الصفحة 148

وأما مضاعفته الجزية على نصارى تغلب، فهي معروفة ومشهورة (1).

وقال خالد ين الوليد، يخاطب جنوده، ويرغبهم بأرض السواد: «ألا ترون إلى الطعام كرفغ (2) التراب؟. وبالله، لو لم يلزمنا الجهاد في الله، والدعاء إلى الله عز وجل، ولم يكن إلا المعاش لكان الرأي: أن نقارع على هذا الريف، حتى نكون أولى به، ونولي الجوع والإقلال من تولى، ممن اثاقل عما أنتم عليه» (3).

وفي فتح شاهرتا، يعطي بعض عبيد المسلمين أماناً لأهل المدينة، فلا يرضى المسلمون، وينتهي بهم الأمر: إلى أن رفعوا ذلك إلى عمر بن الخطاب، فكتب: «إن العبد المسلم من المسلمين، أمانه أمانهم. قال: ففاتنا ما كنا أشرفنا عليه من غنائمهم..» (4).

وقال أحد الشعراء عند وفاة المهلب:


الا ذهب الغزو المقرب للغنىومات الندى والجود بعد المهلب

وعدا عن ذلك كله، فإن قبيلة بجيلة تأبى الذهاب إلى العراق، حتى ينفلها الحاكم ربع الخمس من الغنائم (5).

نعم.. إن ذلك كله، لم يكن إلا من أجل ملء جيوبهم، ثم التقوي ـ أحياناً ـ على حرب خصومهم.

ولكن ما ذكره خالد بن الوليد آنفاً ليس هو كل الحقيقة، وذلك لأن ما كان

____________

(1) سنن البيهقي ج 9 ص 216 والمصنف لعبد الرزاق ج 6 ص 50.

(2) الرفغ: الأرض الكثيرة التراب، يقال: «جاء بمال كرفغ التراب: أي في كثرته..» أقرب الموارد ج 1 ص 419.

(3) العراق في العصر الأموي ص 11 عن الطبري ج 4 ص 9، ولا بأس بمراجعة الكامل لابن الأثير ج 2 ص 488.

(4) المصنف ج 5 ص222 و 223 وسنن البيهقي ج 9 ص 94.

(5) راجع: الكامل في التاريخ ج 2 ص 441.


الصفحة 149
يصل إلى الطبقة المستضعفة من الجند، لم يكن إلا أقل القليل، مما لا يكفي لسد خلتهم، ورفع خصاصتهم، بل كان محدوداً جداً، لا يلبث أن ينتهي ويتلاشى، مع أنهم كانوا هم وقود تلك الحروب، وهم صانعوا النصر والظفر فيها.. وقد يكون الكثيرون منهم ممن قد افتتحت أرضهم بالأمس القريب. ثم هم يحرمون من كثير من الامتيازات، حسبما تقدم بالنسبة لأهل افريقية، الذين قدموا ليشتكوا للخليفة الأموي هشام بن عبد الملك.

ولكن أكثر هؤلاء قد أصبحوا يجدون في هذه الحروب مصدر عيش لهم، يحصلون عن طريقه على المال، مهما كان ضئيلاًوزهيداً، وذلك مما يرضيهم بطبيعة الحال، ويجعلهم ـ لو كان فيهم من له أدنى اطلاع على الإسلام وأحكامه ـ يغمضون العين عن جميع ممارسات الحكام، وأعمالهم الشيطانية واللاإسلامية..

وبعض الانتفاضات وإن كانت قد حصلت في بعض الفترات.. ولكنها لا تلبث أن تنتهي، وسرعان ما تسحق، أمام الضربات الماحقة ن التي يسددها إليها الحكام آنئذٍ.

وعلى كل حال.. فإن الحرب من أجل الغنائم والأموال، كانت هي الصفة المميزة لأكثر تلك الفتوحات، وكأنني أتذكر ـ وإن كنت لم أستطع العثور على ذلك الآن رغم بحثي الجاد ـ إن في بعض المعارك يعلن الفريق الآخر إسلامه، فلا يلتفتون إليهم، ويعتبرونهم كاذبين، وذلك طمعاً في أموالهم ونسائهم.

