نعم، مسألة عرض شمر بن ذي الجوشن الأمان على العباس (عليه السلام) وإخوته ـ دون مخاطبة زينب له (عليه السلام) ـ موجودة في المصادر المعتبرة، فقد ذكرها الشيخ المفيد في "الإرشاد" حيث قال:
"وجاء شمر حتّى وقف على أصحاب الحسين (عليه السلام) فقال: أين بنو اختنا؟ فخرج إليه العباس وجعفر وعثمان بنو علي بن أبي طالب عليه وعليهم السّلام فقالوا: ما تريد؟
فقال: أنتم يا بني اُختي آمنون.
فقالت له الفتية: لعنك الله ولعن أمانك، أتؤمّننا وابن رسول الله لا أمان له؟!"(1) .
وذكرها السيّد ابن طاووس في "الملهوف" حيث قال:
"وأقبل شمر بن ذي الجوشن لعنه الله فنادى: أين بنو اُختي عبد الله وجعفر والعباس وعثمان؟
فقال الحسين (عليه السلام): "أجيبوه وإن كان فاسقاً، فإنّه بعض أخوالكم".
فقالوا له: ما شأنك؟
فقال: يا بني اُختي أنتم آمنون، فلا تقتلوا أنفسكم مع أخيكم الحسين، والزموا طاعة أمير المؤمنين يزيد بن معاوية.
فناداه العباس بن علي: تبّت يداك ولعن ما جئت به من أمانك، يا عدوَّ الله أتأمرنا أن نترك أخانا وسيّدنا الحسين بن فاطمة وندخل في طاعة اللعناء أولاد
____________
1 ـ الإرشاد 2:89.
الثامنة:
حديث درّة الصدف التي حاربت من أجل رأس الإمام الحسين (عليه السلام)، ورد في كتاب "سير أعلام النساء" نقلا عن كتاب "أسرار الشهادة" للدربندي، ولم أعثر عليه في مصدر آخر، والظاهر عدم صحّته.
قال: عن "أسرار الشهادة" للدربندي المجلس 28 الصفحة 498، وفي طبعة اُخرى الصفحة 504، عن أبي مخنف أنّه قال:
"لمّا جُرّد بالموصل ثلاثون سيفاً تحالفوا على قتل خولي ـ لعنه الله ـ ومن معه، فبلغه ذلك فلم يدخل البلد، وأخذ على تل عفراء ثمّ على عين الوردة، وكتبوا إلى صاحب حلب أن تلقانا فإنّ معنا رأس الحسين الخارجي.
فلمّا وصل الكتاب إليه علم به عبد الله بن عمر الأنصاري، فعظم ذلك عليه وكثر بكاؤه وتجدّدت أحزانه; لأنّه كان في زمن الرسول (صلى الله عليه وآله) يحمل لهم الهدايا، وكان الحسن والحسين (عليهما السلام) لا يفارقانه على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله).
فلمّا بلغه سمّ الحسن (عليه السلام) وموته مَثَّلَ في منزله قبراً وجلّله بالحرير والديباج، وكان يندب الحسن ويرثيه ويبكي عليه صباحاً ومساءً.
فلمّا بلغه حينئذ قتل الحسين (عليه السلام) وحمل رأسه إلى يزيد ووصوله إلى حلب، دخل منزله وهو يرعد ويبكي، فلقيته ابنته درّة الصدف فقالت له: ما بك يا أبتاه، لا بكى بك الدهر ولا نزل بقومك القهر، أخبرني عن حالك؟
فقال لها: يا بنيّة إنّ أهل الشقاق والنفاق قتلوا حسيناً وسبوا عياله، والقوم
____________
1 ـ الملهوف: 148 ـ 150.
