القسم الثاني
ظروف البيعة وأسبابها
1 ـ شخصية الإمام الرضا (عليه السلام).
2 ـ من هو المأمون؟.
3 ـ آمال المأمون، وآلامه..
4 ـ ظروف البيعة وأسبابها.
5 ـ أسباب البيعة لدى الآخرين.
شخصية الإمام الرضا (عليه السلام)
لمحات:
الإمام الرضا (عليه السلام)، هو ثامن الأئمة الاثني عشر، الذين نص عليهم النبي (صلى الله عليه وآله): علي بن موسى، بن جعفر، بن محمد، بن علي، ابن الحسين، ابن علي، بن أبي طالب، صلوات الله عليهم أجمعين..
ستة آباؤه من هــــــم | أفضل من يشرب صوب الغمام |
كنيته: أبو الحسن.
ومن ألقابه: الرضا، والصابر، والزكي، والولي.
نقش خاتمه: حسبي الله.
وقيل: بل نقشه: ما شاء الله، لا قوة إلا بالله(1).
ولد في المدينة سنة 148 ه. أي: في نفس السنة التي توفي فيها
____________
(1) لنا رأي بالنسبة للقب، ونقش الخاتم: وهو أنه كثيراً ما يعبر عن ظاهرة من نوع معين، وظروف اجتماعية، وسياسية، ونفسية، وغير ذلك. وكذلك عن مميزات، وملكات شخصية خاصة. ونأمل أن نوفق لبحث هذا الموضوع مستوفى في فرصة أخرى إن شاء الله.
المفيد في الإرشاد، والشبراوي في الإتحاف بحب الأشراف، والكليني في الكافي، والكفعمي في المصباح، والشهيد في الدروس، والطبرسي في أعلام الورى، والفتال النيسابوري في روضة الواعظين، والصدوق في علل الشرايع، وتاج الدين محمد بن زهرة في غاية الاختصار، وابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة، والأردبيلي في جامع الرواة، والمسعودي في مروج الذهب، وإن كان في كلامه اضطراب، وأبو الفداء في تاريخه، والكنجي الشافعي في كفاية الطالب، وابن الأثير في كامله، وابن حجر في صواعقه، والشبلنجي في نور الأبصار، والبغدادي في سبائك الذهب، وابن الجوزي في تذكرة الخواص، وابن الوردي في تاريخه، ونقل عن تاريخ الغفاري، والنوبختي. وكان عتاب بن أسد يقول: إنه سمع جماعة من أهل المدينة يقولون ذلك، وغير هؤلاء كثير.
وذهب آخرون ـ وهم الأقل ـ إلى أن ولادته (عليه السلام)، كانت سنة 153 ه. منهم: الإربلي في كشف الغمة، وابن شهرآشوب في المناقب، والصدوق في عيون الأخبار، وإن كان في كلامه اضطراب، والمسعودي في إثبات الوصية، وابن خلكان في وفيات الأعيان، وابن عبد الوهاب في عيون المعجزات، واليافعي في مرآة الجنان..
وقيل: إن ولادته كانت سنة 151 ه.
والقول الأول هو الأقوى والأشهر. ولم يذهب إلى القولين الأخيرين إلا قلة..
وتوفي (عليه السلام) في طوس سنة 203 ه. على قول معظم العلماء، والمؤرخين، والشاذ النادر لا يلتفت إليه..
وبعد:
فأما علمه، وورعه وتقواه:
فذلك مما اتفق عليه المؤرخون أجمع، يعلم ذلك بأدنى مراجعة للكتب التاريخية، ويكفي هنا أن نذكر أن نفس المأمون قد اعترف بذلك، أكثر من مرة، وفي أكثر من مناسبة. بل في كلامه: أن الرضا (عليه السلام) أعلم أهل الأرض، وأعبدهم. ولقد قال لرجاء بن أبي الضحاك: «.. بلى يا ابن أبي الضحاك، هذا خير أهل الأرض، وأعلمهم، وأعبدهم»(1).