وقد نجد آثار هذه الظاهرة، حتى في زمن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أيضاً، حيث إن المسلمين لم يكونوا قد بلغوا مرحلة النضج الرسالي بعد، ولا تفاعلوا مع الأسلام وأحكامه على النحو المطلوب. بل كانت لا تزال فيهم بعض النزعات الجاهلية ن والأطماع الدنيوية، فيقول الحارث بن مسلم التميمي: إن النبي (صلى الله عليه وآله) أرسلهم في سرية، قال:

«فلما بلغنا المغار استحثثت فرسي، وسبقت أصحابي، واستقبلنا الحي بالرنين، فقلت لهم: قولوا لا إله إلا الله تحرزوا؟ فقالوها.


الصفحة 150
فجاء أصحابي، فلاموني، وقالوا: حرمتنا الغنيمة بعد أن بردت في أيدينا. فلما قفلنا ذكروا ذلك لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، فدعاني، فحسَّن ما صنعت، وقال: أما إن الله قد كتب لك من كل إنسان منهم كذا و كذا الخ..» (1).

وقال الزبير للذي سأله عن مسيره لحرب علي ((عليه السلام)): «حدثنا أن هاهنا بيضاء وصفراء ـ يعني دراهم ودنانير، فجئنا لنأخذ منها» (2).

وبعد ذلك كله، فقد قال المعتزلي في مقام إصراره على لزوم دخول علي في الشورى، لأن الأحقاد عليه من قريش والعرب كانت على أشهدها ـ قال ـ: «لا كإسلام كثير من العرب، فبعضهم تقليداً وبعضهم للطمع والكسب، وبعضهم خوفاً من السيف، وبعضهم على طريق الحمية والانتصار، أو لعدواة قوم آخرين من أضداد الإسلام وأعدائه» (3).

وبعد كل ما تقدم.. فطبيعي: أن حياة النعيم والرفاهية لدى الهيئة الحاكمة وأعوانها، وكذلك التمتع بالحسناوات والجواري، من شأنه أن يزرع بذور الخمول، وحب السلامة، والإخلاد للراحة، بحثاً عن الملذات.. ثم يستتبع ذلك: العمل على دفع الآخرين ليخوضوا الغمرات، ويقدموا التضحيات، في سبيل تأمين المزيد من تلك الامتيازات، وفي سبيل حمايتها أيضاً:

تربية النشء على أيدي غير المسلمات:

هذا كله.. عدا عن أن الجواري اللواتي لم يسلمن، أو لم يتعمق الإسلام في قلوبهن على الأكثر.. قد كن يعشن في قلب ذلك المجتمع، وكن يتولين

____________

(1) كنز العمال ج 15 ص 330 عن أبي نعيم، والحسن بن سفيان.

(2) أنساب الأشراف (بتحقيق المحمودي) ج 2 ص 271.

(3) شرح النهج للمعتزلي ج 13 ص 300.


الصفحة 151
تربية النشء الجديد فيه، سواء كان من أولادهن، أو من أولاد الأخريات من الحرائر.

وقد رأينا: أن الكثيرين من الأشراف والرؤساء قد كانوا من أمهات نصرانيات، فقد:

1 ـ كان لأولاد سعد بن أبي وقاص معلم نصراني (1).

2 ـ يوسف بن عمرو الذي كانت أمه نصرانية، كما نص عليه كثير من المؤرخين (2).

3 ـ خالد القسري، الذي بنى لأمه كنيسة كما نص عليه كثير من المؤرخين أيضاً (3) وكان خالد يهدم المساجد، ويبني البيع والكنائس، ويولي المجوس الخ (4) وكان جد خالد من يهود تيماء (5).

4 ـ الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي.

5 ـ عبيدة السلمي.

6 ـ أبو الأعور السلمي.

7 ـ حنظلة بن صفوان.

8 ـ عبد الله بن الوليد بن عبد الملك.

9 ـ يزيد بن أسيد.

10 ـ عثمان بن عنبسة بن أبي سفيان.

11 ـ العباس بن الوليد بن عبد الملك.

12 ـ مالك بن ضب الكلبي.

____________

(1) أنساب الأشراف (بتحقيق المحمودي) ج 2 ص 292.

