السابعة:
إضافة لكلّ ما سبق فإنّ الكثير من مواكب ضرب الرؤوس بالسيوف كانت تقام في بيوت بعض مراجع الدين وبمرىءً ومسمع منهم. وقد تحدّث الشيخ ابراهيم المظفر في رسالته "نصرة المظلوم" التي ألّفها سنة 1345هـ عن هذا الموضوع بشكل جيّد حيث قال:
"أمّا مواكب السيوف ولطم الصدور في الطرقات فحدّث ولا حرج كثرة واستدامةً، مع أنّ النجف من بين سائر البلدان مازالت منقسمة بين فئتين متقابلتين بل فئات كثيرة، وكثيراً ما يحدث العراك فيما بينهم، ولكنّه لم يوجب منع العلماء إياهم من إقامة الشعائر، نعم ربما منعتهم الحكومة محافظة على الأمن العام حتّى يتكفّل الرؤساء بعدم حدوث شيء من ذلك.
والسيّد محمد حسن الشيرازي نزيل سامراء ـ وهو الذي انتهت إليه رئاسة الإماميّة في عصره في جميع العالم، وعُدَّ مجدّداً للمذهب الجعفري على رأس القرن الثالث عشر، كما أنّ الوحيد البهبهاني محمد باقر بن محمّد أكمل مجدّده في القرن الثاني عشر ـ قد كان أنفذ كلمة على عموم الشيعة، ملوكها وسوقتها من كلّ سابق ولاحق، وقد يوجد اليوم في كلّ بلدة كثير ممّن يعرف اشتهاره ونفوذه، وكان مع علمه بوقوع الشبيه، وخروج المواكب وما يحدث فيها من حوادث، وبضرب القامات والسيوف في بلدان الشيعة في العراق وايران، وعدم وقوع الإنكار منه أصلا، تقام جميع الأعمال المشار إليها في سامراء ـ محلّ إقامته ـ نصب عينيه بلا إنكار.
وقد يظنّ الظانّ لأوّل وهلة أنّه(قدس سره) لا يرى رجحان ذلك بالنظر إلى حال محيطه; لأنّ جميع مَن في البلدة ـ عدا النزلاء ـ من غير الفرقة الجعفرية، وفيها أخلاط من غير المسلمين، وفي ذلك مجال الاستهزاء والسخرية.
كان الشبيه يترتّب يوم العاشر في دار الميرزا(قدس سره) ثمّ يخرج للملأ مرتّباً، وكذلك موكب السيوف كان أهله يضربون رؤوسهم في داره ثمّ يخرجون، وكانت أثمان أكفانهم تؤخذ منه، وما كان أفراد الشبيه سوى الفضلاء من أهل العلم; لعدم معرفة غيرهم بنظمه في قول وفعل.
ودام هذا كلّه بجميع ما فيه إلى آخر أيام خلفه الصالح الورع الميرزا محمّد تقي الشيرازي(قدس سره)، وكان الشبيه يترتّب أيضاً في داره، ومنه تخرج المواكب وإليه تعود، بيد أنّ موكب السيوف لم يتألّف غير مرّة; لأنّ القائمين به ـ وهم الأتراك لا غيرهم ـ كانوا يومئذ قليلين، ولقلّتهم استحقروا موكبهم فتركوه من تلقاء أنفسهم. انتهى كلام البلاغي.
إن بَعُدَ عليك عهد الشيخ الأنصاري والسيّد الشيرازي، فهذا بالأمس الأفقه الأورع الشيخ محمّد طه نجف(قدس سره)، يرى في النجف بل العراق جميع الأعمال المشار إليها، وهو أقدر على المنع فلا يمنع. إنّ المواكب جميعاً حتّى موكب القامات تدخل إلى داره، وهو لا يحرّك شفته بحرف من المنع، بيد أنّه يلطم معهم ويبكي وهو واقف مكانه.
وكذا السيّد محمّد بحر العلوم الطباطبائي يقام في داره أعظم وأفخم مأتم في النجف... وبها يضرب أرباب السيوف رؤوسهم من لدن أيام السيّد علي بحر العلوم أو قبله حتّى اليوم، ومنها تخرج إلى الشوارع وإليها تعود بلا إنكار ولا استيحاش.