وقد قال أيضاً للعباسيين، عندما جمعهم، في سنة 200 ه. وهم أكثر من ثلاثة وثلاثين ألفاً(2):
«إنه نظر في ولد العباس، وولد علي رضي الله عنهم، فلم يجد أحداً أفضل، ولا أورع، ولا أدين، ولا أصلح. ولا أحق بهذا الأمر من علي بن موسى الرضا(3).
____________
(1) راجع: البحار ج 49 ص 95، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 183، وغير ذلك.
(2) مروج الذهب ج 3 ص 440، والنجوم الزاهرة ج 2 ص 166، وغاية المرام للعمري الموصلي ص 121، ومآثر الإنافة في معالم الخلافة ج 1 ص 212، والطبري، طبع ليدن ج 11 ص 1000، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص 333، وغير ذلك.
وورد ذلك أيضاً في رسالة الحسن بن سهل، لعيسى بن أبي خالد، فراجع: الطبري ج 11 ص 1012، وتجارب الأمم ج 6 المطبوع مع العيون والحدائق ص 430.
هذا.. ولكن في تاريخ التمدن الإسلامي، ج 1 ص 176 ويؤيده ما في وفيات الأعيان لابن خلكان، طبع سنة 1310 ج 1 ص 321، ويساعد عليه الاعتبار أيضاً: أن الذين أحصوا آنئذٍ هم: العباسيون خاصة المأمون، دون غيرهم من سائر بني العباس.
(3) راجع: مروج الذهب ج 3 ص 441، والكامل لابن الأثير ج 5 ص 183، والفخري في الآداب السلطانية ص 217، والطبري، طبع ليدن ج 11 ص 1013، ومختصر تاريخ الدول ص 134، وتجارب الأمم ج 6 ص 436.
=>
هذا علي والهدى يقوده | من خير فتيان قريش عوده(1) |
ولوضوح هذا الأمر نكتفي هنا بهذا المقدار، وننتقل إلى الحديث عن أمور هامة أخرى، وما يهمنا في المقام إعطاء لمحة “ريعة عن مكانته، وشخصيته (عليه السلام)، فنقول:
وأما مركزه وشخصيته (عليه السلام):
فهو من الأمور البديهية، التي لا يكاد يجهلها أحد، وقد ساعده سوء الأحوال بين الأمين والمأمون على القيام بأعباء الرسالة، وعلى زيادة جهوده، ومضاعفة نشاطاته، حيث قد فسح المجال لشيعته للاتصال به، والاستفادة من توجيهاته، مما أدى بالتالي ـ مع ما كان يتمتع به (عليه السلام) من مزايا فريدة، وما كان ينتهجه من سلوك مثالي ـ إلى تحكيم مركزه، وبسط نفوذه في مختلف أرجاء الدولة الإسلامية، يقول الصولي:
ألا إن خير الناس نفساً ووالداً | ورهطاً وأجداداً علي المعظم |
أتينا به للحلم والعلم ثامنــاً | إماماً يؤدي حجة الله يكتم(2) |
بل لقد قال هو نفسه (عليه السلام) مرة للمأمون. وهو يتحدث عن ولاية
____________
<=
وفي مرآة الجنان ج 2 ص 11، قال: إنه لم يجد في وقته أفضل، ولا أحق بالخلافة، من علي بن موسى الرضا. ونحو ذلك ما في البداية والنهاية ج 10 ص 247، وينابيع المودة للحنفي ص 385، ونظرية الإمامة ص 386 ووفيات الأعيان طبع سنة 1310 ه. ج 1 ص 321، وإمبراطورية العرب، وغير ذلك.
(1) مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 362.
(2) نفس المصدر ج 4 ص 332، وهي في مقتبس الأثر ج 22، ص 328، لكنه لم يذكر قائلها..