(2) راجع على سبيل المثال: أنساب الأشراف (بتحقيق المحمودي) ج 3 ص 88.

(3) راجع على سبيل المثال: وفيات الأعيان ج 1 ص 169 والأغاني ج 19 ص 59 ط ساسي والبداية والنهاية ج 10 ص 20 و 21 والغدير ج 5 ص 294 وطبقات الشعراء لابن سلام ص 80.

(4) راجع: العراق في العصر الأموي ص 240.

(5) الأغاني ط ساسي ج 19 ص 57.


الصفحة 152
13 ـ شقيق بن سلمة أبو وائل.

14 ـ عبد الله بن أبي عمرو بن حفص بن المغيرة المخزومي (1).

15 ـ عمر بن أبي ربيعة (2).

16 ـ وأبو سلمة بن عبد الرحمن (3).

وذكر ابن حبيب طائفة من أبناء اليهوديات من قريش مثل:

1 ـ عاصم بن الوليد بن عتبة.

2 ـ هاشم بن عتبة بن نوفل.

3 ـ عامر بن عتبة بن نوفل.

4 ـ قويت بن حبيب بن أسد.

5 ـ عيسى بن عمارة بن عقبة.

6 ـ عمرو بن قدامة بن مظعون.

7 ـ أبو عزة الجمحي الشاعر.

8 ـ الخيار بن عدي.

9 ـ الحصين بن سفيان بن أمية وغيرهم (4).

وكان حبيب بن أبي هلال الذي يروي عن سعيد بن جبير قد عشق امرأة نصرانية فكان يأتي إلى البيعة لأجلها، فجرحه علماء الرجال بذلك.

بل قيل إنه قد تنصر وتزوج بها (5).

بل إن طلحة قد تزوج بيهودية في زمن عمر (6).

____________

(1) المحبَّر: ص 305/306. وراجع: الاعلاق النفيسة: ص 213. ونسب قريش لمصعب: ص 319/318.

وربيع الأبرار: ج 1ص 328.

(2) الشعر والشعراء: ص 349 (3) حياة الصحابة: ج 1 ص 104. والإصابة: ج 1 ص 108.

(4) المنمق: ص 506 و 507.

(5) المجروحون: ج 1 ص 264.

(6) المصنف لعبد الرزاق: ج 7 ص 177/178. وتفسير الخازن: ج 1 ص 439.


الصفحة 153
وتزوج عبد الله بن أبي ربيعة بنصرانية أيضاً وذلك في زمن عمر (1).

وعثمان أيضاً تزوج بنائلة بنت الفرافصة على نسائه وهي نصرانية (2).

ومع أنه قد كان لعمر غلام نصراني لم يسلم، وقد أعتقه حين وفاته (3).

إلا أننا نجده يعترض على أبي موسى، لأن كاتبه غلام نصراني (4).

ويقول الجاحظ: «اكثر من قتل في الزندقة ممن كان ينتحل الإسلام ويظهره هم الذين كان آباؤهم نصارى، على أنك لو عددت اليوم أهل الظنة ومواضع التهمة لم تجد أكثرهم إلا كذلك» (5).

ولو أردنا استقصاء هذه الأمور لطال بنا الأمر..

وعلى كل حال.. فإن تربية تلك الجواري للنشء الجديد ـ قد كان من شأنه أن يخفض من المستوى الديني، ومن مستوى الالتزام بالأحكام الإسلامية لدى ذلك النشء بالذات.. وهذا بطبيعة الحال ـ من شأنه أن يشكل خطراً جدياً على الإسلام وعلى المسلمين، ولذلك.. فإننا نجد الأئمة (عليهم السلام) يهتمون بتربية العبيد والجواري تربية إسلامية صالحة، ثم عتقهم (6).

وقد شجع الإسلام العتق على نطاق واسع. وجعل له من الإسباب الإلزامية والراجحة الشيء الكثير، الذي من شأنه أن يقضي على ظاهرة العبودية من اساسها. بل لقد اعتبر العتق في نفسه راجحاً، ومن دون أي سبب.

____________

(1) نسب قريش: ص 318 و 319.

(2) تفسير الخازن: ج 1 ص 439.