قَلَّ العَزاءُ وفاضَت العَيْنانُ | وبُليتُ بالأرزاءِ والأَشْجانِ |
قَتَلوُا الحُسينَ وسَيَّروُا نِساءَهُ | حَرَم الرسولِ بِسائرِ البُلدانِ |
مَنَعُوهُ مِنْ ماءِ الفُراتِ بكَرْبَلاء | وَعَدَتْ عَليهِ عَصابةُ الشَيطانِ |
سَلَبوُا العمامَةَ والقَمِيصَ ورأسُهُ | قَسْراً يُعلّى فَوْقَ رأسِ سنانِ |
فقالت له ابنته: يا أبتاه لا خير في الحياة بعد قتل الهُداة، فو الله لاُحرِّضَنَّ في خلاص الرأس والأسارى، وآخذ الرأس وأدفنه عندي في داري، وأفتخر به على أهل الأرض إن ساعدني الإمكان.
وخرجت درة الصدف وهي تنادي في أطراف حلب وأزقتها: قُتل يا ويلكم الإسلام، ثمّ دخلت منزلها ولبست درعاً وتأزّرت بالسواد، وخرجت معها من بنات الأنصار وحِمْير سبعون فتاة بالدروع والمغافر، فتقدّمتهن فتاة يقال لها نائلة بنت بكير ابن سعد الأنصاري، وسرنَ من ليلتهنّ حتّى إذا كان عند طلوع الشمس إذ لاحت لهنّ الغبرة من البعد، ولاحت الأعلام وضُربت البوقات إمام الرأس، فكمنت درّة الصدف ومن معها حتّى قرب القوم منهنّ فسمعنَ بكاء الصبيان ونوح النساء، فبكت درّة الصدف ومن معها بكاءً شديداً وقالت: ما رأيكنّ؟
قلنَ: الرأي أن نصبر حتّى يقربوا منّا وننظر عدّة القوم، حتّى إذا طلعت الرايات وإذا تحتها رجال قد تلثّموا بالعمائم وجرّدوا السيوف وشرعوا الرماح، والبيض تلمع والدروع تسمع، وكلّ منهم يرتجز. فأقبلت درّة الصدف عليهنّ وقالت: الرأي أن نستنجد ببعض قبائل العرب ونلتقي القوم.
وتوجّه جيش يزيد إلى حلب ودخلوا من باب الأربعين.
قال: فقالت درّة الصدف: ما لنا ألاّ نكاتب أهل حلب فينجدنا أهل عسكرهم،
التاسعة:
حديث مجيء الإمام زين العابدين (عليه السلام) لدفن أبيه الحسين مع بني أسد ـ الذي أنكره السيّد الأمين ـ أورده أبو عمرو الكشّي (ت القرن الخامس هـ) في "رجاله" في احتجاج الواقفة على الإمام الرضا (عليه السلام)، وذلك عند دخول علي بن أبي حمزة وابن السرّاج وابن المكاري على الإمام (عليه السلام)، حيث ورد فيه:
"فقال له علي ـ أي ابن أبي حمزة ـ: إنّا روينا عن آبائك أنّ الإمام لا يلي أمره إلاّ إمام مثله.
فقال له أبو الحسن (عليه السلام): "فأخبرني عن الحسين بن علي (عليه السلام) كان إماماً أو كان غير إمام؟".
قال: كان إماماً.
قال: "فمَن ولي أمره؟".
قال: علي بن الحسين.
قال: "وأين كان علي بن الحسين؟".
قال: كان محبوساً بالكوفة في يد عُبيد الله بن زياد، خرجَ وهم لا يعلمون به حتّى ولي أمر أبيه ثمّ انصرف.
فقال له أبو الحسن (عليه السلام): "إنّ الذي أمكن علي بن الحسين (عليهما السلام) أن يأتي كربلاء
____________
1 ـ سير أعلام النساء 2: 70.
