ولكن فردينان توتل يرى في منجد الأعلام: أن تعصب العرب للأمين يرجع إلى أن: «المأمون لم يستطع أن يجعل العرب يحبونه، حيث إنه كان يظهر ميلا للإيرانيين، ويقربهم إليه. وقد أعانه الإيرانيون في مبارزاته، وحروبه، وخصوصاً الخراسانيين منهم.».
ولكن الذي يبدو لي هو أن تعصب العرب للأمين لم يكن نتيجة تقريب المأمون للإيرانيين، وتحببه للخراسانيين، وإنما عكس ذلك هو الصحيح، فإن المأمون لم يتقرب من الخراسانيين إلا بعد أن فرغت يده من العرب وأهل بيته، والعلويين.
لا بد من اختيار خراسان:
وبعد أن فرغت يد المأمون من بني أبيه، والبرامكة(1)، والعرب، والعلويين، اضطر أن يلتجئ إلى جهات أخرى لتمد له يد العون والمساعدة، وتكون سلما لأغراضه، وأداة لتحقيق أهدافه ومآربه. ولم يبق أمامه غير خراسان، فاختارها، كما اختارها محمد بن علي العباسي من قبل. فأظهر لهم الميل الحب، وتقرب إليهم، وقربهم إليه، وأراهم: أنه محب لما ولمن يحبون، وكاره لما ولمن يكرهون. حتى إنه عندما علم منهم الميل إلى العلويين، والتشيع لهم، أظهر هو بدوره أنه محب للعلويين، ومتشيع لهم.
كما أنه كان من جهة ثانية قطع لهم على نفسه الوعود والعهود، بأن يرفع
____________
(1) ذكرنا للبرامكة هنا ليس عفويا، فإن محط نظرنا يشمل حتى الأيام الأولى، التي فتح بها المأمون عينيه، وعرف واقعه، وأدرك الأخطار، التي تتهدده، وتتهدد مستقبله في الخلافة مع أخيه الأمين، فلا يرد علينا: أن البرامكة قد نكبهم الرشيد قبل خلافة المأمون بزمان. مضافاً إلى الدور الكبير الذي لعبه البرامكة في تقديم أخيه الأمين عليه، حسبما قدمنا..
تشيع الإيرانيين:
هذا.. وليس تشيع(1) الإيرانيين بالأمر الذي يحتاج إلى إثبات، بعد أن تقدم معنا: أن دولة العباسيين ما قامت إلا على أساس الدعوة للعلويين، وأهل البيت. وبعد أن رأينا الخراسانيين يظهرون النياحة على «يحيى بن زيد» سبعة أيام، وكل مولود ولد في خراسان في سنة قتل يحيى سمي ب «يحيى»(2). بل يذكر البلاذري: أنه لما استشار المنصور عيسى بن موسى في أمر محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن، فأشار عليه بأن يولي المدينة رجلاً خراسانياً، قال له المنصور: «يا أبا موسى إن محبة آل أبي طالب في قلوب أهل خراسان ممتزجة بمحبتنا، وإن وليت أمرها رجلاً من أهل خراسان حالت محبته لهما بينه وبين طلبهما، والفحص عنهما، ولكن أهل الشام قاتلوا علياً على أن لا يتأمر عليهم لبغضهم إياه الخ.»(3).
وقد تقدم معنا: كيف وصف المؤرخون ما جرى في نيشابور، حين دخلها الإمام الرضا، وسيأتي في فصل: خطة الإمام، وصف ما جرى في مرو حينما خرج الإمام ليصلي بالناس. ولقد عرفنا أيضاً: كيف فرق الإمام الرضا الناس عن المأمون. عندما أرادوا قتله، انتقاماً للفضل بن سهل.
____________
(1) قد تقدم منا ما نقصده بكلمة «التشيع» في هذا الكتاب، فلا نعيد.
(2) مروج الذهب ج 3 ص 213، وشرح ميمية أبي فراس ص 157، وليراجع أيضاً نزهة الجليس ج 1 ص 316، فإن فيه ما يشير إلى ذلك.
(3) أنساب الأشراف للبلاذري ج 3 ص 115.
ويقول جرجي زيدان: «وكان الخراسانيون، ومن والاهم من أهل طبرستان والديلم، قبل قيام الدولة العباسية، من شيعة علي، وإنما بايعوا للعباسيين مجاراة لأبي مسلم أو خوفاً منه.»(2).