(3) التراتيب الإدارية: ج 1 ص 102 عن ابن سعد: ج 6 ص 109 ط ليدن وص 155 ط صادر. وحلية الأولياء ج 9 ص 34 وعن كنز العمال: ج 5/50 عن ابن سعد وسعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن أبي شيبة، وابن أبي حاتم.

(4) عيون الأخبار لابن قتيبة: ج 1 ص 43 والدر المنثور: ج 2 ص 91. عن ابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان.

(5) ثلاث رسائل للجاحظ. رسالة الرد على النصارى: ص 17.

(6) راجع كتابنا: دراسات وبحوث في التاريخ والإسلام المجلد الأول: بحث الإمام السجاد باعث الإسلام من جديد.


الصفحة 154

طموحات الشباب:

ومن جهة أخرى.. فإننا نجد: أن الحكام كانوا يستفيدون من تلك الفتوحات في مجال إرضاء طموحات الشباب، وإشباع غرورهم، إذا كانوا بصدد تأهيلهم لمناصب عالية، وإظهار شخصياتهم.. بل لقد رأينا معاوية يجبر ولده يزيد لعنه الله على قيادة جيش غاز لبعض المناطق (1) والظاهر أن ذلك لأجل ما ذكرناه.

ابعاد المعترضين:

أضف إلى ذلك: أنهم كانوا يستفيدون منها كذلك في إبعاد المعترضين على سياساتهم، والناقمين على أعمالهم، وتصرفاتهم، وكشاهد على ذلك نذكر: أنه لما تفاقمت النقمة على عثمان استدعى بعض عماله ومستشاريه، وهم: معاوية وعمرو بن العاص، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وسعيد بن العاص، وعبد الله بن عامر (2). واستشارهم فيما ينبغي له عمله لمواجهة نقمة الناس على سياساته، ومطالبتهم له بعزل عماله (3)، واستبدالهم بمن هم خير منهم، فأشار عليه عبد الله بن عامر بقوله:

«رأيي لك يا أمير المؤمنين: أن تأمرهم بجهاد يشغلهم عنك، وأن تجمرهم (4) في المغازي، حتى يذلوا لك، فلا يكون همة أحدهم إلا نفسه، وما

____________

(1) راجع المحاسن والمساويء ج 2 ص 222 ونسب قريش لمصعب ص 129/130 وتاريخ اليعقوبي ج 2 ص 229.

(2) يلاحظ: أن هؤلاء قد كانوا عماله باستثناء عمرو بن العاص. فإنه كان معزولاً آنئذٍ.

(3) إن من الطريف جداً: أن يستشير عثمان نفس أولئك الذين يطالب الناس بعزلهم في نفس أمر العزل هذا؟!.

(4) التجمير: حبس الجيش في أرض العدو.


الصفحة 155
هو فيه من دَبَرة دابته، وقَمَلِ فروه».

وأضاف في نص آخر قوله:

«فرد عثمان عماله على أعمالهم، وأمرهم بالتضييق على من قبلهم، وأمرهم بتجمير الناس في البعوث، وعزم على تحريم أعطياتهم، ليطيعوه، ويحتاجوا إليه..» (1).

وحينما أنكر الناس على عثمان بعض أفعاله، وأشار عليه معاوية بقتل علي (عليه السلام)، وطلحة، والزبير، فأبى عليه ذلك، قال له معاوية: «فثانية؟ قال: وما هي؟ قال: فرقهم عنك، فلا يجتمع منهم اثنان في مصر واحد. واضرب عليهم البعوث والندب، حتى يكون دَبَر بعير كل واحد منهم أهم عليه من صلاته.

قال عثمان: سبحان الله شيوخ المهاجرين والأنصار، وكبار أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وبقية الشورى، أخرجهم من ديارهم، وأفرق بينهم وبين أهليهم؟.. الخ..» (2).

ويقول اليعقوبي عن معاوية: «وكان إذا بلغه عن رجل ما يكره قطع لسانه بالإعطاء، وربما احتال عليه، فبعث به في الحروب، وقدمه، وكان أكثر فعله المكر والحيلة» (3). إلى غير ذلك مما لا مجال لتتبعه واستقصائه في عجالة كهذه..