وذكره أيضاً الشيخ محمّد باقر البهبهاني في "الدمعة الساكبة" حيث قال:
"وفي بعض الكتب المعتبرة عن كتاب "أسرار الشّهادات"(2) : روي أنّه لمّا ارتحل عمر بن سعد لعنه ـ الله ـ من كربلاء، وساروا بالسّبايا والرّؤوس إلى الكوفة، نزل بنو أسد مكانهم وبنوا بيوتهم، وذهبت نساؤهم إلى الماء، إذا هنّ رأين جثثاً حول المسنّاة وجثثاً نائية عن الفرات، وبينهنّ جثّة قد جلّلتهم بأنوارها وعطّرتهم بطيبها، فتصارخن النساء وقلن: هذا والله جسد الحسين وأهل بيته (عليهم السلام)، فرجعن إلى بيوتهنّ صارخات، وقلن: يا بني أسد أنتم جلوس في بيوتكم وهذا الحسين وأهل بيته وأصحابه مجزّرون كالأضاحي على الرّمال، وتسفي عليهم الرياح. فإن كنتم ما نعهده فيكم من المحبّة والموالاة فقوموا وادفنوا هذه الجثث، فإن لم تدفنوها نتولى دفنها بأنفسنا.
فقال بعضهم لبعض: إنّا نخشى من ابن زياد وابن سعد لعنهم الله أن تصبحنا خيولهم فينهبوننا أو يقتلون أحدنا.
فقال كبيرهم: الرّأي أن نجعل لنا عيناً تنظر إلى طريق الكوفة ونحن نتولى دفنهم.
فقالوا: إنّ هذا الرّأي لسديد، ثمّ إنّهم وضعوا لهم عيناً وأقبلوا إلى جسد الحسين (عليه السلام) وصار لهم بكاء وعويل، ثم إنّهم اجتهدوا على أن يحرّكوه (عليه السلام) من مكانه ليشقّوا له ضريحاً فلم يقدروا أن يحرّكوا عضواً من أعضائه.
____________
1 ـ رجال الكشّي: 464/883.
2 ـ الظاهر أنّه غير "أسرار الشهادة" للدربندي.
قالوا: الرأي أن نجتهد أوّلا في دفن أهل بيته، ثم نرى رأينا فيه.
فقال كبيرهم: كيف يكون لكم دفنهم وما فيكم مَن يعرف مَن هذا ومَن هذا، وهم كما ترون جثث بلا رؤوس قد غيّرتهم الشمس والتراب من الرّيح، فلربّما نسأل عنهم فما الجواب.
فبينما هم في الكلام إذ طلع عليهم أعرابيّ على متن جواده، فلمّا رأوه انكشفوا عن تلك الجثث الزّواكي.
قال: فأقبل الأعرابي ونزل عن ظهر جواده إلى الأرض، وصار منحنياً كهيئة الراكع حتّى أتى ورمى بنفسه على جسد الحسين (عليه السلام) وجعل يقبّله تارة ويشمّه اُخرى، وقد بلّ لثامه من دموع عينيه، ثمّ رفع رأسه ونظر إلينا فقال: "ما كان وقوفكم حول هذه الجثث؟" فقالوا: أتينا لنتفرج عليها.
فقال (عليه السلام): "ما كان هذا قصدكم".
فقالوا: نعم يا أخ العرب الآن نطلعك على ما في ضمائرنا، أتينا لندفن جسد الحسين (عليه السلام) فلم نقدر أن نحرّك عضواً من أعضائه، ثم اجتهدنا في دفن أهل بيته وما فينا مَن يعرف مَن هذا ومَن هذا، وهم كما ترى جثث بلا رؤوس قد غيّرتهم الشّمس والتراب، فبينما نحن في الكلام إذ طلعت علينا، فخشينا أنّك من أصحاب ابن زياد لعنه الله فانكشفنا عن تلك الجثث.
قال: فقام فخطَّ لنا خطّاً وقال: "احفروا ههُنا"، ففعلنا فيها، فقال: "قدموا هذا وأخّروا هذا"، فوضعنا سبعة عشر جثّة بلا رأس. ثم خطّ لنا خطّاً فقال: "احفروا ههُنا"،
فقلنا له: يا أخا العرب كيف تكفينا أمره وكلّنا قد اجتهدنا على أن نحرّك عضواً من أعضائه فلم نقدر عليه.
فبكى بكاء شديداً فقال (عليه السلام): "معي من يعينني"، ثمَّ إنّه بسط كفيه تحت ظهره الشريف وقال: "بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملّة رسول الله صلَّى الله عليه وآله، هذا ما وعدنا الله تعالى ورسوله وصدق الله ورسوله، ما شاء الله لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم".
