وليتأمل قوله (عليه السلام): إنا لم نأمره. فإنه لا يتضمن إنكاراً على الإمام الحسن (عليه السلام)، ولا إدانة لموقفه.
ولقد صدق أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه؛ فلم يكن الإمام الحسن (عليه السلام) يحتاج إلى أمر، فلقد أدرك خطة الخصوم بما آتاه الله من فضله، وبإحساسه المرهف، وفكره الثاقب. وهو الذي عايش الأحداث عن كثب، بل كان في صميمها.
وإذن.. فمن الطبيعي أن يدرك: أن عليه فيه مسؤولية العمل على إفشال تلك الخطة، وإبقاء حق أهل البيت وقضيتهم على حيويتها في ضمير ووجدان الأمة. وكان علي وصي النبي (صلى الله عليه وآله) يحتاط للأمر، حتى لا تحدث تشنجات حادة، ليس من مصلحة القضية، ولا من مصلحة الإسلام المساهمة في حدوثها في تلك الظروف.
والإمام الحسين أيضاً:
ولا عجب إذا رأينا للإمام السبط الشهيد الحسين (عليه السلام) موقفاً مماثلاً تماماً مع الخليفة الثاني عمر بن الخطاب.. ونجد أن عمر قد أخذه إلى بيته، وحاول تقريره: إن كان أبوه أمره بهذا، أو لا. فأجابه عن ذلك بالنفي.
وبعض الروايات تقول: إنه سأله عن ذلك في نفس ذلك الموقف أيضاً، فنفى ذلك. فقال عمر: منبر أبيك والله، وهل أنبت على رؤوسنا الشعر إلا أنتم (1)
____________
<=
ص 139، وعن كنز العمال ج 3 ص 132. وحياة الحسن للقرشي ج 1 ص 84 عن بعض من تقدم. والاتحاف بحب الأشراف ص 23.
(1) راجع: مقتل الحسين للخوارزمي ج 1 ص 145، والإصابة ج 1 ص 333 وقال سنده صحيح وأمالي الطوسي ج 2 ص 313 /314 وإسعاف الراغبين بهامش نور الأبصار ص 123 وحياة الصحابة ج 2 ص 495 عن كنز العمال ج 7 ص 105 عن ابن كثير
=>
لقد كانت مواقف الحسنين هذه تعتبر تحدياً عميقاً للسلطة، في أدقِّ وأخطر قضية عملت من أجل حسم الأمور فيها لصالحها، ورأت أنها قد وفقت في مقاصدها تلك إلى حدٍ بعيد.. فجاءت هذه المواقف لتهز من الأعماق ما كاد يعتبر، أو قد اعتبر بالفعل من الثوابت الراسخة.
والحسنان هما ذانك الفرعان من دوحة الإمامة، وغرس الرسالة، اللذان يفهمان الظروف التي تحيط بهما، ويقيمانها التقييم الصحيح والسليم، ليتخذا مواقفهما على أساس أنها وظيفة شرعية، ومسؤولية إلهية.
أما التكليف الشرعي، والموقف الذي لأبيهما، فهو وإن كان في ظاهره
____________
<=
وابن عساكر وابن سعد وابن راهويه والخطيب والصواعق المحرقة ص 175 عن ابن سعد، وغيره، والاحتجاج للطبرسي ج 2 ص 13، والمناقب لابن شهر آشوب ج 4 ص 40، وتاريخ بغداد ج 1 ص 141، وكشف الغمة للأربلي ج 2 ص 42، وحياة الحسن للقرشي ج 1 ص 84، والإمام الحسن للعلايلي ص 305 عن الإصابة، وصححه، وينابيع المودة ص 168، وتذكرة الخواص 235، وسيرة الأئمة الاثني عشر للحسني ج 2 ص 15 وكفاية الطالب ص 224 عن مسند احمد، وابن سعد وتهذيب تاريخ ابن عساكر ج 4 ص 324 وتهذيب التهذيب ج 2 ص 346 وصححه، وفضائل الخمسة من الصحاح الستة ج 3 ص 369 وهامش أنساب الأشراف بتحقيق المحمودي ج 3 ص 27 عن تاريخ دمشق لابن عساكر ج 13 ص 15، أو 110 بعدة أسانيد، وترجمة الإمام الحسين من تاريخ دمشق بتحقيق المحمودي ص 141 و 142 وفي هامشه عن ابن سعد ج 8 في ترجمة الإمام الحسين وعن كنز العمال ج 7 ص 105 عن ابن راهويه وغيره والغدير ج 7 ص 126 عن ابن عساكر.
