الصفحة 132
منأى عن المؤاخذة، ولا هو فوق القانون، وإنما هو ذلك الحامي له، والمدافع عنه، فإذا ما سوّلت له نفسه أن يرتكب أية مخالفة، أو أن يستغل مركزه في خدمة أهوائه ومصالحه الشخصية، فإن بإمكان كل أحد أن يقف في وجهه، ويعلن كلمة الحق، ويعمل على رفع أي ظلم أو حيف يصدر منه.

ومن جهة أخرى... فإنه إذا كانت الظروف لا تسمح لأمير المؤمنين وسبطيه (عليهم السلام)، وآخرين ممن هم على خطهم لأن يقفوا موقف أبي ذر، فإن عليهم ـ على الأقل ـ أن يعلنوا عن رأيهم ـ الذي هو رأي الإسلام ـ فيه، وفي مواقفه، فإن ذلك من شأنه: أن يعطي موقفه العظيم ذاك بعداً إعلامياً، وعمقاً فكرياً وسياسياً، يحمي تلك المعطيات والنتائج التي ستنشأ عنه.. فكانت مبادرتهم ـ إلى جانب مبادرات أخرى لأمير المؤمنين (عليه السلام) خاصة، لامجال لذكرها هنا ـ لتوديعه، رغم منع السلطة، ثم جرى بينهم وبين مروان، ثم بينهم وبين عثمان ما جرى، حسبما ذكره، أو أشار إليه غير واحد من المؤرخين (1).

وإذا تأملنا في كلمات الإمام الحسن صلوات الله وسلامه عليه لأبي ذر في ذلك الموقف، فإننا نجدها تتضمن: تأسفه العميق لما فعله القوم بأبي ذر، ثم هو يشجعه على الاستمرار على موقفه، ويعتبر أن فيه رضى النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)، ومن ثم رضى الله سبحانه وتعالى..

كما أنه يحاول التخفيف عن أبي ذر، وإعطائه الرؤية الصحيحة، التي من شأنها أن تخفف من وقع المحنة عليه، وتسهل عليه مواجهة البلايا التي تنتظره، وذلك حينما يأمره (عليه السلام) بأن: يضع عنه الدنيا، بتذكر فراغها، وشدة ما اشتد منها برجاء ما بعدها.

فإن هذه الكلمات بالذات قد تكفلت ببيان السر الحقيقي، الذي يجعل شخصية الإنسان المسلم أقوى من كل ما في الدنيا من أسلحة وقدرات تملكها

____________

(1) راجع: مروج الذهب ج 2 ص 339 ـ 342 وشرح النهج للمعتزلي ج 8 ص 252 ـ 255 وتاريخ اليعقوبي ج 2 ص 172/173 والفتوح لابن أعثم ج 2 ص 159 و 160

الصفحة 133
قوى البغي والشر، وتجعله على استعداد لأن يضحي بكل شيء حتى بنفسه، بكل رضا وثقة واطمئنان، بل وباندفاع يحمل معه شعوراً غامراً بالسرور والهناء، بل وبالفرحة والسعادة.

اشتراك الإمام الحسن (عليه السلام) في الفتوح:

1 ـ ويقولون: إنه في سنة ثلاثين غزا سعيد بن العاص طبرستان، وكان أهلها في خلافة عمر قد صالحوا سويد بن مقرن على مال بذلوه، ثم نقضوا، فغزاهم سعيد بن العاص، ومعه الحسن، والحسين، وابن عباس (1).

قال أبو نعيم بالنسبة إلى الإمام الحسن (عليه السلام): «دخل أصبهان غازياً، مجتازاً إلى غزاة جرجان» (2).

وعده السهمي هو وأخاه الحسين (عليه السلام) ممن دخل جرجان (3).

2 ـ وفي مناسبة فتح افريقية يقولون: إن عثمان جهز العساكر من المدينة، وفيهم جماعة من الصحابة، منهم ابن عباس، وابن عمر، وابن عمرو بن العاص، وابن جعفر، والحسن والحسين، وابن الزبير، وساروا مع عبد الله بن أبي سرح سنة ست وعشرين (4).

____________

(1) الفتوحات الإسلامية ج 1 ص 175 والكامل لابن الأثير ج 3 ص 109 وتاريخ الطبري ج 3 ص 323، وفتوح البلدان للبلاذري بتحقيق المنجد، قسم 2 ص 411، وتاريخ ابن خلدون ج 2 قسم 2 ص 135 والبداية والنهاية ج 7 ص 154، وحياة الإمام الحسن (عليه السلام) للقرشي ج 1 ص 96، وسيرة الأئمة الاثني عشر ج 1 ص 536 وج 2 ص 17 عن ابن خلدون والطبري.

(2) ذكر أخبار أصفهان ج 1 ص 44 وراجع ص 43 و 47.

(3) تاريخ جرجان ص 7.

(4) العبر (تاريخ ابن خلدون) ج 2 قسم 1 ص 128 وحياة الحسن (عليه السلام) للقرشي ج 1 ص 95 وسيرة الأئمة الاثني عشر ج 2 ص 16 ـ 18 و ج 1 ص 535 عن ابن خلدون وعن الاستقصاء في أخبار المغرب الأقصى للناصري السلاوي ج 1 ص 39.


