ورواه أيضاً الفضل بن الحسن الطبرسي (ت 548هـ) في "إعلام الورى"(2) ومحمّد بن علي بن شهرآشوب المازندراني (ت 588هـ) في "مناقب آل أبي طالب"(3) .
وحكى ابن شهرآشوب أيضاً عن الحسن البصري أنّه قال: "ما كان في هذه الأمّة أعبد من فاطمة (عليها السلام)، كانت تقوم الليل حتّى تورّم قدماها"(4) .
وحكى أيضاً عن عدّة مصادر من العامّة قولهم: "لقد طحنت فاطمة بنت رسول الله حتّى مجلت يداها(5) "(6) .
وحكى عن "تفسير الثعلبي" عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، وعن "تفسير القشيري" عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنّه رأى فاطمة وعليها كساء من أجلة الإبل وهي تطحن بيدها وترضع ولدها، فدمعت عينا رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال: "يا بنتاه تعجّلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة"(7) .
____________
1 ـ الإرشاد 2:142.
2 ـ إعلام الورى: 254.
3 ـ مناقب آل أبي طالب 4:162.
4 ـ مناقب آل أبي طالب 3:389.
5 ـ أي ثخن جلدُها وظهر فيها ما يشبه البثر من العمل بالأشياء الصلبة الخشنة. مجمع البحرين 5:472 "مجل".
6 ـ مناقب آل أبي طالب 3:392.
7 ـ مناقب آل أبي طالب 3:391.
"رأيت علي بن الحسين (عليه السلام) في فناء الكعبة في الليل وهو يصلّي، فأطال القيام حتّى جعل يتوكأ مرّة على رجله اليمنى، ومرة على رجله اليسرى"(1) .
وقال الشيخ الصدوق محمّد بن علي بن إبراهيم القمّي (ت 381هـ) في "الخصال" في باب "ذكر ثلاث وعشرين خصلة من الخصال المحمودة التي وصف بها علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ":
"كان علي بن الحسين (عليه السلام) يصلّي في اليوم والليلة ألف ركعة، كما كان يفعل أمير المؤمنين (عليه السلام)، كانت له خمسمائة نخلة فكان يصلّي عند كلّ نخلة ركعتين ـ إلى أن قال ـ ولمّا وضع على المغتسل نظروا إلى ظهره وعليه مثل رُكب الإبل ممّا كان يحمل على ظهره إلى منازل الفقراء والمساكين ـ إلى أن قال ـ ولقد كان يسقط منه كلّ سنة سبع ثفنات من مواضع سجوده; لكثرة صلاته، وكان يجمعها فلمّا مات دفنت معه"(2) .
وروى الشيخ الطوسي بسنده عن عمرو بن عبد الله الجملي عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال:
"إنّ فاطمة بنت علي بن أبي طالب (عليه السلام) لمّا نظرت إلى ما يفعل ابن أخيها علي بن الحسين بنفسه من الدأب في العبادة، أتت جابر بن عبد الله الأنصاري فقالت له: يا صاحب رسول الله، إنّ لنا عليكم حقوقاً، ومن حقّنا عليكم أن إذا رأيتم أحدنا يهلك نفسه اجتهاداً أن تذكّروه الله وتدعوه إلى البُقيا على نفسه، وهذا علي بن الحسين بقيّة أبيه
____________
1 ـ الكافي 2: 422/1، وسائل الشيعة 5:490/1.
2 ـ الخصال: 517 ـ 518.
ثمّ ذكر كيفيّة دخول جابر بن عبد الله الأنصاري على الإمام السجاد (عليه السلام) وقوله له: يا بن رسول الله، أما علمتَ أنّ الله تعالى إنّما خلق الجنّة لكم ولمن أحبّكم، وخلق النار لمن أبغضكم وعاداكم، فما هذا الجهد الذي كلّفته نفسك؟
قال له علي بن الحسينعليهما السلام: يا صاحب رسول الله، أما علمتَ أنّ جدّي رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر فلم يدع الاجتهاد له، وتعبّد ـ بأبي هو واُمّي ـ حتّى انتفخ الساق وورم القدم، وقيل له: أتفعل هذا وقد غفر لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟! قال: أفلا أكون عبداً شكورا"(1) .