وإن بعد عليك هذا العهد، فهذا المرحوم خاتمة الفقهاء السيّد محمّد كاظم
الثامنة:
حكى الشيخ عبد الحسين قاسم الحلّي (ت 1375هـ) عن بعض الأساطين من الفقهاء المعاصرين له قوله عن ضرب الرؤوس بالسيوف:
"لأريب أنّ جرح الإنسان نفسه وإخراج دمه بيده في حدّ ذاته من المباحات، ولكنّه قد يجب تارةً وقد يحرم اُخرى. وليس وجوبه أو حرمته إلاّ بالعناوين الثانويّة الطارئة عليه، وبالجهات والاعتبارات.
فيجب لو توقّفت الصّحة على إخراجه، كما في الفصد والحجامة.
وقد يحرم، كما لو كان موجباً للضرر والخطر من مرض أو موت.
وقد تعرض له جهة محسّنه ولا توجبه، وناهيك بقصد مواساة سيّد أهل الإباء، وخامس أصحاب العباء، وسبعين باسل من صحبه وذويه، حسبك بقصد مواساتهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وإظهار التفجّع والتلهّف عليهم، وتمثيل شبح من حالتهم مجسّمه أمام محبيهم، ناهيك بهذه الغايات والمقاصد جهات محسّنه وغايات شريفة، ترتقي بتلك الأعمال من أخسّ مراتب الحطّة إلى أعلا مراتب الكمال.
أمّا ترتّب الضرر أحياناً بنزف الدم المؤدّي إلى الموت أو إلى المرض المقتضي لتحريمه، فذاك كلام لا ينبغي أن يصدر من ذي لبّ، فضلا عن فقيه أو متفقّه:
____________
1 ـ نصرة المظلوم: 46 ـ 47.
وأمّا ثانياً: فتلك الاُمور على فرض حصولها إنّما هي عوارض وقتيّة ونوادر شخصيّة، لايمكن ضبطها ولا جعلها مناطاً لحكم أو ملاكاً لقاعدة. والذي علينا أن نقول: إنّ كلّ مَن يخاف الضرر على نفسه من عمل من الأعمال، يحرم عليه ارتكاب ذلك العمل. ولا أحسب أنّ أحداً من الضاربين رؤوسهم بالسيوف يخاف من ذلك الضرر على نفسه ويقدم على فعله، ولئن حرم ذلك العمل عليه فهو لا يستلزم حرمته على غيره. وبالأصل الذي شيّدناه ـ من أنّ المباح قد تعرض له جهات محسّنة ـ يتّضح لك الوجه في جميع تلك الأعمال العزائيّة في المواكب الحسينيّة"(1) .
التاسعة:
تعرَّض سماحة القائد آية الله السيّد علي الخامنئي في أوائل شهر محرّم سنة 1415هـ إلى ظاهرة ضرب الرؤوس بالسيوف، وأمَر بمنعها، وذلك في خطابه أمام جمع من رجال الدين في مدينة ياسوج.
والظاهر أنّ سماحته نظرَ إلى الحكم الثانوي لهذا العمل بلحاظ الظرفين الزماني والمكاني حيث إنّ وسائل الإعلام الغربيّة تعمل الآن وبكلّ مالديها من طرق حديثة على تشويه مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، لذلك فإنّ سماحته شخّص بأنّ المضارّ المترتّبة من جراء هذا العمل أكثر من فوائده في هذا العصر، إذ أنّ مردوده السلبي ينعكس على عموم المذهب، فقام بمنعه وذلك بحكم ولايته العامّة.
____________
1 ـ النقد النزيه: 114 ـ 115.
الإشكال الخامس
استعمال آلات اللهو في المواكب الحسينيّة
قال السيّد محسن الأمين: "ومنها ـ أي ومن الاُمور المنكرة في المواكب الحسينيّة ـ استعمال آلات اللهو كالطَبْل والزَمْر "الدمام" والصُّنوج النحاسيّة، وغير ذلك، الثابت(1) تحريمها في الشرع، ولم يستثنِ الفقهاء من ذلك إلاّ طبل الحرب والدف في العرس بغير صنج"(2) .
وقال في مكان آخر من هذه الرسالة في أثناء ردّه على الشيخ عبد الحسين صادق العاملي: "وحسَّنَ فيها ـ أي في رسالته "سيماء الصلحاء" ـ ما يفعله بعض الناس أيام عاشوراء، من... ودقّ الطبول وضرب الصنوج والنفخ في البوقات "الدمام" وغير ذلك"(3) .