ويكفي أن نذكر هنا قول ابن مؤنس ـ عدو الإمام (عليه السلام)، وقد أسر (عليه السلام) للمأمون بشيء، قال ابن مؤنس: «.. يا أمير المؤمنين، هذا الذي بجنبك والله صنم يعبد دون الله»(2).
وفي الكتاب الذي طلب المأمون فيه من الرضا أن يجمع له أصول الدين، وفروعه، قال المأمون: إن الإمام: «حجة الله على خلقه، ومعدن العلم، ومفترض الطاعة»(3). كما أن المأمون كان يعبر عن الرضا (عليه السلام) ب: «أخيه»، ويخاطبه ب «يا سيدي».
وكتب للعباسيين يصف الرضا، ويقول: «.. وأما ما كنت أردته من البيعة لعلي بن موسى، بعد استحقاق منه لها في نفسه، واختيار مني له.. إلى أن قال: وأما ما ذكرتم من استبصار المأمون في البيعة لأبي الحسن، فما بايع له إلا مستبصراً في أمره، عالما بأنه لم يبق على ظهرها أبين فضلاً، ولا أظهر عفة، ولا أورع ورعا، ولا أزهد زهداً في الدنيا، ولا أطلق نفساً، ولا أرضى في الخاصة والعامة، ولا أشد في ذات الله منه»(4).
____________
(1) البحار ج 49 ص 155، و ص 144، والكافي ج 8 ص 151، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 167.
(2) البحار ج 49 ص 166، وأعيان الشيعة ج 4 قسم 2 ص 138، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 161، ومسند الإمام الرضا ج 1 ص 86.
(3) نظرية الإمامة ص 388.
(4) الرسالة مذكورة في أواخر هذا الكتاب.
ومما يدل على مكانته وهيبته ما ورد في رواية أخرى، يقول فيها المتحدث: «.. دخلنا [أي هو والرضا (عليه السلام)] على المأمون، فإذا المجلس غاص بأهله، ومحمد بن جعفر في جماعة الطالبيين والهاشميين، والقواد حضور. فلما دخلنا قام المأمون، وقام محمد بن جعفر، وجميع بني هاشم، فما زالوا وقوفا والرضا جالس مع المأمون، حتى أمرهم بالجلوس، فجلسوا، فلم يزل المأمون مقبلا عليه ساعة الخ»(1).
وأما ما جرى في نيسابور:
فلا يكاد يخلو منه كتاب يتعرض لأحوال الرضا (عليه السلام)، ومسيره إلى مرو، فإنه عندما دخل نيسابور تعرض له الحافظان: أبو زرعة الرازي، ومحمد بن أسلم الطوسي، ومعهما من طلبة العلم ما لا يحصى، وتضرعوا إليه أن يريهم وجهه، فأقر عيون الخلائق بطلعته، والناس على طبقاتهم قيام كلهم. وكانوا بين صارخ، وباك، وممزق ثوبه، ومتمرغ في التراب، ومقبل لحافر بغلته، ومطول عنقه إلى مظلة المهد، إلى أن انتصف النهار، وجرت الدموع كالأنهار، وصاحت الأئمة: «معاشر الناس، أنصتوا، وعوا، ولا تؤذوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) في عترته» فأملى صلوات الله عليه، عليهم، بعد أن ذكر السلسلة الذهبية الشهيرة
____________
(1) مسند الإمام الرضا ج 2 ص 76، والبحار ج 49 ص 175، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 156.
فلما مرت الراحلة أخرج رأسه مرة ثانية إليهم، وقال: «بشروطها، وأنا من شروطها».
فعد أهل المحابر والدوى، فأنافوا على العشرين ألفاً. كذلك وصف المؤرخون هذه الحادثة الشهيرة(1).. ولسوف نتحدث عن هذه القضية بالتفصيل في فصل: «خطة الإمام» إن شاء الله تعالى.
وعن أسناد هذه الرواية، الذي أورده الإمام (عليه السلام)، يقول الإمام أحمد بن حنبل: «لو قرأت هذا الإسناد على مجنون لبرئ من جنته». على ما في الصواعق المحرقة، ونزهة المجالس(2) وغير ذلك.
