الصفحة 116
من غير طرب، فيكون حراماً; إذ يصحّ تقسيمه إلى المطرب وعدمه"(1) .

ومنها: أنّه رفع الصوت وموالاته، حكاه مجدّ الدين أبو السعادات المبارك ابن الأثير (ت 606هـ) حيث قال: "وكلّ من رفع صوته ووالاه فصوته عند العرب غناء"(2) .

ومنها: أنّه تحسين الصوت وتزيينه، حكاه جماعة عن الشافعي(3) ، وقال ابن الأثير: "إنّ الشافعي قال في حديث: "مَنْ لم يتغنَّ بالقرآن" معناه: تحسين القراءة وترقيقها"(4) .

ومنها: أنّه ترجيع الصوت ومدّهُ، قاله العلاّمة الحلّي الحسن بن يوسف بن المطهّر (ت 726هـ)(5) .

والمراد بالترجيع: ترديد الصوت في الحلق(6) .

ومنها: أنّه مدُّ الصوت المشتمل على الترجيع المُطْرب، قاله اسماعيل بن حمّاد الجوهري (ت 395هـ)(7) ، وهو المحكي عن أكثر فقهائنا(8) :

قال المحقّق الكركي علي بن الحسين بن عبد العالي (ت 940هـ): "ليس مجرّد

____________

1 ـ مجمع الفائدة والبرهان 8:57.

2 ـ النهاية في غريب الحديث والأثر 3:391 "غنا".

3 ـ انظر تاج العروس 10:272 "غنى"، مفتاح الكرامة 4:5.

4 ـ النهاية في غريب الحديث والأثر 3: 391 "غنا".

5 ـ قواعد الأحكام 2: 236.

6 ـ مجمع البحرين 4:236.

7 ـ الصحاح 1:171 "طرب".

8 ـ انظر مفاتيح الشرائع 2:20.


الصفحة 117
مدّ الصوت محرّماً وإن مالت إليه النفوس مالم ينته إلى حدٍّ يكون مطرباً بالترجيع المقتضي للإطراب"(1) .

وقال الشهيد الثاني الشيخ زين الدين بن علي الجبعي العاملي (المستشهد سنة 965هـ): "إنّه مدّ الصوت المشتمل على الترجيع المطرب، فلا يحرم بدون الوصفين، أعني الترجيع مع الإطراب وإن وجد أحدهما"(2) .

وفَسَّرَ الجوهري الطرب: "بأنّه خفّة تعتري الإنسان لشدّة حزن أو سرور"(3) .

وفَسَّرةُ الزمخشري: "بأنّه خفّة لسرور أو همّ"(4) .

وزاد بعض علمائنا في تعريف الغناء: "بأنّه ما يُسمّى في العرف غناء" كالشهيد الثاني في "الروضة البهيّة"(5) ، والمقدّس الأردبيلي في "مجمع الفائدة والبرهان"(6) ، والمحدّث الشيخ يوسف البحراني في "الحدائق الناضرة"(7) .

وقال الشيخ الأنصاري (ت 1281هـ) بعد أن ذكر عدّة أقوال في معنى الغنا، وأدلّة كلّ قول:

"وكيف كان، فالمحصّل من الأدلّة المتقدّمة حرمة الصوت المُرَجَّع فيه على سبيل اللهو; فإنّ اللهو كما يكون بآلة من غير صوت ـ كضرب الأوتار ونحوه ـ وبالصوت في

____________

1 ـ جامع المقاصد 4:23.

2 ـ مسالك الأفهام 1:165.

3 ـ الصحاح 1:171 "طرب".

4 ـ أساس البلاغة: 277 "طرب".

5 ـ الروضة البهيّة 3:212.

6 ـ مجمع الفائدة والبرهان 8:57.

7 ـ الحدائق الناضرة 18:101.


الصفحة 118
الآلة ـ كالمزمار ونحوهما ـ فقد يكون بالصوت المجرّد.

فكلّ صوت يكون لهواً بكيفيّته ومعدوداً من ألحان أهل الفسوق والمعاصي فهو حرام وإن فرض أنّه ليس بغناء، وكلّ ما لايُعدّ لهواً فليس بحرام وإن فرض صدق الغناء عليه فرضاً غير محقّق; لعدم الدليل على حرمة الغناء إلاّ من حيث كونه باطلا ولهواً ولغواً وزوراً"(1) .

الثالثة:

إذا أخذنا بالقول المشهور عند علمائنا في معنى الغناء: بأنّه مَدّ الصوت المشتمل على الترجيع المُطرب، وأنّه ما يُسمّى في العرف غناء، وأنّه المناسب لمجالس اللهو.