وبيان هذه العبارة في عدّة نقاط:
الاُولى:
في العبارتين السابقتين وردت كلمة "الدّمام" بعد كلمتي "الزمر" و"البوقات"، وهي إمّا خطأ مطبعي أو سهو من قلمه الشريف; إذ لا معنى لها في كلا الموردين السالفين.
____________
1 ـ من هنا إلى آخر العبارة لم ترد في رسالة التنزيه المطبوعة المتوفّرة لدينا، حكاها عنها الشيخ عبد الحسين قاسم الحلّي في رسالته "النقد النزيه": 117 والشيخ محمّد الگنجي في رسالته "كشف التمويه": 46.
2 ـ رسالة التنزيه:43.
3 ـ رسالة التنزيه:45.
الثانية:
في العبارة الاُولى عدَّ السيّد الأمين "الزَمْر" من ضمن آلات اللهو، وهو خطأ واضح، والظاهر أنّ مقصوده "المِزْمَار"، إذ أنّ "الزَمْر" ـ مصدراً ـ هو التغنّي بالمزمار.
قال الجوهري (ت 395هـ) في "الصحاح": "المِزْمَار، واحد المزامير، زَمَرَ الرجلُ يَزْمُرُ ويَزْمِرُ زَمْراً فهو زَمَّارٌ"(1) .
وقال الفيروز آبادي (ت 817هـ) في "القاموس المحيط": "زَمَرَ الرجلُ يَزْمِرُ من باب ضربَ زَمْراً: إذا ضَرَبَ المِزمار، وهو بالكسر: قصبة يُزمر بها وتُسمّىْ الشبّابة، والجمع مَزَامير"(2) .
وقال الفيومي (ت 770هـ) في "المصباح المنير": "المِزْمَارُ: آلة الزَّمْرِ"(3) .
وقال ابن منظور (ت 711هـ) في "لسان العرب": "الزَّمْرُ بالمِزْمار، زَمَرَ يَزْمِرُ ويَزْمُرُ زَمْراً وَزَمِيراً وزَمْراناً: غَنَّى في القصب"(4) .
الثالثة:
أجمع المسلمون على حرمة استعمال الات اللهو والطرب مطلقاً، سواء كانت في شعائر إسلاميّة أم في غيرها، ووردت في ذلك روايات كثيرة:
منها: ما رواه الشيخ الكليني في "الكافي" بسنده عن سماعة عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: "لمّا مات آدم شمت إبليس وقابيل فاجتمعا في الأرض، فجعل ابليس وقابيل المعازف والملاهي شماتة بآدم (عليه السلام) فكلّ ما كان في الأرض من هذا
____________
1 ـ الصحاح 2: 671 "زمر".
2 ـ القاموس المحيط 3:318 "زمر".
3 ـ المصباح المنير: 255 "زمر".
4 ـ لسان العرب 4:327 "زمر".
ومنها: ما رواه الشيخ الكليني أيضاً بسنده عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: "قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أنهاكم عن الزَفْن(2) والمزمار، وعن الكوبات(3) والكبرات(4) "(5) .
ومنها: ما رواه الشيخ الكليني أيضاً بسنده عن كليب الصيداوي أنّه قال: سمعتُ أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: "ضرب العيدان ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الخضرة"(6) .
ومنها: ما رواه الشيخ الكليني أيضاً بسنده عن موسى بن حبيب عن علي بن الحسينعليهما السلام أنّه قال: "لا يقدّس الله اُمَّةً فيها بربط يقعقع وناية تفجع"(7) .
ومنها: ما رواه الشيخ الصدوق بسنده عن عبد الأعلى عن نوف عن الإمام علي (عليه السلام) أنّه قال: "يا نوف إياك أن تكون عشّاراً، أو شاعراً، أو شرطيّاً، أو عريفاً، أو صاحب عربطة: وهو الطنبور، أو صاحب كوبة: وهو الطبل"(8) .
ومنها: ما أخرجه ورّام بن أبي فراس في "تنبيه الخواطر" أنّه قال: قال (عليه السلام): "لا
____________
1 ـ الكافي 6:431/3، وسائل الشيعة 17:313/5.
2 ـ الزَفْنُ: الرقصُ. الصحاح 5:2131 "زفن".