الحسنان.. وأذان بلال:
ولعلنا لا نبعد كثيراً إذا قلنا: إن قضية أذان بلال كانت كذلك تخدم نفس الهدف، وتسير في نفس الاتجاه الذي توخياه صلوات الله وسلامه عليهما من موقفيهما من أبي بكر وعمر، حسبما تقدمت الإشارة إليه..
ومجمل تلك القضية هو: أن بلالاً كان في الشام، فقدم إلى المدينة لزيارة قبر الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، لرؤيا رآها.
وفيما هو يناجيه، وإذا بالحسن والحسين قد أقبلا لزيارة جدهما وأمهما، فلما رآهما تجددت أحزانه، وأقبل إليهما يضمهما إلى صدره، ويقول: كأني بكما رسول الله.
والتفتا إليه، وقالا: إذا رأيناك ذكرنا صوتك، وأنت تؤذن لرسول الله، ونشتهي أن نسمعه الآن بعد غيابك الطويل.
وانطلق بلال من ساعته إلى سطح المسجد، تلبية لرغبة السبطين، فأجهش بالبكاء، وانطلق صوته من ناحية المسجد إلى كل بيت في المدينة: الله أكبر، لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فهز المشاعر، وارتجت المدينة من أصوات الباكين.
ومضى الذهبي يقول: فلما قال بلال: أشهدُ أنَّ محمداً رسول الله، خرجت العواتق من خدورهن، وظن الناس أنَّ رسول الله قد بعث من قبره. وما رؤي يوم أكثر باكياً ولا باكية بعد رسول الله من ذلك اليوم (1).
____________
(1) تهذيب تاريخ دمشق ج 2 ص 259 وسير أعلام النبلاء ج 1 ص 258 وسيرة الأئمة
=>
ومهما يكن من أمر، فإن السياسة قد كانت تتجه إلى تناسي ذكر النبي (صلى الله عليه وآله)، والمنع من حديثه ومن العمل بسنته (2) وجعل ذكره مجرد أمر روتيني لا أكثر، فجاءت هذه الهزة لتعيد الربط العاطفي والشعوري بالرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) ليكون ذلك بمثابة إدانة للتوجه العام تجاه الرسول وكل ما يرتبط به.
الإمام الحسن (عليه السلام) وأسئلة الأعرابي:
وإذا كانت الإمامة تقوم على ركنين رئيسين، أحدهما: النص، والآخر: العلم. فإننا نجد الأئمة (عليهم السلام) يهتمون بإظهار هذا النص، والتركيز عليه باستمرار. وقد رأينا الإمام الحسن (عليه السلام) يهتم بهذه الناحية، في كثير من أقواله ومواقفه، فلقد ذكر في خطبه: أنهم هم الذين افترض الله طاعتهم، وأنهم أحد الثقلين، واستدل بحديث الغدير، وبالأعلمية (3) وغير ذلك.
وكان هذا دأب الأئمة (عليهم السلام) وشيعتهم الأبرار بصورة عامة، حتى لقد رأينا الإمام علياً (عليه السلام) يستشهد الناس على حديث الغدير في رحبة
____________
<=
الاثني عشر للسيد هاشم معروف الحسني ج 1 ص 531/532 وراجع: أُسد الغابة ج 1 ص 208، وقاموس الرجال ج 2 ص 239.
(1) راجع قاموس الرجال ج 2 ص 239/240.
(2) راجع: كتاب الصحيح من سيرة النبي ج 1، الطبعة الثانية.
(3) راجع: الغدير ج 1 ص 198 عن ابن عقدة ومروج الذهب ج 2 ص 431 و 432 والمناقب لابن شهر آشوب ج 4 ص 11 و 12 وينابيع المودة ص 482.
