الصفحة 120

وكان قد ولى رجلاً يضرب الناس، ويحبسهم، ليؤدوا ما عليهم من الخراج(1).

وقال أبو يوسف، في عرض وصيته للرشيد بشأن عمال الخراج: «بلغني أنه: قد يكون في حاشية العامل، أو الوالي جماعة، منهم من له حرمة، ومنهم من له إليه وسيلة، ليسوا بأبرار ولا صالحين، يستعين بهم. ويوجههم في أعماله، يقتضي بذلك الذمامات. فليس يحفظون ما يوكلون بحفظه، ولا ينصفون من يعاملونه، إنما مذهبهم أخذ شيء، من الخراج كان، أو من أموال الرعية. ثم إنهم يأخذون ذلك كله ـ فيما بلغني ـ بالعسف، والظلم، والتعدي(2)..

وقال: وبلغني أنهم يقيمون أهل الخراج في الشمس، ويضربونهم الضرب الشديد، ويعلقون عليهم الجرار، ويقيدونهم بما يمنعهم من الصلاة، وهذا عظيم عند الله، شنيع في الإسلام»(3).

وبعد.. فقد كان في قصره أربعة آلاف امرأة: من الجواري والحظايا(4) وكان على حد تعبير بعضهم: «حريصاً على اللذات المحرمة، وسفك

____________

(1) البداية والنهاية ج 10 / 184.

(2) الخراج لأبي يوسف ص 116 ط سنة 1392 ه‍.

(3) المصدر نفسه ص 118.

(4) البداية والنهاية ج 10 / 220، نقلاً عن الطبري. وفي نفس الجزء من البداية والنهاية ص 222 قال: «قال بعضهم: إنه كان في داره أربعة آلاف جارية سراري حسان».

وجاء في ضحى الإسلام ج 1 / 9. أنه: «كان للرشيد زهاء ألفي جارية: من المغنيات، والخدمة في الشراب في أحسن زي، من كل نوع من أنواع الثياب والجوهر»، وإذن فكيف بالسراري الذين هم أربعة آلاف، وبقية الجواري، اللواتي يحتاج إليهن في كثير من الشؤون. فالرقم الحقيقي أكثر من أربعة آلاف بكثير، بل لعله يزيد عما كان عند المتوكل، الذي كان يتسرى باثني عشر ألف سرية، كما نص عليه الخوارزمي فيما تقدم، وجبور عبد النور في كتاب الجواري 36 من سلسلة اقرأ.


الصفحة 121
الدماء، وغصب حقوق الناس، وكان ظالماً لأهل البيت (عليهم السلام) وكانت جوائزه خاصة لأهل اللهو، واللعب، والمغنين، والراقصات».

وستأتي عبارة فان فلوتن عنه في فصل: آمال المأمون الخ.. فانتظر..

وحسب الرشيد. رسالة سفيان، التي أرسلها إليه من غير طي، ولا ختم، والتي تلقي لنا ضوءاً على جانب من سيرته وسلوكه. ولسوف نثبتها ـ نظرا لأهميتها ـ مع الوثائق الهامة في أواخر هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.

وأما الأمين.

«.. الذي رفض النساء، واشتغل بالخصيان، ووجه إلى البلدان في طلب الملهين، واستخف حتى بوزرائه، وأهل بيته»(1).

فقد كان: «قبيح السيرة، ضعيف الرأي، سفاكا للدماء، يركب هواه، ويهمل أمره، ويتكل في جليلات الأمور على غيره الخ..»(2).

ويضيف هنا القلقشندي قوله: «منهمكا في اللذات واللهو..»(3).

ويكفيه أن كلاً من العبري، وابن الأثير الجزري يقول عنه: إنه: «لم يجد للأمين شيئاً من سيرته يستحسنه، فيذكره..»(4).

ولقد كانت أيامه على الناس، أيام حروب، وويلات، وسلب

____________

(1) مآثر الإنافة ج 1 / 205، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص 201، ومختصر تاريخ الدول ص 134، والكامل لابن الأثير، طبع دار الكتاب العربي ج 5 / 170، والطبري، وغير ذلك.

(2) التنبيه والإشراف ص 302.

(3) مآثر الإنافة في معالم الخلافة للقلقشندي ج 1 / 204.

(4) مختصر أخبار الدول ص 134، والفخري في الآداب السلطانية ص 212.