ونقل أن بعض أمراء السامانية بلغه هذا الحديث بسنده، فكتبه بالذهب، وأوصى أن يدفن معه.
____________
(1) نقله في مجلة مدينة العلم، السنة الأولى ص 415 عن صاحب تاريخ نيسابور، وعن المناوي في شرح الجامع الصغير، وهي أيضاً في الصواعق المحرقة ص 122، وحلية الأولياء 3 ص 192، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 135، وأمالي الصدوق ص 208، وينابيع المودة ص 364، و ص 385، وقد ذكر قوله (عليه السلام): وأنا من شروطها، في الموضع الثاني فقط. والبحار ج 49 ص 123، 126، 127، والفصول المهمة لابن الصباغ ص 240، ونور الأبصار ص 141، ونقلها في مسند الإمام الرضا ج 1 ص 43، 44، عن التوحيد ومعاني الأخبار وكشف الغمة ج 3 ص 98. وهي موجودة في مراجع كثيرة أخرى. لكن يلاحظ أن بعض هؤلاء قد حذف قوله (عليه السلام): «بشروطها، وأنا من شروطها» ولا يخفى السبب في ذلك.
(2) وفيه في ج 1 ص 22، قال: «إنه [أي الإمام أحمد] قرأها على مصروع فأفاق».
وها نحن أمام نصوص أخرى:
وكذلك نرى هيبة الإمام (عليه السلام) وقوة شخصيته، في موقفه مع الفضل ابن سهل ـ أعظم رجل في البلاط العباسي ـ وذلك عندما طلب منه الفضل كتاب الضمان، والأمان، حيث أوقفه ساعة، ثم رفع رأسه إليه، وسأله عن حاجته، فقال: «يا سيدي. إلى أن قال الراوي: ثم أمره بقراءة الكتاب ـ وكان كتاباً في أكبر جلد ـ فلم يزل قائماً حتى قرأه! الخ»(1).
ثم رأينا المأمون عندما قتل الفضل بن سهل ذا الرئاستين، وشغب عليه القواد والجند، ومن كان من رجال ذي الرئاستين، وقد جاؤا بالنيران ليحرقوا الباب عليه، ليصلوا إليه ـ قد رأينا ـ كيف هرع إلى الإمام، يطلب منه أن يتدخل لإنقاذه، فخرج (عليه السلام) إليهم، وأمرهم بالتفرق، فتفرقوا.. يقول ياسر الخادم: «فأقبل الناس والله، يقع بعضهم على بعض، وما أشار لأحد إلا ركض، ومر، ولم يقف»(2). ونجا المأمون بذلك بجلده، واحتفظ بحياته.
وفي كتاب العهد الذي كتبه المأمون بخط يده ـ كما صرح به كل من تعرض له ـ فقرات تدل على سجايا الإمام، وعلى مركزه، وشخصيته، يقول المأمون عنه: «.. لما رأى من فضله البارع، وعلمه
____________
(1) أعيان الشيعة ج 4 قسم 2 ص 139، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 162، 163 والبحار ج 49 ص 168، ومسند الإمام الرضا ج 1 ص 88.
(2) المناقب ج 4 ص 347، وروضة الواعظين ج 1 ص 273، وكشف الغمة ج 3 ص 70، والكافي ج 1 ص 490، 491، وأعلام الورى ص 324، وأعيان الشيعة ج 4. قسم 2 ص 110، 140، طبعة ثالثة، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 164، وإرشاد المفيد ص 314، والبحار ج 49 ص 169، ومعادن الحكمة ص 183، وشرح ميمية أبي فراس ص 198، 199.
وقد استبان له ما لم تزل الأخبار عليه متواطية، والألسن عليه متفقة، والكلمة فيه جامعة، ولما لم يزل يعرفه به من الفضل يافعاً، وناشياً، وحدثاً، ومكتهلاً الخ..» وكتاب العهد مذكور في أواخر هذا الكتاب..