الصفحة 134

التفسير والتوجيه:

وقد حاول البعض توجيه ذلك على أساس: أنه (عليه السلام) يريد أن يرى اتساع نفوذ الإسلام، حيث إن في هذه الفتوحات خدمة للدين، ونشراً للإسلام، فدخل (عليه السلام) ميدان الجهاد «والجهاد باب من أبواب الجنة» وألقى الستار على ما يكنه في نفسه من الاستياء على ضياع حق أبيه.. وذلك لأن أهل البيت (عليهم السلام) ما كان همهم إلا الإسلام والتضحية في سبيله (1).

وعلى حد تعبير الحسني: «وليس بغريب على علي بن أبي طالب وبنيه أن يجندوا كل إمكانياتهم وطاقاتهم في سبيل نشر الإسلام، وإعلاء كلمته. وأذا كانوا يطالبون بحقهم في الخلافة فذاك لأجل الإسلام ونشر تعاليمه، فإذا اتجه الإسلام في طريقه، فليس لديهم ما يمنع من أن يكونوا جنوداً في سبيله، حتى ولو مسهم الجور والأذى وقد قال أمير المؤمنين أكثر من مرة: والله لأ سالمنَّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن جور إلا عليَّ خاصة» (2).

ويعلل رحمه الله تعالى عدم اشتراك الحسنين في المعارك الإسلامية في عهد عمر بن الخطاب، بالرغم من أنها قد بلغت ذروتها في مختلف المناطق، والانتصارات يتلو بعضها بعضاً، والأموال والغنائم تتدفق على المدينة من هنا وهناك.. وبالرغم من أن الإمام الحسن (عليه السلام) كان في السنين الأخيرة من خلافة عمر قد أشرف على العشرين من عمره، وهو سن مناسب للاشتراك في الحروب، التي كان يتهافت المسلمون كهولاً وشباباً وشيوخاً على الاشتراك بها

____________

(1) راجع: حياة الحسن (عليه السلام) للقرشي ج 1 ص 95 و 96 وسيرة الأئمة الاثني عشر ج 1 وج 2 ص 16 ـ 18.

وكلمة علي (عليه السلام) الأخيرة في نهج البلاغة ج 1 ص 120/121 الخطبة رقم 71 ط عبده.

(2) سيرة الأئمة الاثني عشر ج 1 ص 536 وراجع ص 317.


الصفحة 135
ـ يعلل رحمه الله ذلك بقوله: «لعل السبب في ذلك يعود إلى انصراف أمير المؤمنين عن التدخل في شؤون الدولة والحياة السياسية، ومما لا شك فيه: أن عدم اشتراك الإمام في الحروب والغزوات لم يكن مرده إلى تقاعس الإمام، وحرصه على سلامة نفسه. بل كان كما يذهب أكثر الرواة والمؤرخين لأن عمر بن الخطاب قد فرض على الكثير من أعيان الصحابة ما يشبه الإقامة الجبرية لمصالح سياسية يعود خيرها إليه، وبقي الحسن السبط إلى جانب والده منصرفاً إلى خدمة الإسلام، ونشر تعاليمه، وحل ما يعترض المسلمين من المشاكل الصعاب» (1).

الرأي الصواب:

ولكننا بدورنا، لا نستطيع قبول ذلك، ونعتقد: أن الحسنين (عليهما السلام) لم يشتركا في أي من تلك الفتوحات.. ونرى أن تلك الفتوحات لم تكن ـ عموماً ـ في صالح الإسلام، إن لم نقل: إنها كانت ضرراً ووبالاً عليه، ونستطيع أن نجمل ما نرمي إليه هنا على النحو التالي:

ألف: آثار الفتوح على الشعوب التي افتتحت أرضها:

إن من الواضح: أن تلك الفتوحات لم يكن يتبعها أي اهتمام ـ من قبل ـ الهيئة الحاكمة بإرشاد الناس، وتعليمهم، وتثقيفهم، وتربيتهم تربية دينية صالحة، بحيث يتحول الإسلام في داخلهم إلى طاقة عقائدية، تشحن وجدان الإنسان وضميره بالمعاني السامية، والنبيلة، ولينعكس ذلك ـ من ثم ـ على كل حركات ذلك الإنسان ومواقفه، وتغنى روحه وذاته بالمعاني والخصائص الإنسانية

____________

(1) سيرة الأئمة الاثني عشر ج 1 ص 534 وراجع صفحة 317.


الصفحة 136
الإسلامية السامية، وتؤثر في صنع، ثم في بلورة خصائصه الأخلاقية، على أساس تلك المعاني التي فجرتها العقيدة في داخل ذاته، وفي عمق ضميره ووجدانه.

