرم فعله ولم يكلّف الله به، والشاقّ ـ الذي فيه عسر وحرج ـ لم يكلّف الله به; لقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج}(1) إلاّ في موارد مخصوصة، لكن ربما يجوز فعله إذا لم يكن مضرّاً.
ومن الطريف قوله: "التكاليف كلّها مشتقّة من الكلفة".
____________
1 ـ سورة الحج: الآية 78.
قوله: "على قدر نشاط المرء يكون تكليفه... إلى آخره".
فيه: أنّ تكاليف الله لعباده واحدة، لا تتفاوت بالنشاط والكسل وقوّة الصبر وعظمة المعرفة.
فالوا جبات يكلّف بها الجميع، لا يسقط واجب عن أحد بكسله وضعف صبره وحقارة معرفته، ولا يباح محرّم لأحد بشيء من ذلك، ولا يجب مباح ولا يحرم على أحد بقوّة صبره ونشاطه وعظمة معرفته، وكذا المستحبّات والمكروهات.
نعم، الكسلان كثيراً ما يترك المستحبّ، وقليل الصبر كثيراً ما يفعل المكروه، والتكليف في الكلّ واحد، وليس في الشريعة تكليف لشخص بغير الشّاق ولآخر بالشّاق، ولشخص بالشّاق ولآخر بالأشقّ بحسب تفاوت درجاتهم ومراتبهم في النشاط والرياضة والصبر والمعرفة.
ومن ها هنا تعلم فساد قوله: "من ها هنا كانت تكاليف الأنبياء أشقّ من غيرها، ثمّ الأوصياء ثمّ الأمثل فالأمثل". نعم كُلِّف نبيّنا (صلى الله عليه وآله) دون غيره بأشياء خاصّة مثل صلاة الليل فكانت واجبة عليه، كما أبيح له أشياء خاصّة دون غيره مثل الزيادة على أربع أزواج، وباقي التكاليف يتساوى فيها مع غيره، وأين هذا ممّا نحن فيه؟!
قوله: "وفي الخبر: إنّ عظيم البلاء يكافئه عظيم الجزاء".
هذا أجنبيّ عن المقام; إذ المراد بالبلاء: هو المصائب الدنيويّة، من موت
____________
1 ـ بحار الأنوار 67: 191 و237 و82:332.
وهكذا خبر "إنّ أشدّ الناس بلاءً الأنبياء، ثمّ الأوصياء، ثمّ الأمثل فالأمثل"، وليس معناه أشدّ الناس تكليفاً، بل المراد المصائب والبلايا الدنيويّة التي تصدر عليهم، كما صدر على النبيّ (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) وأوليائهم. وفي أيّ لغة يصحّ تفسير البلاء بالتكليف؟ وهل الذين يشقّون رؤوسهم من أمثل الطبقات حتّى كلّفوا بذلك، والعلماء وخيار المؤمنين ليسوا كذلك، فلم يكلّفوا به ولم يفعلوه؟!
وأمّا المستضعفون: فهم القاصرون في الإدراك، الذين رفع الله عنهم بعض التكاليف التي لا يمكنهم معرفتها لقصور إدراكهم، كما رفع التكاليف عن المجانين لحكم العقل بقبح تكليف الجميع، فأين هذا ممّا نحن فيه؟!
قال: "ولو كان الشاقّ ـ وإن دخل تحت القدرة والطوق ـ غير مشروع، ما فعلته الأنبياء والأولياء، ألم يقم النبي (صلى الله عليه وآله) للصلاة حتّى تورّمت قدماه؟!
ألم يضع حجر المجاعة على بطنه مع اقتداره على الشبع؟!
ألم تحجّ الأئمة مشاة حتّى تورّمت أقدامهم مع تمكّنهم من الركوب؟!
ألم يتّخذ علي بن الحسين البكاء على أبيه دأباً، والامتناع من تناول الطعام والشراب حتّى يمزجهما بدموعه ويغمى عليه في كلّ يوم مرّة أو مرّتين؟!