وقال أحمد أمين: «.. إن الفرس يجري في عروقهم التشيع.»(3) ويقول الدكتور الشيبي: «.. إن الفرس قد عادوا إلى التشيع، بعد أن نزلت بهم ضربة السفاح أولاً، ثم المنصور، ثم الرشيد.»(4) ويقول أحمد شلبي: «.. إنه ربما كان سبب أخذ المأمون للرضا العهد، هو أنه يريد أن يحقق آمال الخراسانيين، الذين كانوا إلى أولاد علي أميل.»(5)
ما هو سر تشيع الإيرانيين؟
يقول السيد أمير علي، وهو يتحدث عن سر ارتباط الفرس بقضية بني فاطمة: «.. وقد أظهر الإمام علي منذ بداية الدعوة الإسلامية
____________
(1) تاريخ التمدن الإسلامي المجلد الثاني، جزء 4 ص 440.
(2) نفس المصدر والمجلد، والجزء ص 232، ولا يهمنا هنا مناقشة جرجي زيدان فيما جعله سبباً لبيعتهم للعباسيين، ولعل ما قدمناه في فصل: قيام الدولة العباسية كاف في ذلك.
(3) ضحى الإسلام ج 3 ص 295.
(4) الصلة بين التصوف والتشيع ص 101.
(5) التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية ج 3 ص 107.
ويرى فان فلوتن: إن من أسباب ميل الخراسانيين، وغيرهم من الإيرانيين للعلويين، هو أنهم لم يعاملوا معاملة حسنة، ولا رأوا عدلاً إلا في زمن حكم الإمام علي (عليه السلام)(2).
أما الأستاذ علي غفوري فيرى(3): أن الإيرانيين كانوا قبل الإسلام يعاملون بمنطق: أن الناس قد خلقوا لخدمة الطبقة الحاكمة، وأن عليهم أن ينفذوا الأوامر من دون: كيف؟ ولماذا؟. فجاء الإسلام بتعاليمه الفطرية السهلة السمحاء، فاعتنقوه بكل رضى وأمل، وبدأ جهادهم في سبيل إقامة حكومة إسلامية حقيقية. وبما أن أولئك الذين تسلموا زمام الأمور ـ باستثناء الإمام علي طبعاً ـ كانوا منحرفين [المقصود هنا بالطبع هو خلفاء الأمويين] عن الإسلام، وتعاليمه، ويحاولون تلبيس عاداتهم الجاهلية، حتى التمييز القبلي، والعرقي بلباس الإسلام. وإعطائها صفة القانونية والشرعية.
فإن الإيرانيين لم يجدوا أهداف الإسلام، وتعاليمه في تلك الحكومات، ولهذا كان من الطبيعي أن يتوجهوا إلى علي، والأئمة من ولده، الذين تعدى الآخرون على حقوقهم بالخلافة، والذين كان سلوكهم المثالي هو
____________
(1) روح الإسلام ص 306.
(2) السيادة العربية والشيعة والإسرائيليات.
(3) يادبود هشتمين امام «فارسي».
لكن لم يكن يروق للقوى الحاكمة، أن تظهر تلك الوجوه الطاهرة على الصعيد العام، وتتعرف عليها الأمة الإسلامية، وعلى فضائلها، وكمالاتها، لأن الناس حينئذٍ سوف يدركون الواقع المزري لأولئك الحكام، والمتزلفين لهم. والذين كانوا يتحكمون بمقدرات الأمة، وإمكاناتها، وإذا أدركوا ذلك فإن من الطبيعي أن لا يترددوا في تأييد الأئمة، ومساعدة أية نهضة، أو ثورة من قبلهم. ولهذا فقد جهد الحكام في أن يزووهم ويبعدوهم ما أمكنهم عن الناس، ووضعوهم تحت الرقابة الشديدة، وفي أحيان كثيرة في غياهب السجون. حتى إذا ما سنحت لهم فرصة، تخلصوا منهم بالطريقة التي كانوا يرون أنها لا تثير الكثير من الشكوك والظنون.