ثمّ أنزله وحده ولم يشرك معه أحداً منّا، ثم وضع خدّه بنحره الشريف وهو يبكي فسمعناه يقول:
"طوبى لأرض تضمّنت جسدك الشريف، أما الدّنيا فبعدك مظلمة والآخرة فبنورك مشرقة. أمّا الحزن فسرمد، واللّيل فمسهّد، حتى يختار الله لي دارك التي أنت مقيم بها، فعليك مني السّلام يابن رسول الله ورحمة الله وبركاته".
ثم شرج عليه اللبن وأهال عليه التراب، ثم وضع كفّه على القبر وخطّه بأنامله وكتب: هذا قبر حسين بن علي بن أبي طالب الذي قتلوه عطشاناً غريباً.
ثم التفت إلينا وقال: "انظروا هل بقي أحد؟" قالوا: نعم يا أخا العرب، قد بقي بطل مطروح حول المسنّاة وحوله جثّتان، وكلّما حملنا جانباً منه سقط الآخر; لكثرة ضرب السّيوف والسّهام.
فقال: "امضوا بنا إليه"، فمضينا إليه، فلمّا رآه انكبّ عليه يقبّله ويبكي ويقول: "على الدنيا بعدك العفا يا قمر بني هاشم، فعليك منّي السّلام من شهيد محتسب ورحمة
ثم أمر لنا أن نشق له ضريحاً ففعلنا، ثم أنزلهُ وحده ولم يشرك معه أحداً منّا، ثم شرج عليه اللبن وأهال عليه التراب، ثمّ أمرنا بدفن الجثتين حوله، ففعلنا ثم مضى إلى جواده فتبعناه ودرنا عليه لنسأله عن نفسه وإذا به يقول:
"أما ضريح الحسين (عليه السلام) فقد علمتم، وأمّا الحفيرة الأوُلى ففيها أهل بيته، والأقرب إليه ولده علي الأكبر، وأمّا الحفيرة الثانية ففيها أصحابه، وأمّا القبر المنفرد فهو حامل لواء الحسين (عليه السلام) حبيب بن مظاهر، وأمّا البطل المطروح حول المسناة فهو العباس بن أمير المؤمنين (عليهما السلام)، وأمّا الجثتان فهما من أولاد أمير المؤمنين (عليه السلام)، فإذا سألكم سائل فأعلموه".
فقلنا له: يا أخا العرب نسألك بحقّ الجسد الذي واريته بنفسك وما أشركت معك أحداً منّا من أنت؟ فبكى بكاء شديداً فقال: "أنا إمامكم علي بن الحسين (عليه السلام) " فقلنا: أنت علي؟ فقال: "نعم" فغاب عن أبصارنا"(1) .
إلاّ أنّ بعض علمائنا الذين كتبوا في واقعة الطفّ لم يذكروا مجيء الإمام السجاد (عليه السلام) لدفن أبيه (عليه السلام)، بل صرّحوا بأنّ بني أسد هم الذين تولّوا دفن الإمام الحسين (عليه السلام) ومن استشهد معه يوم عاشوراء، منهم الشيخ المفيد في "الإرشاد"(2) ، والسيّد ابن طاووس في "الملهوف"(3) ، والعلاّمة المجلسي في "بحار الأنوار"(4) .
____________
1 ـ الدمعة الساكبة 5:11 ـ 14.
2 ـ الإرشاد 2:114.
3 ـ الملهوف: 190.
4 ـ بحار الأنوار 45:107 ـ 108.
وحكاه عنهم الشيخ محمّد باقر البهباني في "الدمعة الساكبة"(3) .
ونحنُ نكتفي بنقل ما قاله الشيخ المفيد في "الإرشاد"، قال:
"ولمّا رحل ابن سعد خرج قوم من بني أسد ـ كانوا نزولا بالغاضريّة ـ إلى الحسين وأصحابه رحمة الله عليهم، فصلّوا عليهم، ودفنوا الحسين (عليه السلام) حيث قبره الآن، ودفنوا ابنه علي بن الحسين الأصغر عند رجليه، وحفروا للشهداء من أهل بيته وأصحابه الذين صُرعوا حوله مما يلي رِجلَي الحسين (عليه السلام) وجمعوهم فدفنوهم جميعاً معاً، ودفنوا العبّاس ابن علي (عليهما السلام) في موضعه الذي قُتل فيه على طريق الغاضريّة حيث قبره الآن".
