الصفحة 55

3 ـ عن الهيثم بن عدي، قال «حدثني غير واحد ممن أدركت من المشايخ: أن علي بن أبي طالب (عليه السلام) أصار الأمر إلى الحسن» (1).

4 ـ وقال ابن أبي الحديد المعتزلي الحنفي عن أمر الخلافة: «وعهد بها إلى الحسن (عليه السلام) عند موته» (2).

5 ـ «وذكروا: أن جندب بن عبد الله دخل على علي (عليه السلام): فقال: ياأمير المؤمنين، إن فقدناك فلا نفقدك، فنبايع الحسن؟ قال: نعم» (3).

6 ـ وقال ابن كثير: «الخلفاء الأربعة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي. خلافتهم محققة، بنص حديث سفينة:

الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم بعدهم الحسن بن علي، كما وقع، لأن علياً أوصى إليه، وبايعه أهل العراق الخ...» (4).

7 ـ وعند أبي الفرج، وغيره: أنه لما أتى أبا الأسود نعي أمير المؤمنين، والبيعة للإمام الحسن (عليه السلام)، قام أبو الأسود خطيباً، فكان مما قال:

«.. وقد أوصى بالإمامة بعده إلى ابن رسول الله، وابنه، وسليله، وشبيهه في خلقه وهديه الخ» (5).

8 ـ وعند المسعودي: أن أمير المؤمنين (عليه السلام) «وإني أوصي إلى الحسن والحسين؛ فاسمعوا لهما، وأطيعوا أمرهما» (6). هذا، وقد ذكر وصية الإمام علي (عليه السلام) إلى ولده الإمام الحسن (عليه السلام) غير واحد من

____________

(1) العقد الفريد ج 4 ص 474/475.

(2) شرح النهج للمعتزلي ج 1 ص 57.

(3) المناقب للخوارزمي ص 278.

(4) البداية والنهاية ج 6 ص 249.

(5) راجع: تيسير المطالب ص 179 وقاموس الرجال ج 5 ص 172 والأغاني ج 6 ص 121 وفي الخرائج والجرائح ما يدل على ذلك.

(6) إثبات الوصية ص 152.


الصفحة 56
المؤلفين في كتبهم (1).. فلتراجع.

9 ـ هذا كله.. عدا عما تقدم من قوله (صلى الله عليه وآله): أنتما الإمامان ولأمكما الشفاعة.

وقوله (صلى الله عليه وآله): الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا، وعدا عن الأحاديث الكثيرة، التي تنص على الأئمة بأسمائهم (2).

وعدا عن نصوص كثيرة من طرق أهل البيت وشيعتهم، لا مجال لذكرها هنا...

10 ـ ولما مات أمير المؤمنين (عليه السلام)، جاء الناس إلى الحسن (عليه السلام)، فقالوا: أنت خليفة أبيك، وصيُّه (3).

11 ـ وقال المسعودي: «وقد ذكرت طائفة من الناس: أن علياً رضي الله عنه أوصى إلى ابنه الحسن والحسين، لأنهما شريكاه في آية التطهير. وهذا قول كثير ممن ذهب إلى القول بالنص» (4).

12 ـ وعن علي (عليه السلام): أنت يا حسن وصيي، والقائم بالأمر بعدي (5).

وفي نص آخر: يا بُنيَّ، أنت وليُّ الأمر، وولي الدم (6).

____________

(1) راجع: البحار ج 10 ص 89، وإثبات الهداة ج 5 ص 140 وراجع ص 121 حتى ص 143، وأنساب الأشراف ج 2 ص 502 ـ 504 بتحقيق المحمودي، وصلح الحسن (عليه السلام) لآل يس.. والكافي ج 1 ص 297 ـ 300.

(2) راجع منتخب الأثر.. وكحديث أهل بيتي كسفينة نوح، وحديث الثقلين وغير ذلك..

(3) إثبات الهداة ج 5 ص 135 والبحار ج 10 ط قديم، باب مصالحة الحسن، عن الخرائج والجرائح.

(4) مروج الذهب ج 2 ص 413.

(5) إثبات الهداة ج 5 ص 140.

(6) إثبات الهداة ج 5 ص 126 وكشف الغمة، وأصول الكافي ج 1 ص 299 وصلح الحسن ج 1 ص 52.