فهل ينطبق هذا على ما يقرأه الخطباء في رثاء الإمام الحسين (عليه السلام)؟ فإنّ مجالس العزاء التي يعقدها المؤمنون لذكر مصائب الإمام الحسين (عليه السلام) لا تُسمّى مجالس لهو وطرب، وما يقرأه الخطيب لا يُسمّى عرفاً غناء، بل الذي يحصل في هذه المجالس عند المستمعين للخطيب هو حالة من الحزن والتألّم ثمّ البكاء لما أصاب الإمام الحسين (عليه السلام) يوم عاشوراء.

ولو فرضنا أنّ بعض الخطباء أو الراثين خرج عن هذه القاعدة المتعارفة عند أهل هذا الفنّ، وقرأ بألحان غير مألوفة عند المؤمنين، يمكن أن ينطبق عليها تعريف الغناء، فهل يوجب هذا القدحَ في الخطباء ووصف الشعائر الحسينيّة "بدخول اُمور منكرة فيها"؟! وأنّ "التلحين بالغناء يستعمله جملة من القرّاء بدون تحاش" بحيث يتصوّر القارىء أنّ ذلك أمر لا ينفك عنه أيّ مجلس رثائي؟!

____________

1 ـ المكاسب 1:296.


الصفحة 119

الرابعة:

إضافةً لما تقدّم، فإنّ لبعض فقهائنا قولا بجواز الغناء في المراثي حيث استثنوه من الغناء المحرّم:

فقد حكاه المحقّق الكركي (ت940هـ) عن البعض حيث قال: "واستثني من الغناء: الحداء، وفعل المرأة له في الأعراس بشروطه الآتية، واستثنى بعضهم مراثي الحسين (عليه السلام) كذلك"(1) .

ومال إليه المقدّس الأردبيلي (ت 993هـ) حيث قال: "وبالجملة، لعدم ظهور دليل التحريم، والأصل، وأدلّة جواز النياحة مطلقاً بحيث تشمل الغناء بل الظاهر أنّها لا تكون إلاّ معه، يفيد الجواز والله العالم"(2) .

ونسبه المولى محمّد مؤمن بن محمّد باقر السبزواري (ت 1090هـ) إلى بعض فقهائنا(3) ، وقوّاه الشيخ النراقي (ت 1254هـ) أيضاً(4) . ونسبه السيّد علي الطباطبائي (ت 1231هـ)(5) والشيخ محمّد حسن النجفي (ت 1266هـ)(6) إلى بعض الفقهاء أيضاً دون تعيين أسمائهم.

____________

1 ـ جامع المقاصد 4:23.

2 ـ مجمع الفائدة والبرهان 8:63.

3 ـ كفاية الأحكام: 86.

4 ـ مستند الشيعة 2:644.

5 ـ رياض المسائل 8: 157.

6 ـ جواهر الكلام 44:51.


الصفحة 120

الإشكال الرابع
إيذاء النفس وإدخال الضرر عليها


قال السيّد محسن الأمين:

"ومنها ـ أي ومن الاُمور المنكرة في الشعائر الحسينيّة ـ إيذاء النفس وإدخال الضرر عليها بضرب الرؤوس وجرحها بالمُدى والسيوف حتّى يسيل دمها، وكثيراً ما يؤدّي ذلك الى الإغماء ينزف الدم الكثير، وإلى المرض أو الموت وطول بُرء الجرح. وبضرب الظهور بسلاسل الحديد، وغير ذلك.

وتحريم ذلك ثابت بالعقل والنقل، وما هو معلوم من سهولة الشريعة وسماحتها الذي تمدّح به رسول الله (صلى الله عليه وآله) بقوله: "جئتكم بالشريعة السهلة السمحاء" ومن رفع الحرج والمشقّة في الدين بقوله تعالى: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج}(1) "(2) .

وتطرّق السيّد الأمين لهذا الإشكال أيضاً في معرض ردّه على الشيخ عبد الحسين صادق العاملي في عدّة موارد من هذه الرسالة، نذكرها إن شاء الله تعالى أثناء توضيحنا ومناقشتنا لكلامه والذي نورده في عدّة نقاط:

الاُولى:

من الشعائر التي يقيمها بعض محبّي أهل البيت (عليهم السلام) هو شجّ الرؤوس يوم عاشوراء أو ما يُسمّى بـ "التطبير"، حيث يخرج جماعة من الناس بموكب منتظم

____________

1 ـ سورة الحجّ: الآية 78.