ويؤيّد ذلك أيضاً ما ورد في "بحار الأنوار" من قول النبي (صلى الله عليه وآله) بأنّ الحسين (عليه السلام) "يدفنه الغرباء" حيث قال:
"وجدتُ بخطّ محمّد بن علي الجبعي، نقلا عن خطّ الشهيد، نقلا عن مصباح الشيخ أبي منصور(رحمه الله): روي أنّه دخل النبي (صلى الله عليه وآله) يوماً على فاطمة ـ وساق الحديث إلى أن قال ـ: وأمّا الحسين فإنّه يُظلم، ويُمنع حقّه، وتُقتل عترته، وتطؤه الخيل، ويُنهب رحله، وتُسبى نساؤه وذراريه، ويُدفن مرمّلا بدمه، ويدفنه الغرباء. قال علي (عليه السلام): فبكيت وقلت: هل يزوره أحد؟ فقال: يزوره الغرباء"(4) .
ويمكن حمل قول النبيّ (صلى الله عليه وآله): "ويدفنه الغرباء"، وحمل القول الذي يذهب إليه
____________
1 ـ مقتل الإمام الحسين (عليه السلام): 260.
2 ـ مروج الذهب 3:72.
3 ـ الدمعة الساكبة 5:11.
4 ـ بحار الأنوار 98:44.
علماً بأنّه قد وردت من طرقنا عدّة روايات تدلّ على أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) هو الذي تولّى دفن الإمام الحسين (عليه السلام)، فقد روى الشيخ الصدوق في "الأمالي" عن الإمام الصادق (عليه السلام): "أنّ اُمّ سلمة زوجة النبي (صلى الله عليه وآله) أصبحت يوماً تبكي بكاءً شديداً، فقيل لها: ممّ بكائك؟
قالت: لقد قُتل ابني الحسين (عليه السلام) الليلة، وذلك أنّي ما رأيتُ رسول الله (صلى الله عليه وآله) منذ مضى إلاّ الليلة، فرأيته شاحباً كئيباً، فقلت: مالي أراك يا رسول الله شاحباً كئيباً؟ فقال: ما زلت الليلة احتفر القبور للحسين وأصحابه"(1) .
وروى العلاّمة المجلسي في "بحار الأنوار" عن "الأمالي" للشيخ الصدوق عن اُمّ سلمة أنّها أصبحت تصرخ صراخاً عظيماً وهي تقول: يا بنات عبد المطلب أسعدنني وأبكين معي فقد قتل سيدكنّ الحسين.
فقيل لها: من أينَ علمت ذلك؟
فقالت: رأيت رسول الله شعثاً مذعوراً فسألته عن شأنه فقال: قُتل ابني الحسين وأهل بيته فدفنتهم، والساعة فرغت من دفنهم(2) .
وعن "الأمالي" للشيخ الصدوق أيضاً بسنده عن ابن عباس عن اُمّ سلمة أنّها قالت: "فلمّا كانت الليلة القابلة رأيتُ رسول الله أغبر أشعث، فسألته عن شأنه فقال:
____________
1 ـ الأمالي الشيخ الصدوق: 120، وعنه في بحار الأنوار 45: 230/1.
2 ـ بحار الأنوار 45:230/1.