الصفحة 57
13 ـ وفي نصٍّ آخر: الحسن والحسين في عترتي، وأوصيائي، وخلفائي (1).

14 ـ إن الشيعة أطبقت: على أن علياً نص على ابنه الحسن (2).

15 ـ ويفهم من رواية ذكرها ابن سعد: أن أمر الوصاية قد اشتهر عن آل علي، في عهد التابعين فراجع وكانوا يتَّقون الناس في إظهارها (3).

إلى غير ذلك مما لا محال لتتبعه واستقصائه..

وقد تقدم في أوائل هذا الكتاب بعض ما يدل على ذلك أيضاً.

وحسبنا ما ذكرنا هنا، فيما يتعلق بالحياة السياسية للإمام الحسن (عليه السلام)، في حياة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله).. فإن استيفاء ذلك مما لا يمكن في هذه العجالة.. ولننتقل الآن إلى حياته السياسية في عهد الشيخين..

فإلى الفصل التالي:

____________

(1) إثبات الهداة ج 5 ص 139.

(2) إثبات الهداة ج 5 ص 133و 135 و 138 عن الشافي للسيد المرتضى، وكشف الغمة وأعلام الورى..

(3) راجع: الطبقات الكبرى ج 5 ص 239 ط ليدن.


الصفحة 58

الصفحة 59


الفصل الثاني

في عهد الشيخين





الصفحة 60

الصفحة 61

فدك.. والحسنان (عليهما السلام):

لقد توفي الرسول الإعظم، محمد (صلى الله عليه وآله)، وحدث بعده ماحدث، من استئثار أبي بكر بالأمر، وإقصاء أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام عن محله الطبيعي، الذي أهَّله الله سبحانه وتعالى له..

ثم تعرضت فاطمة الزهراء، بنت النبي الأقدس (صلى الله عليه وآله)، لاغتصاب إرثها من أبيها، ومصادرة حتى ما كان النبي صلى عليه وآله وسلم قد ملكها إياها في حال حياته.. ومنه: «فدك».. وجرت بينها وبين أبي بكر مساجلات، واحتجاجات حول هذا الموضوع. وطلبوا منها: أن تأتي بالشهود لإثبات ما تدعيه..

فجاءت بأمير المؤمنين (عليه السلام)، وبالحسنين الزكيين (عليهما السلام)، وبأم أيمن.

ولكن أبا بكر رد الشهود، ورفض إرجاع حقها إليها.. كما هو معروف.

قال شريف مكة:


ثم قالت: فنحلة لي من والدي المصطفى، فلم ينحلاها
فأقامت بها شهوداً، فقالوابعلها شاهد لها وابنها (1)

____________

(1) راجع في كل ما تقدم، ولا سيما بالنسبة للاستشهاد بالحسنين (عليهما السلام): المسترشد في إمامة علي بن أبي (عليه السلام) ص 105 و 106 و 108 ومروج الذهب ج 3 ص 237 والصواعق المحرقة ص 35، وتاريخ اليعقوبي ج 2 ص 469 وسيرة الأئمة الاثني عشر ج 1 ص 129 و130 عن الصواعق المحرقة، وعن شرح المواقف ودلائل الصدق ج 3 قسم 1 ص 38 عن المواقف، وفدك للقزويني ص 16 و 17 ومكاتيب

=>


الصفحة 62
وهكذا.. فإن الزهراء البتول صلوات الله وسلامه عليها، وهي المرأة المعصومة بحكم آية التطهير وغيرها، والتي لم تكن لِتُصدر، ولا لِتوردَ إلاَّ وفق الشرع الإسلامي الحنيف، قد استشهدت بالحسنين الزكيين(عليهما السلام) بمرأى، وبمسمع، وبتأييد ورضى من سيد الوصيين، أمير المؤمنين علي (عليه السلام).. فلقد رأيا فيهما الأهلية لأداء الشهادة في مناسبة كهذه، مع أنهما كانا آنئذٍ لا يتجاوز عمرهما السبع سنوات، فإعطاؤهما دوراً بارزاً في قضية مصيرية وخطيرة كهذه، لم يكن أمراً عفوياً، ولا منفصلاً عن الضوابط التي تنظم مواقف أهل البيت عليهم الصلاة والسلام... وإنما كان امتداداً لمواقف النبي (صلى الله عليه وآله) منهما، في مجال إعدادهما، ووضعهما في مكانهما الطبيعي على المستوى القيادي للأمة.