عودة على بدء:
وعلى كل حال.. فإن ما يهمنا هنا هو مجرد الإشارة إلى تشيع الإيرانيين، الذي حاول المأمون أن يستغله لمصالحه وأهدافه. حيث قد أثمرت وعود المأمون للخراسانيين، وتحببه لهم. وتقربه منهم، وتظاهره بالحب لعلي (عليه السلام) وذريته، الثمار المرجوة منها، لأن الخراسانيين كانوا يريدون التخلص من أولئك الحكام الذين انقلبوا عليهم يقتلون. ويضطهدون كل من عرفوه موالياً لأهل البيت محبا لهم، ابتداء من المنصور، بل السفاح. وانتهاء بالرشيد، الذي لم يستطع يحيى بن خالد البرمكي أن
كما أنهم ـ أعني الخراسانيين ـ قد توسموا في المأمون أن يكون المنقذ لهم من أولئك الولاة،8 الذين ساموهم شتى ضروب العسف، والظلم والعذاب. والذين لم يكن بهمهم غير مصالحهم، وإرضاء شهواتهم وملذاتهم، يعلم ذلك بأدنى مراجعة للتأريخ.
وقد وثقوا إلى حد ما بوعود المأمون تلك، التي كان يغدقها عليهم، وعلى غيرهم بدون حساب، وأمنوا جانبه، فكانوا جنده، وقواده، ووزراءه المخلصين، الذين أخضعوا له البلاد، وأذلو له العباد، وبسطوا نفوذه وسلطانه على كثير من الولايات والأمصار، التي كان يطمح إلى الوصول إليها، والسيطرة عليها.
كيف يثق العرب بالمأمون؟!
وهكذا إذن.. يتضح أن ميل المأمون للإيرانيين ما كان إلا دهاء منه وسياسة، استغلها المأمون أحسن ما يكون الاستغلال، حتى استطاع أن يصل إلى الحكم، ويتربع على عرش الخلافة، بعد أن قتل أخاه العزيز على العباسيين والعرب، وقضى على أشياعه بسيوف غير العرب، وذلك ذنب آخر لن يسهل على العرب الاغضاء عنه أو غفرانه.
ثم ولى على بغداد رجلاً غير عربي، هو الحسن بن سهل، أخو الفضل بن سهل، الذي تكرهه بغداد والعرب كل الكره..
ثم إنه بعد هذا كله جعل مقر حكمه مروا الفارسية، وليس بغداد العاصمة العربية الأولى التي خربها ودمرها.. وكان ذلك من شأنه أن يثير المخاوف لدى العرب في أن تتحول الإمبراطورية العربية إلى إمبراطورية
قتل الأمين وخيبة الأمل:
وإن قتل الأمين، وإن كان يمثل ـ في ظاهره ـ انتصاراً عسكرياً للمأمون إلا أنه كان في الحقيقة ذا نتائج سلبية وعكسية بالنسبة للمأمون، وأهدافه، ومخططاته.. سيما بملاحظة الأساليب التي اتبعها المأمون للتشفي من أخيه الأمين، الذي كان قد أصدر الأمر لطاهر بالأمس بأن يقتله(1). حيث رأيناه قد أعطى الذي جاءه برأس أخيه ـ بعد أن سجد لله شكرا! ـ ألف ألف «أي مليون» درهم(2). ثم أمر بنصب رأس أخيه على خشبة في صحن الدار، وأمر كل من قبض رزقه أن يلعنه، فكان الرجل يقبض، ويلعن الرأس، ولم ينزله حتى جاء رجل فلعن الرأس، ولعن والديه، وما ولدا، وأدخلهم في «كذا وكذا» من أمهاتهم، وذلك بحيث يسمعه المأمون، فتبسم، وتغافل، وأمر بحط الرأس(3)!.
ويا ليته اكتفى بكل ذلك.. بل إنه بعد أن طيف برأس الأمين بخراسان(4)
____________
(1) لقد نص الأستاذ علي غفوري في كتابه الفارسي «يادبود هشتمين إمام» ص 29 على أن المأمون: «لم يرض بقتل الأمين فحسب، بل أنه هو الذي أمر بقتله..».
(2) فوات الوفيات ج 2 ص 269، والطبري، طبع دار القاموس الحديث ج 10 ص 202، والبداية والنهاية ج 10 ص 243، وحياة الحيوان ج 1 ص 72، وتجارب الأمم المطبوع مع العيون والحدايق ج 6 ص 416.
(3) مروج الذهب ج 3 ص 414، وتتمة المنتهى ص 186 والموفقيات ص 140.
(4) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 298.
فماذا ننتظر بعد هذا كله، وبعد ما قدمناه: أن يكون موقف العباسيين. والعرب، بل وسائر الناس منه..