نعم.. لقد اتسعت رقعة الإسلام خلال عقدين من الزمن اتساعاً هائلاً، يفوق أضعافاً كثيرة جداً ما تم إنجازه على هذا الصعيد في عهد الرسول الأعظم صلى عليه وآله وسلم. ولكن الفارق بينهما كان شاسعاً، والبون كان بعيداً، فلقد كان الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) لا يكتفي من الناس بإظهار الإسلام والتلفظ بالشهادتين، ثم ممارستهم السطحية لبعض الشعائر والظواهر الإسلامية، وإنما كان يرسل لهم المعلمين والمرشدين، والمربين، ليعلموهم الكتاب والحكمة، وأحكام الدين (1).

____________

(1) راجع: التراتيب الإدارية ج 1 ص 477 و248.

وقد أرسل النبي (صلى الله عليه وآله) مصعب بن عمير إلى المدينة ليعلمهم، كما أنه (صلى الله عليه وآله) في عهده لعمرو بن حزم يأمره بتعليمهم (راجع مكاتيب الرسول كتابه (صلى الله عليه وآله) لعمرو بن حزم).

وفي التراتيب الإدارية ج 1 ص 41: أن النبي (صلى الله عليه وآله) يتهدد من لا يعلم جيرانه. وفي البخاري هامش فتح الباري ج 1 ص 166 يقول النبي (صلى الله عليه وآله) لوفد عبد القيس: «ارجعوا إلى أهليكم فعلموهم».

وفي غزوة بئر معونة قتل العشرات ممن أرسلهم النبي (صلى الله عليه وآله) لتعليم الناس أحكام الدين.

وليراجع غزوة الرجيع وغير ذلك كثير جداً لا مجال لتتبعه..

ولكن قال بعض المحققين: إن قسطاً عظيماً من الفتوح الإسلامية كان في إيران، ونرى كثيراً من العلماء والمتعبدين من الإيرانيين في زمن التابعين، ولا يمكن نشوء هؤلاء إلا بالتعليم والإرشاد، من قبل الصحابة والتابعين وأهل المدينة، فعدم ذكر هذه الإرشادات لا يدل على عدم وجودها.

ونقول: إن ما ذكره قد كان بعد عشرات السنين من هذه الفتوحات.. كما أن كمية العلماء والمتعبدين التي أشار إليها، لا تتناسب مع حجم الفتوحات هذه.

كما أنهم إنما كان المتعبدون منهم ممن يعيشون في المناطق القريبة من البلاد الإسلامية.

وعلى كل حال، فإن ذلك رغم أنه لم يكن في المستوى المطلوب، ولا في

=>


الصفحة 137
أما هذه الفتوحات العظيمة التي تم إنجازها على عهد الخلفاء الثلاثة بعده (صلى الله عليه وآله)، ثم في عهد الأمويين، فلم يكن يصحبها تربية ولا تعليم، ولا كان ثمة كوادر كافية للقيام بمهمة كهذه، بالنسبة لهذه الرقعة الواسعة، وهذا المد البشري الهائل، ولا كان يهم الخلفاء والفاتحين ذلك من قريب، ولا من بعيد.

وإنما كانوا يكتفون من المستسلمين بالتلفظ بالشهادتين، ثم بممارسة بعض الحركات والشعائر، ظاهراً، من دون أن يكون لها أي عمق عقيدي، أو رصيد ضميري أو وجداني ذي بال.. ولذلك نجد في كتب التاريخ: أن كثيراً من البلدان تفتح، ثم تعود إلى الكفر والعصيان، ثم تفتح مرة أخرى (1).

فالنبي (صلى الله عليه وآله) كان يريد من الناس الإسلام والإيمان معاً.. «قَالَتِ الأَعْرَابُ: آمَنّا. قُلْ: لَمْ تُؤْمِنوا، وَلِكن قُولُوا: أَسْلَمنا، وَلَمّا يدخُلِ الإيمَانُ في قُلوبِكُمْ» (2).

أما الآخرون، فكانوا يكتفون منهم بظاهر الأسلام، ولا يهمهم ما بعد ذلك.

ونجد عدم الاهتمام هذا واضحاً جلياً لدى القرشيين (3)، وحتى الكثيرين من صحابة رسول الله صلى عليه وآله وسلم منهم.. حتى لقد قال موسى بن

____________

<=

المناطق البعيدة، وكان بعد مضي جيل أو جيلين أو أكثر لم يكن نتيجة لجهود الهيئة الحاكمة، بل هو نتيجة جهود أفراد مخصوصين دفعهم شعورهم بالمسؤولية، ولا سيما أمير المؤمنين (عليه السلام) طيلة أيام حكمه، ثم جهود سائر الأئمة، والصحابة المخلصين.

(1) راجع على سبيل المثال: تاريخ ابن خلدون ج 2 قسم 2 ص 131 و 132 و 133 والبداية والنهاية ج 7 ص 152 و 155 و 165 و 121 وليراجع: الفتوح لإبن اعثم الترجمة الفارسية ص 85 والكامل لابن الأثير ج 3 ص 465 وتاريخ الطبري ج 3 ص 325 والفتوحات الإسلامية لدحلان ج 1 فإن فيه الكثير من الموارد وراجع المختصر في أخبار البشر ج 1 ص 186.

(2) سورة الحجرات آية: 14.