هذا.. ولا يجب أن نقلل من أهمية هذه القضية.. على اعتبار أنها ترتبط بحق مالي، وليست ـ كالبيعة ـ عقداً يشترط فيه البلوغ، مع ملاحظة: أن سنهما حين الشهادة كان يفوق ما كان لهما من السن حين البيعة (1)..

لا.. يجب أن نتخيل ذلك.. فإن الشهادة يعتبر فيها البلوغ أيضاً، والعقل.. كما أن سنهما حينئذٍ كان ـ كما قلنا ـ لا يصل إلى الثمان سنوات.. أضف إلى ذلك: أن الاستشهاد بالحسنين، وبعلي، وبأم أيمن التي شهد لها النبي (صلى الله عليه وآله) بأنها من أهل الجنة، إنما كان، كما يقول السيد هاشم معروف الحسني رضوان الله تعالى عليه:

____________

<=

الرسول ج 2 ص 579 عن المسعودي، والحلبي، وابن أبي الحديد ومالكيت خصوصي (زمين) للأحمدي ص 132 عن أكثر من تقدم وعن جامع أحاديث الشيعة ج 8 ص 606 والتهذيب، والبحار ج 8 ص 108 عن كشكول العلامة.

وإنما ذكرنا هنا خصوص المصادر التي ذكرت الحسنين (عليهما السلام) في القضية. وإلا.. فإن مصادر أصل النزاع فيما بين الزهراء وبين أبي بكر والهيئة الحاكمة كثيرة جداً، لا مجال لتتبعها..

(1) راجع: فدك للقزويني ص 16 و17.


الصفحة 63
«لكي تسجل على القوم رداً صريحاً لنصوص الرسول فيه، وفي ولديه. على أنها لو أحضرت عشرين شاهداً من خيرة الصحابة لم يكن مستعداً للقضاء لها بما تطلب.. بل كان على ما يبدو من سير الأحداث مستعداً لأن يعارض شهادتهم بعشرات الشهود، كما عاض شهادة علي وأم أيمن، بشهادة عمر، وعبد الرحمن بن عوف، كما نصت على ذلك رواية شرح النهج السابقة الخ...» (1).

ولقد صدق الحسني رحمه الله تعالى فيما قال، ويؤيد ذلك، بل يدل عليه، ما ورد:

«عن عمر: لما قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) جئت أنا وأبو بكر إلى علي، فقلنا: ما تقول فيما ترك رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟

قال: نحن أحق الناس برسول الله (صلى الله عليه وآله).

قال: فقلت: والذي بخيبر..

قال: والذي بخيبر.

قلت: والذي بفدك؟

قال: والذي بفدك.

قلت: أما والله، حتى تحزوا رقابنا بالمناشير، فلا» (2).

الخطبة العجيبة:

إنه بعد أن أقصِيَ علي أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام عن مركزه الذي جعله الله تعالى له.. وكان ما كان مما هو معروف ومشهور.. فإن سياسة الحكم المتغلب الجديد ثم من جاء بعدهم. كانت تستهدف قضية الإمامة من ناحيتين:

____________

(1) سيرة الأئمة الاثني عشر ج 1 ص 130.

(2) مجمع الزوائد ج 9 ص 40.


الصفحة 64

الناحية الأولى:

بعث اليأس في نفوس خصوم الحكم، وبالأخص في نفس شخص أمير المؤمنين (عليه السلام)، الذي يعتبرونه أقوى منافس، بل المنافس الوحيد لهم، وبالتالي في نفوس الهاشميين جميعاً، والقضاء على كل أثر من آثار الطموح والتطلع إلى هذا الأمر لديهم.. حيث إنهم كانوا يرون ـ حسب فهمهم وتقديراتهم الخاطئة: أن المسألة لا تعدو عن أن تكون مسألة شخصية، ترتبط بشخص علي (عليه السلام)، ورغبة نفسية جامحة لديه، أذكاها النبي الأكرم، محمد (صلى الله عليه وآله)، تصريحاته ومواقفه المتكررة، التي كانت تهدف لتكريس الأمر لصالح أمير المؤمنين علي عليه الصلاة والسلام..