أيجوز للنبيّ وآله (صلى الله عليه وآله) إدخال المشقّة على أنفسهم; طمعاً بمزيد الثواب، ولا يجوز لغيرهم؟!
أيباح لزين العابدين أن ينزل بنفسه ما ينزله من الآلام; تأثّراً وانفعالا من مصيبة أبيه، ولا يباح لوليّه أن يؤلم نفسه لمصيبة إمامه؟!
أينفض العباس الماء من يده وهو على ما هو عليه من شدّة الضمأ; تأسّياً بعطش
أيقرح الرضا جفون عينيه من البكاء ـ والعين أعظم جارحة نفيسة ـ ولا نتأسى به فنقرح على الأقل صدورنا ونجرح بعض رؤوسنا؟!
أتبكي السماء والأرض تلك بالحمرة وتأتي بالدم العبيط، ولا يبكي الشيعيّ بالدم المهراق من جميع أعضائه وجوارحه؟!
ولعلّ الإذن من الله لسمائه وأرضه أن ينزف (كذا) على الحسين، ما يشعر بترخيص الإنسان الشاعر لتلك المصيبة الراتبة أن ينزف من دمه ما استطاع نزفه إجلالا وإعظاماً.
وهب أنّه لا دليل على الندب، فلا دليل على الحرمة، مع أنّ الشيعيّ الجارح نفسه لا يعتقد بذلك الضرر، ومن كان بهذه المثابة لا يلزم بالمنع من الجرح وإن حصل له منه الضرر اتّفاقاً"(1) انتهى.
وقد عرفتَ أنّ المشقّة إذا وصلت إلى حدّ العسر والحرج أوجبت رفع التكليف بالإجماع; لقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج}(2) ولم توجب تحريم الفعل، وإذا وصلت إلى حدّ الضرر أوجبت رفع التكليف وحرمة الفعل.
أمّا استشهاده بقيام النبيّ (صلى الله عليه وآله) للصلاة حتّى تورّمت قدماه، فإن صحّ فلا بُدَّ أن يكون من باب الاتّفاق، أي ترتّب الورم على القيام اتّفاقاً، ولم يكن النبيّ (صلى الله عليه وآله) يعلم بترتّبه، وإلاّ لم يجز القيام المعلوم أو المظنون أنّه يؤدّي إلى ذلك; لأنّه ضرر يرفع التكليف ويوجب حرمة الفعل المؤدّي إليه.
____________
1 ـ الصفحة: 80.
2 ـ سورة الحجّ: الآية 78.
وأمّا وضعه (صلى الله عليه وآله) حجر المجاعة على بطنه مع اقتداره على الشبع، فلو صحّ لحُمل على صورة عدم خوف الضرر الموجب لحرمة ذلك، لكن من أين ثبت أنّه (صلى الله عليه وآله) كان يتحمّل الجوع المفرط الموجب لخوف الضرر اختياراً مع القدرة على الشبع.
وكذا استشهاده بحجّ الأئمّة (عليهم السلام) مشاة، وهو من هذا القبيل.
أمّا بكاء علي بن الحسين (عليهما السلام) على أبيه المؤدّي إلى الإغماء وامتناعه عن الطعام والشراب، فإن صحّ فهو أجنبيّ عن المقام، فإنّ هذه اُمور قهريّة لا يتعلّق بها تكليف، وما كان منها اختياريّاً فحاله حال ما مرّ.
وأمّا نفض العباس الماء من يده تأسّياً بعطش أخيه، فلو صحّ لم يكن حجّة; لعدم العصمة.
وأمّا استشهاده بتقريح الرضا (عليه السلام) جفون عينيه من البكاء، فإن صحّ فلا بدّ أن يكون حصل ذلك قهراً واضطراراً لا قصداً واختياراً، وإلاّ لحرم. ومن يعلم أو يظنّ أنّ البكاء يقرح عينيه فلا يجوز له البكاء إن قدر على تركه; لوجوب دفع الضرر بالإجماع وحكم العقل.