الصفحة 122
ونهب، وما إلى ذلك، مما لا تقره شريعة، ولا يرضى به خلق كريم.

وأما المأمون:

فإنه لم يكن في كل ما ذكرناه أفضل من أسلافه، ولا كانت أيامه بدعاً من تلك الأيام. كما سنوضح ذلك في أواخر فصل: آمال المأمون، وظروفه في الحكم، حيث سيتضح أن حال الرعية في أيامه كان قد تناهى في السوء، وبلغ الغاية في التدهور.

وصية إبراهيم الإمام:

وبعد كل الذي قدمناه، لم يعد يخفي على أحد، كم سفك العباسيون من الدماء البريئة ـ عدا عما سفكوه من دماء بني عمهم العلويين ـ ونزيد هنا: أن إبراهيم الإمام أرسل إلى أبي مسلم يأمره: «بقتل كل من شك فيه، أو وقع في نفسه شيء منه، وإن استطاع أن لا يدع بخراسان من يتكلم بالعربية إلا قتله فليفعل، وأي غلام بلغ خمسة أشبار يتهمه فليقتله، وأن لا يخلي من مضر دياراً»(1).

ولعل سر أمره له بقتل كل عربي يرجع إلى أنه كان يعلم أن ذلك يرضي الخراسانيين، الذين كانوا مضطهدين على أيدي العرب. كما أنه كان يعلم أن العرب ين يستجيبوا له استجابة واسعة ضد الأمويين، لأن الدولة الأموية كانت ترضي غرور العربي، وتؤكد اعتزازه بجنسه ومحتده.

____________

(1) الطبري، طبع ليدن ج 9 / ص 1974، و ج 10 / 25، والكامل لابن الأثير، ج 4 / 295، والبداية والنهاية ج 10 / 28، و ص 64، والإمامة والسياسة ج 2 ص 114، والنزاع والتخاصم للمقريزي ص 45، والعقد الفريد، طبع دار الكتاب ج 4 / 479، وشرح النهج للمعتزلي ج 3 / 267، وضحى الإسلام ج 1 ص 32.


الصفحة 123
يضاف إلى ذلك ما كان يعانيه العرب من الانقسامات الداخلية، التي كانت تمزق صفوفهم وتوهن قوتهم.

وأما المضرية فقد كانوا جماعة نصر بن سيار الموالي للأمويين، واليمانية كانوا جماعة ابن الكرماني المناهض لنصر(1).

أبو مسلم ينفذ الوصية:

وقد حرص أبو مسلم على تنفيذ وصية إبراهيم الإمام كل الحرص.. حتى لقد قتل ـ كما يقول الذهبي واليافعي ـ: «خلقاً لا يحصون محاربة وصبراً، وكان حجاج زمانه..»(2).

ويقول المؤرخون: إن من قتلهم أبو مسلم صبراً قد بلغ «ست مئة ألف نفس» من المسلمين، من المعروفين، سوى من لم يعرف، ومن قتل في الحروب، وتحت سنابك الخيل(3).

وقد اعترف المنصور نفسه بذلك، عندما عاتب أبا مسلم، ثم قتله، فكان من جملة ما عاتبه به قوله: «فأخبرني عن ست مئة ألف من المسلمين، قتلتهم صبراً؟!». ولم ينكر أبو مسلم ذلك، وإنما أجابه بقوله:

____________

(1) راجع: تاريخ الجنس العربي ج 8 / 417.

(2) العبر للذهبي ج 1 / 186، ومرآة الجنان ج 1 / 285.

(3) البداية والنهاية ج 10 / 72، ووفيات الأعيان ج 1 / 281، طبع سنة 1310 ه‍. ومختصر تاريخ الدول ص 121، والكامل لابن الأثير ج 4 ص 354، وشرح شافية أبي فراس ص 211، وغاية المرام في محاسن بغداد دار السلام للعمري الموصلي ص 116 وتاريخ ابن الوردي ج 1 / 261، ومآثر الإنافة في معالم الخلافة ج 1 / 178، والنزاع والتخاصم للمقريزي ص 46.


الصفحة 124
«لتستقيم دولتكم»(1)!!.

واعترف جعفر البرمكي بذلك أيضاً(2).

وأبو مسلم نفسه نراه قد اعترف بمئة ألف منها أيضاً في مناسبة أخرى(3).