(3) لذلك شواهد كثيرة في النصوص التاريخية، لا مجال لإيرادها الآن..


الصفحة 138
يسار: «إن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) كانوا أعراباً جفاة، فجئنا نحن أبناء فارس، فلخصنا هذا الدين» (1).

وهكذا.. فإن أهل البلاد المفتوحة بعد الرسول (صلى الله عليه وآله) قد بقوا على ما كانوا عليه من عاداتهم وتقاليدهم، ومفاهيمهم الجاهلية، التي كانت تهيمن على حركاتهم، وعلى مواقفهم، وعلى علاقاتهم الاجتماعية بصورة عامة، ولم يتعمق الإسلام في وجدانهم، ولا مسَّ ضمائرهم، فضلاً عن أن يكونوا قد ذابوا فيه، بحيث يصبح هو المهيمن، والمحرك والدافع لهم في كل موقف وكل حركة..

آثار ونتائج:

وعلى صعيد آثار هذه الظاهرة على المدى البعيد، فقد كانت لها آثار سيئة جداً..فإن تلك العادات، والتقاليد، والمفاهيم، والانحرافات الجاهلية، والعلاقات القبلية، والأهواء والأطماع الشخصية، وما يتبع ذلك من ممارسات لا إنسانية لم ير فيها المستفيدون منها، الذين ما عرفوا من الإسلام إلا اسمه، ولا من الدين إلا رسمه أمراً مخالفاً للإسلام، أو مصادماً له، ولا أحسوا فيها أية منافرة أو منافاة له، إن لم نقل: إنها ـ بزعم أولئك المستفيدين منها ـ قد انتزعت من الإسلام اعترافاً بها، وأصبح يؤمِّن غطاء وحماية لها، حيث قد صارت ملبسة بلباس الشرع، ومصبوغة بصبغة الدين.

بل إن الحكام وأعوانهم، ممن كان لهم مكانة ما لدى الناس، بسبب صحبتهم للنبي (صلى الله عليه وآله)، ورؤيتهم له ـ هم أيضاً، أو أكثرهم ـ لم يكن الإسلام قد تعمق في نفوسهم كثيراً، بل بقوا على ما كانوا عليه من انحرافات، ومن مفاهيم وتقاليد جاهلية وقبلية، وقد استفادوا من مركزهم، ومن موقعهم، ومن مكانتهم في مجال تركيز تلك المفاهيم والعادات والانحرافات، ولو عن

____________

(1) لسان الميزان ج 6 ص 136 وميزان الاعتدال ج 4 ص 227.


الصفحة 139
طريق وضع الأحاديث على لسان النبي (صلى الله عليه وآله) لتأييدها، كما كان الحال بالنسبة للتميز العنصري، وتفضيل العربي على المولى، وغير ذلك مما تقدمت الإشارة إلى بعض منه.

ولا أقل.. من أنهم لم يكن يهمهم أمر الإسلام، ونشر مفاهيمه وتعاليمه، من قريب ولا من بعيد.

وبعد.. فإنه إذا كان إسلام الناس صورياً، لا يدعمه أي بعد عقيدي، وليس له أية خلفيات وقواعد ثقافية وعلمية، ولا يتصل بروح الإنسان وعقله ووجدانه، بحيث يصير محركاً وجدانياً، واندفاعاً ضميرياً.. فإنه سيتقلص تدريجاً، ولا يعود له أي أثر على صعيد الحركة والموقف.. ولسوف يعتاد الناس على إسلام كهذا.. يرون أنه لا يتنافى مع جميع أشكال الإنحرافات والجرائم، وتصبح هداية هؤلاء الناس على المدى البعيد أكثر صعوبة، وأعظم مؤونة، إن لم نقل: إنه يحتاج إلى عملية بل إلى عمليات جراحية عميقة جداً تستنفد الكثير من الطاقات والمواهب.. وتنتهي بهدر العظيم من القدرات والإمكانات.. ولقد كان بالإمكان تجنب كل ذلك، لو كان ثمة تأس واتباع للرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، وتأثُّر لخطاه المباركة والميمونة في هذا المجال.

وعلى صعيد آخر.. فإن مجتمعاً كهذا لا يملك المناعات ولا الحصانات الكافية، التي تضمن عدم صيرورته ألعوبة بأيدي الأشرار، بل بأيدي أولئك الذين يتخذونه أداة لهدم الإسلام الحقيقي، الذي يرونه يقف حاجزاً أو مانعاً أمام أطماعهم وأهوائهم وانحرافاتهم، وقد حصل ذلك بالفعل، كما يتضح لمن يراجع التاريخ، ولا سيما فترة الحكم الأموي، ثم ما يلي ذلك من فترات.

وعن مجتمع العراق في عصر الإمام الحسن (عليه السلام)، نجد النص التاريخي يقول: «ومعه أخلاط من الناس، بعضهم شيعته، وشيعة أبيه (عليهما السلام)، وبعضهم محكِّمة، يؤثرون قتال معاوية بكل حيلة، وبعضهم أصحاب طمع في الغنائم وبعضهم شكاك، وبعضهم أصحاب عصبية، اتبعوا رؤساء

الصفحة 140
لأحكام ومثلها في أصول دين» (1).