3 ـ الكوبة: الطبل الصغير الُمخَصَّرُ، معرّب. المصباح المنير: 543 "كوب".
4 ـ الكَبَرُ: الطَّبْلُ له وجه واحد. المصباح المنير:524 "كبر".
5 ـ الكافي 6:432/7، وسائل الشيعة 17:313 ـ 314/6.
6 ـ الكافي 6:434/20، وسائل الشيعة 17:313/3.
7 ـ الكافي 6:434/21، وسائل الشيعة 17:313/4.
8 ـ الخصال: 337/40، وسائل الشيعة 17:315/12.
الرابعة:
ذكر السيّد الأمين في العبارتين السابقتين ثلاثة مصاديق لآلات اللهو والطرب وهي: الطَبْل، والبوق، والصَّنْج. والسؤال الذي يرد هنا: هل أنّ هذه الآلات الثلاث التي تُستعمل في المواكب الحسينيّة يُطلق عليها أنّها آلات لهو وطرب، حتّى يكون استعمالها محرّماً أم لا؟ فنقول:
الطَبْلُ:
اسمُ جنس يشمل الطبول المحرّمة وغيرها، إذ ليس كافّة الطبول محرّمة في الشريعة، والمحرّم منها ما يستعمله المخنّثون وأهل اللهو والطرب، وهو الذي يُسمّى في اللغة "كُوبة".
قال الجوهري: "الكوبة: الطبل الصغير المُخَصَّرُ"(2) .
وقال الفيّومي: "الكوبة: الطبل الصغير المُخَصَّرُ، معرّب"(3) .
وقال الفيروز آبادي: "الكوبة: الطبل الصغير المُخَصَّرُ"(4) .
وقال العلاّمة الحلّي (ت 726هـ) في "تذكرة الفقهاء" في كتاب الوصايا في باب مسائل الوصيّة بالأعيان:
"مسألة: لفظ الطبل يُستعمل في طبل الحرب الذي يضرب به للتهويل، وعلى طبل
____________
1 ـ انظر وسائل الشيعة 17: 315/13.
2 ـ الصحاح 1:215 "كوب".
3 ـ المصباح المنير: 543 "كوب".
4 ـ القاموس المحيط 1:131 "كوب".
وقال المحقّق الكركي (ت 940هـ) في "جامع المقاصد" في باب الوصيّة في شرح قول العلاّمة (ولو أوصى بطبل لهو بَطَلَ):
"لفظ الطبل يقع على طبل الحرب، الذي يُضرب به للتهويل، وعلى طبل الحجيج والقوافل، الذي يُضرب لإعلام النزول والارتحال، وعلى طبل العطّارين وهو سفط لهم، وعلى طبل اللهو: وفُسّرَ بالكوبة التي يضرب بها المخنّثون، وسطها ضيّق وطرفاها واسعان، وهي من آلات الملاهي"(2) .
وحكى الشيخ عبد الحسين قاسم الحلّي عن الشيخ محمّد عبده أنّه قال: "طبل اللهو: هو المعروف بالدربكة "دنبركة"، والظاهر أنّ هذه اللفظة حبشيّة، فإنّ الزنوج والحبش هم الذين ألقوها في العراق ومصر"(3) .
ومن كلّ ما تقدّم يُعلم أنّ الطبل الذي يستعمل في المواكب الحسينيّة ـ والذي شاهدناه في العراق وايران ـ ليس محرّماً; لأنّه ليس من الطبول المحرّمة التي ذكرها الفقهاء، ولا يُستعمل لأجل اللهو والطرب، بل لانتظام المواكب والإعلان عن سيرها ووقوفها.
____________
1 ـ تذكرة الفقهاء 2:483.
2 ـ جامع المقاصد 10:107.
3 ـ انظر النقد النزيه: 119.
البوق:
هو الآلة المستعملة في بعض المواكب العزائيّة، ويسمّى بلسان العامّة في عرف العراقيين "البوري" أو "البرزان". وهو غير المزمار المنهي عنه; إذ أنّ البوق آلة يُنفخ فيها نحو النفخ في النار والنفخ في الزقّ، لكنّها تُصوّت بالنفخ بها تصويتاً حادّاً هجيناً مرتفعاً.