صحيح.. أنه قد كان للنبي (صلى الله عليه وآله) فيه ذرو من قول ـ على حد تعبير عمر ـ وتصريحات كثيرة، ولكن ما الذي يمنع من مخالفته، ما دام أنه لم يكن أكثر من زميل لهم وقرين، على حد تعبيرهم (1)...

كما أن شريحاً النميري الذي كان عامل رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وعامل أبي بكر، قد جاء إلى عمر بكتاب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فأخذه عمر، ووضعه تحت قدمه، وقال: لا، ما هو إلا ملك انصرف (2).

نعم.. وإن تلك الرغبة يمكن سلوها، وصرف النظر عنها، ثم اليأس منها مع مرور الأيام، ومع رؤية تمكن الآخرين، وإحكام أمرهم، قوة سلطانهم..

ومما يشهد لما ذكرناه: سؤال عمر لابن عباس: كيف خلفت ابن عمك؟ فظننته يعني عبد الله بن جعفر.

____________

(1) فقد قال عمر، حينما أخبروه: أن الناس يعيبون عليه أنه ينهر الرعية، ويتصرف ببعض الأحكام: «أنا زميل محمد». راجع تاريخ الطبري ج 3 ص 291 ط الاستقامة. وراجع: الفائق ج 2 ص 11.

وتفسير ذلك، بأنه كان قد زامله في غزوة قرقرة الكدر. ـ كما ذكره الطبري والزمخشري ـ لا ينسجم مع طبيعة الموقف، وما يريد عمر إظهاره في هذا المجال، رداً على اعتراضاتهم عليه بأنه يغير بعض الأحكام.. وسيأتي: أنهم كانوا يرون لأنفسهم حق التغيير في الأحكام بل وحق التشريع أيضاً، فانتظر..

(2) راجع: تاريخ المدينة، لابن شبّة ج 1ص 596.


الصفحة 65
قلت: خلفته يلعب مع أترابه.

قال: لم أعن ذلك، إنما عنيت عظيمكم أهل البيت.

قلت: خلفته يمتح بالغرب (1)، على نخيلات فلان، وهو يقرأ القرآن.

قال: يا عبد الله عليك دماء البدن إن كتمتنيها: هل بقي في نفسه شيء من أمر الخلافة؟

قلت: نعم.

قال: أيزعم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) نص عليه؟

قلت: نعم.. وأزيدك: سألت أبي عما يدعيه، فقال: صدق.

فقال عمر: لقد كان من رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أمره ذرو من قول (2)، لا يثبت حجة، ولا يقطع عذراً ولقد كان يربع في أمره وقتاً ما. ولقد أراد في مرضه: أن يصرِّح باسمه، فمنعت من ذلك، إشفاقاً، وحيطة على الإسلام.

لا، ورب هذه البنية، لا تجتمع عليه قريش أبداً الخ...» (3).

وفي هذه القضية مواضع هامة، ينبغي التوقف عندها ملياً، ومحاكمتها محاكمة موضوعية وعميقة، ولا سيما قول عمر أخيراً: «لقد كان من رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أمره ذرو من قول، لا يثبت حجة الخ..» فإن النبي (صلى الله عليه وآله) قد استعمل مختلف الأساليب البيانية لتأكيد هذا الأمر وتثبيته: من التصريح، والتلميح، والكناية، والمجاز، والحقيقة، والقول والفعل، وحتى لقد أخذ البيعة له منهم في مناسبة «الغدير».. ولو أردنا جمع ما وصل إلينا من

____________

(1) الغرب: الدلو.

(2) ذرو: أي طرف.

(3) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج 12 ص 20/21 عن كتاب أحمد بن أبي طاهر في كتابه تاريخ بغداد، مسنداً. وراجع ج 12 ص 79 وكشف الغمة للأربلي ج 2 ص 49، وقاموس الرجال ج 6 ص 398 و ج 7 ص 188 وبهج الصباغة ج 6 ص 244 وج 4 381، والبحار ط كمباني ج 6 ص 213 و 266 و 292، وناسخ التواريخ، المجلد المتعلق بالخلفاء ص 72/80 ومكاتيب الرسول ج 2 ص 620. وقد ذكر المحقق العلامة الأحمدي مساجلات عمر مع ابن عباس في كتابه القيم: مواقف الشيعة مع خصومهم.. فلتراجع ثمة مع مصادرها.