ج: الأئمة (عليهم السلام) وتلك الفتوحات:

1 ـ وبعد كل ما تقدم.. فإنه يتضح لنا: لماذا لم يتقدم أمير المؤمنين عليه

____________

(1) تاريخ الطبري ج 3 ص 373 و 374 حوادث سنة 34 هـ. وراجع: الفتوح لابن اعثم ج 2 ص 179 ومروج الذهب ج 2 ص 337 وأنساب الأشراف ج 5 ص 89 والكامل في التاريخ ج 3 ص 149.

(2) النصائح الكافية ص 86 والإمامة والسياسة لابن قتيبة ج 1 ص 31.

(3) تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 238.


الصفحة 156
الصلاة والسلام خطوة واحدة نحو الفتوحات، وتوسعة رقعة البلاد الإسلامية، حتى في أيام خلافته، بل كان يهتم بتركيز العقيدة، وتثبيت المنطلقات والمثل الإسلامية الرفيعة والنبيلة، ونشر الفكر القرآني المحمدي الصافي، وإعطاء خط الإسلام الصحيح للأمة، وللمتصدين لإدراة شؤونها على حد سواء.. سواء في نظرتهم، أو في تعاملهم ومواقفهم، أو حتى في مجال تربية أنفسهم، وتهذيبها، ما وجد إلى ذلك سبيلاً..

وقد نوه بذلك (عليه السلام) في خطبة له، فقال: «وركزت فيكم راية الإيمان، ووقفتكم على حدود الحلال والحرام الخ..» (1).

هذا كله.. عدا عن أنه (عليه السلام) كان ـ أيام خلافته منشغلاً بتصفية الجبهة الداخلية من العناصر الفاسدة، التي لا تزال تعيش المفاهيم الجاهلية، وتريد أن تحكم الأمة، وتتحكم بمقدراتها، وتستخدمها في سبيل أهدافها اللاإنسانية البغيضة..

2 ـ وأمر آخر مهم، لا بد من الإشارة إليه هنا، وهو: أن الجهاد الابتدائي يحتاج إلى إذن الأمام العادل (2).. ونحن نرى: أن أئمة الحق كانوا لا يرون في الاشتراك في هذه الحروب مصلحة، بل لا يرون نفس تلك الحروب خيراً: فقد روي: أن أبا عبد الله الصادق (عليه السلام) قال لعبد الملك بن عمرو:

«يا عبد الملك، ما لي لا أراك يخرج إلى هذه المواضع التي يخرج إليها أهل بلادك؟

قال: قلت: وأين؟.

قال: حدة، وعبادان، والمصيصة، وقزوين!.

فقلت: انتظاراً لأمركم، والاقتداء بكم.

____________

(1) نهج البلاغة، بشرح عبده ج 1 ص 153.

(2) راجع: الوسائل ج 11 ص 32 فصاعداً والكافي ج 5 ص 20 والتهذيب ج 6 ص 134 فصاعداً.


الصفحة 157
فقال: إي والله، لو كان خيراً ما سبقونا إليه» (1).

وثمة عدة روايات تدل على أنهم (عليهم السلام) كانوا لا يشجعون شيعتهم، بل ويمنعونهم من الاشتراك في تلك الحروب، ولا يوافقون حتى على المرابطة في الثغور أيضاً، ولا يقبلون منهم حتى ببذل المال في هذا السبيل، حتى ولو نذروا ذلك (2)..

نعم.. لو دهمهم العدو، فإن عليهم أن يقاتلوا دفاعاً عن بيضة الأسلام، لا عن أولئك الحكام (3).

بل إننا نجد رواية عن علي (عليه السلام) تقول: «لا يخرج المسلم في الجهاد مع من لا يؤمن على الحكم، ولا ينفذ في الفيئ أمر الله عز وجل» (4).

ويؤيد ذلك: أننا نجد: أن عثمان جمع يوماً أكابر الصحابة، مثل: علي (عليه السلام)، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، واستشارهم في غزو افريقية، فرأوا ـ في الأكثر ـ: أن المصلحة في أن لا تقع افريقية بأيدي أصحاب الأغراض والأهواء والمنحرفين (5).