والمزمار: آلة يزمر فيها، أي يتغنّى بها، ولا ينفخ فيها; ولذلك يقال: نفخَ في البوق كما يقال نفخَ في الصور، ولا يقال: زمَّر في الصور وغنّى في البوق. والفرقُ واضح بين الزَمْر الذي هو صوت مقطّع، وبين النفخ المجرّد عن تقطيع الصوت.
وهناك فرق آخر بين البوق والزمر هو: أنّ البوق كان سابقاً يُتّخذ من القرون، وهو لايزال باقياً لليوم عند بعض السّواح المتسوّلة من الهنود.
ففي "مجمع البحرين": "البوق: هو القَرْنُ الذي يُنْفَخُ فيه"(1) .
وفي "القاموس المحيط": "الصُور: هو القَرْنُ يُنْفَخُ فيه"(2) .
إذاً البوق: هو الصور الذي يُنْفَخُ فيه ولا يتغنّى به.
وفي "المنجد": "الصُور: القَرْنُ يُنْفَخُ فيه، والبُوق: شيء مجوّف مستطيل ينفخ فيه"(3) .
وقد صُنع البوق في العقود الأخيرة من النحاس حيث يكون أرفع صوتاً وأشدّ
____________
1 ـ مجمع البحرين 2:142 "بوق".
2 ـ القاموس المحيط 2:76 "صور".
3 ـ المنجد: 439 و55.
ومهما تغيّرت مادة البوق، سواء كانت من القرون أو النحاس، فيبقى هو ذلك الصور القرنيّ الذي لا زمر فيه ولا غناء. ولذلك يستعمل في السلم والحرب للتنبيه على الأوقات، وحشر الجنود المتفرّقة، وتسيير مواكب الرجال المجنّدة.
أمّا آلة المزمار فقد كانت قديماً تُتخذ من القصب، وهي لاتزال باقية لليوم عند الأعراب في البوادي، ويُسمّى ذو الاُنبوب الواحد منها "مُفرد"، وذو الانبوبين "مطبق"، يتغنّون به غناء مطرباً، كما يتغنّى بالآلات الموسيقيّة ذات الأوتار.
في "القاموس المحيط": "زَمَّرَ تزميراً: غنّى في القصب"(1) .
وفي "مجمع البحرين": "زَمَرَ الرجلُ يَزِمرُ، من باب ضرب زمراً: إذا ضرب المَزْمار، وهو بالكسر: قصبة يُزمر بها"(2) .
وفي "المنجد": "الزمّارة: القصبة التي يُزَمّر فيها، والمزمار: آلة يزمّر فيها، وزمّر زمراً: غنّى بالنفخ في القصب"(3) .
ويُصنع المزمار الآن من بعض المعادن التي تكون أقوى من القصب وأحكم منه.
ومضافاً إلى ما سبق فإنّ هنالك فرقاً آخر بين البوق والمزمار، وهو: أنّ المزمار لايكون إلاّ بثقوب كثيرة من أربعة إلى ثمانية، غير الثقب الذي يلي الشفة، ولكلّ
____________
1 ـ القاموس المحيط 2:41.
2 ـ مجمع البحرين 3: 318.
3 ـ المنجد:305.
أمّا صلابته وهجنته فإنّها تستند إلى سعة فوهته حسب تركيبه الطبيعي، فإنّه كلّما طال ودَقَّ موضع النفخ به واتّسعت فوهته العليا زاد صوته ارتفاعاً وهجنة. وربّما كان لالتوائه مزيد دخل في شدّة هجنته: إمّا لزيادة طوله بذلك الالتواء، وإمّا لدوران الصوت به حسب التوائه.
ومن كلّ ما تقدّم يتّضح أنّ البوق الذي يُستعمل في المواكب العزائيّة ليس محرّماً; لأنّه ليس مزماراً، ولايُعدُّ من آلات اللهو والطرب، والصوت المنبعث منه لا يُطرب السامع بل يُزعجه.
الصَّنْجُ:
مفردٌ، وجمعه صُنُوج، يُسمّيه العراقيّون "طوس"، وهو اسم يشمل الصُنُوج المحرّمة وغيرها، إذ ليس جميع أنواع الصُنُوج محرّمة في الشريعة. وهو على عدّة أنواع:
(1) آلة بأوتار.
(2) قطع نحاس تعلّق في إطار الدفّ.
(3) آلة تُتّخذ من صُفر، يُضرب إحداهما بالاُخرى.