وفي "القاموس المحيط": "وذو الثفنات: علي بن الحسين بن علي (عليهم السلام) "(2) .
حجّ الأئمّة مشاة حتّى تورّمت أقدامهم
قال الشيخ عبد الحسين صادق العاملي: "ألم تحجّ الأئمة مشاة حتّى تورّمت أقدامهم مع تمكّنهم من الركوب"(3) .
وقال السيّد محسن الأمين في جوابه: "وكذا استشهاده بحجّ الأئمة مشاة هو من هذا القبيل"(4) .
وهذا معطوف على الكلام الذي ذكرناه سابقاً في قيام النبيّ (صلى الله عليه وآله) في الصلاة
____________
1 ـ أمالي الطوسي: 636 ـ 637.
2 ـ القاموس المحيط 4:209 "ثَفَنَ".
3 ـ رسالة التنزيه:65.
4 ـ رسالة التنزيه:67.
أقول: وهذا أيضاً عجيب من السيّد الأمين، كيف يُشكّك في حجّ الأئمة مشاة حتّى تورّمت أقدامهم، فإنّ الأدلّة على ذلك كثيرة، وهي دالّة على أنّهم كانوا يفعلون ذلك باختيارهم مع علمهم بما سيؤول إليه هذا المشي من التعب وتورّم القدم، وكانوا يحتسبون ذلك قربة إلى الله تعالى.
روى الشيخ الكليني (ت 328هـ) بسنده عن أبي اُسامة عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنّه قال: "خرج الحسن بن عليعليهما السلام إلى مكّة سنة ماشياً فورمت قدماه، فقال له بعض مواليه: لو ركبت لسكن عنك هذا الورم. فقال: كلاّ، إذا أتينا هذا المنزل فإنّه يستقبلك أسود ومعه دهن فاشترِ منه ولا تماكسه"(1) .
وروى الشيخ الطوسي (ت 460هـ) بسنده عن الحلبي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: "إنّ الحسن بن علي قاسمَ ربّه ثلاث مرّات حتّى نعلا ونعلا، وثوباً وثوباً وديناراً وديناراً، وحجّ عشرين حجّة ماشياً على قدميه"(2) .
وذكره ابن شهرآشوب المازندراني (ت 588هـ) في "المناقب" عن بعض مصادر العامّة(3) .
وروى أيضاً عن ابن عباس أنّه قال: "لقد حجّ الحسن بن عليعليهما السلام خمساً وعشرين حجّة ماشياً وإنّ النجائب لتقاد معه"(4) .
____________
1 ـ الكافي 1:385/6، وسائل الشيعة 11:80/8.
2 ـ التهذيب 5:11/29، الاستبصار 2:141/461، وسائل الشيعة 11:78/3.
3 ـ مناقب آل أبي طالب 4:17 ـ 18.
4 ـ مناقب آل أبي طالب 4:18.
وذكر الشيخ المفيد بسنده عن إبراهيم بن علي عن أبيه أنّه قال: "حجّ علي بن الحسينعليهما السلام ماشياً، فسار عشرين يوماً من المدينة إلى مكّة"(2) .
وحكاه عنه ابن شهرآشوب المازندراني في "المناقب"(3) .
بكاء الإمام السّجاد (عليه السلام) على أبيه الإمام الحسين (عليه السلام)
قال الشيخ عبد الحسين صادق العاملي: "ألم يتّخذ علي بن الحسينعليهما السلامالبكاء على أبيه دأباً، والامتناع من تناول الطعام والشراب حتّى يمزجهما بدموعه، ويغمى عليه في كلّ يوم مرّة أو مرّتين.
أيجوز للنبي وآله صلّى الله عليه وآله إدخال المشقّة على أنفسهم طمعاً بمزيد الثواب، ولايجوز لغيرهم؟! أيباح لزين العابدين أن ينزل بنفسه ما ينزله من الآلام تأثّراً وانفعالا من مصيبة أبيه، ولا يباح لوليّه أن يؤلم نفسه لمصيبة إمامة؟!"(4) .