والإمام الحسين (عليه السلام) يستشهد الناس على حديث الغدير في منى (2).. إلى غير ذلك من مواقف لا مجال لتتبعها هنا.
وكذلك الحال بالنسبة إلى العلم، فإنهم (عليهم السلام) ما فتئوا يؤكدون على أنهم هم ورثة علم رسول الله صلى عليه وآله، وعندهم الجفر، والجامعة، وغير ذلك (3)..
وقد رأينا: أن الإمام علياً (عليه السلام) يهتم في إثبات صفة علم الإمامة للإمام الحسن (عليه السلام) منذ طفولته.. حتى ليصبح إطلاعه على تلك العلوم، التي لم ينل الآخرون منها شيئاً دليلاً على إمامته عليه آلاف التحية والسلام..
ويلاحظ: أن أمير المومنين (عليه السلام) يهتم في إظهار ذلك لخصوص أولئك الذين استأثروا بالأمر، وأقصوا أصحاب الحق الحقيقيين عن حقهم الذي جعله الله تعالى لهم، وما ذلك إلا ليؤكد لهم، ولكل أحد على أنهم ليسوا أهلاً لما تصدّوا له، فضلاً عن أن يكون لهم أدنى حق فيه..
وقد اتبع (عليه السلام) في صياغة الحدث أسلوباً من شأنه أن يتناقله الناس، ويتندروا به في مجالسهم.. إذ أن إجابة طفل لم يبلغ عمره العشر سنوات على أسئلة عويصة وغامضة، لأمر يثير عجبهم، ويستأثر باهتمامهم.
____________
(1) راجع: الغدير ج 1 ودلائل الصدق ج 3 وغير ذلك كثير..
(2) راجع: الغدير ج 1 ودلائل الصدق ج 3 وغير ذلك كثير..
(3) راجع مكاتيب الرسول ج 1 ص 59 حتى ص 89 فقد أسهب القول حول هذه الكتب واستشهادات الأئمة بها، وغير ذلك.
ومن الطريف في الأمر: أننا وجدنا العباسيين يحاولون أن يدَّعوا: أن عندهم صحيفة الدولة، ولكنها تنتهي إلى محمد بن الحنفية، ثم إلى علي (عليه السلام). وقد أشرنا إلى ذلك في كتابنا: الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)..
بل لقد حاول الأمويون أن يدَّعوا مثل ذلك أيضاً راجع: محاضرات الراغب ج 2 ص 343.
فقال له: يا أعرابي، أشكلت عليّ في قضيتك. فدلهّ على عمر، ودلَّه عمر على عبد الرحمن بن عوف. فلما عجزوا قالوا: عليك بالأصلع.
فقال أمير المؤمنين: سل أي الغلامين شئت. (وأشار إلى الحسن والحسين (عليهما السلام)).
فقال الحسن: يا أعرابي، ألك إبل؟
قال: نعم.
قال: فاعمد إلي عدد ما أكلت من البيض نوقاً، فاضربهن بالفحول، فما فصل منها فأهده إلى بيت الله العتيق الذي حجبت إليه.
فقال أمير المؤمنين: إن من النوق السلوب. ومنها ما يزلق (1).
فقال: إن يكن من النوق السلوب وما يزلق، فإن من البيض ما يمرق (2).
قال: فسمع صوت: أيها الناس، إن الذي فهًّم هذا الغلام هو الذي فهًّمها سليمان بن داود (3).
____________
(1) الناقة السلوب: التي مات ولدها، أو القته لغير تمام، وأزلقت الفرس: أجهضت، أي ألقت ولدها قبل تمامه..
(2) مرقت البيضة: فسدت.
(3) المناقب لابن شهرآشوب ج 4 ص 354/355 و 335 عنه وعن العدد، وحياة الحسن (عليه السلام) للقرشي ج 1 ص 86/87.
وقد ذكر القضية لكن بدون إحالة السؤال على الإمام الحسن كل من: ذخائر العقبى ص 82 وإحقاق الحق ج 8 ص 207 وفرائد السمطين ج 1 ص 342/343 والغدير ج 6 ص 43 عن بعض من تقدم، وعن كفاية الشنقيطي ص 57 والرياض النضرة ج 2 ص 50 و 194 وفي هامش ترجمة أمير المؤمنين لابن عساكر ج 49 ص 83، أو 498 ترجمة محمد بن الزبير.