(4) آلة يتّخدها الراقصون في أطراف أصابعهم يصفّقون بها، تُسمّى عند أرباب الملاهي "زنك"، وهو معرّب "صنج".
في "الصحاح": "الصَّنْجُ الذي تعرفه العرب: وهو الذي يُتّخذ من صُفْر، يُضْرَب
وفي "القاموس المحيط": "الصَّنْجُ: شيء يُتّخذ من صُفْر، يُضرب أحدهما على الآخر، وآلة بأوتار يضرب بها، معرّب"(2) .
وفي "مجمع البحرين": "الصَّنْجُ من آلات اللهو: وهو شيء يُتّخذ من صُفْر، يضرب أحدهما بالآخر، وآلة بأوتار يضرب بهما. والجمع صُنوج، مثل فلس وفلوس. قال بعض المحقّقين: ولم نعثر بجمعه على "صَوَانِج" في كلام أهل اللغة، وإنّما استفدناه من الحديث، وهو الصواب"(3) .
والصُنُوج التي تستعمل في المواكب الحسينيّة هي النوع الثالث من الأنواع التي ذكرناها قريباً، أي أنّه آلة تُتّخذ من صُفر أو حديد، يضرب إحداهما بالاُخرى. وهو ليس من آلات اللهو والطرب قطعاً; إذ أنّ الصوت المنبعث منه لايؤدي إلى طرب سامعه وتلذّذه به، بل يؤدّي إلى تنفّره منه.
وأصحاب المواكب العزائيّة يستعملونه لأجل انتظام الموكب والإعلان عن سيره أو توقّفه; لذلك فإنّهم لايستعملونه في العزاء الذي يُقام في الحسينيات والبيوت; لا ستغنائهم عنه.
وقد حكى الشيخ عبد الحسين قاسم الحلّي (ت 1375هـ) عن العلاّمة الفاضل السيّد مصطفى الطالقاني والمقدّس الورع الشيخ حسن مطر أنّهما قالا:
____________
1 ـ الصحاح 1:325 "صنج".
2 ـ القاموس المحيط 1:204 "صنج".
3 ـ مجمع البحرين 2:303 "صنج".
إضافة لذلك فإنّي لم أعثر على رواية تدلّ على حرمة هذا النوع من الصُنوج المستعمل في المواكب العزائيّة; لأنّه ليس من آلات اللهو والطرب. نعم، أخرج الشيخ منتجب الدين الطريحي (ت 1085هـ) في "مجمع البحرين" رواية ربّما تدلّ على حرمة استعماله وهي: "إياك والضرب بالصوانج فإنّ الشيطان يركض معك والملائكة تنفر عنك"(2) .
وعلى هذه الرواية عدّة ملاحظات:
أوّلا: أنّها مرسلة، ولم يذكر الطريحي المصدر الذي أخذها منه ولا طريقه إليها.
ثانياً: لم ترد هذه الرواية وبهذا اللفظ في أيّ كتاب حديثي وغيره من كتبنا المعتبرة.
ثالثاً: ورد قريب من هذه الرواية في بعض مصادرنا وفيها لفظ "الصوالج" بدل "الصوانج"، ففي "أصل زيد النرسي": "وأمّا ضربكَ بالصوالج فإنّ الشيطان معك يركض والملائكة تنفر عنك"(3) .
وحكاه عنه المحدّث النوري في "المستدرك" مع زيادة فيه، فقد روى عن
____________
1 ـ النقد النزيه: 136 ـ 137.
2 ـ مجمع البحرين 2:313 "صنج".
3 ـ أصل زيد النرسي: 51.
"وإنّ المؤمن لفي شغل عن ذلك، شغله طلب الآخرة عن الملاهي ـ إلى أن قال ـ وإنّ المؤمن عن جميع ذلك لفي شغل، ماله وللملاهي، فإنّ الملاهي تورث قساوة القلب وتورث النفاق. وأمّا ضربك بالصوالج فإنّ الشيطان يركض معك والملائكة تنفر عنك، وإن أصابك شيء لم تؤجر، ومن عثرت به دابته فمات دخل النار"(1) .
وفي "الفقه المنسوب للإمام الرضا (عليه السلام) ":
"واتّقِ اللعب بالخواتيم، والأربعة عشر، وكلّ قمار حتّى لعب الصبيان بالجوز واللوز والكعاب، وإيّاك والضربة بالصولجان فإنّ الشيطان يركض معك والملائكة تنفر عنك، ومَن عثرت به دابته فمات دخل النار"(2) .