2 ـ رسالة التنزيه:42.


الصفحة 121
وقد حلقوا رؤوسهم ولبسوا الأكفان، وعندما يصلون إلى مكان معيّن مُتفق عليه بينهم ـ وأكثر ما يكون صحن إمام معصوم أو مكان مقدّس ـ يبدأون بضرب رؤوسهم بالسيوف وهم ينادون: ياحسين ياحسين، ويصاحب ذلك كلّه ضرب الطبول. وهم يعتقدون بأنّهم إنّما يفعلون ذلك تأسيّاً بما جرى على الإمام الحسين (عليه السلام)، وطلباً لمرضاة الله سبحانه وتعالى.

ولم تُحدّد لنا كُتب التأريخ بشكل مضبوط ودقيق الزمانَ والمكانَ اللذين بدأت فيهما هذه الظاهرة، إلاّ أنّ الذي يظهر من بعض المقالات التي نُشرت بشكل متفرّق، وممّا سمعناه من أفواه المعمّرين نقلا عن آبائهم وأجدادهم، أنّ زمانها لم يتعدَّ القرن والنصف أو القرنين.

وهناك روايتان مختلفتان بعض الاختلاف تتحدّثان عن مبدأ هذه الظاهرة، ذكرهما طالب علي الشرقي في مقال نشره في مجلّة "الموسم" تحت عنوان "من تأريخ الشعائر الحسينيّة في النجف الأشرف":

"الاُولى: أنّ الشيعة من القفقاسيين عندما يأتون إلى زيارة الأئمّة في كربلاء والنجف كانوا يستخدمون الحيوانات في سفرهم، وأسلحتهم السيوف. وتستغرق مدّة السّير من ثلاثة إلى أربعة شهور حتّى يصلوا إلى العتبات المقدّسة، وكلّهم لهفة لرؤية قبور الأئمّة ونفوسهم مفعمة بالحبّ لآل البيت.

فصادف أن دخلت إحدى قوافل الزائرين القفقاسيين إلى كربلاء يوم عاشوراء، وكانت المدينة صورة صادقة للحزن، لقد سوّدت المساجد والجوامع وواجهات المحال، وعَمَّ البكاء واللطم على أتمّه، ومقتل الحسين (عليه السلام) يُقرأ في الشوارع وفي الصحن الحسينيّ الشريف.

واتّفق أن يكون أحد القفقاسيين جاهلا بهذه الاُمور، فشرح له أحد العارفين

الصفحة 122
باللغة التركية معركة الطف، وأظهر له ـ بشكل لا يطيقه قلب محبّ ـ الصور المؤلمة التي مرّت على الحسين (عليه السلام) ومن معه.

فأثّر ذلك في نفسه وأفقده صوابه، فسَلَّ سيفه وضرب رأسه ضربة منكرة.

واستحسن أحد رؤساء مواكب العزاء ـ وكان تركياً ـ هذه العمليّة، فنظّمَ في السّنة التي تلت تلك الحادثة عزاءً مكوّناً من مجموعة صغيرة من الأفراد يلبسون الأكفان ويحملون السيوف، ذهب بهم إلى المكان المعروف اليوم بالمخيّم، وجاء بحلاّق فحلق شعر رؤوسهم، وجرح كلّ فرد منهم جرحاً بسيطاً في رأسه، وخرجوا بهذه الهيئة متّجهين إلى مرقد الإمام الحسين (عليه السلام) وهم ينادون: "يا حسين" حتّى وصلوا إلى الصحن الشريف، وبعد عويل وبكاء تفرّقوا.

الثانية: أنّ الشيعة من أتراك آذربيجان وتبريز وقفقاسيّة قدموا إلى العراق لزيارة العتبات المقدّسة، وذلك في النصف الأوّل من القرن التاسع عشر الميلادي، فدخل جماعة منهم في اليوم العاشر من محرّم الحرام إلى صحن الإمام الحسين (عليه السلام)، واجتمعوا قرب الباب المعروف اليوم بـ "الزينبيّة" ومعهم القامات، وهو سلاحهم التقليدي الذي يلازمهم خلال السفر.

ثمّ أقاموا مجلساً للتعزية في المكان المذكور، وأخذ مُقرئهم يشرح لهم واقعة الطف باللغة التركيّة بشكل أهاج مشاعرهم، فأخرجوا قاماتهم وأخذوا يضربون رؤوسهم دون أن يحلقوها وبشكل عنيف حول صخرة بارزة في المكان المذكور.