لقد كان هذا حال مجتمع العراق في عهد الإمام الحسن عليه الصلاة والسلام، رغم أنه كان أقرب إلى مركز الحكم الإسلامي من غيره، ورغم أنه قد كان ثمة عناية خاصة من قبل الهيئة الحاكمة بشأن العراق، الذي كان مركز الانطلاق لغزو بلاد المشرق..

وقد تحدثنا عن مجتمع العراق بشيء من التفصيل في بحثنا المستفيض حول الخوارج، والذي نأمل في تقديمه إلى القراء في فرصة قريبة إن شاء الله تعالى.

ولكن يلاحظ على النص المتقدم قوله: «بعضهم شيعته، وشيعة أبيه».. فإننا لا نعتقد: أن هذا البعض كان من الكثرة بحيث يصح جعله في قبال سائر الفئات التي تحدث عنها ذلك النص، إذ:

«قد كان الناس كرهوا علياً، ودخلهم الشك والفتنة، وركنوا إلى الدنيا، وقلّ مناصحوه، فكان أهل البصرة على خلافه، والبغض له، وجلّ أهل الكوفة وقراؤهم، أهل الشام، وقريش كلها» (2).

بل لقد روى الكشي عن الباقر (عليه السلام) قوله: «كان علي بن أبي طالب (عليه السلام) عندكم بالعراق، يقاتل عدوه، ومعه أصحابه وما كان منهم خمسون رجلاً يعرفنه حق معرفته، وحق معرفته إمامته» (3).

وفي حرب صفين يقول علي (عليه السلام) لعدي بن حاتم: «أدن. فدنا حتى وضع أذنه عند أنفه. فقال: ويحك، إن عامة من معي اليوم يعصيني. وإن معاوية فيمن يطيعه ولا يعصيه» (4).

____________

(1) كشف الغمة للأربلي ج 2 ص 165 والإرشاد للمفيد ص 193 وأعيان الشيعة ج 4 قسم 1 ص 50 و 51.

(2) الغارات للثقفي ج 2 ص 552.

(3) اختيار معرفة الرجال ص 6.

(4) شرح النهج للمعتزلي ج 8 ص 77.


الصفحة 141
هذا.. وإن سلوك الحكام والولاة مع الناس آنئذٍ لم يكن إسلامياً على وجه العموم. وإن إلقاء نظرة سريعة على معاملتهم للناس آنئذٍ، تكفي لإطاء صورة عن ذلك.. وكنموذج على ذلك نذكر النص التالي:

«لم يزل أهل أفريقية من أطوع البلدان وأسمعهم إلى زمان هشام بن عبد الملك، حتى دب إليهم أهل العراق، واستثاروهم، فشقوا العصا، وفرقوا بينهم إلى اليوم، وكانوا يقولون: لا نخالف الأئمة بما تجني العمال، فقالوا لهم: إنما يعمل هؤلاء بأمر أولئك، فقالوا حتى نَخْبُرَهُم.

فخرج ميسرة في بضعة وعشرين رجلاً، فقدموا على هشام، فلم يؤذن لهم، فدخلوا على الأبرش، فقالوا: أبلغ أمير المؤمنين: أن أميرنا يغزو بنا، وبجنده، فإذا غنمنا نفّلهم، ويقول: هذا أخلص لجهادنا وإذا حاصرنا مدينة قدمنا وأخرهم، ويقول: هذا ازدياد في الأجر، ومثلنا كفى إخوانه. ثم إنهم عمدوا إلى ماشيتنا، فجعلوا يبقرون بطونها عن سخالها، يطلبون الفراء البيض لأمير المؤمنين، فيقتلون ألف شاة في جلد، فاحتملنا ذلك. ثم إنهم سامونا أن يأخذوا كل جميلة من بناتنا. فقلنا: لم نجد هذا في كتاب ولاسنة، ونحن مسلمون، فأحببنا أن نعلم: أعن رأي أمير المؤمنين هذا، أم لا؟!..

فطال عليهم المقام، ونفدت نفقاتهم، فكتبوا أسماءهم ودفعوها إلى وزرائه، وقالوا: إن سأل أمير المؤمنين، فأخبروه، ثم رجعوا إلى أفريقية، فخرجوا على عامل هشام، فقتلوه، واستولوا على افريقية، وبلغ الخبر هشاماً، فسأل عن النفر، فعرف أسماءهم، فإذا هم الذين صنعوا ذلك» (1).

ويذكر نص آخر: أن قتيبة بن مسلم أوقع باهل الطالقان، فقتل من أهلها مقتلة عظيمة، لم يسمع بمثلها، وصلب منهم سماطين: أربعة فراسخ في نظام واحد، الرجل بجنب الرجل، وذلك مما كسر جموعهم» (2).

____________

(1) الكامل لابن الأثير، ج 3 ص 92 و 93 وتاريخ الطبري ج 3 ص 313.

(2) البداية والنهاية ج 9 ص 78 و 81 والكامل لابن الأثير ج 4 ص 545.