وأما من قتلهم في حروبه مع بني أمية وقوادهم، فقد أحصوا فوجدوا: ألف ألف وستمائة ألف(4).

وكل ذلك غير بعيد. إذا ما عرفنا أن ثورة أبي السرايا قد كلفت جيش المأمون فقط «200» ألف جندي، كما سيأتي. وكذلك إذا ما لاحظنا ما يذكره المؤرخون عن عدد القتلى في الوقائع المختلفة، التي خاضها أبو مسلم..

وبعد هذا. فإننا نرى أبا مسلم نفسه يقول في رسالة منه للمنصور: «فوترت أهل الدنيا في طاعتكم، وتوطئة سلطانكم»(5) وفي رسالة أخرى منه له أيضاً يقول: «.. إن أخاك أمرني أن أجرد السيف، وآخذ بالظنة، وأقتل على التهمة، ولا أقبل المعذرة، فهتكت بأمره حرمات حتم الله صونها، وسفكت دماء فرض الله حقنها، وزويت الأمر عن أهله، ووضعته في غير محله»(6).

يقصد ب‍ «أهله»: أهل البيت (عليهم السلام)، وقد أوضح ذلك في رسالته

____________

(1) طبيعة الدعوة العباسية ص 245، نقلاً عن العيني في: دولة بني العباس والطولونيين والإخشيديين ص 30، فما بعدها.

(2) تاريخ التمدن الإسلامي ج 2 / 435، نقلاً عن: زينة المجالس [فارسي].

(3) تاريخ اليعقوبي ج 3 / 102، وتاريخ ابن خلدون ج 3 / 103.

(4) شرح قصيدة ابن عبدون لابن بدرون ص 214، وليراجع صبح الأعشى ج 1 / 445 أيضاً.

(5) البداية والنهاية ج 10 / 69.

(6) تاريخ بغداد ج 1 / 208، والبداية والنهاية ج 10 / 14، ولا بأس بمراجعة ص 69. والنزاع والتخاصم ص 53، والإمام الصادق والمذاهب الأربعة جلد 1 ج 2 / 533.


الصفحة 125
الأخرى للمنصور التي يقول فيها: أن أخاه قد استخف بالقرآن وحرفه، وأنه أوطأه في غيرهم من أهل بيتهم العشوة، بالإفك والعدوان، وأنه ظهر له بصورة مهدي.

أي أن أخا المنصور قد حرف الآيات الواردة في أهل البيت (عليهم السلام) لتنطبق على العباسيين، وأنه بذلك تمكن من إغراء أبي مسلم بالعلويين، ففعل بهم ما فعل بالإفك والعدوان.. ويصرح بذلك في رسالة أخرى للمنصور، فيقول: «وأوطأت غيركم من كان فوقكم من آل رسول الله بالذل والهوان، والإثم والعدوان» ويشير بذلك إلى العلويين(1).

وعلى كل فإننا سوف لا نستغرب إذا رأينا أنه قد بلغ من ظلم أبي مسلم أنه عندما حج: «هربت الأعراب عن المناهل، التي يمر بها ذهاباً وإياباً، فلم يبق منهم أحد، لما كانوا يسمعونه من سفكه للدماء»(2).

وقال المقريزي: «وقتل [يعني أبو مسلم] زياد بن صالح، من أجل أنه بلغه عنه أنه يقول: إنما بايعنا على إقامة العدل، وإحياء السنن، وهذا جائر ظالم، يسير بسيرة الجبابرة، وإنه مخالف وكان لزياد بلاء في إقامة الدولة، فلم يرع له، فغضب عيسى ابن ماهان، مولى خزاعة لقتل زياد، ودعا لحرب أبي مسلم سراً، فاحتال عليه بأن دس إلى بعض ثقاته إلخ» ثم ذكر كيفية احتيال أبي مسلم وقتله إياه(3).

____________

(1) طبيعة الدعوة العباسية ص 33، نقلاً عن كتاب الفتوح لابن أعثم الكوفي.. ولا بأس بمراجعة الرسائل المختلفة المعبرة عن ذلك فيما تقدم من المراجع، وفي النزاع والتخاصم ص 52، 53، والإمام الصادق والمذاهب الأربعة جلد 1 ج 2 / 533، 534، والبداية والنهاية ج 10 / 69، والإمامة والسياسة ج 2 / 132، 133، وغير ذلك، (2) النزاع والتخاصم ص 46، (3) نفس المصدر والصفحة.