وفي نهاية المطاف:
فإن الإمام (عليه السلام) هو أحد العشرة، الذين هم على حد تعبير الجاحظ: «كل واحد منهم: عالم، زاهد، ناسك، شجاع، جواد، طاهر، زاك، والذين هم بين خليفة، أو مرشح لها»(1).
وهو على ما في النجوم الزاهرة: «سيد بني هاشم في زمانه، وأجلهم، وكان المأمون يعظمه، ويجله، ويخضع له، ويتفانى فيه»(2).
ومثله ما عن سنن ابن ماجة، على في خلاصة تذهيب تهذيب الكمال ص 278.
وقال عنه (عليه السلام) عارف تامر: «يعتبر من الأئمة الذين لعبوا دوراً كبيراً على مسرح الأحداث الإسلامية في عصره»(3).
وأخيراً.. فقد وصفه أبو الصلت، ورجاء بن أبي الضحاك، وإبراهيم ابن العباس، وغيرهم، وغيرهم. بما لو أردنا نقله لطال بنا الكلام. وحسبنا ما ذكرنا، فإننا إذا أردنا أن نلم بما قيل في حق الإمام (عليه السلام) لاحتجنا إلى تأليف خاص، ووقت طويل..
____________
(1) آثار الجاحظ ص 235.
(2) النجوم الزاهرة ج 2 ص 74.
(3) الإمامة في الإسلام ص 125.
من هو المأمون؟
لمحات:
هو عبد الله بن هارون الرشيد.
أبوه: خامس خلفاء بني العباس.. وهو سابعهم، بعد أخيه الأمين.
أمه: جارية خراسانية، اسمها: «مراجل». وقد ماتت بعد ولادتها إياه، وهي ما تزال نفساء. فنشأ يتيم الأم.
وقد كانت أمه ـ كما يقول المؤرخون ـ أشوه، وأقذر جارية في مطبخ الرشيد.
وذلك هو الذي يجعلنا نصدق القصة التي تقال عن السبب في حملها به(1).
____________
(1) وتحكى هذه القصة على النحو التالي: أن زبيدة لاعبت الرشيد بالشطرنج على الحكم والرضا، فغلبته، فحكمت عليه أن يطأ أقبح وأقذر وأشوه جارية في المطبخ، فبذل لها خراج مصر والعراق لتعفيه من ذلك، فلم تقبل، ولم تجد جارية تجمع الصفات المذكورة غير مراجل، فطلبت إليه أن يطأها، فجاء المأمون..
راجع حياة الحيوان للدميري ج 1 ص 72، وأعلام الناس في أخبار البرامكة، وبني العباس للاتليدي ص 106، 107، وعيون التواريخ. وأشار إليها إشارة واضحة: الإسحاقي في
=>
وكانت وفاته سنة 218 ه.
وكان مربيه الفضل بن سهل، ثم أصبح وزيره، وهو المعروف بذي الرئاستين.
وكان قائده: طاهر بن الحسين ذو اليمينين..
ميزات وخصائص:
وقد كانت حياته حياة جد ونشاط، وتقشف، على العكس من أخيه الأمين، الذي نشأ في كنف «زبيدة»، وما أدراك ما «زبيدة»، فقد كانت حياته حياة نعمة وترف، يميل إلى اللعب والبطالة، أكثر منه إلى الجد والحزم. يظهر ذلك لكل من راجع تاريخ حياة الأخوين..
ولعل سر ذلك يعود إلى أن المأمون لم يكن كأخيه، يشعر بأصالة محتده، ولا كان مطمئنا إلى مستقبله، وإلى رضا العباسيين به. بل كان يقطع بعدم رضاهم به خليفة وحاكماً، ولهذا. فقد وجد أنه ليس لديه أي رصيد يعتمد عليه غير نفسه، فشمر عن ساعد الجد، وبدأ يخطط لمستقبله منذ اللحظة الأولى التي أدرك فيها واقعه، والمميزات التي كان يتمتع بها أخوه الأمين عليه..