الصفحة 142
كما أن بعضهم يعطي أماناً لبلد في معالمة جرجان، على أن لا يقتل منهم رجلاً واحداً، فيقتلهم جميعاً إلا رجلاً واحداً (1).

وآخر يصالح أهل مدينة قنسرين، ويجعل من جملة الشروط: أن يهدم المدينة من الأساس وهكذا كان (2).

وأيضاً: فقد دعا نائب خراسان: «أهل الذمة بسمرقند، ومن وراء النهر إلى الدخول في الإسلام، ويضع عنهم الجزية.

فأجابوه إلى ذلك، وأسلم غالبهم، ثم طالبهم بالجزية، فنصبوا له الحرب، وقاتلوه» (3).

كما أن عقبة بن نافع، الذي ولاَّه معاوية ابن أبي سفيان على افريقية، حينما دخلها «وضع السيف في أهل البلاد، لأنهم كانوا إذا دخل إليهم أمير أطاعوا، وأظهر بعضهم الإسلام، فإذا عاد الأمير عنهم نكثوا، وارتد من أسلم» (4).

وقال ابن الأثير: «لما رأى أهل فارس ما يفعل المسلمون بالسواد، قالوا لرستم والفيرزان، وهما على أهل فارس: لم يبرح بكما الاختلاف حتى وهنتما أهل فارس الخ..» (5).

وأمثال ذلك كثير جداً.

ولأجل ذلك، فقد اشتدت مقاومة أهل البلاد المفتوحة، وكثر نقض العهود، حتى اضطر المسلمون إلى فتح كثير من البلاد أكثر من مرة، كما ألمحنا إليه فيما سبق.

____________

(1) تاريخ الطبري ج 3 ص 324 والكامل لابن الأثير ج 3 ص 110 والبداية والنهاية ج 7 ص 154.

(2) الفتوحات الإسلامية لدحلان ج 1 ص 53 والكامل لابن الأثير ج 2 ص 493 وتاريخ الطبري ج 3 ص 98.

(3) البداية والنهاية ج 9 ص 259/260.

(4) الكامل لابن الأثير ج 3 ص 465.

(5) الكامل لأبن الأثير ج 2 ص 448.


الصفحة 143

ب: آثار الفتوح على الفاتحين:

وبعد كل ما تقدم.. فإن سياسات التمييز في العطاء، وتفضيل العرب على غيرهم، ثم حبس كبار الصحابة في المدينة، وتولية الأعمال الجليلة، وقيادة الجيوش خاصة، لفئة خاصة، لم تكن على الأغلب تملك رصيداً روحياً، ولا ثقافياً إسلامياً، سوى أنها تتمتع بثقة الهيئة الحاكمة، أو انها رأت النبي (صلى الله عليه وآله) لبرهة وجيزة جداً، أو أنها من قريش.

ـ إن كل ذلك وسواه من سياسات، ليس فقط قد جعل من هذه الأمة المنتصرة أمة مغرورة، معجبة بنفسها، لا تقف عند حدٍ، ولا تنتهي إلى غاية.. وخلق طبقة من الأثرياء، الذين اتخمهم المال، وأبطرتهم النعمة، مع عدم وجود روادع دينية أو وجدانية كافية لديهم. وقد كان معظمهم من أبناء واعضاء الهيئة الحاكمة، وأعوانهم المقربين، ومن قريش بصورة خاصة، فنال الأمة منهم كل مكروه، وأصيب الإسلام على أيديهم في مقاتله..

نعم.. لقد بهرتهم المناصب، وأسالت لعابهم الفتوحات، بما فيها من غنائم وسبايا، وبسط نفوذ، فشمخ كل منهم بأنفه، ونظر في عطفه، وتكبر، وتجبر، لأنه كان يتعامل مع الواقع الجديد بعقليته الجاهلية، التي تعتبر القبيلة، لا الأمة أساساً، والفرد ـ لا الجماعة ـ ميزاناً، ومنطلقاً لمجمل تعامله، وعلاقاته، وكل مواقفه وحركاته.. وصاروا يهتمون بتقوية أمرهم، وتثبيت سلطانهم، فصاروا يجمعون الأنصار بالمال، وبالإغراء بالمناصب (1)، ثم بالإصهار إلى القبائل، وبغير ذلك من سياسات، ليس الترهيب والقمع في كثير من الأحيان إلا واحداً منها (2).. واستمروا في بسط نفوذهم وسلطانهم على

____________

(1) قد تقدم نموذج من ذلك بالنسبة لأبي سفيان، وغيره.

(2) كما جرى لأبي ذر، وابن مسعود، وعمار وغيرهم.. ولا سيما في عهد معاوية فمن بعده..


الصفحة 144
أساس أنه ملك قبلي فردي بالدرجة الأولى (1).

وإذا كان أبو بكر، وكذلك عمر لا يدري: أخليفة هو أم ملك (2).. فإن معاوية بن أبي سفيان كان نفسه ملكاً بالفعل، وكذلك كان يعتبره الكثيرون (3). بل إن عمر نفسه قد اعتبر نفسه ملكاً في بعض المناسبات (4).

