آمال المأمون وآلامه
العباسيون لا يرضون بالمأمون!
لا يشك المؤرخون بأن المأمون كان أجدر من الأمين، وأحق بالخلافة(1). بل لقد مر اعتراف الرشيد نفسه بذلك، لكنه اعتذر عن إسناده الأمر الأمين: بأن العباسيين، لا يرضون بالمأمون خليفة، وحاكما، رغم سنه وفضله وكياسته، وأنهم يرجحون أخاه الأمين عليه، قال الرشيد، حسبما تقدم: «وبنو هاشم مائلون إلى محمد بأهوائهم، وفيه ما فيه.. إلى أن قال: فإن ملت إلى ابني عبد الله. أسخطت بني هاشم، وإن أفردت محمداً بالأمر، لم آمن تخليطه على الرعية الخ!!» ومر أيضاً قول الرشيد: «.. ولولا أم جعفر، وميل بني هاشم إليه [أي إلى الأمين] لقدمت عبد الله عليه..».
كما أن المأمون نفسه يقول في رسالته للعباسيين، المذكورة في أواخر هذا الكتاب: «.. وأما ما ذكرتم، مما مسكم من الجفاء في ولايتي، فلعمري ما كان ذلك إلا منكم: بمظافرتكم عليه، وممايلتكم إياه
____________
(1) ليس المراد هنا: الجدارة الحقيقية، التي قررها الله، وبينها محمد (صلى الله عليه وآله)، وإنما المراد الجدارة التي يفهمها هؤلاء، واعتاضوا بها عن حكم الله، وسنة نبيه..
سوف يأتي قول الفضل بن سهل للمأمون: «.. وبنو أبيك معادون لك، وأهل بيتك الخ..».
إلى آخر ما هنالك من النصوص الدالة على حقيقة الموقف السلبي للعباسيين ضد المأمون، وتفضيلهم أخاه الأمين عليه.
سؤال قد تصعب الإجابة عليه:
فما هو السر يا ترى؟ في عدم رضا العباسيين بالمأمون؟! ولماذا يفضلون أخاه أمين عليه؟!! مع أنه هو الأليق والأجدر والأحق بالخلافة!!.
إن الإجابة على هذا السؤال ربما تبدو لأول وهلة صعبة، وشاقة. ولكننا لن نستسلم لهذا الشعور، ولسوف نحاول الإجابة عليه، معتمدين على بعض ما بأيدينا من النصوص التاريخية، التي تلقي لنا ضوءاً كاشفاً على حقيقة القضية، وواقع الأمر: فنقول:
الجواب عن السؤال:
لعل سر انحراف العباسيين عن المأمون إلى أخيه الأمين يرجع إلى أن الأمين كان عباسياً، بكل ما لهذه الكلمة من معنى:
فأبوه: هارون..
وكان في حجر الفضل بن يحيى البرمكي، أخي الرشيد من الرضاعة، وأعظم رجل نفوذاً في بلاط الرشيد.
وكان يشرف على مصالحه الفضل بن الربيع، العربي، الذي كان جده من طلقاء عثمان، والذي لم يكن ثمة من شك في ولائه للعباسيين.
أما المأمون:
فقد كان في حجر جعفر بن يحيى، الذي كان أقل نفوذاً من أخيه الفضل. وكان مؤدبه، والذي يشرف على مصالحه، ذلك الرجل الذي لم يكن العباسيون يرتاحون إليه بشكل خاص، لأنه كان متهما بالميل إلى العلويين. والذي كانت العداوة بينه وبين مربي الأمين، الفضل بن الربيع على أشدها، ذلك الرجل الذي أصبح فيما بعد وزيرا للمأمون، ومدبرا لأموره، وأعني به: «الفضل بن سهل الفارسي»، وقد
____________
(1) وفي الفخري في الآداب السلطانية ص 212، ومروج الذهب ج 3 ص 396، والنجوم الزاهرة ج 2 ص 159، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص 303، وتاريخ اليعقوبي ج 3 ص 162: «أنه لم يتفق لخليفة عباسي أن يكون عباسي الأب والأم، غير الأمين»..
ولا بأس أيضاً بمراجعة: مختصر التاريخ ص 130، ومآثر الإنافة في معالم الخلافة ج 1 ص 203، وابن بدرون في شرح قصيدة ابن عبدون ص 243، وزهر الآداب ج 2 ص 993، طبع دار الجيل.