وقال السيد محسن الأمين في جوابه: "أمّا بكاء علي بن الحسينعليهما السلام على أبيه المودّي إلى الاغماء وامتناعه عن الطعام والشراب، فإن صحّ فهو أجنبيّ عن المقام، فإنّ
____________
1 ـ المحاسن: 70/139، وسائل الشيعة 11:80/9.
2 ـ الإرشاد 2:144.
3 ـ مناقب آل أبي طالب 4:168.
4 ـ رسالة التنزيه:65.
أقول: أوّلا: بكاء الإمام السّجاد (عليه السلام) على أبيه الإمام الحسين (عليه السلام) من الاُمور المعروفة والمشهورة عند الجميع، ولا يخلو كتاب أو رسالة تعرّضت لواقعة الطفّ أو لترجمة حياة الإمام زين العابدين (عليه السلام) إلاّ ذكرت ذلك بشكل مفصّل، بل إنّ بعض الكتب أفردت له باباً خاصاً، حتّى إنّه عُدَّ من البكائين الخمسة.
فقد روى الشيخ الصدوق (ت 381هـ) في "الخصال" في باب "البكاؤون خمسة" بسنده عن محمّد بن سهل البحراني، يرفعه إلى الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: "البكاؤون خمسة: آدم، ويعقوب، ويوسف، وفاطمة بنت محمّد، وعلي بن الحسين.
فأمّا آدم فبكى على الجنّة حتّى صار في خدّه أمثال الأودية.
وأمّا يعقوب فبكى على يوسف حتّى ذهب بصره، وحتّى قيل له: تالله تفتؤ تذكر يوسف حتّى تكون حرضاً أو تكون من الهالكين.
وأمّا يوسف فبكى على يعقوب حتّى تأذّى به أهل السجن فقالوا له: إمّا أن تبكي الليل وتسكت بالنهار، وإمّا أن تبكي بالنهار وتسكت بالليل، فصالحهم على واحد منهما.
وأمّا فاطمة فبكت على رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتّى تأذّى بها أهل المدينة فقالوا لها: قد آذيتينا بكثرة بكائك. فكانت تخرج إلى المقابر ـ مقابر قريش ـ فتبكي حتّى تقضي حاجتها ثمّ تنصرف.
وأمّا علي بن الحسين فبكى على الحسين (عليه السلام) عشرين سنة أو أربعين سنة، ماوضع بين يديه طعام إلاّ بكى حتّى قال له مولى له: جعلتُ فداك يابن رسول الله إنّي أخاف عليك أن تكون من الهالكين. قال: {إنّما أَشكُو بَثّي وحُزني إلى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ الله
____________
1 ـ رسالة التنزيه:67.
وروى أيضاً في باب "ذكر ثلاث وعشرين خصلة من الخصال المحمودة التي وُصف بها علي بن الحسينعليهما السلام" عن حمران بن أعين عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال:
"كان علي بن الحسين عليهما السّلام... وما وضع بين يديه طعام إلاّ بكى، حتّى قال له مولى له: يابن رسول الله أما آن لحزنك أن ينقضي؟! فقال له: ويحك إنّ يعقوب النبيّ (عليه السلام) كان له اثنا عشر ابناً، فغيّب الله عنه واحداً منهم فابيضّت عيناه من كثرة بكائه عليه، وشاب رأسه من الحزن، واحْدَوْدَبَ ظهرُهُ من الغمِّ، وكان ابنه حيّاً في الدنيا. وأنا نظرت إلى أبي وأخي وعمّي وسبعة عشر من أهل بيتي مقتولين حولي، فكيف ينقضي حزني"(3) .
وفي "المناقب" لابن شهرآشوب (ت 588هـ): "كان (عليه السلام) إذا أخذ إناء يشرب ماء بكى حتّى يملأها دمعاً، فقيل له في ذلك فقال: وكيف لا أبكي وقد منع أبي من الماء الذي كان مطلقاً للسباع والوحوش"(4) .
وذكر أبو نعيم الأصفهاني (ت 430هـ) في "حلية الأولياء"(5) كلّ الكلام الذي حكيناه عن الشيخ الصدوق وابن شهرآشوب.