فاستحسن بعض رؤساءالمواكب هذه العمليّة، فأخرج موكباً صغيراً للتطبير، واقتفى أثره جماعة اُخرى من الأتراك الموجودين في النجف الأشرف فشكّلوا عزاءً قبلَ ما يقرب من مائة وخمسين سنة، وهكذا استمرّت هذه الظاهرة.


الصفحة 123
هذا ما نعرفه عن مبدأ هذه الظاهرة في العراق، أمّا عن مبدئها في باقي المدن الشيعيّة كيف ومتى ظهرت، ومَن أسّسها، وهل انتقلت إليها من العراق؟ فلا اطّلاع لنا عليه الآن"(1) .

الثانية:

ومن الشعائر التي يقيمها مُحِبّو أهل البيت (عليهم السلام) أيضاً هو موكب السلاسل، "وهو موكب يتألّف من جماعة من الرجال مكشوفي الظهور، بأيديهم سلاسل الحديد يضربون ظهورهم بها، عليهم الثياب السود، وأمامهم وخلفهم الأعلام السوداء، يمشون بهدوء وسكون لا يتواثبون، ينشدون أناشيد الحزن، ويخرجون صفوفاً متكاتفة مخترقين الأزقة والشوارع العموميّة"(2) .

الثالثة:

استدلّ السيّد محسن الأمين بدليل العقل على حرمة ضرب الرؤوس وجرحها بالمُدى والسيوف وضرب الظهور بسلاسل الحديد، التي هي من مصاديق إيذاء النفس وإدخال الضرر عليها.

ويمكن مناقشة هذا الاستدلال إذ نقول:

إنّ استقلال العقل بقبح إيذاء النفس وإدخال الضرر عليها ممنوع على إطلاقه، فإنّنا نشاهد كثيراً من العقلاء يتحمّلون مضارَّ كبيرة ومتاعب شاقة، ويعرّضون أنفسهم لمخاطر جسيمه; لأجل الوصول إلى غرض من الأغراض والفوز بيسير من المقاصد الدنيويّة.

فالتاجر يخوض غمار الشدائد ويلج العقبات الكأداء، ويبذل أموالا طائلة، ويسافر إلى بلدان نائية، كلّ ذلك رجاء أن تربح تجارته ويعود إلى بلده بكميّة من

____________

1 ـ الموسم 12:212 ـ 213، السنة 1991م ـ 1412هـ.

2 ـ نصرة المظلوم: 31.


الصفحة 124
الأموال. وربّما يخيب أمله وينقطع رجاءه فلا يربح شيئاً، بل يخسر رأس ماله أيضاً كما خسر وقته وصحته.

وكثيراً من الذين يمارسون الألعاب الرياضيّة يتحمّلون مصاعب جمّة ومتاعب كثيرة، وربّما يتعرّضون لجروح عميقة في أجسادهم أو كسور عظامهم، بل يحتمل أن يفقدوا عضواً من أعضائهم، كلّ ذلك من أجل الفوز بالمنافع المعنويّة والماديّة.

فالعقل لا يحكم على التاجر والرياضي ولا غيرهما بالسّفاهة، ولا يذمّهم ولا يستهجن أعمالهم.

إذاً فالعقل ليس له حكم استقلاليّ بالقبح على عنوان الإضرار بالنفس مادام هناك غرض صحيح وفائدة معتدّ بها، نعم إذا خلا أيّ عمل عن الغرض الصحيح والفائدة المتوقّعة كان مظنّةً لذمّ العقلاء له والاستهجان به; لكونه عبثاً لا فائدة فيه. وهذا يعني أنّ ذمّ العقل لأيّ عمل ليس دائراً مدار الإضرار بالنفس، بل مدار انتفاء الغرض الصحيح والفائدة المعتدّ بها.

وقد صرّح الكثير من علمائنا بهذا الأمر في مصنّفاتهم الفقهيّة والاُصوليّة، منهم الشيخ الأنصاري (ت 1281هـ) حيث قال في بعض رسائله:

"العقل لا يحكم بوجوب الاحتراز عن الضرر الدنيويّ المقطوع إذا كان لبعض الدواعي النفسانيّة، وقد جوّز الشارع بل أمر به في بعض الموارد".