____________
<=
لطائف أخبار الأول ص 74، وكذلك في روض الأخبار المنتخب من ربيع الأبرار ص 157. ولا ينافي ذلك أن ولد في الليلة التي تولى فيها أبوه الخلافة، فإن أولياء العهد كانوا يتولون أعظم الولايات من قبل الخلفاء، وقد قسم الرشيد الدولة كلها بين أولاده الثلاثة: الأمين، والقاسم، ولم يبق لنفسه شيئاً، وهو على قيد الحياة..
ومن هنا نعرف السر فيما يظهر من رسالته للعباسيين، حيث نصب فيها نفسه واعظا تقيا، وأضفى عليها هالة من التقى والورع!! والزهد في الدنيا!! والالتزام بأحكام الشريعة، وتعاليم الدين!!. ليروه ويراه الناس نوعية أخرى تفضل نوعية أخيه الأمين، وتزيد عليها..
ما يقال عن المأمون:
وعلى كل حال.. فإن المأمون كان قد برع في العلوم والفنون، حتى فاق أقرانه، بل فاق جميع خلفاء بني العباس..
وقد قال بعضهم: «لم يكن في بني العباس أعلم من المأمون»(2).
وقال عنه ابن النديم إنه: «أعلم الخلفاء بالفقه والكلام»(3).
وقال عنه محمد فريد وجدي: «لم يل الخلافة بعد الخلفاء الراشدين أكفأ منه»(4).
وفي الأخبار الطوال: «وكان شهماً، بعيد الهمة، أبي النفس، وكان نجم بني العباس في العلم والحكمة»
____________
(1) الفخري في الآداب السلطانية ص 212. ولكن سيأتي أن المأمون هو الذي طلب من الفضل: أن يشيع عنه الزهد والتقوى، وليس الفضل هو المشير عليه بذلك..
(2) حياة الحيوان للدميري ج 1 ص 72.
(3) فهرست ابن النديم، طبع مطبعة الاستقامة في القاهرة ص 174.
(4) دائرة المعارف الإسلامية ج 1 ص 620.
وقد وصفه السيوطي وابن تغري بردى، وابن شاكر الكتبي، فقالوا: «وكان أفضل رجال بني العباس: حزماً، وعزماً، وحلماً، وعلماً، ورأياً، ودهاء(2) وهيبة، وشجاعة، وسؤدداً، وسماحة،
____________
(1) مناقب آل أبي طالب ج 2 ص 276، وسفينة البحار ج 2 ص 332، مادة: «غيب».
(2) دهاء المأمون، وحنكته، وسياسته من المسلمات، والأمثلة على ذلك كثيرة، فقد روى لنا ابن عبد ربه في العقد الفريد ج 1 ص 123، والجهشياري في الوزراء والكتاب ص 311: كيف أنه بين للفضل بن سهل: أن أخاه الأمين كان يستطيع أن ينتصر عليه، لو أنه أرسل إلى أهل البلاد التي يحكمها المأمون يخبرهم: «أنه قد وضع عنهم الخراج إلى سنة. فحينئذ، إن لم يقبل المأمون، قامت البلاد ضده، وإن قبل لم يجد ما يعطي الجند، فيقومون ضده، وفي كلا الحالتين يكون النصر للأمين، لو وقعت بينهما الحرب، فحمد الفضل ربه، على أن لم يهتد الأمين، وأتباعه إلى هذا الرأي. وإن كان في العقد الفريد للملك السعيد، ص 50 ينسب هذا الرأي إلى الشيخ أبي الحسن القطيفي، وأنه أشار به على الأمين، فلم يقبله. وفي المحاسن والمساوي طبع مصر ج 2 ص 77، 78، نسبة إلى شيخ مسن أشار به على الأمين فلم يقبل منه.