إن أيسر ما نستطيع أن نقوله هنا: أنه كان لقتله أخاه، وفعاله الشائنة تلك.. أثر سيء على سمعته، ومن أسباب زعزعة ثقة الناس، به، وتأكيد نفورهم منه، سواء في ذلك العرب، أو غيرهم.
وقد استمر ذلك الأثر أعواما كثيرة، حتى بعد أن هدأت ثائرة الناس، ورجع إلى بغداد.
فقد جلس مرة يستاك على دجلة، من وراء ستر، فمر ملاح، وهو يقول: «أتظنون أن هذا المأمون ينبل في عيني، وقد قتل أخاه؟!».
قال: فسمعه المأمون، فما زاد على أن تبسم، وقال لجلسائه: «ما الحيلة عندكم. حتى أنبل في عين هذا الرجل الجليل.»(2).
وقال له الفضل بن سهل، عندما عزم على الذهاب إلى بغداد: «ما هذا بصواب، قتلت بالأمس أخاك، وأزلت الخلافة عنه، وبنو أبيك معادون لك، وأهل بيتك والعرب.. إلى أن قال: والرأي،
____________
(1) البداية والنهاية ج 10 ص 443.
(2) تاريخ بغداد ج 10 ص 189، والبداية والنهاية ج 10 ص 277، وتاريخ الخلفاء ص 320، وروض الأخيار في منتخب ربيع الأبرار ص 186، وفوات الوفيات ج 1 ص 240.
المأمون في الحكم:
وإذا ما أردنا أن نعطف نظرنا على ناحية أخرى في سياسة النظام المأموني، فإننا سوف نرى أنه لم يكن موفقاً في سياسته مع الناس، سواء في ذلك العرب أو الإيرانيون، بالأخص أهل خراسان، حيث لم يحاول أن يتجنب سياسة الظلم والعسف والاضطهاد، التي كان يمارسها أسلافه مع الرعية. بل لعله زاد عليهم، وسبقهم أشواطاً بعيدة في ذلك،
أما سياسته مع العرب:
فالمأمون، وإن استطاع أن يصل إلى الحكم إلا أنه فشل في مهمة الفوز بثقة العرب، خصوصاً إذا لاحظنا بالإضافة إلى ما قدمناه تحت عنوان «كيف يثق العرب بالمأمون». ما نالهم منه، ومن عماله، من صنوف العسف والظلم ـ عدا عما فعلته فيهم تلك الحروب الطاحنة، التي شنها ضد أخيه الأمين ـ فإن ذلك يفوق كل وصف، ويتجاوز كل تقدير،
____________
(1) البحار ج 49 ص 166، ومسند الإمام الرضا ج 1 ص 85، وأعيان الشيعة ج 4 قسم 2 ص 138، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 160، هذا.. وتجدر الإشارة هنا: إلى أن بعض المحققين يرى: أن قتل الأخ في سبيل الملك، لم يكن من الأمور التي يهتم لها الناس كثيراً في تلك الفترة، سيما إذا كان المقتول هو المعتدي أولاً، والأمين هنا هو المعتدي على المأمون، بخلعه أولاً، ثم بإرساله جيشاً إلى إيران لمحاربته، والذي هزم على يد طاهر بن الحسين، ولكننا مع ذلك.. لا نزال نصر على رأينا في هذا المجال، سيما وأننا نرى في النصوص التاريخية ما يدعم هذا الرأي ويقويه.
والإيرانيون أيضاً لم يكونوا أحسن حالاً:
ولم يكن حال الإيرانيين من هذه الجهة بأفضل من حال أهل العراق. ويذكر الجاحظ: أن المأمون ولى محمود بن عبد الكريم التصنيف «فتحامل على الناس، واستعمل فيهم الأحقاد والدمن، فخفض الأرزاق، وأسقط الخواص، وبعث في الكور، وأنحى على أهل الشرف والبيوتات، حسداً لهم، وإشفاء لغليل صاحبه منهم، فقصد لهم بالمكروه والتعنت فامتنعت طائفة من الناس من التقدم إلى العطاء، وتركوا أسماءهم، وطائفة انتدبوا مع طاهر بن الحسين بخراسان، فسقط بذلك السبب بشر كثير..»(2).