ثانياً: وصفَ السيّد محسن الأمين بكاء الإمام السجاد (عليه السلام) على أبيه وامتناعه
____________
1 ـ سورة يوسف: الآية 86.
2 ـ الخصال: 272 ـ 273.
3 ـ الخصال: 518 ـ 519.
4 ـ مناقب آل أبي طالب 4:180.
5 ـ حلية الأولياء 3:133 ـ 145.
ومعنى الاُمور القهريّة: هي الصادرة عن الشخص لا عن اختيار وإرادة.
وهذا مخالف لعقائد الإماميّة، فإنّهم يعتقدون أنّه لايجوز أن يصدر من المعصوم فعل أو قول من دون اختيار منه وإرادة حتّى إذا كان مباحاً فضلا عن المحرّم، وصدور المحرّم ولو بلا اختيار ينافي العصمة.
وهل ننسى الأقوال والردود التي وردت على عمر بن الخطّاب حينما قال قولته المعروفة التي جلبت الويلات على الاُمّة الإسلاميّة، وذلك عند مرض النبيّ (صلى الله عليه وآله) حيث قال: "إنّ النبيّ ليهجر" فقد رُمي بسهام اللوم والتقريع إلى يومنا هذا; لأنّه نسب إلى النبي (صلى الله عليه وآله) صدور لفظ منه لا باختياره.
ثالثاً: السيد الأمين بعد أن وصف بكاء الإمام السّجاد (عليه السلام) وما كان يصاحبه من الآلام بأنّه من الاُمور القهريّة، تدارك الأمر وقال: "وما كان منه اختياريّاً فحاله حال ما مرّ" أي أنّ الأفعال الضرريّة التي صدرت من الإمام (عليه السلام) حال اختياره، لم يكن يعلم بضررها مسبقاً، لذلك لم تكن محرّمة عليه، وأنّه لم يتضرّر بها أصلا، فيرتفع الإشكال من أساسه.
وهذا أيضاً غير صحيح; لأنّه (عليه السلام) كان عارفاً بما سيؤول إليه حاله من كثرة البكاء واستمراره عليه يوميّاً، وامتناعه عن الأكل والشرب مدّة طويلة.
والروايات التي ذكرناها قبل قليل عن الشيخ الصدوق وغيره دالّة على تأثير بكاء الإمام السجاد (عليه السلام) وامتناعه عن الأكل والشرب على صحّته، حتّى أدّت إلى ضعف بدنه وشحوب لونه.
امتناع العباس (عليه السلام) عن شرب الماء يوم عاشوراء
قال الشيخ عبد الحسين صادق العاملي: "أينفض العباس الماء من يده وهو على ما هو عليه من شدّة الظمأ تأسّياً بعطش أخيه، ولا نقتص أثره؟!"(1) .
وقال السيّد محسن الأمين في جوابه: "أمّا نفض العباس الماء من يده تأسّياً بعطش أخيه، فلو صحّ لم يكن حجّة; لعدم العصمة"(2) .
أقول: مسألة نفض العباس (عليه السلام) الماء من يده ـ التي شكّك في وقوعها السيّد الأمين بقوله: فلو صحّ ـ حكاها العلاّمة المجلسي (ت 1110هـ) في "البحار"(3) عن بعض تأليفات أصحابنا، وأرسلها الشيخ فخر الدين الطريحي (ت 1085هـ) في موضعين من "المنتخب"(4) غير متردّد فيها، وذكرها الشيخ عبد الله البحراني(ت القرن الثاني عشرهـ) في "العوالم"(5) ، وحكاها عنه الشيخ محمّد باقر البهبهاني (ت 1285هـ) في "الدمعة الساكبة"(6) .
والعجب من السيّد الأمين أنّه يشكّك في هذه المسألة في رسالته "التنزيه"،
____________
1 ـ رسالة التنزيه:65.
2 ـ رسالة التنزيه:67.
3 ـ بحار الأنوار 45:41.
4 ـ المنتخب: 120 و314.
5 ـ عوالم العلوم 17:284 ـ 285.
6 ـ المجالس السنّية 1:115.
أَبَى بأن لا يَذُوقَ الماءَ وهو يَرَى | أخاه ظَمآنَ من وِرْد له يَئِسا |
ونحن نذكر هنا ما قاله الشيخ عبد الله البحراني حول هذه المسألة، ثمّ نذكر ما قاله عنها السيّد الأمين.