وقال أيضاً بعد الحكم بوجوب دفع الضرر المشكوك عقلا:

"لكن حكم العقل بوجوب دفع الضرر المتيقّن إنّما هو بملاحظة نفس الضرر الدنيويّ من حيث هو، كما يحكم بوجوب دفع الضرر الاُخروي كذلك. إلاّ أنّه قد يتّحد مع الضرر الدنيويّ عنوان يترتّب عليه نفع اُخرويّ، فلا يستقلّ العقل بوجوب دفعه، ولذا لا

الصفحة 125
ينكر العقل أمر الشارع بتسليم النفس للحدود والقصاص وتعريضها له في الجهاد والإكراه على القتل. وحينئذ فالضرر الدنيويّ المقطوع يجوز أن يبيحه الشارع لمصلحة، فإباحته للضرر المشكوك لمصلحة الترخيص على العباد أو لغيرها من المصالح أولى بالجواز(1) ".

وعلى هذا فإنّ العقل "لو كان مستقلاّ بقبح الإضرار على النفس مطلقاً لما أمكن وجود التكاليف الضرريّة في الشرع; لأنّ الحكم العقلي غير قابل للتخصيص، والشارع لا يأمر بما يستقل العقل بقبحه، مع أنّ وجود التكليف الضرري في الشرع المقدّس غير عزيز. وناهيك للشهادة عليه بفرض الجهاد الذي يكون المطلوب فيه تعريض النفس للرماح المشرعات وبيض السيوف وسفك المهج في سبيل الدين. وكذلك فرض الزكاة والخمس والحجّ التي بناؤها على بذل الأموال الطائلة ومقاساة شدائد الأسفار; امتثالا لأمر الله سبحانه، فهل ترى هذه الأحكام كلّها مخالفة لاستقلال العقل بقبح الضرر؟!"(2) .

الرابعة:

الدليل الثاني الذي استدلّ به السيّد محسن الأمين في قوله بحرمة ضرب الرؤوس وجرحها بالمُدى والسيوف وضرب الظهور بالسلاسل، التي هي من مصاديق إيذاء النفس وإدخال الضرر عليها، هو الدليل النقلي.

وهذا الدليل يرجع إلى قاعدة العسر والحرج، ونحن نناقش هذه القاعدة بشكل مختصر.

____________

1 ـ حكاه عنه السيّد علي نقي اللكهنوي في رسالته "إقالة العاثر": 20 ـ 21.

2 ـ إقالة العاثر: 21.


الصفحة 126

قاعدة العسر والحرج


تُفسَّر قاعدة العسر والحرج بوجهين:

الأوّل:

أنّ العسر والحرج أوجبا وقوع التخفيف في أصل شرعيّة الأحكام، أي أنّ الثابت في الشرع هو عبارة عن تكاليف لا عسر ولا حرج فيها. وقد يستدلّ على هذا ـ كما فعل السيّد الأمين ـ بقول النبيّ (صلى الله عليه وآله): "بُعثتُ بالحنيفيّة السهلة السمحة"(1) .

الثاني:

أنّ العسر لو طرأ على تكليف من التكاليف التي هي في نفسها وفي أصل شرعيّتها لا عسر فيها ولا حرج، فإنّه حينئذ يوجب الحكم بتخفيف هذا التكليف. ويدلّ على هذا قوله تعالى: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج}(2) وقوله: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ}(3) وأمثال ذلك كثيرة في التكاليف الشرعيّة.

والسيّد الأمين سواء أراد أنّ بعض الشعائر الحسينيّة أساساً فيها عسر وحرج; لذلك فإنّها محرّمة. أم أراد أنّ الشعائر الحسينيّة لها حكم في الشريعة أساساً ـ غير الحرمة ـ إلاّ أنّها حُرّمت لطروء العسر والحرج عليها، فيمكن جوابه بعدّة نقاط:

الاُولى:

إنّ قاعدة العسر والحرج بمعنييها السالفين مختصّة بالإلزاميّات، وقد صرّح فقهاؤنا بذلك في الكثير من مصنّفاتهم، لذلك فإنّهم جزموا بشرعيّة العبادات

____________

1 ـ الكافي 5:494/1.

2 ـ سورة الحجّ: الآية 78.

3 ـ سورة البقرة: 185.


الصفحة 127
الشاقّة المستحبّة وصحّتها، كصوم الدهر عدا العيدين وإحياء الليالي بالعبادة في تمام العمر.

والشعائر الحسينيّة ليست من الإلزاميات، بل هي اُمور نَدب إليها الشارع وأكّد عليها، والأدلّة على استحبابها كثيرة ومعروفة.

الثانية:

أكثر فقهائنا يذهبون إلى أنّ قاعدة الحرج تشمل الحرج الشخصي لا النوعي، وهذا يعني أنّ الحكم يُرفع عمّن يكون الفعل في حقّه عسراً وحرجاً فقط.