نعم لقد كان معاوية، والأمويون يعتبرون أنفسهم ـ بل ويعتبوهم كثيرون ـ ملوكاً قيصريين..وأن على الدين والإسلام ـ بنظرهم ـ أن يكون مجرد شعار ن يخدم هذا الملك ويقويه، وإذا وجدوا فيه أنه سيكون مانعاً لهم من الوصول إلى ما يطمحون إليه، ويعملون في سبيل الحصول عليه، فلا بد من تدميره، واستئصاله من جذوره.

فالمستفيدون الحقيقيون من تلك الفتوحات ـ ولاسيما على المدى البعيد ـ هم خصوص هذه الطبقة دون سواها، كانوا يحصلون على النفائس، والأقطاع، والذهب، وصوافي الغنائم.. وهم الذين لا بد أن يختصوا بالحسناوات من النساء، بعنوان سبايا وجواري.. وقد بلغت الثروات في عهد الخلفاء الثلاثة الأول أرقاماً خيالية، كما تدل عليه الكثير من النصوص التاريخية (5). وقد زادت هذه الأرقام وتضاعفت في عهد الحكم الاموي، الذي

____________

(1) حتى كانوا يعتبرون السواد بستاناً لقريش، والقضية معروفة..

(2) راجع: طبقات ابن سعد ج 3 قسم 1 ص 221 وشرح النهج للمعتزلي ج 2 ص 66 ومنتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ج 4 ص 383 و 389 وحياة الصحابة ج 3 ص 476 و ج 2 ص 36 و 37 و 256 والتراتيب الإدارية ج 1 ص 13 وعن كنز العمال ج 2 ص 317 ج 3 ص 454 وعن نعيم بن حماد في الفتن والطبقات الكبرى لابن سعد ج 3 ص 306 ط صادر وتاريخ الخلفاء ص 140.

(3) قد تقدم بعض المصادر لذلك.

(4) الفتوحات الإسلامية لدحلان ج 2 ص 290 وحياة الصحابة ج 2 ص 256 عن كنز العمال ج 2 ص 317. وطبقات ابن سعد ج 3 ص 219 وعن ابن جرير وابن عساكر.

(5) راجع: مشاكلة الناس لزمانهم ص 12 حتى 18 ومروج الذهب والغدير ج 8 و 9 وجامع بيان العلم ج 2 ص 17 و 16 والبداية والنهاية ج 7 ص 164 وربيع الأبرار ج 1 ص 830 والتراتيب الإدارية ج 2 ص 32 ـ 24 ـ 29 ـ و 395 و 424 و 397 حتى

=>


الصفحة 145
لم يكن يقف عند حدود، ولا يرجع إلى دين، حتى أن خالداً القسري كان يتقاضى راتباً سنوياً قدره عشرون مليون درهم، بينما كان ما يختلسه كان يتجاوز المئة مليون (1).

بل إننا نجد: أن من يقال عنه: أنه من أزهد الناس، وهو عمر بن الخطاب، بل يقولون: إنه لم يترك صامتاً (2). وكان يرتزق من بيت المال، ويقتر على نفسه كثيراً، كما ذكرته بعض النصوص، وكانت قد أصابته خصاصة، فاستشار الصحابة فأشاروا عليه أن يأكل من بيت المال ما يقوته (3).

ولما حج فبلغت نفقته ستة عشر ديناراً قال: أسرفنا في هذا المال (4).

إن عمر هذا.. قد أصدق زوجته أربعين ألف درهم أو دينار (5). وقيل مئة ألف (6). كما أنه أعطى صهراً له قدم من مكة عشرة آلاف درهم

____________

<=

ص 405 و 420 و 424 و 435 والعقد الفريد ج 4 ص 322 ـ 324 وحياة الصحابة ج 2 ص 241 ـ 250. وغير ذلك كثير.

(1) السيادة العربية والشيعة والإسرائيليات ص 32 و 25 و 24 وغير ذلك من صفحات، ترجمة الدكتور حين إبراهيم حسن، ومحمد زكي إبراهيم.

وفي البداية والنهاية ج 9 ص 325: أن دخل خالد القسري كان عشرة ملايين دينار سنوياً.

(2) جامع بيان العلم ج 2 ص 17.

(3) راجع طبقات ابن سعد ج 3 قسم 1 ص 221 و 222 ومنتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ج ص 411 وحياة الصحابة ج 2 ص 301.

(4) تاريخ الخلفاء ص 141 وطبقات ابن سعد ط صادر ج 3 ص 308 و 279 ودلائل الصدق ج 3 قسم 1 ص 212 عن تاريخ الخلفاء والصواعق المحرقة.

(5) الفتوحات الإسلامية لدحلان ج 2 ص 55 والتراتيب الإدارية ج 2 ص 405 والبحر الزخار ج 4 ص 100 وأنساب الأشراف بتحقيق المحمودي ج 2 ص 190 وعدة رسائل للشيخ المفيد ص 227.

وقيل: عشرة آلاف.

(6) أنساب الأشراف (بتحقيق المحمودي) ج 2 ص 190 وعدة رسائل للشيخ المفيد، المسائل السروية ص 227.