فالأئمة (عليهم السلام) وإن كانوا ـ ولا شك ـ يرغبون في توسعة رقعة الإسلام، ونشره ليشمل الدنيا بأسرها، ولكن الطريقة والأسلوب الذي كان يتم ذلك بواسطته، وغير ذلك مما تقدم، كان خطأً ومضراً بنظرهم، حسبما يفهم مما تقدم ومما سيأتي..

____________

(1) التهذيب ج 6 ص 127، والكافي ج 5 ص 19، والوسائل ج 11 ص 32.

(2) راجع الوسائل ج 11 ص 21 و 22 عن قرب الإسناد ص 105 والتهذيب ج 6 ص 134 و 125 و 126 والكافي ج 5 ص 21.

(3) الوسائل ج 11 ص 22 عن قرب الإسناد ص 150 والكافي ج 5 ص 21 والتهذيب ج 6 ص 125.

(4) الوسائل ج 11 ص 34 عن علل الشرايع ص 159 وعن الخصال ج 1 ص 163.

(5) الفتوح لابن أعثم، الترجمة الفارسية ص 126.


الصفحة 158
وعلى كل حال.. فإن جميع ماتقدم وسواه ليكفي في أن يلقي ظلالاً ثقيلة من الشك والريب فيما ينسب إلى الإمامين الهمامين: الحسن، والحسين عليهما الصلاة والسلام، من الاشتراك في فتح جرجان، أوفي فتح افريقية ـ مع أن عدداً من كتب التاريخ التي عددت أسماء كثير من الشخصيات المشتركة في فتح افريقية لم تذكرهما، مع أنهما من الشخصيات التي يهم السياسة التأكيد على ذكرها في مقامات كهذه.

وذلك يسعر بأن وراء الأكمة ما وراءها، وأن الاطمئنان لما يذكر في هذا المجال، من دون تحقيق أو تمحيص، مما لا يحسن جداً، بل وفيه ظلم للحقيقة والتاريخ..

3 ـ ويؤيد ذلك أيضاً: ما ذكره بعض المحققين (1)، «من أنه (عليه السلام) قد منع ولديه من الخوض في معارك صفين، وقال وقد رأى الحسن يتسرع إلى الحرب: «املكوا عني هذا الغلام لا يهدني، فإنني أنفس بهذين (يعني الحسنين (عليهما السلام)) على الموت، لئلا ينقطع بهما نسل رسول الله (صلى الله عليه وآله)» فأسرعت إليه خيل من أصحاب علي فردوا الحسن (2).

وقد كان هذا منه (عليه السلام) في وقت كان له كثير من الأولاد، فكيف يسمح بخروجهما مع أمير أموي، أو غير أموي، ولم يكن قد ولد لهما أولاد بعد، أو كان، ولكنهم قليلون؟!!» انتهى.

وكل ما تقدم يوضح لنا: أن ما استند إليه بعض الأعلام لقبول ما قيل من اشتراك الحسنين (عليهما السلام) في فتح اقريقية وجرجان، لا يمكن القبول به، ولا يصح التعويل عليه..

____________

(1) هو المحقق البحاثة السيد مهدي الروحاني حفظه الله.

(2) راجع: المصادر التالية: المعيار والموازنة ص 151 ونهج البلاغة بشرح عبده ج 2 212 وتاريخ الطبري حوادث سنة 37 ج 4 ص 44 والفصول المهمة للمالكي ص 82 وشرح النهج للمعتزلي ج 1 ص 244 والاختصاص ص 179 وتذكرة الخواص ص 324.


الصفحة 159
ولعل الهدف من طرح أمور كهذه هو إعطاء خلافة عثمان بالذات صفة الشرعية والقبول، حتى من قبل أهل البيت (عليهم السلام)، كما عودنا أنصاره ومحبوه في كثير من الأحيان.

4 ـ ولو أريد الإصرار على وجهة النظر تلك، واعتبارها قادرة على تبرير اشتراكهما (عليهما السلام) المزعوم في الفتوح.. فإننا نجد.. أن من حقنا أن نتساءل، فنقول: إنه لا ريب في أن الجهاد، واتساع رقعة الإسلام من الأمور الراجحة والمرضية إسلامياً. ولكن ذلك لا يعني: أن الفتوحات التي حصلت في عهد الخلفاء الثلاثة، على ذلك النحو، وبتلك الطريقة، كانت راجحة ومرضية أيضاً.. وإلا.. فلماذا يترك أمير المؤمنين (عليه السلام) هذا الجهاد ويجلس في بيته مدة خمس وعشرين سنة؟!، ألم يكن هو الذي مارس الحروب، وجالد الأقران، أعواماً طويلة في عهد الرسول الأكرم صلى عليه وآله وسلم، ولم تثر حرب آنئذٍ إلا وهو حامل لوائها، ومجندل أبطالها؟.