أمّا قوله: "أتبكي السماء... إلى آخره" فكلام شعري صرف لا يكون دليلا ولا مؤيّداً لحكم شرعي.
أمّا قوله: "وهب أنّه لا دليل على الندب فلا دليل على الحرمة" فطريف; لأنّ الأصل في المؤذي والمضرّ الحرمة، ودفع الضرر واجب عقلا ونقلا.
[لِمَ تقولون مالا تفعلون؟!]
ثمّ نقول عطفاً على قوله: "أيقرح الرضا جفون عينيه ولا نتأسى به فنقرح على الأقل صدورنا ونجرح بعض رؤوسنا؟!":
إنّا لم نركم جرحتم مرّة بعض رؤوسكم ولا كلّها، ولا قرحتم صدوركم من اللطم، ولا فعل ذلك أحد من العلماء، وإنّما يفعله العوام والجهلة: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ}(1) .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ}(2) .
ونقول عطفاً على قوله: "أتبكي السماء والأرض بالحمرة والدم ولا يبكي الشيعي بالدم المهراق من جميع أعضائه؟!":
إنّنا ما رأيناكم أهرقتم دماً طول عمركم للحزن من بعض أعضائكم ولا من جميعها، فلماذا تركتم هذا المستحبّ المؤكّد تركاً أبديّاً وهجرتموه هجراً سرمديّاً، ولم يفعله أحد من العلماء في عمره بجرح صغير كبضعة الحجام؟! ولماذا لم يلبسوا الأكفان ويحملوا الطبول والأبواق، وتركوا هذه المستحبّات تفوز بها العوام والجهلة دونهم؟!
____________
1 ـ سورة البقرة: الآية 44.
2 ـ سورة الصفّ: الآية 2 ـ 3.
ونقول: لو كان الأمر كذلك لكان ينبغي للعلماء أن يبادروا إلى هذا الفعل ويكونوا هم المبتدئين به، فيدقّوا الطبول ويضربوا بالصنوج وينفخوا في الأبواق، ويخرجوا حاسرين لابسي الأكفان ضاربين رؤوسهم وجباههم بالسيوف أمام الناس; لتقتدي بهم كما اقتدت فهم في نصب مجالس العزاء وغيرها، فهم أحقّ الناس بتعظيم شعائر الدّين لو كان هذا منها، وإذا لم يفعل الجميع ذلك فعلى الأقل واحد أو اثنان أو ثلاثة من العلماء مع أنّهم يعدّون بالألوف.
ولم تكن هذه الأعمال معروفة في جبل عامل، ولا نقل أنّ أحداً فعلها فيه. وإنّما أحدثها فيه في هذا العصر بعض عوامّ الغرباء، وساعد على ترويجها بعض مَن يرتزق بها.
ولم ينقل عن أحد من علماء جبل عامل أنّه أذن فيها أو أمر بها في عصر من الأعصار، حتّى في الأعصار التي كان جبل عامل يتمتّع فيها بحريّته التامّة في عهد اُمرائه من الشيعة، الذين كان لهم فيه الحول والطول من آل علي الصغير والصعبيّة والمناكرة، كعصر الأمير العظيم الشيخ ناصيف النصّار شيخ مشايخ جبل عامل، والأمير الشيخ عباس صاحب صور، وحمد البك، والشيخ علي الفارس، وعلي بك الأسعد، وتامر بك، وغيرهم رحمهم الله تعالى أجمعين، مع كثرة العلماء في عصرهم، وشدّة إطاعتهم لأوامراهم.
____________
1 ـ الصفحة: 82.
بل لم ينقل ناقل أنّ أحداً فعلها من عوام الشيعة، ولا أنّ أحداً أجازها من علمائهم في الأعصار التي كانت ملوك البلاد الإسلاميّة فيها كلّها شيعة، وذلك في العصر البويهي الذي كان ملك فارس والعراق وغيرها فيه لآل بويه، ولم يكن لخلفاء بني العباس معهم إلاّ الاسم، وملك الشامات والجزيرة لبني حمدان، وملك مصر وافريقيا والمغرب للفاطميين.