الصفحة 66
كلماته (صلى الله عليه وآله) ومواقفه في هذا السبيل لا حتجنا إلى مجلدات كثيرة وكبيرة، ولتعذر استيعابه في مدة طويلة.. ولكنه (صلى الله عليه وآله) أراد في مرضه الأخير: أن يسجل ذلك في كتاب لا يمكن المراء فيه، وليقطع دابر الخلاف من بعده..

ولكن اتهامه بالهجر والهذيان، من قبل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب بالذات، قد جعل ذلك بلا جدوى، ولا فائدة، بل جعله سبباً في المزيد من الاختلاف والتشاجر، والتمزق والتدابر، فكان لا بد من تركه، والانصراف عنه (1)..

وقد صرح عمر نفسه لابن عباس: بأن النبي (صلى الله عليه وآله) أراد أن يصرِّح باسم علي (عليه السلام) في ذلك الكتاب، وأراد الله غيره، فنفذ مراد الله تعالى، ولم ينفذ مراد رسوله. أو كل ما أراد رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان (2)؟!

وقد ادعى عمر: أنه إنما منع النبي (صلى الله عليه وآله) من كتابة الكتاب حيطة على الإسلام (3)..

وذلك عجيب حقاً؟! وأي عجيب!!.. فهل صحيح: إنه قد فعل ذلك من أجل ذلك؟ أم أنه قد كان وراء الأكمة ما وراءها؟!

وكيف يمكن أن نوفق بين دعواه هذه، وبين نسبته ذلك آنفاً لإرادة الله سبحانه، وقوله: «أو كلما أراد رسول الله صلى عليه وآله وسلم كان»؟!.

وهل يمكن أن نصدق: أن غيرته على الإسلام أكثر من غيرة نبيِّ الإسلام نفسه عليه؟!

____________

(1) راجع بعض مصادر ذلك في مكاتيب الرسول ج 2 ص 618 ـ 626 وكتاب دلائل الصدق ج 3 قسم 1 ص 63 ـ 70 والنص والإجتهاد ص 155 ـ 165 والمراجعات ص 241 ـ 245.

(2) شرح النهج للمعتزلي ج 12 ص 78/79.

(3) نفس المصدر ج 12 ص 79.


الصفحة 67
أم أنه قد أدرك بنظره الثاقب، وفكره الوقاد ما لم يستطع إدراكه سيد ولد آدم، وإمام الكل، وعقل الكل، ومدبر الكل؟!.

وهل غيرته على الإسلام تبرر له اتهام النبي الأكرم صلى عليه وآله وسلم بالهجر والهذيان؟! إلى غير ذلك من الأسئلة التي لا مجال لها هنا..

ومما يدل على على أن السياسة كانت تتجه نحو إبعاد علي (عليه السلام) عن الساحة، بحيث كان الناس يعرفون ذلك، ويدركونه وكانوا مطمئنين إلى استبعاده من هذا الأمر وكانوا لا يرون حتى دخوله في جملة المرشحين له.. ما رواه عبد الرزاق، من أن عمر قال لأحد الأنصار: «من ترى الناس يقولون يكون الخليفة بعدي؟ قال: فعدد رجالاً من المهاجرين، ولم يسمِّ علياً، فقال عمر: فما لهم من أبي الحسن؟ فوالله، إنه لأحراهم إن كان عليهم أن يقيمهم على طريقة من الحق» (1).

وبعد ذلك كله.. فإنه يحتج لعمله ذاك ـ أعني تنظيم قضية الشورى ـ بأنه لا تجتمع عليه ـ أي على علي (عليه السلام) ـ قريش، أو أن قومه أبوه، أو غير ذلك (2).

لكن.. لماذا لا تجتمع قريش وقومه عليه؟. ولماذا وكيف اجتمعوا على النبي (صلى الله عليه وآله) نفسه، مع أنه هو السبب الأول والأخير في كل ما أتاه إليه؟!.