أم يعقل أن ذلك كان منه زهداً في الإسلام، وتباطؤاً عن واجبه؟

أم أن الحكام أنفسهم كانوا لا يرغبون في إشراكه في تلك الفتوحات والمآثر التي كانوا يسطرونها؟!

أم أنهم حبسوه كما حبسوا كبار الصحابة في المدينة، كما اعتذر به العلامة الحسني رضوان الله تعالى عليه (1)؟.

____________

(1) سيرة الأئمة الإثني عشر ج 1 و ص 534 و ص 317.

واعتذر بذلك أيضاً المحقق البحاثة السيد مهدي الروحاني، حيث قال ما ملخصه: أنهم كانوا يخافون منه، إذ لو كان (عليه السلام) مكان سعد بن أبي وقاص، مع ما يتحلى به من مؤهلات تامة وكاملة، من العلم وقوة البيان، والسياسة، والقرابة القريبة منه (صلى الله عليه وآله)، وشهادة الصحابة له بالتقدم في كل فضيلة، ومع ما له من سوابق حسنة، ومآثر كريمة ـ إنه لو كان والحالة هذه مكان سعد بن أبي وقاص ـ هل يكون مأموناً من أن يرجع بجيشه، أو بطائفة عظيمة منه وينحي الخليفة عن مركزه، ويجري حكم الله فيه حسبما يراه؟!.

ونقول: إنهم لربما كانوا يفكرون بمثل ذلك.. ولكن الإمام علياً (عليه السلام) لم

=>


الصفحة 160
إننا نجد في التاريخ ما يفند كل ما تقدم، وصرح وينطق بأنهم قد أرادوه على ذلك، فامتنع.

يحدثنا المسعودي: أنه حينما شاور عمر عثمان بن عفان في أمر الحرب مع الفرس، قال له عثمان فيما قال: «.. ولكن ابعث الجيوش، وداركها بعضاً على بعض، وابعث رجلاً له تجربة بالحرب، وبصربها.

قال عمر: ومن هو؟.

قال: علي بن أبي طالب.

قال: فالقه، وكلمه، وذاكره ذلك، فهل تراه مسرعاً إليه، أو لا؟!.

فخرج عثمان فلقي علياً فذاكره ذلك، فأبى عليِّ ذلك وكرهه. فعاد عثمان، فأخبره» (1).

كما أن البلاذري قد ذكر هذه القضية باختصار، مكتفياً بالإشارة إلى أن عمر قد عرض على علي (عليه السلام) الشخوص إلى القادسية، ليكون قائداً لجيش المسلمين، فأباه، فوجه سعد بن أبي وقاص (2).

وفي قصية أخرى، نجد: أنه حينما استشار أبو بكر عمر بن الخطاب في إرسال علي أمير المؤمنين (عليه السلام) لقتال الأشعث بن قيس، وقال: «إني عزمت على أن أوجه إلى هؤلاء القوم علي بن أبي طالب، فإنه عدل رضا عند أكثر الناس، لفضله، وشجاعته، وقرابته، وعلمه، وفهمه، ورفقه بما يحاول من الأمور (3).

____________

<=

يكن ليقدم على أمر كهذا؛ لأن فيه خطراً على الأسلام.. بالإضافة إلى أنهم كانوا يعلمون بأن النبي (صلى الله عليه وآله) قد عهد إليه أن لا يبادر إلى أي عمل من هذا القبيل.

(1) مروج الذهب ج 2 ص 309/310.

(2) فتوح البلدان بتحقيق صلاح الدين المنجد، القسم الأول ص 313.

(3) هذه الشهادة تدفع ما يدعى: من أنه لم يكن له بصر في السياسة، كما يحاول أن يدعي المغرضون.