قال ابن شهرآشوب: «وفي الكافي والتهذيب: أبو جعفر: إن أمير المؤمنين (عليه السلام) سأل فتوى ذلك الحسن، فقال:
يطلق كلاهما، والدية من بيت المال. قال: ولم؟ قال: لقوله: ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً» (1).
وهناك أيضاً أسئلة الإمام (عليه السلام) لولده الإمام الحسن (عليه السلام) عن السداد، والشرف، والمروّة، وغير ذلك من صفات.. فأجاب عنها، فلتراجع (2).
وأيضاً.. فهناك أسئلة ذلك الرجل عن الناس، أشباه الناس، وعن النسناس، فأحاله الإمام على ولده الإمام الحسن (عليه السلام): فأجابه عنها (3).
وسأل أمير المؤمنين (عليه السلام) ولده الإمام الحسن (عليه السلام): كم بين الإيمان واليقين؟ قال: أربع أصابع. قال: كيف ذلك؟ قال: الإيمان كل ما سمعته أذناك الخ (4)..
وجاء رجل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)، فسأله عن الرجل، إذا نام أين تذهب روحه؟ وعن الرجل كيف يذكر وينسى، وعن الرجل كيف يشبه الأعمام
____________
(1) المناقب لابن شهر آشوب ج 4 ص 11. والآية في سورة المائدة آية 34.
(2) راجع: نور الأبصار ص 121 وتهذيب تاريخ دمشق ج 4 ص 220/221 وحلية الأولياء ج 2 ص 36 والبداية والنهاية ج 8 ص 39 وحياة الحسن (عليه السلام) للقرشي ج 1 ص 138 ـ 140 وكشف الغمة ج 2 ص 194/195، والفصول المهمة للمالكي 144 ومعاني الأخبار ص 243 و 245 وتحف العقول ص 158/159 وعن شرح النهج للمعتزلي ج 4 ص 250 وعن البحار ج 17 وعن إرشاد القلوب للديلمي ج 1 ص 116 وعن مطالب السؤل.
(3) تفسير فرات ص 8 وعن البحار ج 7 ص 150 ط عبد الرحيم.
(4) العقد الفريد ج 6 ص 268 وليراجع البحار ج 43 ص 357.
وكان هو، والحسن (عليهما السلام)، وسلمان رحمه الله في المسجد الحرام، فأحاله على الإمام الحسن، فأجابه بما أقنعه. ثم أخبر أمير المؤمنين (عليه السلام): أنه الخضر (1).
وأرسل معاوية إلى أمير المؤمنين يسأله: كم بين الحق والباطل؟ وعن قوس قزح، وما المؤنث؟ وعن عشرة أشياء بعضها أشد من بعض، فأحال ذلك أمير المؤمنين (عليه السلام) على الإمام الحسن (عليه السلام)، فأجابه عنها (2).
وأرسل قيصر يسأل معاوية عن بعض المسائل، فلم يعلم جوابها، فأحالها إلى الإمام الحسن (عليه السلام) (3).
بل إننا نجد النبي (صلى الله عليه وآله) نفسه يرجع السؤال إلى الإمام الحسن (عليه السلام)، ليجيب عليه.. كما ورد في بعض النصوص (4).
ويطلب الإمام علي (عليه السلام) منه: أن يكتب لعبد الله بن جندب، فكتب إليه:
«إن محمداً كان أمين الله في أرضه، فلما أن قبض محمداً كنا أهل بيته، فنحن أمناء الله في أرضه، عندنا علم البلايا والمنايا، وأنساب العرب، ومولد الإسلام. وإنا لنعرف الرجل إذا رأيناه بحقيقة الإيمان، وبحقيقة النفاق».
ثم يذكر (عليه السلام) ما لأهل البيت من الفضل العظيم.. ويقول: «نحن أفراط الأنبياء، ونحن أبناء الأوصياء (ونحن خلفاء الأرض
____________
(1) إثبات الوصية ص 157، 158، والأحمدي عن البحار ج 14 ط كمباني ص 396 والاحتجاج مرسلاً مثله، وعن المحاسن، وعلي بن إبراهيم.