(2) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 306.
أما أم المأمون. فقد كانت خراسانية غير عربية، وقد ماتت أيام نفاسها به، وحتى لو كانت على قيد الحياة، فإنها ـ وهي أشوه، وأقبح، وأقذر جارية في مطبخ الرشيد ـ لن تستطيع أن تكون مثل زبيدة عظمة، ونفوذا ولو قلنا إن موتها كان في مصلحة المأمون لما عدونا الحقيقة، كيف وقد بلغ من مهانتها ـ في نظر الناس ـ أن كان المأمون يعير بها.
فهذه زينب بنت سليمان. التي كانت عند بني العباس بمنزلة عظيمة، عندما لم يحضر المأمون جنازة ابنها، واكتفى بإرسال أخيه صالح من قبله، تغضب، وتقول لصالح: «قل له: يا بن مراجل، أما لو كان يحيى بن الحسين بن زيد، لوضعت ذيلك على فيك، وعدوت خلف جنازته.»(1).
والرقاشي الشاعر يمدح الأمين، ويعرض بهجاء المأمون، فيقول:
يعرض بالمأمون، وأن أمه كانت أمة تباع، وتشرى في الأسواق. بل إن نفس الأمين قد عير أخاه بأمه، فقال:
وإذا تطاولت الرجال بفضلها | فاربع فإنك لست بالمتطاول |
____________
(1) الكامل لابن الأثير، طبع دار الكتاب العربي ج 5 ص 230، والإمام الصادق والمذاهب الأربعة المجلد الثاني جزء 4 ص 493.
(2) المعارف لابن قتيبة، طبع سنة 1300، والفخري في الآداب السلطانية ص 212.
أعطاك ربك ما هويت وإنما | تلقى خلاف هواك عند «مراجل» |
تعلو المنابر كل يوم آملا | ما لست من بعدي إليه بواصل(1) |
وقد أقذع في هجائه، حين كتب إليه أيام الفتنة بينهما بقوله:
يا بن التي بيعت بأبخس قيمة | بين الملأ في السوق هل من زائد |
ما فيك موضع غرزة من إبـرة | إلا وفيه نطفة من واحـــد |
فأجابه المأمون:
وإنما أمهات الناس أوعية | مستودعات وللأماء أكفاء |
فلرب معربة ليست بمنجبة | وطالما أنجبت في الخدر عجماء(2) |
وأخيراً. فإن خير ما يصور لنا الحالة المعنوية التي كان يعاني منها المأمون، هو قول دعبل مخاطبا له:
إني من القوم الذين سيوفهم | قتلت أخاك، وشرفتك بمقعد |
شادوا بذكرك بعد طول خموله | واستنقذوك من الحضيض الأوهد(3) |
مركز الأمين هو الأقوى:
وبعد كل ما تقدم. فإن ما لا بد لنا من الإشارة إليه هنا، هو:
____________
(1) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 304.
(2) غاية المرام في محاسن بغداد دار السلام للعمري الموصلي ص 121.
(3) معاهد التنصيص ج 1 ص 202، ووفيات الأعيان، طبع سنة 1310 ه. ج 1 ص 179، وتاريخ الخلفاء ص 324، والشعر والشعراء ص 539، 540، والغدير ج 2 ص 376، والعقد والفريد، طبع دار الكتاب العربي ج 2 ص 196، وتاريخ التمدن الإسلامي، المجلد الثاني جزء 3 ص 115، وزهر الآداب طبع دار الجيل ج 1 ص 134، والكنى والألقاب ج 1 ص 331، وربيع الأبرار ج 1 ص 743.
وإذا ما عرفنا أن هؤلاء هم الذين كانوا يؤثرون على الرشيد كل التأثير، وكان لهم دور كبير في توجيه سياسة الدولة.. فلسوف نرى أنه كان من الطبيعي أن يضعف الرشيد أمام هذه القوة، وينصاع لها.
ومن ثم.. لتؤثر مساعيها أثرها. وتعطي نتيجتها في الوقت المناسب، فيجعل ولاية العهد من بعده لولده الأصغر سنا، وهو الأمين، ويترك الأكبر ـ المأمون ـ ليكون ولي العهد الثاني بعد الأصغر.
