«.. ما ظننت أحداً من آل أبي طالب يخافني، بعد ما عملته بالرضا» والرسالة مذكورة في أواخر هذا الكتاب.. كما أنه كتب للعباسيين في بغداد في رسالته، التي أشرنا إليها غير مرة، يقول لهم: إنه يريد بذلك أن يحقن دماءهم، ويذود عنهم، باستدامة المودة بنيهم، وبين العلويين.
ب: بل ونزيد هنا على ما تقدم: أنه قد بايعه منهم ومن أشياعهم من لم يكن بعد قد بايعه، وهم قسم كبير جداً، بل لقد بايعه أكثر المسلمين، ودانوا له بالطاعة، بعد أن كانوا مخالفين له ممتنعين عن بيعته، حسبما قدمناه.
وهذه دون شك هي إحدى أمنيات المأمون، بل هي أجل أمنياته وأغلاها.
ج: قال ابن القفطي في معرض حديثه عن عبد الله بن سهل ابن نوبخت:
«.. هذا منجم مأموني، كبير القدر في صناعته، يعلم المأمون قدره في ذلك. وكان لا يقدم إلا عالما مشهودا له، بعد الاختيار..
وكان المأمون قد رأى آل أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب متخشين، متخفين، من خوف المنصور، ومن جاء بعده من بني العباس. ورأى العوام قد خفيت عنهم أمورهم بالاختفاء، فظنوا ما يظنونه بالأنبياء، ويتفوهون بما يخرجهم عن الشريعة، من التغالي.
فأراد معاقبة العامة على هذا الفعل.
ثم قال: إذا أمرناهم بالظهور خافوا، واستتروا، وظنوا بنا سوءاً، وإنما الرأي: أن نقدم أحدهم، ويظهر لهم إماماً، فإذا رأوا هذا أنسوا، وظهروا، وأظهروا ما عندهم من الحركات الموجودة في الآدميين، فيحقق للعوام حالهم، وما هم عليه، مما خفي بالاختفاء، فإذا تحقق ذلك أزلت من أقمته، ورددت الأمر إلى حالته الأولى. وقوي هذا الرأي عنده، وكتم باطنه عن خواصه.. وأظهر للفضل ابن سهل: أنه يريد أن يقيم إماماً من آل أمير المؤمنين علي صلوات الله عليه.
وفكر هو وهو: فيمن يصلح، فوقع إجماعهما على الرضا، فأخذ الفضل بن سهل في تقرير ذلك. وترتيبه وهو لا يعلم باطن الأمر. وأخذ في اختيار وقت لبيعة الرضا، فاختار طالع السرطان، وفيه المشتري الخ»(1).
ثم ذكر أن عبد الله بن سهل أراد اختبار المأمون، فأخبره أن البيعة لا تتم إذا وقعت في ذلك الوقت، فهدده المأمون بالقتل إن لم تقع البيعة في ذلك الوقت بالذات، لأنه سوف يعتبر أنه هو الذي أفسد عليه ما كان دبره الخ..
وابن القفطي هنا، لا يبدو أنه يعتبر الإمام الرضا (عليه السلام) من أولئك الذين يريد المأمون إظهار تفاهاتهم للناس، ولكنه يوجه نظره إلى بقية
____________
(1) تاريخ الحكماء ص 221، 222.
هذا.. ولسوف نرى أن أحمد أمين المصري يأخذ برأي ابن القفطي هذا. لكنه ينظر فيه إلى خصوص أئمة أهل البيت (عليه السلام)، كما سيأتي بيانه، وبيان مدى خلطه وفساده في الفصل التالي.
وفيه دلالة على أن الفضل كان مخدوعاً، وعلى أن المأمون لم يكن مخلصاً فيما أقدم عليه..
د ـ: إنه لا بد لنا من الإشارة هنا إلى أن أكثر ثورات العلويين، التي قامت ضد المأمون ـ قبل البيعة للرضا (عليه السلام) طبعاً ـ كانت من بني الحسن، وبالتحديد من أولئك الذين يتخذون نحلة الزيدية، فأراد المأمون أن يقف في وجههم، ويقضي عليهم، وعلى نحلتهم تلك نهائياً، وإلى الأبد، فأقدم على ما أقدم عليه من البيعة للرضا (عليه السلام) بولاية العهد.