قال الشيخ البحراني في "عوالم العلوم":
"في بعض تأليفات أصحابنا: إنّ العباس لما رأى وحدته (عليه السلام) أتى أخاه وقال: يا أخي هل من رخصة؟ فبكى الحسين (عليه السلام) بكاءً شديداً ثمّ قال: يا أخي أنت صاحب لوائي وإذا مضيت تفرّق عسكري.
فقال العباس: قد ضاق صدري وسئمت الحياة وأُريد أن أطلب ثأري من هؤلاء المنافقين.
فقال الحسين (عليه السلام): فاطلب لهؤلاء الأطفال قليلا من الماء، فذهب العباس ووعظهم وحذّرهم فلم ينفعهم، فرجع إلى أخيه فأخبره، فسمع الأطفال ينادون العطش، العطش فركب فرسه وأخذ رمحه والقربه وقصد نحو الفرات، فأحاط به أربعة آلاف ممّن كانوا موكلين بالفرات ورموه بالنبال، فكشفهم وقتل منهم على ما روي ثمانين رجلا حتّى دخل الماء، فلما أراد أن يشرب غرفة من الماء ذكر عطش الحسين (عليه السلام) وأهل بيته، فرمى الماء وملأ القربة وحملها على كتفه الأيمن وتوجّه نحو الخيمة، فقطعوا عليه الطريق وأحاطو به
____________
1 ـ الدر النضيد: 130.
وقال السيّد محسن الأمين في "المجالس السنّية":
"لمّا رأى العباس (عليه السلام) وحدة أخيه الحسين (عليه السلام) بعد قتل أصحابه وجملة من أهل بيته، قال لإخوته الثلاثة من أُمّه وأبيه عبد الله وجعفر وعثمان: تقدّموا لاحتسبكم عند الله، فتقدموا حتّى قتلوا. فجاء إلى أخيه الحسين (عليه السلام) واستأذن في القتال، فقال له: أنت حامل لوائي، فقال له: ضاق صدري وسئمت الحياة، فقال له الحسين (عليه السلام): إن عزمت فاستقِ لنا ماء، فأخذ قربته وحمل على القوم حتّى ملأ القربة واغترف من الماء غرفة ثمّ ذكر عطش أخيه الحسين (عليه السلام) فرمى بها وقال:
يا نفس من بعد الحسين هوني | وبعده لا كنت أن تكوني |
هذا حسين وارد المنون | وتشربين بارد المعين(2) |
ثالثاً: النقطة الثانية التي أثارها السيّد الأمين حول هذه المسألة هي: أنّ العباس (عليه السلام) لو صحّ وثبت أنّه نفض الماء من يده، فلم يكن فعله هذا حجّة; لعدم عصمته (عليه السلام)، وغير المعصوم يصدر منه الذنب ويُعاقب عليه. وهذا يعني أنّه فعل حراماً يستحقّ العقاب عليه; لأنّه آذى نفسه بترك شرب الماء وإدخال الضرر عليها.
وهذا غير صحيح قطعاً; فإنّ الإماميّة يقولون: إنّ العباس (عليه السلام) "ليس بواجب العصمة، لا أنّه غير معصوم، إذ أنّ العصمة مرتبة من الكمال الروحي تحصل من الله فيضاً بأسبابها الاختياريّة، تمنع من ارتكاب المعصية مع القدرة عليها، وإلاّ لم يكن
____________
1 ـ عوالم العلوم 17:284 ـ 285.
2 ـ المجالس السنّية 1:115.
وأبو الفضل المتربّي بحجر أبيه أبي الأئمّة المعصومين والمستنّ بسيرة أخويه الحسن والحسينعليهما السلام في نحو أربع وثلاثين سنة، أولى بنيل مراتب العصمة ـ بهذا المعنى ـ من سلمان الفارسي وأضرابه"(1) .
وهذا ليس مختصّاً بالإماميّة فقط، فإنّ غيرهم من الفرق والمذاهب الإسلاميّة يُثبتون العصمة بهذا المعنى للكثير من الأقطاب والأبدال والمشايخ والأولياء.