وبعض الشعائر الحسينيّة التي فيها عسر وحرج على بعض الأشخاص فإنّها يرفع حكمها عنهم فقط، لا عن الأشخاص الذين تعوّدوا عليها ولا يلزمهم أي عسر وحرج في ممارستها، وعلى هذا فلا يمكن تعميم الحكم والقول بحرمتها أو عدم مشروعيّتها أصلا.

الثالثة:

ذهب كافّة فقهائنا ـ إلاّ مَن شذَّ منهم ـ إلى مشروعيّة العبادات الحرجيّة وصحّتها كالصوم الحرجي، والطّهارة الحرجيّة من الوضوء والغسل للغايات الواجبة.

فعلى هذا لو توضّأ من يكون الوضوء عليه عسراً بقصد رجحانه الذاتي، يرتفع حدثه ويسقط عنه وجوب التيمّم; لارتفاع موضوعه. وكذا من يكون الصوم في حقّه حرجيّاً مع عدم تضرّره، بل لو تحمّل العسر وصام بلحاظ حسنه ورجحانه ذاتاً كان صومه جائزاً.

فلماذا تكون الشعائر الحسينيّة ـ التي دلّت الكثير من الأدلّة على رجحانها لذاتها أو بعنوان كونها من الإبكاء وإظهار الحزن والجزع على سيّد الشهداء عليه السّلام ـ غير مشروعة أو غير محكومة بالاستحباب، لمجرّد دعوى كونها متعسّرة على بعض الأشخاص؟!

الرابعة:

بعد أن استدلّ السيّد الأمين بقاعدة العسر والحرج وإضرار النفس،

الصفحة 128
على حرمة ضرب الرؤوس وجرحها بالمُدى والسيوف وضرب الظهور بسلاسل الحديد، ردّ على معاصره الشيخ عبد الحسين صادق العاملي الذي أورد عدّة مصاديق على جواز تحمّل الحرج في العبادات صدرت من الأنبياء والأولياء.

والسيّد الأمين في ردّه هذا يشكّك في صحّة هذه المصاديق: كقيام النبيّ (صلى الله عليه وآله) في الصلاة حتّى تورّمت قدماه، ووضعه (صلى الله عليه وآله) حجر المجاعة على بطنه مع اقتداره على الشبع، وحجّ الأئمة (عليهم السلام) مشاة حتّى تورّمت أقدامهم مع تمكّنهم من الركوب.

ونحن نورد أوّلا عبارة الشيخ عبد الحسين صادق العاملي، وبعدها نذكر ردّ السيّد الأمين عليه، ثمّ نقوم بمناقشة كلامهما وتوضيح المُبهم فيه.

تورّم قدم النبي (صلى الله عليه وآله) من القيام في الصلاة

قال الشيخ عبد الحسين صادق العاملي:

"لو كان الشاقّ وإن دخل تحت القدرة والطوق غير مشروع، ما فعلته الأنبياء والأولياء، ألم يقم النبي (صلى الله عليه وآله) للصلاة حتّى تورّمت قدماه؟!"(1) .

وقال السيّد محسن الأمين في جوابه:

"أمّا استشهاده بقيام النبيّ (صلى الله عليه وآله) للصلاة حتّى تورّمت قدماه، فإن صحّ فلا بُدَّ أن يكون من باب الاتّفاق، أي ترتّب الورم على القيام اتّفاقاً، ولم يكن النبيّ (صلى الله عليه وآله) يعلم بترتّبه، وإلاّ لم يجز القيام المعلوم أو المظنون أنّه يؤدّي إلى ذلك; لأنّه ضرر يرفع

____________

1 ـ رسالة التنزيه:65.


الصفحة 129
التكليف ويوجب حرمة الفعل المؤدّي إليه"(1) .

أقول: أوّلا: العجب من السيّد الأمين كيف شكّك في هذا الأمر الذي رواه الثقات من أصحابنا، وذكره الكثير من فقهائنا في موسوعاتهم الفقهيّة:

فقد رواه المحدّث علي بن إبراهيم القمّي (من أعلام القرنين الثالث والرابع) في "تفسيره" بسنده عن أبي بصير عن الإمام الصادق (عليه السلام) حيث قال:

"كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا صلّى قام على أصابع رجليه حتّى تورّمت، فأنزل الله تبارك وتعالى: {طَه} بلغة طيّ يا محمد {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى}(2) "(3) .