هذا.. وقد كانت نحلة الزيدية هذه ـ شائعة في تلك الفترة، وكانت تزداد قوة يوماً عن يوم، وكان للقائمين بها نفوذ واسع، وكلمة مسموعة، حتى إن المهدي قد استوزر يعقوب بن داوود، وهو زيدي، وآخاه، وفوضه جمع أمور الخلافة(1).
وعلى حد تعبير الشبراوي: «.. فولاه الوزارة، وصارت الأوامر كلها بيديه، واستقل يعقوب حتى حسده جميع أقرانه..»(2).
____________
(1) البداية والنهاية ج 10 / 147، وغيره من كتب التاريخ، فراجع فصل: مصدر الخطر على العباسيين، (2) الإتحاف بحب الأشراف ص 112.
وقد بلغ من نفوذ يعقوب هذا.. أن قال فيه بشار بن برد أبياته المشهورة، التي قدمناها، والتي يقول فيها: «إن الخليفة يعقوب ابن داوود».
وقد سعي بيعقوب هذا إلى المهدي: وقيل له: «.. إن الشرق والغرب في يد يعقوب، وأصحابه، وإنما يكفيه أن يكتب إليهم ؛ فيثوروا، في يوم واحد، فيأخذوا الدنيا.»(2).
وذلك لأنه قد: «أرسل يعقوب هذا إلى الزيدية، وأتى بهم من كل أوب، وولاهم من أمور الخلافة في المشرق والمغرب كل جليل، وعمل نفيس، والدنيا كلها في يديه..»(3).
وإذا ما عرفنا أن معاوني يعقوب إنما كانوا هم: متفقهة الكوفة، والبصرة، وأهل الشام(4).. فإننا نعرف أن الاتجاه الزيدي سوف يؤثر كثيراً، وكثيراً جداً على الثقافة العامة، والاتجاهات الفكرية في ذلك العصر ـ كما حدث ذلك فعلاً.. حتى لقد صرح ابن النديم بأن:
«أكثر علماء المحدثين إلا قليلاً منهم، وكذلك قوم من الفقهاء، مثل: سفيان الثوري، وسفيان بن عيينة كانوا من الشيعة الزيدية.»(5) وقد صرح المؤرخون أيضاً: بأن أصحاب الحديث جميعهم، قد
____________
(1) الطبري ج 10 / 486، والكامل لابن الأثير ج 5 / 60، ومرآة الجنان ج 1 / 418، (2) الكامل لابن الأثير ج 5 / 66، 67، (3) الطبري ج 10 / 508، طبع ليدن، والوزراء والكتاب للجهشياري ص 158، والكامل لابن الأثير ج 5 / 66، (4) الطبري، طبع ليدن ج 10 / 486.
(5) الفهرست لابن النديم ص 253.
وعلى كل حال.. فإن ما يهمنا بيانه هنا: هو أن المأمون كان يريد
____________
(1) مقاتل الطالبيين ص 377، وغيرها من الصفحات، وغيرها من الكتب. ويرى بعض أهل التحقيق: أن المقصود هو جميع أصحاب الحديث في الكوفة. ولكن الظاهر أن المراد: الجميع مطلقاً، كما يظهر من مراجعة مقاتل الطالبيين وغيره.
والأمر الذي تجدر الإشارة إليه هنا: هو أن فرقة من الزيدية، وفرقة من أصحاب الحديث، قد قالوا بالإمامة على النحو الذي يقول به الشيعة الإمامية، عندما جعل المأمون «الرضا» (عليه السلام) ولياً لعهده. لكنهم بعد وفاة الرضا (عليه السلام) رجعوا عن ذلك: قال النوبختي في فرق الشيعة ص 86:
«.. وفرقة منهم تسمى «المحدثة» كانوا من أهل الإرجاء، وأصحاب الحديث، فدخلوا في القول بإمامة موسى بن جعفر، وبعده بإمامة علي بن موسى، وصاروا شيعة، رغبة في الدنيا وتصنعاً. فلما توفي علي بن موسى (عليه السلام) رجعوا إلى ما كانوا عليه.
وفرقة كانت من الزيدية الأقوياء، والبصراء، فدخلوا في إمامة علي بن موسى (عليه السلام)، عندما أظهر المأمون فضله، وعقد بيعته، تصنعاً للدنيا، واستكانوا الناس بذلك دهراً. فلما توفي علي بن موسى (عليه السلام) رجعوا إلى قومهم من الزيدية.» وقد تقدم قول الشيبي: إنه قد التف حول الرضا (عليه السلام) «المرجئة، وأهل الحديث، والزيدية، ثم عادوا إلى مذاهبهم بعد موته..» وغير ذلك. والذي نريد أن نقوله هنا هو: أن «الإرجاء دين الملوك» على حد تعبير المأمون [على ما نقله عنه في ضحى الإسلام ج 3 / 326]، نقلاً عن طيفور في تاريخ بغداد.