ورواه أيضاً باختلاف يسير في بعض الألفاظ الشيخ الصدوق في "الفقيه"(3) .
ومن هذا يتّضح أنّ الوارد في الرواية والمنهي عنه هو "الصوالج" لا "الصوانج".
قال الجوهري في "الصحاح": "الصَوْلَجان، بفتح اللام: المِحْجَن، فارسي معرّب، والجمع الصَوَالِجَة، والهاء للعجمة"(4) .
وقال ابن منظور في "لسان العرب": "الصَوْلَجان: عصا يُعوج طرفها تُضرب بها الكرة واللاعب على ظهر دابة، فرس أو غيرها"(5) .
____________
1 ـ مستدرك وسائل الشيعة 13: 216/15163.
2 ـ الفقه المنسوب للإمام الرضا (عليه السلام):284.
3 ـ الفقيه 4:42/135.
4 ـ الصحاح 1:325 "صلج".
5 ـ لسان العرب 2:310 "صلج".
الإشكال السادس
تشبيه الرجال بالنساء
قال السيّد الأمين: "ومنها ـ أي ومن الاُمور المنكرة في الشعائر الحسينيّة ـ تشبيه الرجال بالنساء في وقت التمثيل(1) ، وتحريمها ثابت في الشرع"(2) .
أقول: المحرّم شرعاً هو أن يتأنّث الرجل ويعدّ نفسه امرأة، ويتحقّق ذلك بأن يخرج الرجل عن زيّه ويأخذ بأزياء النساء.
أمّا مجرّد لبس ملابسهن لوقت قصير لأجل منفعة معتدّة بها عرفاً كالتمثيل، فلم يحكم بحرمته أغلب فقهائنا، وقد بيّن ذلك الشيخ عبد الحسين قاسم الحلّي (ت 1375هـ) إذ قال:
"وبهذا أفتى الميرزا القمّي في "جامع الشتات"، وشيخنا المحقّق الأنصاري في "المكاسب"، وأكثر علماء عصرنا، منهم: شيخنا المحقّق العلاّمة آية الله الميرزا محمّد حسين النائيني الغروي، والشيخ الفقيه العلاّمة المتفنّن صاحب المصنّفات الكثيرة حجّة الإسلام الشيخ عبد الله المامقاني النجفي، وغيرهم"(3) .
ويدلّ على هذا عدّة روايات:
منها: ما رواه الشيخ الكليني في "الكافي" والشيخ الصدوق في "علل الشرائع":
____________
1 ـ إلى هنا تنتهي عبارة السيّد الأمين في النسخة المطبوعة لرسالة التنزيه المتوفّرة لدينا، وباقي العبارة حكاها عنها الشيخ عبد الحسين قاسم الحلّي في "النقد النزيه": 143، والشيخ محمّد الگنجي في "كشف التمويه":50.
2 ـ رسالة التنزيه:43.
3 ـ النقد النزيه: 144.
ومنها: ما رواه سماعة عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال عن الرجل يجرّ ثيابه: "إنّي لأكره أن يتشبّه بالنساء"(2) .
ومنها: ما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام): "كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يزجر الرجل أن يتشبّه بالنساء، وينهى المرأة أن تتشبّه بالرجال في لباسها"(3) .
وعلى هذا فإنّ تشبيه الرجال بالنساء الذي يجري في يوم عاشوراء عند تمثيل واقعة الطف لايدخل تحت عنوان التشبيه المحرّم; لأنّ فاعله لايقصد به التأنّث وعدّ نفسه امرأة، بل الذي يحصل هو تجليل الرجل بإزار أسود "عباءة" من قرنه إلى قدمه وهو بهيئته وملابسه الرجاليّة، ليتراءى للناظرين لوقت قصير جداً أنّه امرأة، حيث يقوم بتمثيل دور إحدى النساء الحاضرات في واقعة الطف; وذلك من أجل إبكاء الحاضرين وتذكيرهم بما جرى في يوم عاشوراء.
____________
1 ـ الكافي 8:71/27، علل الشرائع:602/63.
2 ـ وسائل الشيعة 5:25/1.
3 ـ وسائل الشيعة 5:25/2.