وإذا كانوا مؤمنين ومسلمين، فلماذا لا يقبلون بحكم الإسلام، ولا ينقادون إليه؟!.

وإذا لم يكونوا كذلك، فما الذي يضر لو خالفوا؟ وما المانع من جهادهم والوقوف في وجههم جينئذٍ، كما جاهدهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) من قبل، وجاهدهم أمير المؤمنين (عليه السلام) نفسه بعد ذلك؟!..

____________

(1) المصنف لعبد الرزاق ج 5 ص 446.

(2) راجع شرح النهج للمعتزلي ج 12 ص 80 و 82 و 84 و 85 و 86.


الصفحة 68
أما الذي نريد الاستشهاد به , والإلفات إليه هنا، فهو سؤال عمر لابن عباس: إن كان قد بقي شيء من أمر الخلافة في نفس علي (عليه السلام).. فإن ذلك يؤكد ما أشرنا إليه سابقاً، من أن الهيئة الحاكمة كانت تهتم في أن ينسى وييأس عليَّ (عليه السلام) من أمر الخلافة نهائياً..

ولكنهم غفلوا عن أن تصدي علي والأئمة من ولده (عليهم السلام) لهذا الأمر، لم يكن إلا من أجل أنه مسؤولية شرعية، وتكليف إلهي، لا يمكن التسامح فيه، ولا التخلي عنه.. وليس لهم اي خيار فيه.. تماماً كسائر التكاليف الشرعية الأخرى، وإن كان هو يزيد عليها من حيث خطورته، وأهميته القصوى..

الناحية الثانية:

تهيئة الأجواء لتمكين الحكم وتكريسه في غير أهل البيت (عليهم السلام)، وخلق العوامل والظروف التي لا تسمح بوصول أمير المؤمنين، ولا أي من أهل البيت عليهم الصلاة والسلام إلى الخلافة في المستقبل القريب والبعيد على حد سواء. وتكريس الحكم فيمن يرغبون بتكريسه فيهم.. وقد تمثل ذلك في تدبيرات سياسية عدة، من شأنها أن تجعلهم يطمئنون إلى نجاحهم فيما يرمون إليه..

ونذكر من ذلك على سبيل المثال:

ألف: على صعيد العمل السياسي، نجد أنهم:

عدا عن أنهم قد أبعدوا كل من له هوى في علي (عليه السلام) عن مراكز النفوذ (1) كما جرى لخالد بن سعيد بن العاص.. وكحرمانهم الأنصار، الذين كان لهم هوى في أمير المؤمنين، وأهل البيت عليهم الصلاة والسلام من المراكز الحساسة، بل وحرمانهم من أبسط أنواع الرعاية (2).

____________

(1) تهذيب تاريخ دمشق ج 5 ص 51، وتاريخ اليعقوبي ج 2 ص 133 والمصنف لعبد الرزاق ج 5 ص 454 وحياة الصحابة ج 2 ص 20/21 وطبقات ابن سعد ج 4 ص 70.

(2) راجع كتابنا: الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) ج 3 ص 150 حتى

=>


الصفحة 69
وعدا عن أنهم قد استخدموا المال في محاولة منهم لإسكات المعترضين. كما هو الحال في قضيتهم مع أبي سفيان الذي كان النبي (صلى الله عليه وآله) قد أرسله ساعياً، فقدم بعد وفاته (صلى الله عليه وآله)، فأجلب عليهم، فقال عمر لأبي بكر:

«إن أبا سفيان قد قدم، وإنا لا نأمن شره، فدع له ما في يده، فتركه؛ فرضي» (1).

كما أنه.. حينما كان أبو سفيان في أوج غضبه وثورته عليهم، أخبروه: بأن أبا بكر قد ولى ابنه، فانقلب في الحال رأساً على عقب، وقال: «وصلته رحم» (2).

و «لما اجتمع الناس على أبي بكر، قسم بين الناس قسماً، فبعث إلى عجوز من بني عدي بن النجار قسمها مع زيد بن ثابت، فقالت: ما هذا؟ قال: قسم قسمه أبو بكر للنساء، قالت: أتراشوني عن ديني؟ قالوا: «لا»! ثم تذكر الرواية رفضها لذلك المال (3).