الصفحة 126
وقد قال أبو مسلم ليونس بن عاصم عندما قال له: هذا جزائي؟! «ومن جازيناه بجزائه، وضعت سيفي فلم يبق بر ولا فاجر إلا قتلته»(1).

وقال أبو مسلم أيضاً: «إن أطفيت من بني أمية جمرة، وألهبت من بني العباس نيرانا، فإن أفرح بالإطفاء، فواحزنا من الإلهاب»(2).

وقال أبو مسلم أيضاً: «إني نسجت ثوباً من الظلم لا يبلى ما دامت الدولة لبني العباس، فكم من خارج الخ»(3)

ولا مجال ثمة للشك:

كل ذلك يدل دلالة قاطعة على مدى الظلم الذي كان يمارسه العباسيون مع الناس بصورة عامة، ومع العلويين، بشكل خاص.. والمتتبع للأحداث التاريخية يرى أن الأمة كانت تعيش في رعب دائم ومستمر، خصوصاً وأن كل أحد كان يرى ويعلم: كيف أن الآلاف من الناس، كانوا يذبحون لأتفه الأسباب وأحقرها..

وأعود فأذكر القارئ ببعض ما أوردناه من رسالة الخوارزمي، التي تعتبر بحق الوثاق الهامة. كما اعترف به غير واحد من الباحثين.

وبعد فلا بد لنا من كلمة أخرى:

كانت تلك ـ كما قلنا ـ لمحة خاطفة عن حالة العباسيين من الناس عامة، ومع العلويين خاصة.. ولعل من الظلم للحقيقة وللتاريخ هنا،

____________

(1) النزاع والتخاصم ص 47.

(2) المحاسن والمساوي للبيهقي ص 298، طبع صادر وشرح ميمية أبي فراس ص 214.

(3) المحاسن والمساوي طبع مصر ج 1 / 482، والكنى والألقاب ج 1 / 157 / 158 نقلاً عن ربيع الأبرار للزمخشري.


الصفحة 127
أن نمضي ولا نعطي للقارئ لمحة عن حياتهم الخاصة، وسلوكهم الخلقي.

ولذا نرى لزاماً علينا: أن نلم المامة سريعة ببعض ما يحدثنا به التاريخ في هذا الموضوع، فنقول

العباسيون في حياتهم الخاصة:

أما حياتهم الخاصة، وما كان يمر بها من رذائل وقبائح، يندى لها جبين الإنسان الحر ألماً وخجلاً، ويقطر قلبه لها دماً وألماً، فتلك حدث عنها ولا حرج. وقد تقدم في رسالة الخوارزمي بعض ما يشير إلى ذلك. وحيث أن الاستقصاء في هذا الموضوع مما تنوء به العصبة أولو القوة، فإننا لن نحاول التصدي لذلك، سيما وأن هذا الكتاب غير معد لبحث هذا الموضوع فعلاً.

ولعل الكلمة التي تجمع صفات بني العباس الخلقية هي الكلمة التي كتبها المأمون، وهو في مرو في رسالة منه للعباسيين، بني أبيه في بغداد، والتي قلنا إننا سوف نوردها في أواخر هذا الكتاب مع الوثائق الهامة، إن شاء الله تعالى..

والمأمون: هو من أهل ذلك البيت، الذين هم أدرى من كل أحد بما فيه، لأنهم عاشوا في خضم الأحداث، وشاهدوا كل شيء، وكل القضايا عن كثب. يقول المأمون في تلك الرسالة: «.. وليس منكم إلا لاعب بنفسه، مأفون في عقله، وتدبيره، إما مغن، أو ضارب دف، أو زامر. والله، لو أن بني أمية الذين قتلتموهم بالأمس نشروا، فقيل لهم: لا تأنفوا من معائب تنالوهم بها، لما زادوا على ما صيرتموه لكم شعاراً ودثاراً، وصناعة وأخلاقاً، ليس منكم إلا من إذا مسه الشر جزع، وإذا مسه الخير منع، ولا