وكان في عصرهم من أجلاّء علماء الشيعة وعظمائهم أمثال الشيخ المفيد، والشريفين المرتضى والرضي. مع ما كان عليه بنو بويه من التشدّد في نشر إقامة العزاء، حتّى كانت في زمانهم تعطّل الأسواق في بغداد يوم عاشوراء، وتقام مراسم العزاء فيها وفي الطرقات، ولم ينقل أحد أنّه وقع في زمانهم شيء من جرح الرؤوس بالسيوف والمُدى.
قال: "على أنّ جلّ أساطين علمائنا المتأخّرين كشيخ الطائفة الشيخ جعفر في "كشف الغطاء"، والميرزا القمّي في "جامع الشتات"، والحجّة الكبرى الشيخ مرتضى الأنصاري في رسالته "سرور العباد"، والفقيه المتبحّر الشيخ زين العابدين الحائري في "ذخيرة المعاد"، والعالم الناسك المتورّع الشيخ خضر شلال في كتابه "أبواب الجنان"، وحجّة الإسلام الميرزا حسين النائيني في أجوبته لأهل البصرة، وجميع علمائنا
وقد جاءت "أنّ" في عبارته بدون خبر كما سمعت.
أمّا نسبة ذلك إلى شيخ الطائفة في "كشف الغطاء" فنسبة باطلة، فإنّه لم يذكر جرح الرؤوس، وظاهره الاستشكال في غيره، بل في مطلق الشبيه.
وأمّا نسبة ذلك إلى الميرزا القمّي في "جامع الشتات" فنسبة باطلة أيضاً، فإنّ الذي في الكتاب المذكور في باب المتفرّقات مخصوص بالتشبيه بصورة الإمام (عليه السلام) وأعداء أهل البيت، ولبس الرجال لباس نساء أهل البيت أو غيرهن، وليس فيه ذكر جرح الرؤوس ودقّ الطبول وضرب الطوس ونفخ البوقات.
هذا ما أردنا إثباته في هذه العجالة، والله ولي التوفيق، وله الحمدُ والمنّة.
وتمّ تسويدها بمدينة بيروت في الثامن عشر من المحرّم سنة 1346هـ على يد مؤلّفها الفقير إلى عفو ربّه الغنيّ محسن الأمين الحسيني العاملي، غفر الله له ولوالديه، والحمد لله وحده، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله وسلّم.
____________
1 ـ الصفحة: 82.
الفصل الثالث
مناقشة الإشكالات الواردة في الرّسالة
الإشكال الأوّل
نقلُ خُطباء المنبر الحسينيّ للأحاديث والوقائع المكذوبة
وتعرّض لها السيّد محسن الأمين في موضعين من رسالته:
الموضع الأوّل:
قال رحمه الله:
"ولمّا رأى إبليس وأعوانه ما فيها ـ أي الشعائر الحسينيّة ـ من المنافع والفوائد، وأنّه لا يمكنهم إبطالها بجميع ما عندهم من الحِيل والمكائد، توسّلوا إلى إغواء الناس بحملهم على أن يُدخلو فيها البدع والمنكرات وما يشينها عند الأغيار; قصداً لإفساد منافعها وإبطال ثوابها، فأدخلوا فيها اُموراً أجمع المسلمون على تحريم أكثرها وأنّها من المنكرات، وبعضها من الكبائر التي هدّد الله فاعلها وذمّه في كتابه العزيز.
فمنها: الكذب بذكر الاُمور المكذوبة المعلوم كذبها وعدم وجودها في خبر ولا نقلها في كتاب، وهي تُتلى على المنابر وفي المحافل بكرةً وعشيّاً ولا من منكر ولا رادع، وسنذكر طرفاً من ذلك في كلماتنا الآتية إن شاء الله، وهو من الكبائر بالاتّفاق لا سيّما إذا كان كذباً على الله أو رسوله أو أحد الأئمة (عليهم السلام) "(1) .