يقول الجنرال جلوب وهو يتحدث عن المأمون «.. وراح يلقي خطبته الأولى في الناس، فيعدهم بأن يكون حكمه فيهم طبقاً للشرع، وأن يكرس نفسه لخدمة الله وحده. وقد أثارت هذه الوعود التقية حماسة عند الناس. وكانت من أهم أسباب انتصاره. لكن هذه الوعود ما لبثت أن تحولت إلى فجيعة نزلت بالناس، إذ إن الخليفة ما لبث أن نسيها.»(3)
____________
(1) الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، لآدم متز ج 1 ص 232.
(2) رسائل الجاحظ ج 2 ص 207 ـ 208.
(3) إمبراطورية العرب، ترجمة، وتعليق خيري حماد ص 570.
المأمون مع الرعية عموماً:
وعن حالة المأمون العامة مع الناس يقول فان فلوتن:
«.. ولم يكن جور النظام العباسي وعسفه، منذ قيام الدولة العباسية بأقل من النظام الأموي المختل، وتذكرنا شراهة المنصور، والرشيد، والمأمون، وجشعهم، وجور أولاد علي بن عيسى، وعبثهم بأموال المسلمين بزمن الحجاج، وهشام، ويوسف بن عمر الثقفي. ولدينا البراهين الكثيرة على فجيعة الناس في هذا العرش الجديد، ومقدار انخداعهم به..»، ثم يضرب أمثلة من الخارجين على سياسات العباسيين تلك. ثم يقول: «.. كل ذلك يبين أن ما كان يشكو منه المسلمون من الجور والعسف لم يزل على ما كان عليه في عهد بني أمية الأول..»(1).
قال ابن الجراح: إن إبراهيم بن المهدي كان: «يرمي المأمون بأمه(2)، وإخوته، وأخواته، ومن أيسر ذلك قوله:
صد عن توبة وعن إخبــــات | ولها بالمجون والقينـات |
ما يبالي إذا خلا بأبي عيســـى | وسرب من بدن أخـوات |
أن يغص المظلوم في حومة الجور | بداء بين الحشا واللهاة(3) |
____________
(1) السيادة والعربية والشيعة والإسرائيليات ص 132.
(2) ولكن أمه كانت قد ماتت أيام نفاسها به!!. ولعله يريد أن أمه كانت متهمة، فكان يعير بها..
(3) الورقة، لابن الجراح ص 21، ولا بأس بمراجعة كتاب: أشعار أولاد الخلفاء.
وعلى كل حال. فإننا لا نستغرب على المأمون صفة الظلم والعسف والجور. بعد أن رأينا أنه عندما عرضت عليه سيرة أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي (عليه السلام) يأبى أن يأخذ بها جميعاً، لأنه كان يجد في آخر كل منها: أنهم كانوا يأخذون الأموال من وجوهها، ويضعونها في حقوقها. لكنه قبل سيرة معاوية، الذي أراد الإعلان ببراءة الذمة ممن يذكره بخير، لأن في آخرها يقول: إنه كان يأخذ الأموال من وجوهها، ويضعها كيف شاء..، وقال المأمون حينئذٍ: «إن كان فهذا»(1)! وفي رسالة عبد الله بن موسى للمأمون نفسه ما فيه الكفاية فلتراجع في أواخر هذا الكتاب.
وماذا بعد الوصول إلى الحكم:
وهكذا.. فإن المأمون كان يحسب أنه إذا قتل أخاه، وتخلص من من أشياعه ومساعديه، وبعد أن توتي الحملة الدعائية ضدهم ثمارها ـ كان يحسب ويقدر ـ أن الطريق يكون قد مهد له للاستقرار في الحكم، وأنه سوف يستطيع بعد هذا أن يطمئن، وينام قرير العين.
ولكن فأله قد خاب، وانقلبت مجريات الأمور في غير صالحه، فإن الإيرانيين قد: «انفضوا بعد الحرب الأهلية المفجعة بين الأمين والمأمون، عن
____________
(1) المحاسن والمساوي للبيهقي ص 495.
وحتى لو أنهم كانوا لا يزالون على تأييدهم له، فإنه لا يستطيع بعد هذا أن يعتمد على ذلك التأييد، وعلى ثقتهم به طويلاً، فإنه كان من السهل ـ بعد أن فعل بأخيه وأشياعه، وغيرهم. ما فعل ـ أن يكتشفوا أن ذلك منه ما كان إلا سياسة ودهاء. كما أنه أصبح من الصعب عليهم ـ بعد تجربتهم الأولى معه، ومع وعوده، التي ما أسرع ما نسيها ـ أن يقتنعوا منه بالأقوال التي لا تدعمها الأفعال، ولسوف لا يطمئنون إليه، ولن يتفادوا له ـ بعد هذا ـ بالسهولة التي كان يتوقعها.