الصفحة 128
تأنفون، ولا ترجعون إلا خشية، وكيف يأنف من يبيت مركوباً، ويصبح بإثمه معجباً، كأنه قد اكتسب حمداً، غايته بطنه وفرجه، لا يبالي أن ينال شهوته بقتل ألف نبي مرسل، أو ملك مقرب. أحب الناس إليه من زين له معصية أو أعانه في فاحشة، تنظفه المخمورة الخ». فهذه القطعة تبين لنا بجلاء ـ كما يتبين من كثير أمثالها ـ كيف كان خلفاء العباسيين منغمرين في الملذات والشهوات.. وتبين لنا نظرتهم للحياة وأهدافهم منها. ولولا أن المقام يطول لأوردنا سيلاً من الشواهد والدلائل على مدى استهتارهم، وانتهاكهم، للحرمات، وارتكابهم للموبقات، ليعلم أن أقوال المأمون هذه، وكذلك أقوال الخوارزمي، وغيرهما مما تقدم غير مبالغ فيها، وأن الحقيقة هي أعظم من ذلك بكثير وأن ذلك ليس إلا غيضاً من فيض. وكتب التاريخ والأدب خير شاهد على ذلك، وإن حاولت بعض الأيدي الأثيمة تشويه الحقيقة، والتستر على واقعهم ذاك المزري والمهين.

وفي نهاية المطاف:

وإذا كانت تلك هي سيرة العباسيين في حياتهم الخاصة، وتلك هي سياساتهم مع الناس ومع خصومهم، فماذا يمكن أن تكون حالة وزرائهم وقوادهم، وسائر رجال دولتهم؟!

التاريخ وحده هو الذي يتولى الإجابة على هذا السؤال..

أما نحن.. فنكتفي بهذا القدر، وننتقل إلى الحديث عن بعض نتائج سياسات العباسيين تلك.. وخصوصاً ما كان منها يتعلق بالعلويين.


الصفحة 129

فشل سياسة العباسيين ضد العلويين

سؤال لا بد منه:

والآن.. وبعد أن عرفنا موقف العلويين من العباسيين، وقدمنا لمحة من معاملتهم للرعية، التي لم تكن أحسن حالاً، ولا أهدأ بالاً من العلويين، سيما وأنهم من أول يوم من حكمهم سلطوا على الناس فئة لا تفقه للرحمة معنى، ولا تجد الشفقة إلى قلوبها أي سبيل، همها الدنيا، وغايتها الاستئثار بكل شيء، وتتمتع بحماية مطلقة من قبل الخلفاء، حتى عندما كانت تعبث بأموال الناس، وحتى في دمائهم وأعراضهم..

وكيف لا!! والخلفاء أنفسهم ما كانوا أحسن حالاً من تلك الفئة، ولا أقل انحرافا، وبعداً عن تعاليم السماء، والخلق الإنساني منها..

بعد أن عرفنا ذلك. وغيره مما تقدم، فإن السؤال الذي يفرض نفسه هو:

ما هي نتائج وآثار سياسات العباسيين تلك؟. وهل استطاعوا أن يجعلوا الناس راضين عن تلك السياسات؟ وعما كانوا يرونه منهم من تميعهم، واستهتارهم بكل القيم، والفضائل الأخلاقية؟.

وهل استطاعوا أن يكتسبوا عطف الأمة، بعد أن فعلوا بها، وبأهل بيت نبيها ما فعلوا؟!.


الصفحة 130

أما الجواب:

الواقع.. أن نتيجة ذلك كانت وبالاً على العباسيين:(ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله..). فقد كان الناس مستائين جداً من سيرتهم السيئة وسيرة ولاتهم مع الرعية، وكان من الطبيعي جداً أيضاً: أن يثير الناس ويسؤهم ما كانوا يرونه من تميعهم الشديد في حياتهم الخاصة، وإيثارهم اللذات المحرمة على كل شيء، حتى قد يبلغ الأمر بالخليفة منهم أن يحتجب عن الناس منهمكا بلذاته وشهواته. وقد كان الرشيد يحمد الله على أن أراحه البرامكة من أعباء الحكم(1)، وتركوه ينصرف إلى ما يندى له جبين الإنسان الحر ألماً وخجلاً، وكذلك كانت حال والده المهدي من قبل، وعلى ذلك جرى ولده الأمين من بعد.. وغيرهم وغيرهم ممن لا نرى ضرورة لتعداد أسمائهم. وحسبنا تلك الشواهد الكثيرة في التاريخ، الذي قد لا تمر بصفحة منه، فيها حديث عن الخلفاء، إلا وتجد فيها ما لا يسر، وما لا يغبط عليه أحد..