العاشرة:
حديث مجيء الطيور التي تمرّغت بدم الحسين (عليه السلام) إلى المدينة المنوّرة، ومعرفة فاطمة الصغرى بقتل أبيها من تلك الطيور، ذكره السيّد هاشم البحراني (ت 1107هـ) في "مدينة المعاجز"(2) وجعله من معاجز وكرامات الإمام الحسين (عليه السلام) بعد استشهاده. وذكره أيضاً الشيخ عبد الله البحراني (ت القرن الثاني عشر الهجري) في "عوالم العلوم"(3) ، وحكاه عنهما الشيخ محمّد باقر البهبهاني في "الدمعة الساكبة"(4) ، ونصّ الحديث هو:
"روي من طرق أهل البيت (عليهم السلام): أنّه لمّا استشهد الحسين (عليه السلام) بقي في كربلاء طريحاً ودمه على الأرض مسفوحاً، وإذا بطائر أبيض قد أتى وتلطّخ بدمه... فمن القضاء والقدر أنّ طيراً من هذه الطيور قصد مدينة الرسول... إلى آخره".
وروى في "العوالم" أيضاً عن علي بن أحمد العاصمي، عن اسماعيل بن أحمد البيهقي، عن أبيه، عن أبي عبد الله الحافظ، عن يحيى بن محمّد العلوي، عن الحسين ابن محمّد العلوي، عن أبي علي الطرسوسي، عن الحسن بن علي الحلواني، عن علي بن يعمر، عن إسحاق بن عبّاد، عن المفضّل بن عمر الجعفي، عن جعفر بن محمّد الصادق، عن أبيه، عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال:
"لمّا قُتل الحسين (عليه السلام) جاء غراب فوقع في دمه، ثمّ تمرّغ ثمّ طار فوقع بالمدينة على جدار فاطمة بنت الحسين بن علي (عليهما السلام) وهي الصغرى، فرفعت رأسها فنظرت إليه
____________
1 ـ بحار الأنوار 45:231/2.
2 ـ مدينة المعاجز: 263.
3 ـ عوالم العلوم 17:493.
4 ـ الدمعة الساكبة 5:3 ـ 5.
نَعبُ الغُرابُ فَقُلتُ مَنْ | تَنْعاهُ وَيْلكَ يا غُراب |
قالَ الإمامَ فَقُلتُ مَنْ | قالَ الموفّق للصَوابِ |
إِنَّ الحُسينَ بكربلاءَ | بَيْنَ الأَسِنّةِ والضِرابِ |
فَأبْكي الحُسينَ بِعبْرة | تَرْجي الإلهَ معَ الثَوابِ |
قُلْتُ الحُسينَ فقالَ ليِ | حَقّاً لَقَدْ سَكَنَ التُراب |
ثُمَّ استَقَلّ بهِ الجناح | فَلَمْ يَطِقْ رَدَّ الجَوابِ |
فَبَكَيْتُ مَمّا حَلَّ بيِ | بَعْدَ الدُعاءِ المُسْتَجابِ |
قال محمّد بن علي: فَنَعَتْهُ لأهل المدينة، فقالوا: قد جاءتنا بسحر عبد المطلب، فما كان بأسرع أن جاءهم الخبر بقتل الحسين بن علي (عليه السلام)(1) .
وأخرج هذا الحديث أيضاً الخوارزمي في "مقتل الإمام الحسين (عليه السلام) "(2) ، والقاضي السيّد نور الله الحسيني التستري (الشهيد سنة 1019هـ) في "إحقاق الحقّ"(3) ، والعلاّمة المجلسي في "بحار الأنوار"(4) ، وحكاه عنهم الشيخ محمّد باقر البهبهاني في "الدمعة الساكبة"(5) .
والإشكال الذي يرد على هذه الأحاديث: أنّه كيف يمكن للطائر أن يقطع هذه
____________
1 ـ عوالم العلوم 17:490.
2 ـ مقتل الحسين (عليه السلام) 2:92.
3 ـ إحقاق الحقّ 2:93.
4 ـ بحار الأنوار 45:171 ـ 172.
5 ـ الدمعة الساكبة 4:380.
ويمكن الجواب عنه: "بأنّ نوعاً من الطيور في العراق تمعن في الطيران إلى أبعد من المدينة تسمّى "حمام الهدى" أو "حمام الرسائل"، ويؤخذ من قول شهاب الدين أحمد بن يحيى بن فضل الله المعمّري في كتاب "التعريف" أنّ أصل هذه الطيور من الموصل. وقد اعتنى بها الملوك الفاطميين إلى الغاية، وكانت الرسائل تعلّق بأرجلها وترسل فتطير للمكان الذي اعتادته مهما بَعدُ، فإذا اُخذ الكتاب منها عادت إلى المحل الذي جاءت منه مزوّدة بكتاب أيضاً أو غير مزوّدة"(1) .