ونحنُ نسلّط الضوء على هذا الكلام في عدّة نقاط:
الاُولى:
إنّا لا نُنكر أنّ الكثير من خطباء المنبر الحسينيّ ينقلون أقوالا وأحاديث عن المشاركين في واقعة الطف ـ سواء كانوا في معسكر الإمام الحسين (عليه السلام) أم معسكر عمر بن سعد ـ يُمكن الطعن فيها سنداً ومتناً، ولا يمكن أن تصمد أمام النقد العلمي الذي يعتمد على القواعد المقرّرة في علم الدراية.
____________
1 ـ رسالة التنزيه: 41 ـ 42.
وقد حاول بعض علمائنا الأبرار الوقوف أمام هذه الظاهرة التي تُشوّه واقعة الطف المأساويّة، وذلك عبرَ إبداء النصائح والإرشادات للخطباء بالتأكّد من نقلهم للأحاديث والوقائع، وعدم التطرّق للاُمور المشكوك في صحّتها.
وأكتفي هنا بنقل عبارة المحدّث الميرزا حسين النوري (ت 1320هـ) في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" الذي ألّفه خصيصاً لهذا الموضوع، حيث قال ما ترجمته:
"لا يخفى عليك أنّ بعضاً من قرّاء التعزية والذاكرين الذين جعلوا هذه العبادة مكسباً وحرفةً لهم، وليسوا من أهل الخبرة في فنّ الحديث، ولا من أهل البصيرة في تنقيد الأحاديث، فينقلون على المنابر كلّ ما وجدوه في كتاب من دون أن يميّزوا صحيحه من سقيمه، أو في المجاميع الغير معتبرة المؤلّفة من بعض المتسامحين في النقل وإن لم يحرزوا عدالة مؤلّفها، بل وإن لم يعرفوه أصلا، بل إذا سألته عن مأخذ نقله ربّما أجابك بأنّه وجده في مقتل منسوب إلى عالم من علماء البحرين أو القطيف، وربّما لايكون لذلك المقتل عين ولا أثر ولا سبيل إلى التفحّص عنه، وربّما أحالك إلى المقتل الفلاني، فإذا وجدته وتفحصّته لم تجد فيه ما نقله، أو رأيت فيه زيادة أو نقيصة عمّا نقله"(1) .
الثانية:
يكون الخطيب كاذباً عند قراءته لحديث لا وجود له أساساً، ولم ترد رواية به ولو مرسلة، ولم يره في كتاب مُعتبر، بل قام الخطيب بصياغة ألفاظه وتزوير معناه.
ويكون ناقلا للكذب عند قراءته لحديث وضعه غيره، مع علمه بذلك.
____________
1 ـ حكاه عنه الشيخ محمّد الگنجي في رسالته "كشف التمويه": 23.
ولعلّ هذا هو السبب الرئيسي من عدم اتّهام الخطباء بالكذب أو نقلهم للكذب من قبل علمائنا الذين تُتلى عليهم هذه الأحاديث في كثير من المجالس الحسينيّة.
الثالثة:
إنّ واقعة الطف المأساويّة، وما تقدّمها وتلاها من أحداث، وما يتعلّق بها من الاُمور التي يتعرّض لها قرّاء التعزية، لم تتضمّن مسائل إلزاميّة يترتّب عليها حكم شرعيّ من وجوب أو حرمة حتّى يجب النظر في أصلها وسندها، بل هي قصص ومواعظ وفضائل ومصائب، أي أنّها من سنخ الرُخص التي تشملها قاعدة التسامح في أدلّة السنن.
ومعلوم أنّ ما لا يترتب عليه حكم شرعي لا ينبغي النظر في سنده إذا كان ممّا لا تنفيه فطرة العقول، وكان الضرر فيه مأموناً على تقدير كذبه في نفس الأمر.