وكان مما ساعد على إدراك الناس لحقيقة نوايا العباسيين، وواقعهم، الذي طالما جهدوا في التستر عليه، وإخفائه، بحيث لم يعد ثمة شك في أنهم ليسوا بأفضل من الأمويين، إن لم يكونوا أكثر منهم سوءا. هو ما كانوا يرونه من معاملتهم لبني عمهم آل أبي طالب، الذين ضحوا بكل شيء في سبيل هذا الدين، وأعطوا وبذلوا حتى أرواحهم في سبيل هذه الأمة. والذين كانوا هم الأمل الحي لهذه الأمة المضطهدة، والمغلوبة على أمرها، التي كانت ترى فيهم كل الفضائل، والكمالات الإنسانية..

والذين كان من الواضح لدى كل أحد أن وجود العباسيين في الحكم مدين لهم، أكثر من غيرهم على الإطلاق.

____________

(1) الوزراء والكتاب ص 225.


الصفحة 131
لقد رأوهم جميعاً متفقين ـ حتى المأمون كما سيتضح ـ على العداء لهم، ووجوب التخلص منهم، لكن الفرق هو أن الخلفاء الذين سبقوا المأمون كانت أساليبهم تجاههم، تتميز ـ عموماً ـ بالعنف والقسوة، بخلافه هو، فإنه اتبع أسلوباً جديداً، وفريدا في القضاء عليهم، والتخلص منهم..

ولقد كان هذا الموقف مفاجأة للأمة، وصدمة لها، ولذا فمن الطبيعي أن يتسبب في ردود فعل عنيفة في ضمير الأمة ووجدانها، وبخيبة أمل قاسية لها في العباسيين.

بل لقد كان ذلك سبباً في زيادة تعاطفها معهم، ومضاعفة احترامهم لهم ـ ولو بدافع إنساني بحت ـ ومن هنا نلاحظ أنهم كثيراً ما يذكرون في سبب نكبات الوزراء، والعمال، بل والعلماء أيضاً ـ صدقاً كان ذلك أو كذباً ـ أنه أجار علوياً، أو أطلقه من السجن، ودله على طريق النجاة، وقد ذكرت هذه المنقبة للإمام أحمد بن حنبل أيضاً(1)، وأما موقف أبي حنيفة، والشافعي، وغيرهم من العلماء، فهو أشهر من أن يذكر.

ولعل الأهم من ذلك كله:

ولعل الأهم من ذلك كله أن الناس الذين كانوا يرون سلوك العباسيين مع العلويين، ومع الناس عامة، وأيضاً سلوكهم اللاأخلاقي في حياتهم الخاصة.. كانوا يرون في مقابل ذلك: زهد العلويين، وورعهم، وترفعهم عن كل الموبقات والمشينات، وخصوصاً الأئمة منهم (عليهم السلام). وقد جعلهم ذلك ينساقون معهم لا إرادياً، حيث رأوا أنهم هم الذين يمتلكون كل المؤهلات، ويتمتعون بكافة الفضائل والمزايا، التي

____________

(1) راجع كتاب: شيخ الأمة، الإمام أحمد بن حنبل، لعبد العزيز سيد الأهل.


الصفحة 132
تجعلهم جديرين بخلافة محمد (صلى الله عليه وآله)، وأهلا لقيادة الأمة، قيادة صالحة وسليمة، كما كان النبي (صلى الله عليه وآله) يقودها من قبل..

وواضح أن تلك الخصائص، وهاتيك المؤهلات والمميزات لأئمة أهل البيت (عليهم السلام) وذلك السلوك المثالي لهم ـ كل ذلك ـ كان يغري العباسيين بمضايقتهم، وملاحقتهم أشد الاغراء، وكان أيضاً يدفع الحساد للوشاية بهم. وتحريض الخلفاء على الايقاع والتنكيل فيهم.

ولهذا نرى أن الخلفاء! لم يكونوا يألون جهداً، أو يدخرون وسعاً في ملاحقتهم، واضطهادهم، وسجنهم. حتى إذا تمكنوا منهم قضوا عليهم، بالوسائل التي تضمن ـ بنظرهم ـ عدم إثارة شكوك الناس وظنونهم.