وقد رأينا أيضاً: أنه عندما تسلم زمام الحكم قد طلب من الفضل: أن يشيع عنه الزهد والتقوى والورع، ففعل.. راجع تاريخ التمدن الإسلامي ج 4 ص 261.
ورأينا كذلك: أنه يقتل الفضل، ويبكي عليه، ويقتل قتلته، ويقتل الرضا، ثم يبكي عليه. ويقتل طاهرا، ويولي أبناءه مكانه.. ورأينا أيضاً: أنه يولي الرضا العهد، ويوهم العباسيين: أن ذلك كان من تدبير الفضل، ويقتل أخاه، ويوهمهم أن الذنب في ذلك على الفضل وطاهر. إلى آخر ما هنالك، مما سيأتي، وغيره، مما يدل على عمقه، ودهائه، وحنكته، وسياسته.. وأن الفضل وغيره، ما كانوا إلا دمى له، يلهو ويلعب بها، ويحركها كيف شاء، وحيثما أراد..
شهادة ذات أهمية:
وقد شهد له أبوه نفسه بالتقدم على أخيه الأمين، قال: «.. وقد عنيت بتصحيح هذا العهد، وتصييره إلى من أرضى سيرته، وأحمد طريقته، وأثق بحسن سياسته، وآمن ضعفه ووهنه، وهو: عبد الله. وبنو هاشم ـ يعني العباسيين ـ مائلون إلى محمد بأهوائهم، وفيه ما فيه من الانقياد لهواه، والتصرف مع طويته، والتبذير لما حوته يده، ومشاركة النساء، والإماء في رأيه، و عبد الله المرضي الطريقة، الأصيل الرأي، الموثوق به في الأمر العظيم، فإن ملت إلى عبد الله، أسخطت بني هاشم، وإن أفردت محمداً بالأمر، لم آمن تخليطه على الرعية..»(3).
وقال أيضاً: «إني لأعرف في عبد الله حزم المنصور، ونسك المهدي، وعزة الهادي، ولو شئت أن أنسبه إلى الرابع ـ يعني نفسه ـ لنسبته، وقد قدمت محمداً عليه، وإني لأعلم أنه منقاد لهواه، مبذر
____________
(1) قال القلقشندي في كتابه: مآثر الإنافة في معالم الخلافة ج 1 ص 213: إنه قد طعن الناس!! على المأمون ثلاثة أشياء: الأول: القول بخلق القرآن!!. الثاني: التشيع. الثالث: بث علوم الفلاسفة بين المسلمين.
فتأمل، بالله عليك بهذه الأمور، التي عدوها من المطاعن، وبعد ذلك: فاضحك، أو فابك على عقول هؤلاء الجهلاء، الذين يسميهم الناس، أو يسمون أنفسهم علماء!!!
والعلم من هؤلاء وأمثالهم بريء..
(2) تاريخ الخلفاء ص 306، وفوات الوفيات ج 1 ص 239، والنجوم الزاهرة، وتاريخ الخميس ج 2 ص 334.
(3) مروج الذهب طبع بيروت ج 3 ص 352، 353.
____________
(1) راجع شرح قصيدة ابن عبدون لابن بدرون ص 245، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص 307، وقريب منه ما في الأخبار الطوال ص 401، والإتحاف بحب الأشراف ص 96، وتاريخ الخميس ج 2 ص 334.
هذا.. والرشيد هنا يدعي النسك للمهدي مع أن كتب التاريخ زاخرة بأخبار بذخه، ولهوه ولعبه، ويكفي أن نذكر هنا: أنه قد سلم الأمر ليعقوب بن داوود، وانصرف إلى ملذاته وشهواته، حتى قال فيه بشار بن برد أبياته المشهورة:
بني أمية هبوا طال نومكـــم | إن الخليفة يعقوب بن داوود |
ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا | خليفة الله بين الزق والعـود |
فراجع: الفخري في الآداب السلطانية ص 184، 185، وتاريخ التمدن الإسلامي المجلد الأول جزء 2 ص 407، والبداية والنهاية، وأي كتاب تاريخي شئت..