ولعل تعصب بني هاشم. وجلالة عيسى بن جعفر قد لعبا دوراً كبيراً في فوز الأمين بالمركز الأول في ولاية عهد أبيه الرشيد(1). هذا عدا عن الدور الرئيسي. الذي لعبته «زبيدة» في تكريس الأمر لصالح ولدها(2).
فيحدثنا المؤرخون: أن عيسى بن جعفر بن المنصور، خال الأمين جاء إلى الفضل بن يحيى، وهو متوجه إلى خراسان على رأس جيش، وقال له: «أنشدك الله، لما عملت بالبيعة لابن أختي، فإنه ولدك، وخلافته لك، وإن أختي زبيدة تسألك ذلك.. فوعده الفضل أن يفعل، وعندما انتصر على الخارجين هناك. بايع هو ومن معه من القواد والجند لمحمد(3).
____________
(1) ابن بدرون في شرح قصيدة ابن عبدون ص 245، والإتحاف بحب الأشراف ص 96.
(2) زهر الآداب طبع دار الجيل ج 2 ص 581.
(3) راجع تفصيل ذلك في: الطبري ج 10 ص 611، والنجوم الزاهرة ج 2 ص 76، والكامل لابن الأثير ج 5 ص 88، وأشار إلى ذلك أيضاً ابن خلدون في تاريخه ج 3 ص 218.
وأصبح الرشيد حينئذٍ أمام الأمر الواقع، حيث إن الذي أقدم على هذا الأمر، هو ذلك الرجل. الذي لا يمكن رد كلمته، والذي له من النفوذ والسلطان، والخدمات الجلى، والأيادي البيضاء عليه، ما لا يمكن له، ولا لأحد غيره أن يجحده أو أن يتجاهله.
ويلاحظ هنا: أن عيسى بن جعفر قد ذكر أن أخته زبيدة، تسأله أن يقدم على هذا الأمر، وزبيدة التي تخطى باحترام كبير عند العباسيين، ولها نفوذ واسع، وتأثير كبير على الرشيد ـ زبيدة هذه ـ يهتم البرامكة جداً بأن تكون معهم، وإلى جانبهم، وذلك ليبقى لهم سلطانهم، ويدوم لهم حكمهم، الذي أشار إليه عيسى بقوله: «فإنه ولدك، وخلافته لك» فإن في هذا القول دليلاً واضحاً للفضل على سلامة وصحة ما يقدم عليه بالنسبة لمصالحه هو، ومصالح البرامكة بشكل عام. وبالنسبة لدورهم في مستقبل الخلافة العباسية.. وهو في الحقيقة يشتمل على إغراء وترغيب واضح بالعمل لهذا الأمر، وفي سبيله.
كما أن قول عيسى الآنف الذكر يلقي لنا ضوءاً على الدور الذي لعبته زبيدة في مسألة البيعة لولدها بولاية العهد. فهو يشير إلى أنها كانت قد استخدمت نفوذها في إقناع رجال الدولة بتقديم ولدها. هذا بالإضافة إلى أنها كانت تحرض الرشيد على ذلك باستمرار(1)، حتى لقد صرح الرشيد نفسه بأنه: «لولا أم جعفر وميل بني هاشم لقدم عبد الله على محمد، كما أشرنا إليه».
قال محمد فريد وجدي مشيراً إلى أن الرشيد لم يكن يريد جرح عاطفة
____________
(1) النجوم الزاهرة ج 2 ص 81، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص 290.
وأخيراً. فإن من المحتمل جداً أن يكون الرشيد ـ بملاحظة الدور الذي كانت تلعبه الأنساب في التفكير العربي ـ قد لاحظ سمو نسب الأمين على المأمون، وكان لذلك أثر في تقديمه له عليه، وقد ألمح بعض المؤرخين إلى ذلك فقال: «وفيها ـ أي في سنة 176 ه ـ عقد الرشيد لابنه المأمون عبد الله العهد بعد أخيه الأمين. إلى أن قال: وكان المأمون أسن من الأمين بشهر واحد، غير أن الأمين أمه زبيدة بنت جعفر هاشمية، والمأمون أمه أم ولد اسمها «مراجل» ماتت أيام نفاسها به.»(2).