التشيع للعلويين:

وبعد كل الذي قدمناه، فإن من الطبيعي أن نرى العلويين يتمتعون بالاحترام والتقدير من مختلف الفئات والطبقات، وأن نرى ازدياد احترام الناس، وتقديرهم لهم باستمرار.. حتى لقد كان لهم في نفوسهم من عميق الحب، وصادق المودة، ما أرهب العباسيين، وأرعبهم. وحتى لقد رأينا الرشيد نفسه ـ وهو طاغية بني العباس بلا منازع ـ يشكو لعظيم البرامكة، يحيى بن خالد غمه وحيرته في أمر الإمام موسى (عليه السلام)، رغم أنه (عليه السلام) كان في السجن. ونرى يحيى بن خالد يعترف بدوره بأن: الإمام «المسجون» قد أفسد عليهم قلوب شيعتهم!!(1) ولا يجب أن نستغرب شكوى الرشيد تلك. ولا اعتراف يحيى هذا بعد أن التشيع يجد سبيله إلى كل قلب، وكل فؤاد، حتى

____________

(1) الغيبة للشيخ الطوسي ص 20، والبحار.


الصفحة 133
وزراء العباسيين، وقوادهم، بل وحتى نساء الخلفاء أنفسهم.

فهذه أم الخليفة المهدي تقيم خادما لقبر الحسين (عليه السلام)، وتجري عليه كل شهر ثلاثين درهما، دون أن يعلم بها أحد(2).

وهذه بنت عم المأمون، التي كان لها نفوذ قوي عنده، يذكر المؤرخون أنها كانت تميل إلى الإمام الرضا (عليه السلام).

بل وحتى «زبيدة»، زوجة الرشيد، وحفيدة المنصور، وأعظم عباسية على الإطلاق، يقال: إنها كانت تتشيع، وعندما علم الرشيد بذلك حلف أن يطلقها(3).. ولعل لهذا السبب أحرق أهل السنة قبرها مع ما أحرقوا من قبور بني بويه وقبر الكاظم (عليه السلام) وذلك عندما وقعت الفتنة العظيمة بين السنة والشيعة سنة 443 ه‍ (4).

وأما وزراء العباسيين، فأمرهم أظهر من أن يحتاج إلى بيان، فإن التاريخ يحدثنا: أن العباسيين، ابتداء من السفاح، كانوا غالباً يبطشون بوزرائهم، بسبب اطلاعهم على تشيعهم، وممالاتهم للعلويين، ابتداء بأبي سلمة، فأبي مسلم، فيعقوب بن داوود. وهكذا إلى أن ينتهي الأمر بالفضل بن سهل، وغيره من بعده، بل وحتى نكبة البرامكة يقال: إن سببها هو تشيعهم للعلويين!. وإن كان يقال: أن الرضا (عليه السلام) دعا عليهم، لأنهم كانوا سبب قتل أبيه..

إلا إذا كان تظاهرهم بمحبة العلويين مجاراة للرأي العام، وسياسة منهم؛ فاستغل ذلك الرشيد ضدهم.

نعم لقد بلغ الأمر حداً أصبح معه

____________

(1) كلمة «التشيع» التي ترد في هذا الكتاب، لا أقصد بها غالباً ـ التشيع بمفهومه الأخص، والمذهب المعروف، وإنما أقصد بها مجرد الولاء والحب للعلويين، وتأييدهم ضد خصومهم، سواء أكان ذلك من الشيعة بالمعنى المعروف، أو من غيرهم من أهل الفرق الإسلامية الأخرى.

(2) الطبري ج 11 / 752، طبع ليدن.

(3) ذكر ذلك الصدوق في المجالس، فراجع: رجال المامقاني، مادة: «زبيدة».

(4) الكنى والألقاب ج 2 / 289 نقلاً عن ابن شحنة في روضة المناظر.


الصفحة 134
التسمي ب‍ «الوزير». يعتبر شؤماً: وينفر الناس منه كل النفور، كما سنشير إليه فيما يأتي إن شاء الله تعالى.