وممّا يدلّ على هذه المكانة الساميّة التي وصل إليها العباس (عليه السلام) قول الإمام الصادق (عليه السلام) في زيارته له: "لعنَ الله أمّةً استحلّت منك المحارم وانتهكت في قتلك حرمة الإسلام"(2) . إذ أنّ حرمة الإسلام لا تنتهك بقتل أيّ مسلم مهما كان عظيماً.
وقول الإمام السّجاد (عليه السلام) ـ كما رواه الشيخ الصدوق في "الخصال"(3) و"الأمالي"(4) ـ: "إنّ للعباس عند الله تبارك وتعالى لمنزلة يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة". وهذا عامّ يشمل حتّى علي بن الحسين الأكبر الشهيد يوم الطفّ.
وقول الإمام الصادق (عليه السلام) أيضاً في زيارته له: "مضيتَ على بصيرة من أمرك مقتديّاً بالصالحين ومتّبعاً للنبيين"(5) فإنّ العباس (عليه السلام) لو كان قد ارتكب المحرّم يوم
____________
1 ـ انظر النقد النزيه: 94.
2 ـ كامل الزيارات:34.
3 ـ الخصال: 68/101.
4 ـ أمالي الصدوق: 374.
5 ـ كامل الزيارات:34.
وأخيراً نقول: "إنّ العباس (عليه السلام) أراد شرب الماء وهمّ به، لا أنّه ترك شربه أساساً; لأنّ الواجب عليه ـ وقد ملك الماء ـ إيصاله إلى إمامه وإمام المسلمين أخيه الحسين (عليه السلام) ليحفظ حشاشته الشريفة، فإنّ حفظها أهم من حفظ كلّ نفس. ولولا أنّ العباس (عليه السلام) علِمَ أنه لا يسوغ له التواني بمقدار زمان شربه غرفة من الماء بيده لشرب الغرفة وزاد عليها، ولكنّه من صلابة إيمانه ونفوذ بصيرته في دينه كابدَ الظمأ المجهد ولم يتأخّر لحظة واحدة عن إيصال الماء إلى الحسين (عليه السلام) مقدّمةً للواجب الأهم"(1) .
تقريح الإمام الرضا (عليه السلام) جفونه
قال الشيخ عبد الحسين صادق العاملي: "أيقرح الرضا (عليه السلام) جفون عينيه من البكاء ـ والعين أعظم جارحة نفيسة ـ ولا نتأسّى به فنقرح على الأقلّ صدورنا ونجرح بعض رؤوسنا؟!"(2) .
وقال السيّد الأمين في جوابه:
"وأمّا استشهاده بتقريح الرضا (عليه السلام) جفون عينيه من البكاء، فإن صحّ فلابد أن يكون حصل ذلك قهراً واضطراراً لا قصداً واختياراً، وإلاّ لحرم. ومَن يعلم أو يظنّ أنّ البكاء
____________
1 ـ انظر النقد النزيه:100.
2 ـ رسالة التنزيه:65.
أقول: أوّلا: إشكال السيّد الأمين بتقريح الإمام الرضا (عليه السلام) جفونه من البكاء وارد على الشيخ عبد الحسين صادق العاملي وفي محلّه; إذ لم نعثر على رواية تؤكّد ذلك.
ولعلّ الأمر قد التبس على الشيخ عبد الحسين من الرواية التي رواها الشيخ الصدوق في "أماليه" عن إبراهيم بن أبي محمود عن الإمام الرضا (عليه السلام) حيث قال في جملة حديث طويل: "إنّ يوم الحسين (عليه السلام) أقرح جفوننا، وأسبل دموعنا، وأذلّ عزيزنا" إذ أنّ هذه الرواية لا تدلّ على أنّ الإمام الرضا (عليه السلام) قد قرّح البكاء عينيه، بل هو وسائر الأئمّة (عليهم السلام) تقرّحت جفونهم.
ثانياً: قول السيّد الأمين: إن ذلك "حصل قهراً واضطراراً لا قصداً أو اختياراً، وإلاّ لحرم" قد تقدّم الكلام فيه مفصّلا في جواب الإشكال السابق "امتناع العباس (عليه السلام) عن شرب الماء يوم عاشوراء".