محاولات الرشيد لصالح المأمون:
ومن كل ما تقدم يتضح لنا حقيقة موقف العباسيين، وأهل بيت المأمون، ورجال الدولة من المأمون.. ويظهر إلى أي حد كان مركز أخيه قويا، ونجمه عاليا، وأنه لم يكن له مثل ذلك الحظ الذي كان لأخيه الأمين.
____________
(1) دائرة المعارف الإسلامية ج 1 ص 606.
(2) النجوم الزاهرة ج 2 ص 84، وقريب منه ما في تاريخ الخلفاء للسيوطي.
كما أنه قد حاول بطرق شتى أن يشد من عضد المأمون، ويقوي مركزه في مقابل أخيه الأمين، لأنه كان يخاف منه على أخيه المأمون، فنراه يجدد أخذ البيعة للمأمون أكثر من مرة، ويوليه الحرب، ويولي أخاه السلم(1) ويهب المأمون كل ما في العسكر من كراع وسلاح. ويأمر الفضل بن الربيع، الذي كان يعرف أنه سوف يتآمر مع الأمين ـ يأمره ـ بالبقاء مع المأمون في خراسان. إلى غير ذلك من مواقفة، التي لا نرى حاجة لتتبعها واستقصائها.
مركز المأمون ظل في خطر:
ولكن رغم كل محاولات الرشيد فقد ظل مركز المأمون في خطر والكل كان يشعر بذلك، وكيف لا يعرف الجميع ذلك. ولا يشعرون به، وهم يرون الأمين يصرح بعد أن أعطى العهود والمواثيق، وحلف الأيمان، بأنه: كان يضمر الخيانة لأخيه المأمون(2).
لقد كان الكثيرون يرون بأن هذا الأمر لا يتم، وأن الرشيد قد أسس العداء والفرقة بين أولاده، «وألقى بأسهم بينهم، وعاقبة ما صنع
____________
(1) مروج الذهب ج 3 ص 353، والطبري حوادث سنة 186 ه.
(2) الوزراء والكتاب ص 222.
أقول لغمة في النفس منــي | ودمع العين يطرد اطـرادا |
خذي للهول عدته بحـــزم | ستلقي ما سيمنعك الرقـادا |
فإنك إن بقيت رأيت أمــراً | يطيل لك الكآبة والسهـادا |
رأى الملك المهذب شر رأي | بقسمته الخلافة والبــلادا |
رأى ما لو تعقبه بعلــــم | لبيض من مفارقه السـوادا |
أراد به ليقطع عن بنيـــه | خلافهم ويبتذلوا الــودادا |
فقد غرس العداوة غيـر آل | وأورث شمل ألفتهم بـدادا |
والقح بينهم حربا عوانـــاً | وسلس لاجتنابهم القيــادا |
فويل للرعية عن قليــــل | لقد أهدى لها الكرب الشدادا |
وألبسها بلاءا غير فــــان | وألزمها التضعضع والفسادا |
ستجري من دمائهم بحـــور | زواخر لا يرون لها نفـادا |
فوزر بلائهم أبداً عليــــه | أغيا كان ذلك أم رشادا(1) |
والمأمون وحزبه كانوا يدركون ذلك:
وبعد.. فإنه من الطبيعي جداً أن نرى أن المأمون وحزبه كانوا يدركون أن مركز المأمون كان في خطر، وأن الأمين كان ينوي الخيانة لأخيه. ولقد رأينا الفضل بن سهل عندما عزم الرشيد على الذهاب إلى خراسان، وأمر المأمون بالمقام في بغداد ـ رأيناه ـ يقول للمأمون: «لست تدري ما يحدث بالرشيد، وخراسان ولايتك، والأمين مقدم عليك. وإن أحسن ما يصنع بك أن يخلعك، وهو ابن زبيدة، وأخواله
____________
(1) الطبري حوادث سنة 186 ه.
والرشيد أيضاً كان في قلق:
بل لقد صرح الرشيد نفسه بأنه كان يخشى من الأمين على المأمون، فإنه قال لزبيدة، عندما عاتبته على إعطائه الكراع والسلاح للمأمون: «إنا نتخوف ابنك على عبد الله، ولا نتخوف عبد الله على ابنك إن بويع.»(2).
هذا بالإضافة إلى تصريحات الرشيد السابقة، والتي لا نرى حاجة إلى إعادتها.