____________
1 ـ انظر النقد النزيه: 19.
الإشكال الثاني
اللحنُ في القراءة
قال السيّد محسن الأمين: "وجلّهم ـ أي قرّاء التعزية ـ يتلو الحديث ملحوناً"(1) .
وهذا الإشكال وارد على الخطباء قطعاً، فإنّ أكثرهم لا يراعي قواعد اللغة عند تحدّثه باللغة العربيّة الفصحى ونقله للأحاديث الشريفة والأبيات الشعريّة; وذلك ناشىء من عدم دراستهم لقواعد اللغة، وعدم تدريبهم على مراعاة هذه القواعد التي تحتاج إلى بعض الوقت من أجل ضبطها، وتسرّعهم في ارتقاء المنبر الحسينيّ قبل تسلّطهم الكامل على اللغة العربيّة.
وهذا الإشكال لم يقتصر على زمان السيّد الأمين، بل نشاهده في أيامنها هذه أيضاً، فقد زرتُ في شهر شعبان سنة 1420هـ إحدى المعاهد العلميّة التي تعتني بتدريب طلبة الحوزة العلميّة في مدينة قم المقدّسة وتعليمهم فنّ الخطابة، وكان من عادتهم أن يرتقي المنبر كلَ يوم جمعة أحد المتعلّمين لهذا الفنّ ويقرأ مجلس التعزية أمام الضيوف ومسؤول المعهد.
وفي اليوم الذي حضرتُ في ذلك المعهد، ارتقى المنبر شابٌ وسيم في الثلاثين من عمره من أهالي جنوب العراق، وبدأ بقراءة بعض الأبيات الشعرية باللغة العاميّة، وقد كان هذا الشاب يتمتّع بصوت شجيّ، أثّر في الحاضرين تأثيراً كبيراً، خصوصاً أنّه قرأ بصوته الشجيّ أبياتاً تُذكّر بالأهل والأحبّة وفراق الوطن والحنين إلى
____________
1 ـ رسالة التنزيه: 51.
ولكن، وللأسف الشديد ما إن شرع هذا الشاب بإلقاء المحاضرة حتّى بدت نقاط الضعف فيه واضحة، خصوصاً في جانب اللغة، فإنّه يرفع وينصب كيف ما شاء، والشيء الذي أثار تعجّبي هو عدم مراعاته لإعراب الكلمات الواردة بعد حروف الجرّ.
ولكن، هذا لا يعني أنّ الخطيب يجب عليه أن يتكلّم باللغة الفصحى من أوّل ارتقائه المنبر إلى حين نزوله منه، ويجب عليه أن لا يتكلّم باللغة العاميّة الدارجة، بل الواجب عليه مراعاة قواعد اللغة عند تحدّثه باللغة الفصحى، كقراءته للأحاديث والأبيات الشعريّة، ونقله للنصوص التأريخيّة من المصادر.
ولا مانع من أن يتكلّم الخطيب باللغة العاميّة، وينقل للسامعين الحكايات والقصص بأسلوب يفهمونه، ويؤثّر في نفوسهم في نفس الوقت، فإنّ اُسلوب الحديث ومحتواه الذي يُلقى على أهل القرى والأرياف يجب أن يختلف تماماً عن الذي يُلقى على الطبقة المثقّفة التي تتوقّع من الخطيب عدم اللحن في القراءة، والتعرّض للمسائل العقائديّة، وإقامة الأدلّة العلميّة عليها.
الإشكال الثالث
التلحين في القراءة
قال السيّد محسن الأمين:
"ومنها ـ أي ومن الاُمور المنكرة في الشعائر الحسينيّة ـ التلحين بالغناء، الذي قام الإجماع على تحريمه، سواء كان لإثارة السرور أو الحزن، وهذا يستعمله جملة من القرّاء بدون تحاش. ولم يستثنِ الفقهاء من ذلك إلاّ غناء المرأة في الأعراس بشرط أن لا تقول باطلا ولا يسمع صوتها الأجانب، وعدّه العلاّمة الطباطبائي من الكبائر(1) في ما حكاه عنه صاحب (الجواهر)(2) ; لقوله تعالى: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْم وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}(3) "(4) .