ثالثاً: عدم عثورنا على رواية في هذا الموضوع لا تعني بالضرورة أنّه لم يحصل للإمام الرضا (عليه السلام) تقريح الجفون من شدّة البكاء، فقد حصل ذلك لأهل البيت (عليهم السلام)، كما أشرنا إليه في البحث عن بكاء الإمام السّجاد (عليه السلام).
الخامسة:
من الأدلّة التي ذكرها السيّد الأمين على حرمة ضرب الرؤوس بالسيوف هو أنّ هذا العمل يؤدّي إلى الموت حيث قال: "وكثيراً ما يؤدّي ذلك إلى
____________
1 ـ رسالة التنزيه:67.
وقد سبقه إلى هذا الإدّعاء السيّد مهدي بن صالح الموسوي الكاظمي البصري (ت 1358هـ) وهو أوّل من استشكل على الشعائر الحسينيّة بعد أن سكن البصرة سنة 1343هـ، حيث كتب عدّة مقالات في بعض الجرائد العراقيّة آنذاك، وأفرد رسالة في ذلك سمّاها "صولة الحقّ على جولة الباطل" قال فيها:
"أمّا الضرب بالسيوف والقامات على الرؤوس فمحرّم; لما شاهدناه وشاهده غيرنا من موت جماعة منهم كلّ سنة; لكثرة نزف الدم"(2) .
أقول: لقد شاهدتُ كثيراً من المؤمنين في العراق يقومون بهذا العمل سنويّاً في العاشر من محرّم، وشاهدته أيضاً في ايران في بعض السنين، فلم أرَ أحداً قد مات من جرّاء هذا العمل، ولم أسمع بذلك أيضاً لا في العراق ولا في ايران، ولو كان قد حصّل ذلك لشاع واشتهر، ولحكاه لنا المعمّرون وذكروا لنا أسماء الذين ماتوا نتيجةً لضرب رؤوسهم بالسيوف; إذ أنّ المجتمع الشيعي في العراق وايران يُجلّل ويحترم الذين يموتون في إحياء شعائر الإمام الحسين (عليه السلام).
فكيف يدّعي السيّد مهدي البصري موت جماعة في كلّ سنة بسبب ضرب رؤوسهم بالسيوف يوم عاشوراء؟! فياحبذا لو ذكر لنا أسماء بعضهم.
قال الشيخ ابراهيم المظفر (ت بعد 1345هـ) في رسالة "نصرة المظلوم" التي ألّفها للردّ على اشكالات السيّد مهدي الموسوي البصري:
____________
1 ـ رسالة التنزيه:42.
2 ـ حكاه عنه الشيخ إبراهيم المظفر في رسالته "نصرة المظلوم":32.
فعسى أن يكون ذلك طيفاً سوّلته له الأحلام، أو خيالا جسّمته له الأوهام، أو حقيقة واقعة في الجيل الواحد مرّة واحدة اتّفاقاً.
كيف لا، وأغلب أفراد موكب السيوف يجرحهم كبراؤهم بسكّين دقيقة جروحاً خفيفة، يظهر منها الدم بواسطة الضرب على الرأس لا بالجرح بمجرّده، من دون أن يحصل لهم إيلام مزعج; لانّ غرضهم صوري، وهو البروز بصورة القتيل والجريح، وليس من أغراضهم الإيلام الحقيقي لأنفسهم.
ومع الغض عن هذه الحقيقة الواقعيّة لو تنزّلنا وقلنا: إنّ الجرح يكون بالسيف للإيلام لا غيره، فلا شكّ أنّ ذلك يوجب التحريم إذا كان مقدّمة لإيجاد الموت، نحو أن يضرب رأسه ليقتل نفسه.
وأمّا الضرب لا لذلك، بل لأمر آخر قد يترتّب عليه في بعض الأحيان لبعض الأفراد الموت من دون أن يكون مقصوداً بالأصالة أو بالتبع ولا لازماً عاديّاً لضرب نفسه، فإنّ قواعد الفنّ لا تقتضي تحريمه البتّه، ومجرّد الإيلام وإخراج مقدار من الدم لايضرّ بالصحة لا دليل على حرمته"(1) .