(2) البحار ج 43 ص 325 وعيون أخبار الرضا ج 1 ص 66 وتحف العقول ص 160 ـ 162. ونقل عن المعتزلي ج 10 ص 129 ـ 131، والظاهر أن ثمة اشتباهاً في الأرقام.
(3) راجع: ربيع الأبرار ج 1 ص 722.
(4) البحار ج 43 ص 335.
وأخيراً.. فقد روي عن عبد الله بن عباس، قال: مرت بالحسن بن علي (عليه السلام) بقرة، فقال: هذه حبلى بعجلة أنثى لها غُرَّة في جبهتها، ورأس ذنبها أبيض، فانطلقنا مع القصاب حتى ذبحها، فوجدنا العجلة كما وصف على صورتها.. فقلنا له: أو ليس الله عز وجل ويعلم ما في الأرحام، فكيف علمت، قال: إنا نعلم المخزون المكتوم، الذي لم يطلع عليه ملك مقرب، ولا نبي مرسل، غير محمد وذريته (2).
وليراجع قوله (عليه السلام) حول ما هو مكتوب على جناح الجرادة، واعتبار ابن عباس ذلك من مكنون العلم (3).
وتفصيلات ذلك وسواه موجودة في المصادر التي في الهوامش.
فرض العطاء:
لقد اتبع عمر بن الخطاب سياسة خاصة في العطاء، تركت آثاراً سيئة في نفوس الكثيرين، وعلى المجتمع الإسلامي بصورة عامة.. سياسة تقوم على التعصبات الجاهلية، وتظهر فيها الامتيازات المادية والعرقية (4)، التي جهد
____________
(1) الأحمدي عن البحار ط عبد الرحيم ج 7 ص 96 و 99 عن فرات وعن كنز الفوائد ومعادن الحكمة ج 2 ص 173 عن الكافي وبصائر الدرجات.
(2) البحار ج 43 ص 328 و 337.
(3) البحار ج 48 ص 337 والخرايج والجرائح ص 221.
وثمة روايات أخرى تدخل في هذا المجال، فليراجع على سبيل المثال: البحار ج 44 ص 100 و 101 عن الاحتجاج عن سليم بن قيس.
(4) حول سياسة عمر في العطاء، راجع ما تقدم من مصادر حين الكلام على التمييز العنصري.
وراجع: تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 153/154 وتهذيب تاريخ ابن عساكر ج 4 ص 321
=>
ولكن هذه السياسة الخاطئة، فقد ألفتت إلى ناحية، وكرست أمراً، لم يكن الخلفاء وأعوانهم قد التفتوا إليه، ولا كان يروق لهم تكريسه، أو أنهم قد التفتوا إليه، ولكنهم لم يمكنهم تحاشيه، والتخلص منه.. وهو أمر واقعي، كان لا بد من الاحتفاظ به، والإلتفات إليه بنحو، أو بآخر.. ألا وهو الاعتراف الضمني بل الصريح من الهيئة الحاكمة، وعلى رأسها عمر بن الخطاب، الشخصية القوية جداً، وذات النفوذ العظيم ـ نعم الاعتراف ـ بفضائل ومزايا الحسنين الزكيين عليهما الصلاة والسلام، حيث ألحقهم عمر بن الخطاب بأهل بدر، تنبيهاً على المكانة الممتازة التي كانا يتحليان بها، ولم يكن بالإمكان التغاضي عنها، أو تجاهلها.
بل إننا لنجده «قسم يوماً، فأعطاهما عشرين ألف درهم، وأعطى ولده عبد الله ألف درهم، فعاتبه ولده، فقال: قد علمت سبقي إلى الاسلام، وهجرتي، وأنت تفضل علي هذين الغلامين؟ (وهذا يعني: أن ذلك قد كان في أوائل خلافة عمر).
فقال: ويحك يا عبد الله، إئتني بجدٍ مثل جدهما، وأنا أعطيك مثل عطائهما» (2).