ورواه أيضاً أمين الإسلام الشيخ أحمد بن علي الطبرسي (ت القرن السادس) في كتابه "الاحتجاج" بسنده عن الإمام الكاظم (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) عن الإمام علي (عليه السلام) في احتجاجه على أحبار اليهود حيث قال:

"قال اليهودي: فإنّ هذا داود (عليه السلام) بكى على خطيئته حتّى سارت الجبال معه لخوفه.

فقال له علي (عليه السلام): "لقد كان كذلك، ومحمّد (صلى الله عليه وآله) اُعْطيَ ما هو أفضل من هذا، إنّه كان إذا قام إلى الصلاة يُسمع لصدره وجوفه أزير(4) كأزير المِرْجَل(5) على الأثافي(6)

____________

1 ـ رسالة التنزيه:66.

2 ـ سورة طه: 1 ـ 3.

3 ـ تفسير القمّي 2:58.

4 ـ الأزير: الصوت.

5 ـ المِرْجَلُ: قِدْرٌ من نحاس. الصحاح 5:1705 "رجل".

6 ـ التي يوضع عليها القدر.


الصفحة 130
من شدّة البكاء. وقد آمنه الله عزّ وجلّ من عقابه، فأراد أن يتخشّع لربه ببكائه ويكون إماماً لمن اقتدى به.

ولقد قام رسول الله (صلى الله عليه وآله) عشر سنين على أطراف أصابعه حتّى تورّمت قدماه واصفر وجهه، يقوم الليل أجمع، حتّى عُوتب في ذلك فقال الله عزّ وجلّ: {طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى}(1) بل لتسعد به.

ولقد كان يبكي حتّى يغشى عليه. فقيل له: يا رسول الله أليس الله عزّ وجلّ قد غفر لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟ فقال: "بلى، أفلا أكون عبداً شكورا"(2) .

وأخرجه أيضاً بهذا اللفظ الشيخ قطب الدين الراوندي (ت 573هـ) في "الخرائج والجرائح"(3) .

وروى السيّد الجليل علي بن موسى بن طاووس (ت 664هـ) في "فتح الأبواب" بسنده عن الزهري عن الإمام السجاد (عليه السلام) حيث قال:

"كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقف في الصلاة حتّى يَرِم(4) قدماه، ويظمأ في الصيام حتّى يَعْصِبَ فوه(5) ، فقيل له: يا رسول الله ألم يغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟

____________

1 ـ سورة طه: الآية 1 ـ 2.

2 ـ الإحتجاج 1: 519 ـ 520.

3 ـ الخرائج والجرائح 2:917.

4 ـ قال ابن الأثير في النهاية 5:177 "ورم": فيه: "أنّه قام حتّى وَرِمَتْ قدماه" أي انتفخت من طول قيامه في صلاة الليل. يقال: وَرِمَ يَرِمُ، والقياس: يَوْرَمُ، وهو أحد ما جاء على هذا البناء.

5 ـ عصب الريق بفيه: إذا يبس عليه، والمراد هنا شدّة الظمأ والعطش. انظر الصحاح 1:83 "عصب".


الصفحة 131
فيقول (صلى الله عليه وآله): "أفلا أكون عبداً شكورا"(1) .

وقال المحدّث البحراني (ت 1186هـ) في تفسيره:

"إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) كان يقوم في الصلاة على أطراف أصابعه حتّى تورّمت قدماه; إجهاداً لنفسه في العبادة، حتّى عاتبه الله تعالى على ذلك رأفةً فقال: {طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى}(2) "(3) .

ثانياً: والأعجب من ذلك أنّ السيّد الأمين(رحمه الله) لم يكتف بتشكيكه بتورّم قدمي النبيّ (صلى الله عليه وآله) من قيامه للصلاة، بل يدّعي اتفاقيّة ترتّب الورم على قيامه، أي أنّه لم يكن يقصد إيذاء نفسه في سبيل الله تعالى وتحمّل هذا القيام الشاقّ في الصلاة، ولم يكن يعلم بما سيؤول إليه الاستمرار في القيام بهذا الشكل.

وهذا غير صحيح قطعاً، فإنّ هناك أدلّة كثيرة تدلّ على أنّه (صلى الله عليه وآله) كان يتعمّد فعل ذلك، بل ويداوم عليه، ويختار أشقّ أفراد العبادة، فالروايات السابقة التي ذكرناها دالّة على ذلك بوضوح.