وأما عن أمرائهم وقوادهم، فالأمر فيهم أوضح وأجلى، حيث إنهم ما كانوا يرون إلا والياً أو قائداً يخرج عليهم داعياً للعلويين، أو آخر قد خلع طاعتهم، واستجاب لدعوة خصومهم آل علي، أو ثالث يخشى أن يميل إليهم، ويتعاطف معهم.. وقد بدأ قوادهم بالخروج عليهم من زمن السفاح، الذي خرج عليه ابن شيخ المهري، داعياً لآل علي، وبعد ذلك كانت ثورة القواد على المنصور داعين إلى موالاة أهل البيت، وقامت ثورة ضد المنصور، وداعية للعلويين في نفس خراسان، وذلك في سنة 140 ه‍. وبعد ذلك وفي زمن المهدي العباسي قامت ثورة أخرى في خراسان تدعو إلى آل أبي طالب بقيادة صالح بن أبي حبال. وعظم شأنه جداً، ولم يمكنهم القضاء عليه إلا بإعمال الحيلة(1) وأما في زمن الرشيد، فقد ثارت الفتن بين أهل السنة والرافضة، على حد تعبير النجوم الزاهرة.

الخطر الحقيقي:

وأما الذي كان يكمن فيه الخطر الحقيقي، وكان يهز الدولة، ويزعزع من أركانها. فهو ثورات العلويين أنفسهم، حتى ليقال:

إنه قد بويع لمحمد بن عبد الله بن الحسن، وأخيه إبراهيم في أكثر الأمصار، وذلك في سنة 145 ه‍. وبعد ذلك كانت واقعة فخ المشهورة، ثم استمر الحال على ذلك، فلم يكن العباسيون يرون، إلا علوياً ثائراً، أو أنه يدبر للثورة، حتى أوائل زمن المأمون، حيث بلغت الحالة فيه

____________

(1) راجع: لطف التدبير ص 105.


الصفحة 135
في السوء والتدهور الغاية، وأوفت على النهاية. حتى ليقال: إن الثورات العلوية، التي قامت فيما بين عهد السفاح، وأوائل عهد المأمون، وبالتحديد إلى حوالي سنة 200 ه‍ أي فيما يقل عن سبعين عاما، قد قاربت الثلاثين ثورة، هذا بغض النظر عن الثورات الأخرى التي كانت تدعو لهم. وإلى موالاتهم..

وستأتي الإشارة إلى بعض الثورات العلوية التي قامت ضد المأمون بالخصوص، وإلى أنه حتى قائده العظيم، طاهر بن الحسين، ـ بل وجميع آل طاهر(1) ـ وكذلك وزيره الفضل بن سهل، وهرثمة بن أعين، وغيرهم، وغيرهم، كانوا يتهمون بالتشيع للعلويين..

ولسوف يتضح أن الوضع في عهده قد أصبح إلى حد كبير شبيهاً بالوضع الذي كان سائداً في أواخر عهد الأمويين، بفارق واحد بسيط، لو استمر الحال لتسارع لذلك الفارق الضعف والوهن، وذلك الفارق هو: أنه لا يزال كثير من الناس المخدوعين بدعايات العباسيين يعتبرون تلك المنازعات طبيعية بين من يستحقون الخلافة!!!.

ويبقى هنا سؤال:

لماذا لم تكن ثورات العلويين، أو الثورات الداعية لهم. تصادف النجاح، مع أنها كانت تحظى بالتأييد الواسع، في مختلف فئات الشعب، وطبقاته؟!..

وجوابنا عن هذا السؤال هو: أن الذي يراجع التاريخ يرى ـ بما لا مجال معه للشك ـ: أن تلك الثورات لم يكن يسبقها التخطيط،

____________

(1) راجع: الكامل لابن الأثير، حوادث سنة 250 ه‍.


الصفحة 136
والإعداد الكافيان، وما كان العباسيون ليعطوها الفرصة لتخطيط وإعداد يمكن أن يصل إلى درجة تمكنه من أن يذهب بدولة الجبارين.

هذا بالإضافة إلى فساد القيادة القبلية آنذاك، والتي كانت السبب الأول والأخير لنجاح أية ثورة أو فشلها.. وسيأتي تفصيل ذلك على النحو الكافي والشافي، في فصل: مدى جدية العرض، إن شاء الله.

ونتيجة كل ذلك:

وهكذا.. يتضح: أن سياسات العباسيين، لم تستطع أن تحقق لهم الأهداف التي كانوا يتوخون تحقيقها، وإنما كانت نتائجها عكسية بالنسبة إليهم، ودماراً ووبالاً عليهم، قبل أن تكون وبالاً على أي من خصومهم. وبالأخص أبناء عمهم العلويين..