____________
<=
وسيرة الأئمة الاثني عشر ج 1 ص 533 والإمام الحسين للعلايلي ص 309 وشرح النهج للمعتزلي ج 8 ص 111 وفتوح البلدان للبلاذري، القسم الثالث ص 548 ـ 566 وغير ذلك.
(1) راجع: ما تقدم حين الكلام حول سياسة التمييز العنصري.
(2) الإمام الحسين للعلايلي هامش ص 309 عن تذكرة الخواص. ويرى المحقق العلامة الأحمدي حفظه الله: أن تعليل عمر هذا لفعله ذاك، لعله كان يرمي إلى الإشارة إلى أن ما فعله لم يكن إلا لأجل انتسابهما لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، لا لأجل ما يتحليان به من خصائص ومزايا. ولعله يتعمد صرف الأنظار عن ذلك.
=>
الإمام الحسن (عليه السلام) في الشورى:
وحينما طعن عمر بن الخطاب، ورتب قضية الشورى على النحو المعروف، قال للمرشحين: «واحضروا معكم من شيوخ الأنصار، وليس لهم من أمركم شيء، وأحضروا معكم الحسن بن علي، وعبد الله ين عباس، فإن لهما قرابة، وأرجو لكم البركة في حضورهما. وليس لهما من أمركم شيء. ويحضر ابني عبد الله مستشاراً، وليس له من الأمر شيء..» فحضر هؤلاء (1).
ويبدو: أن هذه أول مشاركة سياسية فعلية معترف بها، بعد وفاة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، أي بعد بيعة الرضوان، وبعد استشهاد الزهراء صلوات الله وسلامه عليها بهما في قضية فدك، على النحو الذي تقدم.
ويلاحظ هنا: أنه قد اكتفى بذكر الإمام الحسن (عليه السلام)، ولم يذكر الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام، ولعل ما كان قد جرى بينهما، وقول الحسين له: انزل عن منبر أبي، لم يغرب عن ذهن الخليفة بعد.
ولكنه قد ذكر عبد الله بن عباس، الذي كان عمر يقربه، ويهتم بشأنه، ولعل ذلك كان مكافأة لأبيه العباس، الذي لم يتعرض لحكمهم وسلطانهم، إن لم نقل: إنه قد ساهم في تخفيف حدة التوتر في أحيان كثيرة فيما بينهم وبين علي (عليه السلام)، كما جرى في قصة البيعة لأبي بكر، ثم في قصة زواج عمر نفسه بأم كلثوم بنت أمير المؤمنين.. كما أنه لم يساهم في قتل القرشيين في بدر ولا في غيرها.
بالإضافة إلى أن عمر يريد أن يوجد قرناء للإمام الحسن (عليه السلام)،
____________
<=
وأقول لكننا مع ذلك، نفهم أنه لم يكن بإمكانه تجاهلهما، وإن كان يمكن أن يكون هدفه من تعليله ذاك هو ما ذكر.
(1) الإمامة والسياسة ج 1 ص 24 و 25.
ثم.. هناك الدور الذي رصده لولده عبد الله الذي كان يرى في والده المثل الأعلى الذي لا بد أن يحتذى، وتنفذ أوامره، وينتهي إلى رغباته وآرائه، ولا يجوز تجاوزها..
وكان عمر يدرك طبعاً مدى تأثير شخصيته وهيمنته على ولده، ويثق بأن ولده سيجهد في تنفيذ المهمة التي يوكلها إليه..
ولكن لا بد من التخفيف من التساؤلات التي ربما تطرح حول سر اختصاص ولده بهذا الدور دون سواه، فكانت هذه التغطية التي لا تضر، والتي يؤمن معها غائلة طغيان الشكوك والتفسيرات، التي لايرغب في أن ينتهي الناس إليها في ظروف كهذه..
ومن الجهة الثالثة.. فإن بأشراك الحسن (عليه السلام) وابن عباس، على النحو الذي ذكره من رجائه البركة في حضورهما.. يكون قد أضفى صفة الورع والتقوى على خطته تلك، وتمكن من إبعاد أو التخفيف من شكوك المشككين، واتهاماتهم..
هذا باختصار.. ما يمكن لنا أن نستوحيه ونستجليه من الحادثة المتقدمة في عجالة كهذه..