وقد تعرّض الكثير من علمائنا رضوان الله تعالى عليهم إلى هذه المسألة بشكل مفصّل، كالشيخ أحمد بن فهد الحلّي (ت 841هـ) في "عدّة الداعي"(1) ، والشهيد الأوّل محمّد بن مكي الجزّيني (المستشهد سنة 786هـ) في باب التلقين من أحكام الميّت في كتابه "الذكرى"(2) ، والشهيد الثاني الشيخ زين الدين بن علي العاملي
____________
1 ـ عدّة الداعي: 13.
2 ـ الذكرى 2: 34.
ونحنُ نكتفي هنا بنقل ثلاث عبارات سلّطت الضوء على هذا الموضوع بشكل جيّد:
(1) قال الشهيد الثاني الشيخ زين الدين بن علي العاملي في رسالته "الدراية":
"جوّز الأكثر العمل بالخبر الضعيف في نحو القصص والمواعظ وفضائل الأعمال، لا في صفات الله وأحكام الحلال والحرام، وهو حسن حيث لم يبلغ الضعيف حدّ الوضع والاختلاق"(4) .
(2) قال الشيخ مرتضى الأنصاري (ت 1281هـ) في رسالته "التسامح في أدلّة السنن" معلّقاً على كلام الشهيد الثاني في "الدراية" الذي ذكرناه قبل قليل:
"المراد بالخبر الضعيف في القصص والمواعظ هو نقلها واستماعها وضبطها في القلب وترتيب الآثار عليها، عدا ما يتعلّق بالواجب والحرام.
والحاصل: أنّ العمل بكلّ شيء على حسب ذلك الشيء، وهذا أمر وجداني لا ينكر، ويدخل حكاية فضائل أهل البيت (عليهم السلام) ومصائبهم، ويدخل في العمل الإخبار بوقوعها من دون نسبة إلى الحكاية على حدّ الإخبار بالاُمور الواردة بالطرق المعتبرة،
____________
1 ـ الدراية: 29.
2 ـ الأربعين: 195 الحديث 31.
3 ـ مفاتيح الاُصول: 346.
4 ـ الدراية: 29.
ولا يجوز ذلك في الأخبار الكاذبة وإن كان يجوز حكايتها، فإنّ حكاية الخبر الكاذب ليس كذباً، مع أنّه لايبعد عدم الجواز إلاّ مع بيان كونها كاذبة.
ثمّ إنّ الدليل على جواز ما ذكرنا من طريق العقل: حُسن العمل بهذه مع أمن المضرّة فيها على تقدير الكذب. وأمّا من طريق النقل: فرواية ابن طاووس(رضي الله عنه)، والنبويّ، مضافاً إلى إجماع "الذكرى" المعتضد بحكاية ذلك عن الأكثر"(1) .
ومقصوده برواية ابن طاووس: هي رواية السيّد رضي الدين أبي القاسم علي ابن موسى بن جعفر بن طاووس (ت 664هـ) في كتابه "إقبال الأعمال" في ما يختصّ بشهر رجب، حيث روى عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: "مَن بلغه شيء من الخير فعمل به، كان ذلك له وإن لم يكن الأمر كما بلغه"(2) .
ومقصوده بالنبويّ: ما رواه علماء إخواننا أبناء العامّة عن عبد الرحمن الحلواني، رفعه إلى جابر بن عبد الله الأنصاري قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "مَن بلغه من الله فضيلة فأخذ بها وعمل بها إيماناً بالله ورجاء ثوابه، أعطاه الله ذلك وإن لم يكن كذلك"(3) .
ومقصوده بإجماع "الذكرى": قول الشهيد الأوّل فيها: "أخبار الفضائل يتسامح بها عند أهل العلم"(4) .
____________
1 ـ التسامح في أدلّة السنن: 158.
2 ـ إقبال الأعمال: 277.
3 ـ انظر تأريخ بغداد 8: 296.
4 ـ الذكرى 2: 34.