الموقف الصعب:
كانت تلك لمحة خاطفة عن موقف العباسيين، والعرب تجاه المأمون. ذلك الموقف، الذي كان يزداد حساسية وتعقيدا، يوماً عن يوم. أضف إلى ذلك أيضاً الخطر الذي كان يكمن في موقف الخراسانيين، الذين رفعوا المأمون على العرش، وسلموا إليه أزمة الحكم والسلطان..
وإذا ما أضفنا إلى ذلك كله، موقف العلويين، الذين اغتنموا فرصة
____________
(1) إمبراطورية العرب ص 649.
ثورات العلويين. وغيرهم:
فأبو السرايا ـ الذي كان يوماً ما من حزب المأمون(1) ـ خرج بالكوفة. وكان هو وأتباعه لا يلقون جيشاً إلا هزموه، ولا يتوجهون إلى بلدة إلا دخلوها(2).
ويقال: إنه قد قتل من أصحاب السلطان، في حرب أبي السرايا فقط، مئتا ألف رجل، مع أن مدته من يوم خروجه إلى يوم ضربت عنقه لم تزد على العشرة أشهر(3).
وحتى البصرة، معقل العثمانية(4)، قد أيدت العلويين، ونصرتهم،
____________
(1) ففي الطبري ج 10 ص 236، وتاريخ ابن خلدون ج 3 ص 245، والكامل لابن الأثير ج 5 ص 179، طبعة ثالثة: أن المأمون قال لهرثمة: «مالأت أهل الكوفة، والعلويين، وداهنت، ودسست إلى أبي السرايا، حتى خرج، وعمل ما عمل، وكان رجلا من أصحابك إلخ.» واتهام هرثمة بهذا مهم فيما نحن فيه أيضاً.
(2) ضحى الإسلام ج 3 ص 294، ومقاتل الطالبيين ص 535.
(3) مقاتل الطالبيين ص 550، والبداية والنهاية ج 10 ص 345.
(4) الصلة بين التصوف والتشيع ص 173، وسيأتي كلام محمد بن علي العباسي. المتعلق بهذا الموضوع، عن قريب..
وفي مكة، ونواحي الحجاز: خرج محمد بن جعفر، الذي كان يلقب ب «الديباج» وتسمى ب «أمير المؤمنين»(2).
وفي اليمن: إبراهيم بن موسى بن جعفر..
وفي المدينة: خرج محمد بن سليمان بن داوود، بن الحسن بن الحسين، ابن علي بن أبي طالب.
وفي واسط: التي كان قسم كبير منها يميل إلى العمانية ـ خرج جعفر ابن محمد، بن زيد بن علي. والحسين بن إبراهيم، بن الحسن بن علي.
وفي المدائن: محمد بن إسماعيل بن محمد..
بل إنك قد لا تجد قطراً، إلا وفيه علوي يمني نفسه، أو يمنيه الناس بالثورة ضد العباسيين ـ حسبما نص عليه بعض المؤرخين ـ حتى لقد اتجه أهل الجزيرة، والشام، المعروفة بتعاطفها مع الأمويين،
____________
(1) سمي بذلك. لأنه حرق دور العباسيين في البصرة بالنار، وكان إذا أتي برجل من المسودة، أحرقه بثيابه.. على ما ذكره الطبري ج 11 ص 986، طبع ليدن، والكامل لابن الأثير ج 5 ص 177، وتاريخ ابن خلدون ج 3 ص 244، والبداية والنهاية ج 10 ص 346.
وفي الروايات أن الرضا (عليه السلام) أظهر الاستياء من فعل أخيه زيد. ولعل سبب ذلك أنه بالإضافة إلى أنه أقدم في ثورته على أعمال تنافي أحكام الدين، وتضر إضراراً بالغاً بقضية العلويين العادلة.. كان يمالئ الزيدية،.. أو لأنه أراد إبعاد شر المأمون عن زيد، وإبعاد التهمة عن نفسه، بأنه هو المدبر لأمر أخيه. أو لعل كل ذلك قد قصد.
(2) وليس في العلويين ـ باستثناء الإمام علي (عليه السلام) طبعاً ـ قبله، ولا بعده، من تسمى ب «أمير المؤمنين» غيره، كما في مروج الذهب ج 3 ص 439.