ولكن موقف أمير المؤمنين (عليه السلام) في الشورى، ومناشداته بمواقفه وبفضائله، وبأقوال النبي صلى عليه وآله فيه، قد أفسدت كل تدبير، وأكدت تلك الشكوك، وأذكتها..
وأما بالنسبة لقبول الإمام الحسن عليه الصلاة والسلام للحضور في الشورى، فهو كحضور علي (عليه السلام) فيها.. فكما أن أمير المؤمنين قد أشترك فيها من أجل أن يضع علامة استفهام على رأي عمر الذي كان قد أظهره ـ وهو الذي كان رأيه كالشرع المتبع ـ في أن النبوة والخلافة لا تجتمعان في بيت واحد أبداً، بالإضافة إلى أنه من أجل أن لا ينسى الناس قضيتهم..
نعم إن كل ذلك، يكفي مبرراً ودليلاً لرجحان، بل ولحتمية مشاركة الإمام الحسن في قضية الشورى واستجابته لرغبة عمر في هذا المجال..
كما أنه يكون قد انتزع اعترافاً من عمر بن الخطاب، بأنه ذلك الرجل الذي لا بد أن ينظر إليه الناس نظرة تقديس، وأن يتعاملوا معه على هذا المستوى.. ولم يكن ذلك إلا نتيجة لما سمعه عمر ورآه، هو وغيره من الصحابة، من أقوال ومواقف النبي الأكرم بالنسبة إليه، ولأخيه الحسين السبط عليهما الصلاة والسلام.
وعليه.. فكل من يعاملهما على غير هذا الاساس، حتى ولو كان قد نصبه عمر وأعطاه ثقته، ومنحه حبه وتكريمه، فإنه يكون متعدياً وظالماً.. وحتى مخالفاً لخط ورأي، نظرة ذلك الذي يصول على الناس ويجول بعلاقته وارتباطه به.
نعم.. وقد رأينا الإمام الرضا عليه الصلاة والسلام يذكر: ان الذي دعاه للدخول في ولاية العهد، هو نفس الذي دعا أمير المؤمنين للدخول في الشورى (1).
____________
(1) مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 364 ومعادن الحكمة ص 192 وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 140 والبحار ج 49 ص 140 و 141، والحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام) ص 306. عنهم.
الفصل الثالث
في عهد عثمان
الإمام الحسن (عليه السلام) في وداع أبي ذر:
«يا عماه، لولا أنه لا ينبغي للمودع أن يسكت، وللمشيع أن ينصرف، لقصر الكلام، وإن طال الأسف. وقد أتى من القوم إليك ما ترى، فضع عنك الدنيا بتذكر فراغها وشدة ما اشتد منها برجاء ما بعدها، واصبر حتى تلقى نبيك (صلى الله عليه وآله)، وهو عنك راض» (1).
تلك هي كلمات الإمام الحسن المجتبى صلوات الله وسلامه عليه، وهو يودع مع أبيه، وأخيه، وعمه عقيل، وابن عمه عبد الله بن جعفر، وابن عباس ـ أبا ذر، ذلك الصحابي الجليل، الذي جاهد وناضل القوم في سبيل الدين والحق. ولاقى منهم ما لاقى من اضطهاد وإهانة وبلاء، حتى قضى غريباً، وحيداً فريداً في «الربذة»: منفاه.
هي كلمات ناطقة بموقفه القائم على أساس العقيدة والحق، تجاه تصرفات وأعمال الهيئة الحاكمة: «القوم».
وهو بكلماته هذه يساهم في تحقيق ما كان يرمي إليه أبو ذر من أهداف، حيث كان لا بد من إطلاق الصرخة، لإيقاظ الأمة من سباتها، وتوعيتها على حقيقة ما يجري وما يحدث، وإفهامها: ان الحاكم لا يمكن أن يكون أبداً في
____________
(1) شرح النهج للمعتزلي ج 8 ص 253 والغدير ج 8 ص 301 عنه، وأشار إلى ذلك اليعقوبي في تاريخه ج 2 ص 172 وعن: الوافي ج 3 ص 107 والبحار ج 22 ص 412 و 436. وراجع أيضاً روضة الكافي ج 8 ص 207.