____________
1 ـ نصرة المظلوم: 32 ـ 33.
"أوّلا: الذي سمعناه وتظافرت به الأخبار من الشيبة والمشايخ الذين مضت أعمارهم وطالت عهودهم بمشاهدة المحاشد الدمويّة، ينكرون على هذه النسبة أشد الإنكار ويقولون: إنّه لم يقع في أيّ جزء من الزمان قديماً وحديثاً أن يموت أحدٌ بضرب السيوف أو المُدى في عزاء الحسين (عليه السلام)، بل المشاهد من حال المباشرين لهذا العمل أنّهم لايرون لعملهم هذا أثراً في شيء من قواهم وأركانهم. فبينا كان الرجل يضرب رأسه بالسيف ويخرّ مغشياً عليه فيحمل على خشبة، يدخل الحمّام ويغتسل ولا يرى لذلك الجرح أثراً بادياً في بشرته، فماذا وجه الاستدلال بآية التهلكة على تحريم مثل هذا العمل.
ثانياً: لو سلّمنا أداء ذلك في بعض الأحيان إلى تلف النفس، فهو نادر لايُعبأ به، ولا يكون المستتبع له كذلك حراماً"(1) .
وحكى الشيخ عبد الحسين قاسم الحلّي (ت 1375هـ) في رسالته "النقد النزيه" عن بعض الأساطين من الفقهاء المعاصرين له في رسالته "المواكب الحسينيّة" قوله: "بلغنا من العمر ما يناهز الستّين، وفي كلّ سنة تقام نصب أعيننا تلك الحشود الدمويّة وما رأينا شخصاً مات بها أو تضرّر، ولا سمعنا به في الغابرين"(2) .
السادسة:
لم يكتفِ السيّد مهدي الموسوي البصري بالإشكال الذي ذكرناه في
____________
1 ـ إقالة العاثر: 23 ـ 24.
2 ـ النقد النزيه: 115 ـ 116.
"ولو قطعنا النظر عن هذه الجهة ـ موت جماعة منهم في كلّ سنة لكثرة نزف الدم ـ فهو فعل همجيّ وحشي... بل هي بنظر أرباب العقول والعرفة أفعال وحشيّة ما فيها من ثمرة في التعزية"(1) .
وفي هذا الكلام نظر; إذ كونه فعلا همجيّاً وخالياً عن أي فائدة بنظر البعض، لا يمكن جعله حجّة تامّة لتحريمه، فعدم اطّلاع المجتمع الغربي على الأسباب والدواعي التي تودّي ببعض المؤمنين بالقيام بهذا العمل والنتائج التي تترتّب عليه، هي التي جعلتهم يصفونه بالهمجيّة.
وإذا أمكن الطعن به لعدم ترتّب آثار إيجابيّة عليه، فيمكن الطعن ببعض العبادات التي لايعرف الغربيّون أسبابها ودواعيها ويرونها خالية عن أي فائدة، كأفعال فريضة الحجّ التي يؤدّيها الكثير من المسلمين في كلّ عام، فما الحجّ في نظرهم إلاّ طواف حول بنية، وسعي وهرولة بين رابيتين، ووقوف على جبل، وهبوط في وادي، وتوفير الشعر، وعري البدن إلاّ عن نحو إزار ورداء.
ولا شكّ أنّ غير العارف برموز هذه الأفعال وحكمها وأسرارها يستهزىء بها ويعدّها ضرباً من الجنون والتوحّش، وفعلا من أفعال الهمجيّة. وقد وقع الإشكال على أفعال الحجّ والاستهزاء به في زمن الإمام الصادق (عليه السلام) وغيره من الأئمة (عليهم السلام) من قبل بعض الزنادقة، كعبد الكريم ابن أبي العوجاء، وعبد الله الديصاني وغيرهما.
فهل يصحّ للمسلمين العارفين بأهداف الحجّ وآثاره الإيجابيّة الكثيرة المترتّبة عليه أن يمنعوه بمجرّد عدّه عند البعض همجيّاً؟!
____________
1 ـ حكاه عنه في رسالة نصرة المظلوم:32.