ولقد قال الرشيد، عندما بلغه ما يتهدد به محمد الأمين:
محمد لا تظلم أخاك فإنه | عليك يعود البغي إن كنت باغيا |
ولا تعجلن الدهر فيه فإنه | إذا مال بالأقوام لم يبق باقيا(3) |
ومهما يكن من أمر، فإن الحقيقة التي لا يمكن الجدال فيها، هي أن الرشيد كان في قضية ولاية العهد مغلوبا على أمره، من مختلف الجهات. وكان يشعر أن ما أبرمه سوف يكون عرضة للانتقاض بين لحظة وأخرى، وكم كان يؤلمه شعوره هذا، ويحز في نفسه.. حتى لقد ترجم مشاعره هذه شعراً فقال:
____________
(1) تاريخ ابن خلدون ج 3 ص 229، والنجوم الزاهرة ج 2 ص 102، والكامل لابن الأثير، طبعة ثالثة ج 5 ص 127، والوزراء والكتاب ص 266.
(2) مروج الذهب ج 3 ص 353. ولعله إنما فعل ذلك أيضاً، من أجل أن يطيب خاطر المأمون، ويذهب ما في نفسه ـ وهو الأفضل، والأكبر سنا من أخيه ـ من غل وحقد وضغينة..
(3) ابن بدرون في شرح قصيدة ابن عبدون ص 245، وفوات الوفيات ج 2 ص 269.
لقد بان وجه الرأي لي غير أنني | غلبت على الأمر الذي كان أحزما |
وكيف يرد الدر في الضرع بعدما | توزع حتى صار نهباً مقسمـــا |
أخاف التواء الأمر بعد استوائـه | وأن ينقض الحبل الذي كان أبرما(1) |
على من يعتمد المأمون؟
وهكذا: وإذا كان أبوه قد استطاع أن يضمن له المركز الثاني بعد أخيه الأمين، وإذا كان ذلك لا يكفي لأن يجعل المأمون يطمئن إلى مستقبله في الحكم، وأن يأمن أخاه وبني أمية العباسيين، أن لا يحلوا العقدة، وينكثوا العهد، فهل يستطيع المأمون أن يعتمد على غيرهم، لو تعرض مركزه ووجوده لتهديد في وقت ما؟!. ومن هم أولئك الذين يستطيع أن يعتمد عليهم؟! وكيف؟.. وما هو موقفهم فعلاً منه؟! وكيف يستطيع أن يصل إلى الحكم، والسلطان؟! ومن ثم.. كيف يستطيع أن يحتفظ به، ويقوي من دعائمه؟!
إن نظرة شاملة على الفئات الأخرى في تلك الفترة من الزمن، لكفيلة بأن تظهر لنا أنه لم يبق أمام المأمون غير العلويين، والعرب، والإيرانيين. فما هو موقف هؤلاء منه، وأي الفئات تلك هي التي يستطيع أن يعتمد عليها؟ وكيف يستطيع أن يغير مجريات الأمور لتكون في صالحه، وعلى وفق مراده؟!.
هذا هو السؤال الذي لا بد للمأمون من أن يضع الحل والإجابة عليه، بكل دقة ووعي وإدراك. وأن يتحرك من ثم على وفق تلك الإجابة،
____________
(1) ابن بدرون أيضاً ص 245، وزهر الآداب، طبع دار الجيل ج 2 ص 581، وفوات الوفيات ج 2 ص 269.
موقف العلويين من المأمون:
أما العلويون.. فإنهم ـ بالطبع ـ لن يرضوا بالمأمون ـ كما لن يرضوا بغيره من العباسيين، خليفة وحاكما لأن من بينهم من هو أجدر من كل العباسيين، وأحق بهذا الأمر، ولأن المأمون، وغيره، كانوا من تلك السلالة، التي لا يمكن أن تصفو لها قلوب آل علي، لأنها قد فعلت بهم أكثر من فعل بني أمية معهم، كما تقدم.. فقد سفكت دماءهم، وسلبتهم أموالهم، وشردتهم عن ديارهم، وأذاقتهم شتى صنوف العذاب والاضطهاد. ويكفي المأمون عندهم: أنه ابن الرشيد، الذي حصد شجرة النبوة، واجتث غرس الإمامة، والذي قد عرفت طرفاً من سيرته السيئة معهم فيما تقدم من الفصول.