هذا.. ولعل ما ينسب إليه من الزهد والورع إنما كان بلحاظ ما قدمناه: من تسمية أبيه له ب «المهدي» لكي يكون مهدي الأمة الذي يملأ الأرض قسطا، وعدلا، واخترع أحاديث كثيرة لتأييد مدعاه هذا.
ولكن الحقيقة هي ما قدمناه، من أنه لم يكن يقل في تهتكه واستهتاره عن غيره من الخلفاء، حتى لقد ذكر الطبري في تاريخه، طبع مطبعة الاستقامة ج 6 ص 405، أنه ألبس ابنته «البانوقة» لباس الفتيان، لتمشي في مقدمة الجند والقواد، وقد رفع القباء ثدييها الناهدين، وكانت سمراء، حسنة القد، حلوة، على حد تعبير الطبري. فماذا كان يقصد «المهدي المنتظر»!! من تصرفه هذا!!. فهل كان يريد بذلك أن يملأ الأرض قسطاً وعدلاً؟!!.
ولماذا كان الزاهد الورع!! و «المهدي المنتظر» يعذب الناس بالسنانير والزنابير، ليبتز منهم أموالهم، ويتخذ الاتهام بالزندقة ذريعة للقضاء على خصومه، كما قدمنا، وأيضاً يشرب الخمر، ويسمع الغناء، حتى بلغ في ذلك حدا جعل يعقوب بن داوود يلومه على ذلك، ويقول له: «ما على هذا استوزرتني، ولا على هذا صحبتك الخ..». وفي ذلك يقول بعض الشعراء، يعرض بيعقوب، ويحث المهدي على الاستمرار في
=>
وما يهمنا هنا، هو مجرد الإشارة إلى حال المأمون، وما كان عليه من الدهاء والسياسة، وحسن التدبير. ولسنا هنا في صدد تحقيق أحواله، والإحاطة بكافة شؤونه، فإن ذلك لا يناسب الغرض الذي وضع من أجله هذا الكتاب.
وسيمر معنا في الفصول الآتية المزيد من الكلام عن المأمون وظروفه، مما له نحو ارتباط بالموضوع الذي نحن بصدد تحقيقه من قريب، أو من بعيد، إن شاء الله تعالى..
____________
<=
ذلك على ما في البداية والنهاية ج 10 ص 148، 149 ـ يقول في ذلك ـ:
فدع عنك يعقوب بن داوود جانباً واقبل على صهباء طيبة النشر
وأخيراً.. فإننا لا نعرف أحداً يقول بأن المهدي العباسي، هو المهدي الموعود، إلا سلم الخاسر، فقد نقل ذلك عنه ابن المعتز في طبقات الشعراء ص 104، ويدل على ذلك قول الخاسر في قصيدة له يمدح بها المهدي العباسي على ما في الأغاني ج 21 ص 187، طبع دار الفكر:
له شيم عند بذل العطــــاء | لا يعرف الناس مقدارهـــا |
و «مهدي أمتنا» والــــذي | حماها وأدرك أوتارهــــا |
والسيد الحميري أيضاً ممن كان قد ظن أنه المهدي حقاً لكن فعاله قد بينت: أنه ليس هو، ولذلك يقول السيد حسبما يروي المرزباني أخبار السيد الحميري [المستدرك] ص 58:
ظننا أنه «المهدي» حقــــاً | ولا تقع الأمور كما ظننـــا |
ولا والله، ما المهــــدي إلا | إماماً فضله أعلى وأسنـــى |
ولا بأس بالإشارة هنا إلى ما ذكروه، من أن سبب تسميته بالخاسر: أنه كان عنده مصحف، فباعه، واشترى بثمنه طنبورا، فبقيت من ثمنه بقية، فاشترى بها خمرا!!..
فبورك من مهدي أتباعه أمثال هذا!! وبوركت أمة تعترف بمهدي له تلكم الصفات!!.