وروى ثقة الإسلام الشيخ الكليني (ت 328هـ) بسنده عن أبي بصير عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال: "كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقوم على أطراف أصابع رجليه، فأنزل الله سبحانه: {طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى}(4) "(5) .

وقال الشيخ الطوسي (ت 460هـ) في "التبيان":

____________

1 ـ فتح الأبواب: 170 ـ 171.

2 ـ سورة طه: الآية 1 ـ 2.

3 ـ البرهان في تفسير 2:670.

4 ـ سورة طه: الآية 1 ـ 2.

5 ـ الكافي 2:77/6.


الصفحة 132
"قال مجاهد: إنّها ـ آية {طه} ـ نزلت بسبب ما كان يلقى من التعب والسهر في قيام الليل"(1) .

وقال أمين الإسلام الطبرسي (ت القرن السادس) في "مجمع البيان": "وقد روي أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) كان يرفع رجله في الصلاة ليزيد تعبه، فأنزل الله: {طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى}(2) "(3) .

وحكى عن قتادة أنّه قال: "وكان يصلّي الليل ويعلّق صدره بحبل حتّى لا يغلبه النوم، فأمره الله سبحانه بأن يخفّف عن نفسه، وذكر أنّه ما أنزل عليه الوحي ليتعب كلّ هذا التعب"(4) .

وذكر ابن شهرآشوب (ت 588هـ) جواب الإمام السّجاد (عليه السلام) لجابر بن عبد الله الأنصاري، حيث أنكر عليه ما يفعله بنفسه من كثرة العبادة إذ قال (عليه السلام):

"يا صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله) أما علمتَ أنّ جدّي رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، فلم يدع الاجتهاد وتعبّد ـ هو بأبي وأمّي ـ حتّى انتفخ الساق وورم القدم، وقيل له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكورا"(5) .

وتعرّض كثير من فقهائنا لهذا الأمر في كتبهم الفقهيّة: كالمحدّث الشيخ يوسف

____________

1 ـ التبيان 7:158.

2 ـ سورة طه: الآية 1 ـ 2.

3 ـ مجمع البيان 7:6.

4 ـ مجمع البيان 7:7.

5 ـ مناقب آل أبي طالب 4: 161 ـ 162.


الصفحة 133
البحراني (ت 1186هـ) في "الحدائق الناضرة" في باب أعداد الصلاة اليوميّة ونوافلها(1) ، والشيخ محمّد حسن النجفي (ت 1266هـ) في "جواهر الكلام" في بحث القيام للصلاة حيث قال: "إنّه لم يكن يرى وجوبه بل كان يختاره من بين الأفراد لأنّه أحمز وأشقّ"(2) .

ثالثاً: إذا خفيت عبادة النبي (صلى الله عليه وآله) وتورّم قدميه من القيام للصلاة وإيذاء نفسه وتحميلها العبادة الشاقّة في سبيل الله، فلا تخفى على أحد طالعَ كتب التأريخ والسّير عبادة الإمام علي (عليه السلام) والصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) والأئمّة من ولدها (عليهم السلام)، خصوصاً الإمام السّجاد (عليه السلام) حيث ملئت كتب المناقب والسّير بذلك.

فقد ذكر الشيخ المفيد (ت 413هـ) دخول الإمام الباقر (عليه السلام) على أبيه السجاد (عليه السلام) ووصف حاله في العبادة حيث قال:

"فإذا به قد بلغ من العبادة مالم يبلغه أحد، فرآه قد اصفَّر لونه من السّهر، ورَمِصَتْ(3) عيناه من البكاء، ودَبِرت جبهتُه(4) ، وانخرم أنفُه(5) من السجود، ووَرِمت ساقاه وقدماه من القيام في الصلاة.

فقال أبو جعفر (عليه السلام): فلم أتمالك حينَ رأيته بتلك الحال البكاءَ، فبكيت رحمةً له، وإذا هو يفكّر، فالتفت إليّ بعد هُنيئة من دخولي فقال: يا بُنيّ أعطني من بعض تلك الصحف التي فيها عبادة علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فأعطيتُهُ، فقرأ فيها شيئاً يسيراً ثمّ تركها من يده

____________

1 ـ الحدائق الناضرة 6:28.

2 ـ جواهر الكلام 9:252.

3 ـ رَمِصَتْ العين: إذا جمد الوسخُ في مُوقِها. المصباح المنير 1:238 "رمص".

4 ـ أي أصبح فيها ما يشبه الثَفِنَة. انظر الصحاح 2:653 "دبر".

5 ـ أي ثُقب. المصباح المنير 1:167 "خرم".