ثم حاول عثمان بعد ذلك أن يرشو ابن أبي حذيفة بالمال، كما ذكره المؤرخون (4).

وعن علي (عليه السلام) في إشارة صريحة منه إلى ذلك: «خذوا العطاء ما كان طعمة، فإذا كان عن دينكم، فارفضوه أشد الرفض» (5).

وليراجع كتابنا دراسات وبحوث ج 1 في بحث «أبو ذر.. اشتراكي، أم شيوعي، أم مسلم» للإطلاع على المحاولات العديدة لرشوته من قبل الهيئة الحاكمة.

____________

<=

ص 155 و 217/218. وراجع أيضاً: تاريخ الأمم والملوك ط أورباج 1 /6 /3026.

(1) شرح النهج للمعتزلي ج 2 ص 44 ودلائل الصدق ج 2 ص 39 وقاموس الرجال ج 5 ص 117 والغدير ج 9 ص 254 عن العقد الفريد ج 2 ص 249.

(2) تاريخ الطبري ط الاستقامة ج 2 ص 449 ودلائل الصدق ج 2 ص 39.

(3) حياة الصحابة ج 1 ص 420 عن كنز العمال ج 3 ص 130.

(4) أنساب الأشراف (بتحقيق المحمودي) ج 3 ص 388.

(5) كنز العمال ج 4 ص 382.


الصفحة 70
نعم ـ إنه عدا عن ذلك كله ـ فإننا نجدهم يُحْكمون أمورهم بعد حوادث السقيفة، ولا يفسحون المجال لأية مناورة أو مبادرة، من أي كان، ومن أي نوع كانت..

فنجد أبا بكر يوصي بالأمر إلى عمر بن الخطاب بعده، ثم هو يبدأ خطة التمهيد للأمويين، حيث إنه وهو في مرض الموت، وقد جاء بعثمان ليكتب له وصيته ـ فأغمى على أبي بكر، فكتب عثمان اسم عمر في حال غشية وغيبوبة أبي بكر (1)، فلما أفاق وعلم بذلك قال: «لو تركته ما عدوتك» أو ما هو بمعناه (2). أو قال له: «والله، إن كنت لها لأهلاً» وبتعبير مصعب الزبيري: «أصبت يرحمك الله، ولو كتبت اسمك لكنت لها أهلاً..» (3).

ولم نجد أحداً يعترض على صحة خلافة عمر بأن اسمه قد كتب حال إغماء ابي بكر، في مرض موته، ولم يصر على ذلك سبباً للفتنة، مع أنهم يقولون: إن نسبة الهجر للنبي (صلى الله عليه وآله) في مرض موته، لمنعه عن كتابة الكتاب الذي لن يضلوا بعده كانت في محلها، لأن ذلك كان سوف يثير فتنة!! فسبحان الله، كيف صارت باؤهم تجر، وباء الله ورسوله لاتجر.

ونستطيع أن نلمح في هذه الحادثة قدراً من التفاهم فيما بين أبي بكر وعثمان.. وإن كنا نجد هذا التفاهم أكثر وضوحاً وعمقاً فيما بين أبي بكر وعمر. والشواهد على ذلك كثيرة جداً، بل لقد صرح أبو بكر نفسه بذلك لعبد الرحمن بن عوف حينما شاوره في استخلاف عمر، فذكر له غلظته، فقال أبو بكر: «ذلك لأنه يراني رقيقاً ولو قد أفضى الأمر إليه ترك كثيراً مما هو عليه، وقد رمقته إذا ما غضبت على رجل أراني الرضا عنه، وإذا لنت له

____________

(1) راجع: المراجعات ودلائل الصدق، والنص والاجتهاد، وغير ذلك.

(2) راجع: تاريخ الطبري ج 2 ص 618 والكامل لابن الأثير ج 2ص 425 وشرح النهج للمعتزلي ج 2 ص 164، وسيرة الأئمة الإثني عشر ج 1 ص 356 وحياة الصحابة ج 2 ص 25 عن طبقات ابن سعد، وعن كنز العمال ج 3 ص 145.

(3) راجع: نسب قريش ص 104 وكنز العمال ج 5 ص 398 و 399 عن اللالكائي، وابن سعد، والحسن بن سفيان في جزئه، وابن كثير، وصححه.