موقف العرب من المأمون، ونظام حكمه:
وأما العرب: فإنهم لا يرضون بالمأمون خليفة وحاكما أيضاً، كما أشار إليه الفضل بن سهل فيما تقدم.
أما أولاً: فلأن أمه، ومؤدبه، والقائم بأمره، غير عربيين. ولقد عانى العرب ما لله أعلم به، من تقديم أسلافه للموالي، حتى لم يعد لهم معهم أي شأن يذكر، وأصبح العربي أذل من نعجة، وأحقر من الحيوان.
قال المسعودي: «.. وكان [أي المنصور] أول خليفة استعمل
وقال ابن حزم، وهو يتحدث عن العباسيين: «.. فكانت دولتهم أعجمية، سقطت فيها دواوين العرب، وغلبت عجم خراسان على الأمر، وعاد الأمر كسروياً، إلا أنهم لم يعلنوا بسب أحد من الصحابة رضوان الله عليهم. وافترقت في دولة بني العباس كلمة المسلمين..»(2).
ويقول الجاحظ: «.. دولة بني العباس أعجمية، خراسانية، ودولة بني مروان عربية..»(3).
إلى آخر ما هنالك، مما يدل على سقوط العرب في تلك الفترة، وامتهانهم، ويبدو أن ذلك من المسلمات. وقد استوفى الباحثون ـ ومنهم أحمد أمين، في الجزء الأول من ضحى الإسلام ـ البحث في هذا الموضوع، فمن أراد فليراجع مظان وجوده.
وإذا ما عرفنا: أن من الطبيعي أن يكون ذهاب رئاسة العرب، وإبادتها، واضطهادها على يد الفرس، الذين كانوا هم أصحاب القدرة والسلطان آنذاك.. فلسوف نجد أن من الطبيعي أن يحقد العرب، الذين كانوا في وقت ما هم أصحاب الجبروت والقوة، على الفرس، وعلى كل من يتصل بهم. ويمت إليهم بسبب، من قريب أو من بعيد.
____________
(1) مروج الذهب، طبع بيروت ج 4 ص 223، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص 24، و ص 269، 270، و ص 258، وفي طبيعة الدعوة العباسية ص 279، نقلاً عن المقريزي في: السلوك لمعرفة دول الملوك ج 1 ص 14 مثل ذلك. وليراجع أيضاً كتاب: مشاكلة الناس لزمانهم لليعقوبي ص 23.
(2) البيان المغرب، طبع صادر ص 71.
(3) البيان والتبيين ج 3 ص 366.
أما الأمين: فقد كان له ـ إلى حد ما ـ شافع عندهم، حيث إنه كان من أب وأم عربيين من جهة. وكان قد منحهم ثقته وحبه، وقربهم إليه، حتى كان وزيره الفضل بن الربيع منهم. من جهة ثانية، فتوسموا فيه أن يجعل لهم. وأن ينظر إليهم بغير العين، التي كان أبوه وأسلافه ينظرون إليهم بها. أو على الأقل: سوف لا تكون نظرته إليهم. على حد نظرة المأمون نحوهم. وذلك ما يجعلهم يرجحونه ـ على الأقل ـ على أخيه المأمون، وإن كان المأمون أفضل، وأسن منه، فلقد كان عليهم أن يختاروا أهون الشرين، وأقل الضررين. حتى إن نصر بن شبث، الذي كان هواه مع العباسيين، لم يقم بثورته ضد المأمون، التي بدأت سنة 198 ه. واستمرت حتى سنة 210 ه. إلا انتصاراً للعرب، ومحاماة عنهم، لأن العباسيين كانوا يفضلون عليهم العجم، حسب تصريحات نصر بن شبث نفسه(1).
وحتى في مصر أيضاً، قد ثارت الفتن بين القيسية، المناصرة للأمين، واليمانية المناصرة للمأمون..
وقال أحمد أمين: «.. إن أغلب الفرس تعصب للمأمون، وأغلب العرب تعصبوا للأمين..»(2) كما أننا نكاد لا نشك في أن تعصب العرب للأمين ليس إلا للسببين المتقدمين، الذين أشرنا إليهما، وأشار إلى أحدهما نصر بن شبث..
____________
(1) التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية ج 3 ص 104.
(2) ضحى الإسلام ج 1 ص 43.