و «الديباجة» لقب لأكثر من واحد من العلويين..
وأما ثورات غير العلويين، فكثيرة أيضاً، وقد كان من بينها ما يدعو إلى: «الرضا من آل محمد»، كثورة الحسن الهرش سنة 198(2) ه.
وسواها ولا مجال لنا هنا للتعرض إليها. ومن أرادها فعليه بمراجعة الكتب التاريخية المتعرضة لها(3).
الزعيم العباسي الأول يعترف:
هذا مع أن أكثر تلك الأقطار لم تكن تؤيد العلويين، ولا تدين لهم بالولاء باعتراف الزعيم العباسي الأول: محمد بن علي بن عبد الله، والد إبراهيم الإمام، حيث قال لدعاته:
«.. أما الكوفة وسوادها: فهناك شيعة علي، وولده. وأما البصرة، وسوادها: فعثمانية، تدين بالكف. وأما الجزيرة: فحرورية مارقة،
____________
(1) مقاتل الطالبيين ص 534.. راجع في بيان ثورات العلويين: البداية والنهاية ج 10 ص 244، إلى ص 247، واليعقوبي ج 3 ص 173، 174، ومروج الذهب ج 3 ص 439، 440، ومقاتل الطالبيين، والطبري. وابن الأثير، وأي كتاب تاريخي شئت، لترى كيف أن الثورات في الفترة الأولى من عهد المأمون، قد عمت جميع الأقطار والأمصار..
(2) البداية والنهاية ج 10 ص 244، والطبري ج 11 ص 975، طبع ليدن.
(3) وقد تغلب حاتم بن هرثمة على أرمينية، وكان هو السبب في خروج بابك الخرمي. وتغلب نصر بن شبث على كيسوم، وسمسياط، وما جاورها، وعبر الفرات إلى الجانب الشرقي، وكثرت جموعه، ولم يستسلم إلا في سنة 207 ه. وهناك أيضاً حركات الزط. وثورة بابك. وثورة المصريين التي كانت بين القيسية المناصرة للأمين واليمانية المناصرة للمأمون. إلى غير ذلك مما لا مجال لنا هنا لتتبعه..
ونقل عن الأصمعي أيضاً كلام قريب من هذا(2).
دلالة هامة:
ومن بعض ما قدمناه في الفصول المتقدمة، سيما فصل: موقف العباسيين من العلويين، وأيضاً مما ذكرناه هنا نستطيع أن نستكشف أن حق العلويين بالخلافة والحكم، قد أصبح من الأمور المسلمة لدى الناس، في القرن الثاني، الذي يعد من خير القرون.. حيث لم تكن عقيدة عامة الناس قد استقرت بعد على هذه العقيدة المتداولة لدى أهل السنة اليوم، والتي أشرنا إلى أنها العقيدة التي وضع أسسها معاوية.. وعليه.
فما يدعيه أهل السنة اليوم من أن عقيدتهم في الخلافة قد وصلت إليهم يداً بيد، إلى عصر النبي (صلى الله عليه وآله) غير صحيح على الإطلاق، بل إن الشيخ محمد عبده يرى: إن رسوخ عقيدة: «إن حق الخلافة لأهل البيت، وشيوع ذلك في العرب خاصة». هو الذي دعا المعتصم إلى تشييد ملكه على الترك، وغيرهم من العجم، يقول الشيخ محمد عبده: «كان الإسلام ديناً عربياً، ثم لحقه العلم فصار علماً عربياً، بعد أن كان
____________
(1) البلدان للهمداني ج 2 ص 352، وأحسن التقاسيم للمقدسي ص 293، وعيون الأخبار لابن قتيبة ج 1 ص 204، والسيادة العربية، والشيعة والإسرائيليات ص 93، ولا بأس بمراجعة: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري ج 1 ص 102.
(2) روض الأخيار، المنتخب من ربيع الأبرار ص 67، والعقد الفريد، طبع دار الكتاب العربي ج 6، ص 248.
عودة على بدء:
وعلى كل حال.. فإننا إذا أردنا تقييم تلك الثورات، التي كانت تواجه الحكم العباسي، فإننا سوف نجد: أن ما كان يكمن فيه الخطر الحقيقي هو ثورات العلويين، لأنها كانت تظهر في مناطق حساسة جداً.
في الدولة، ولأنها كانت بقيادة أولئك الذين يمتلكون من قوة الحجة، والجدارة الحقيقية، ما ليس لبني العباس فيه أدنى نصيب..