الصفحة 146
من صلب ماله (1).

بل يقولون: «إن ابناً لعمر باع ميراثه من عمر بماءة ألف درهم» (2).

ويؤيد ذلك ما يذكره أبو يوسف: من أنه «كان لعمر بن الخطاب أربعة آلاف فرس موسومة في سبيل الله تعالى، فإذا كان في عطاء الرجل خفة، أو كان محتاجاً، أعطاه الفرس، وقال له: إن أعييته، أو ضيَّعته من علف، أو شرب، فأنت ضامن، وإن قاتلت عليه فأُصيب، أو أصبت، فليس عليك شيء» (3).

فإن الظاهر هو: أن هذه الأفراس كانت له، وقد فعل ذلك تقرباً إلى الله، ولا يبعد ذلك، إذا كان إرث واحد ـ من أولاده مئة ألف فقط.

ولقد كان هذا في الوقت الذي كان يعيش فيه البعض أقسى حياة يعيشها إنسان، فلم يكن يملك سوى رقعتين، يستر بإحداهما فرجه، وبالأخرى دبره (4).

ولعله لاجل هذا، ولأجل الحفاظ على الوجه الزهدي للخليفة، نجد الحسن البصري، يحاول الدفاع عن الخليفة الثاني في هذا المجال بالذات، حيث إنه حينما يسأله البعض، إن كان عمر بن الخطاب أوصى بثلث ماله: أربعين ألفاً، يحاول إنكار ذلك، ثم توجيهه بقوله:

لا والله، لمالهُ كان أيسر من أن يكون ثلثه اربعين ألفاً. ولكن أوصى بأربعين ألفاً، فأجازوها» (5).

وعلى كل حال، فإننا نستطيع أن نحشد الكثير الكثير من الشواهد والأدلة

____________

(1) طبقات ابن سعد ج 3 ص 219 والفتوحات الإسلامية لدحلان ج 2 ص 390 وحياة الصحابة ج 2 ص 256 عن ابن سعد، وعن كنز العمال ج 2 ص 317 وعن ابن جرير وابن عساكر.

(2) جامع بيان العلم ج 2 ص 17.

(3) الخراج ص 51.

(4) المصنف لعبد الرزاق ج 6 ص 367 وراجع ص 268 والبيهقي ج 7 ص 209.

(5) جامع بيان العلم ج 2 ص 17.


الصفحة 147
على مدى اهتمام الحكام وأعوانهم، وكل من ينتسب إليهم بجمع الأموال، والحصول على الغنائم، بحق أو بغير حق. ويكفي أن نذكر: أن زياداً بعث «الحكم بن عمر الغفاري على خراسان، فأصابوا غنائم كثيرة، فكتب إليه زياد: أما بعد، فإن أمير المؤمنين كتب: أن يصطفي له البيضاء والصفراء، ولا يقسم بين المسلمين ذهباً ولا فضة» فرفض الحكم ذلك، وقسمه بين المسلمين، فوجه إليه معاية من قيده، وحبسه. فمات في قيوده، ودفن فيها. «وقال: إني مخاصم» (1).

هذا وقد بدأ التعذيب في الجزية من زمن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب (2).

بل لقد رأيناهم يضربون الجزية حتى على من أسلم من أهل الذمة، وذلك بحجة: أن الجزية بمنزلة الضريبة على العبد، فلا يسقط إسلام العبد ضريبته. لكن عمر بن عبد العزيز شذّ عن هذه السياسة، وأسقطها عنهم، كما يذكرون (3).

كما أن عمر بن الخطاب قد حاول أخذ الجزية من رجل أسلم، على اعتبار: أنه: إنما أسلم متعوذاً، فقال له ذلك الشخص:

إن في الإسلام لمعاذاً. فقال عمر: صدقت، إن في الإسلام لمعاذاً (4).

____________

(1) مستدرك الحاكم ج 3 ص 442/443 وتلخيصه للذهبي بهامشه وحياة الصحابة ج 2 ص 80 و 81 عنه وراجع:

الاستيعاب ج 1 ص 316 والإصابة ج 1 ص 347.

(2) راجع: المصنف لعبد الرزاق ج 11 ص 245 فما بعدها، وراجع: تاريخ جرجان ص 107/108.

(3) راجع ذلك، وحول ضرب الجزية على من أسلم: تاريخ الدولة العربية ص 235 وتاريخ التمدن الإسلامي، المجلد الأول ص 273/274 والمجلد الثاني ص 360 عن ابن الأثير ج 4 ص 261 و 68 و 225 و ج 5 ص 111 و 48 و 24 وابن خلكان ج 2 ص 277 والعراق في العصر الأموي ص 66 عن الأموال لأبي عبيد ص 48 والفتوحات الإسلامية ج 1 ص 249، وفجر الإسلام ص 96 عن ابن الأثير 4/179. وأحكام القرآن للجصاص ج 1 ص 102.

(4) المصنف لعبد الرزاق ج 6 ص 94 ولا بأس بمراجعة: السيادة العربية والشيعة والإسرائيليات ص 26 ـ 56.