والنظر في هذا الإشكال بعدة نقاط:
الاُولى:
لا خلاف في حرمة الغناء عند علماء الإسلام في الجملة، وقد دلّت على تحريمه روايات مستفيضة، وادّعى فخر المحقّقين (ت 771هـ) تواترها(5) .
____________
1 ـ رياض المسائل 8:155.
2 ـ جواهر الكلام 22:44.
3 ـ سورة لقمان: الآية 6.
4 ـ لم يرد نصّ هذا الإشكال في النسخة المطبوعة لرسالة التنزيه المتوفّرة لدينا، حكاه عنها الشيخ عبد الحسين قاسم الحلّي في "النقد النزيه": 28، والشيخ محمّد الگنجي في "كشف التمويه": 30.
5 ـ إيضاح الفوائد 1:405.
كرواية زيد الشّحام قال: سألتُ أبا عبد الله (عليه السلام) عن قوله عزّ وجلّ: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} قال: "قول الزور: الغناء"(2) .
ورواية ابن أبي عمير عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله تعالى: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} قال: "قول الزور: الغناء"(3) .
ورواية سماعة بن مهران عن أبي بصير قال: سألتُ أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عزّ وجلّ: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الاَْوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} قال: "الغناء"(4) .
ومنها: الروايات الواردة في تفسير قوله تعالى: {لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ}(5) :
كرواية محمّد بن مسلم عن أبي الصباح عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال في قوله عزّ وجلّ: {وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ} قال: "الغناء"(6) .
ورواية محمّد بن مسلم الاُخرى عن الإمام الصادق (عليه السلام) بلا واسطة بينهما في قول الله عزّ وجلّ: {وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ} قال: "الغناء"(7) .
____________
1 ـ سورة الحجّ: الآية 30.
2 ـ الكافي 6: 435/2، وسائل الشيعة 17: 303/2.
3 ـ الكافي 6: 436/7، وسائل الشيعة 17: 305/8.
4 ـ الكافي 6: 431/1، وسائل الشيعة 17: 305/9.
5 ـ سورة الفرقان: الآية 72.
6 ـ الكافي 6:431/6، وسائل الشيعة 17:304/3.
7 ـ الكافي 6:433/13، وسائل الشيعة 17:304/5.
كرواية محمّد بن مسلم عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال سمعته يقول: "الغناء ممّا وعد الله عليه النار، وتلا هذه الآية: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي...} "(2) .
ورواية مهران بن محمّد عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: سمعته يقول: "الغناء ممّا قال الله عزّ وجلّ: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي...} "(3) .
ورواية الوشّاء قال: سمعتُ أبا الحسن (عليه السلام) يُسأل عن الغناء، فقال: "هو قول الله عزّ وجلّ: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي...}(4) .
الثانية:
اختلف اللغويّون والفقهاء في معنى الغناء على عدّة أقوال:
منها: أنّه مطلق الصوت، وهو ظاهر أحمد بن محمّد بن علي المُقْري الفيّومي (ت 770هـ)(5) .
ومنها: أنّه مدّ الصوت، حكاه المولى النراقي (ت 1254هـ) كقول من دون إسناده إلى قائل معيّن(6) .
وقال المقدّس أحمد الأردبيلي (ت 993هـ): "والظاهر أنّه يُطلق على مدّ الصوت
____________
1 ـ سورة لقمان: الآية 6.
2 ـ الكافي 6:431/4، وسائل الشيعة 17:304/6.
3 ـ الكافي 6:431/5، وسائل الشيعة 17:305/7.
4 ـ الكافي 6:432/8، وسائل الشيعة 17:306/11.
5 ـ المصباح المنير: 455 "اغنن".
6 ـ مستند الشيعة 2:240.