وكان في تأييد الناس لهم. واستجابتهم السريعة لدعوتهم دلالة واضحة على شعور الأمة. بمختلف طبقاتها، وفئاتها تجاه حكم العباسيين، ونوعية تفكيرها تجاه خلافتهم، وعلى مدى الغضب الذي كان يستبد بالنفوس، نتيجة استهتار العباسيين، وظلمهم، وسياساتهم الرعناء، مع الناس عامة. ومع العلويين بشكل خاص.
وقد كان المأمون يعلم أكثر من أي شخص آخر، كم سوف يكون حجم الكارثة، لو تحرك الإمام الرضا ـ الذي اهتبل فرصة الحرب بينه وبين أخيه، لتحكيم مركزه، وبسط نفوذه ضد الحكم القائم..
____________
(1) الإسلام والنصرانية للشيخ محمد عبده.
الناس لم يبايعوا المأمون كلهم بعد:
وبعد كل ما تقدم.. فإن من الأهمية بمكان، أن نشير هنا، إلى أن العلويين، وقسما كبيراً من الناس، بل وعامة المسلمين، لم يكونوا قد بايعوا المأمون أصلاً:
فأما أهل بغداد، فحالهم في الخلاف عليه أشهر من أن يذكر، وقد قدمنا في أول هذا الفصل عبارته في رسالته، التي كان قد أرسلها للعباسيين في بغداد..
وأما أهل الكوفة ـ التي كانت دائما شيعة علي وولده ـ فلم يبايعوا له، بل بقوا على الخلاف عليه، إلى أن ذهب أخو الإمام الرضا (عليه السلام)!! العباس بن موسى، يدعوهم، فقعدوا عنه، ولم يجبه إلا البعض منهم، وقالوا: «إن كنت تدعو للمأمون، ثم من بعده لأخيك. فلا حاجة لنا في دعوتك. وإن كنت تدعو إلى أخيك، أو بعض أهل بيتك، أو إلى نفسك، أجبناك.»(1).
ويلاحظ هنا: كيف قد اختير رجل علوي، وأخو الإمام الرضا (عليه السلام) بالذات، ليرسل إلى الكوفة، المعروفة بالتشيع للعلويين.. ويلاحظ أيضاً: أن رفضهم الاستجابة له، إنما كان لأجل أن الدعوة تتضمن الدعوة للمأمون العباسي.
وأما أهل المدينة، ومكة، والبصرة، وسائر المناطق الحساسة في
____________
(1) الكامل لابن الأثير ج 5 ص 190، وتجارب الأمم ج 6 المطبوع مع العيون والحدائق ص 439، وفي تاريخ الطبري ج 11 ص 1020، طبع ليدن، وتاريخ ابن خلدون ج 3 ص 248: أنه قد أجابه قوم كثير منهم، ولكن قعد عنه الشيعة وآخرون.. لكن ظاهر حال الكوفة التي كانت دائما شيعة علي وولده هو أن المجيبين له كانوا قلة. كما ذكر ابن الأثير.
فقوله: «لأمير المؤمنين، وللرضا من بعده.» يدل دلالة واضحة على أن عامة المسلمين ما كانوا قد بايعوا بعد: «لأمير المؤمنين»، فضلاً عن: «أهل المدينة المحروسة..».
وحتى لو أنهم كانوا قد بايعوا له، فإن بيعتهم هذه، وجودها كعدمها، إذ إن عصيانهم، وتمردهم عليه، وعلى حكمه، لم يكن ليخفى على أحد.. بعدما قدمناه من ثوراتهم تلك. التي كانت تظهر من كل جانب ومكان. وكان كلما قضى على واحدة منها تظهر أخرى داعية لما كانت تدعو إليه تلك، أي إلى: «الرضا من آل محمد»، أو إلى أحد العلويين، الذين يشاهد المأمون عن كثب قدرتهم، وقوتهم، ونفوذهم الذي كان يتزايد باستمرار يوماً عن يوم.. ولم تستقم له في الحقيقة سوى خراسان.
نعم بعد أن عاد إلى بغداد، وكان قد قوي أمره، واتسع نفوذه، بدأ الناس يبايعونه في الأقطار، ويتعللون بأن امتناعهم إنما كان ظاهرياً، وأنهم كانوا في السر معه، وعلى ولائه، على ما صرح به اليعقوبي في تاريخه.