"السؤال: هل يجوز في الفضائل والمصائب القراءة بلسان الحال ومقتضى شاهد الحال أم لا؟
وعلى تقدير الجواز هل يجب الإشعار والإعلام بذلك، أم لا؟
وإذا نقل أحدٌ حكايات الفضائل من كتاب غير معتبر أو من لسان بعض القرّاء هل يجوز ذلك أم لا؟
وهل على القارىء إسناده أم لا؟
الجواب: ذكرُ المصائب بلسان الحال جائز إذا كان مناسباً للإمام (عليه السلام)، ولابدّ من الإشعار والإعلام بكونه لسان الحال. وإذا نقل من كتاب معتبر أو غير معتبر لابدّ من الإسناد إلى الناقل، ولا حاجة إلى تعيين الكتاب المنقول منه"(1) .
الرابعة: إضافةً إلى ما ذكرناه في النقطة السابقة، فإنّ أكثر أحداث واقعة الطف لم تصل إلينا بشكل مُسند، بل وصلت إلينا بواسطة عدّة أحاديث مرسلة، حتّى تلك التي وصلتنا بواسطة الشيخ المفيد (ت 413هـ) والسيّد ابن طاووس (ت 664هـ)(2) .
____________
1 ـ حكاه الشيخ عبد الحسين قاسم الحلّي في رسالته "النقد النزيه":13 عن "ذخيرة المعاد".
2 ـ على سبيل المثال فقد تتبّعت "الملهوف" للسيّد ابن طاووس فوجدته ينقل أحاديثه كمراسيل بعبارة "قال رواة الحديث" في الصفحة 92. وبعبارة "وروي" في الصفحات: 126، 152، 158. وبعبارة "قال الراوي" في الصفحات: 124، 134، 135، 137، 140، 145، 148، 150، 151، 154، 155.
ولستُ الآن في معرض توثيق هذه الأخبار أو ردّها، بل الذي اُريد أن أقوله: إنّ خطباء المنبر الحسيني يعتمدون في كلامهم على أحاديث ووقائع يجدونها في مجموعة من الكتب المتداولة في أيدي أصحاب هذا الفنّ، أو على أحاديث ووقائع اُخرى سمعوها من أساتذتهم الذين سبقوهم في هذا المجال، وحكم جميع هذه الأحداث والوقائع حكم المراسيل المنقولة عن أبي مخنف وهلال بن نافع وغيرهما.
إذاً فهم لا يكذبون، ولا ينقلون أحاديث ووقائع مكذوبة وإن كان بعضها لا أساس لها، ولو كانوا يعلمون بكذبها لما نقلوها أبداً.
وهذا لا يعني بأنّ الخطيب يسوغ له النقل من كافّة كتب المقاتل والمصائب دون التأكّد من صحّة محتواها، بل يجب عليه تتبّع الأخبار والوقائع وانتقاء الصحيح منها.
وإن لم يكن باستطاعته فعل ذلك، فالحدّ الأدنى الذي يجوز له هو الأخذ من كتب علمائنا الثقات كالشيخ المفيد، والسيّد المرتضى، والشيخ الطوسي، والسيّد ابن طاووس، وغيرهم من العلماء الذين ألّفوا في المناقب وتأريخ أهل البيت (عليهم السلام).
وننقل هنا عدّة أبيات شعريّة للشيخ هادي كاشف الغطاء (ت 1361هـ) وجّهها لخطباء المنبر الحسينيّ، حيث قال:
إِيْاكَ مِنْ نَقْلِ حَدِيث أوْ خَبَرْ | لَمْ يُرْوَ في مَتْنِ كِتاب مُعْتَبَرْ |
وإِنْ عَلِمْتَ الأمْرَ فانْقُلْ ماوَرَدْ | وَلَوْ بِغَيْرِ لَفْظِهِ ولا تَزِدْ |
أَفْصِحْ وَجِىء بأَحْسَنِ الأَصْواتِ | وَقِفْ عَلى أَواخِرِ الأَبياتِ |