وفي البداية والنهاية ج 10 / 276: أن المأمون قال للنضر بن شميل: ما الإرجاء؟. قال: «دين يوافق الملوك، يصيبون به من دنياهم، وينقصون به من دينهم» قال: صدقت الخ. وليراجع كتاب بغداد ص 51، وعمدة القول بالإرجاء [القديم] هو: المغالاة في الشيخين، والتوقف في الصهرين، فالإرجاء والتشيع، وخصوصاً القول بإمامة موسى بن جعفر، وولده علي الرضا على طرفي نقيض ومن هنا كانت المساجلة الشعرية بين المأمون المظهر لحب علي وولده، وابن شكلة المرجي، يقول المأمون معرضا بابن شكلة:
إذا المرجي سرك أن تـراه | يموت لحينه من قبل موته |
فجدد عنده ذكرى علـــي | وصل على النبي وآل بيته |
=>
____________
<=
أما ابن شكلة فيقول معرضاً بالمأمون:
إذا الشيعي جمجم في مقال فسرك أن يبوح بذات نفسه فصل على النبي وصاحبيه وزيريه وجاريه برمســه
راجع: مروج الذهب ج 3 / 417، والكنى والألقاب ج 1 / 331، وبعد هذا. فإنه لمن غرائب الأمور حقاً، الانتقال دفعة واحدة من القول بالإرجاء إلى التشيع، بل إلى الرفض [وهو الغلو في التشيع حسب مصطلحهم، والذي يتمثل بالقول بإمامة الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام)] وأغرب من ذلك العودة إلى الإرجاء بعد موت علي الرضا (عليه السلام).
وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على مدى تأثير السياسة والمال في هؤلاء الذين أخذوا على عاتقهم ـ بادعائهم ـ مسؤولية الحفاظ على الدين والذود عن العقيدة، فإنهم كانوا في غاية الانحطاط الديني، يتلونون ـ طمعاً بالمال والشهرة ـ ألواناً، حتى إن ذلك يحملهم على القول بعقيدة، ثم القول بضدها، ثم الرجوع إلى المقالة الأولى، إذا رأوا أن الحاكم يرغب في ذلك، ويميل إليه، ولهذا أسموا ب «الحشوية» يعني: أتباع وحشو الملوك، وأذناب كل من غلب، ويقال لهم أيضاً [وهم في الحقيقة أهل الحديث]: «الحشوية، والنابتة، والغثاء، والغثر» على ما في كتاب: تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة ص 80.
وراجع أيضاً فرق الشيعة، ورسالة الجاحظ في بني أمية، وغير ذلك.
بل لقد أطلق عليهم المأمون نفسه لفظ «الحشوية» في مناقشته المشهورة للفقهاء والعلماء المذكور في العقد الفريد والبحار، وعيون أخبار الرضا وغير ذلك. وقال عنهم الزمخشري في مقام استعراضه للمذاهب والنحل، ومعتنقيها:
وإن قلت من أهل الحديث وحزبه | يقولون تيس ليس يدري ويفهم |
ويقابل كلمة «الحشوية» كلمة «الرافضة» التي شاع إطلاقها على الشيعة الإمامية.
ومعناها في الأصل: جند تركوا قائدهم. فحيث إن الشيعة لم يكونوا قائلين بإمامة أولئك المتغلبين، سموهم ب «الرافضة» ولذا جاء في تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 161: أن معاوية كتب إلى عمرو بن العاص:
=>
____________
<=
«أما بعد. فإنه قد كان من أمر علي وطلحة والزبير ما قد بلغك، فقد سقط إلينا مروان في رافضة أهل البصرة الخ..». ومثل ذلك ما في وقعة صفين لنصر بن مزاحم ص 34، فالمراد بكلمة رافضة هنا هو ذلك المعنى اللغوي الذي أشرنا إليه، فسمي الشيعة بالرافضة، لأنهم ـ كما قلنا ـ رفضوا الانقياد لأولئك الحكام المتغلبين.
يقول السيد الحميري على ما جاء في ديوانه وغيره ـ يهجو البعض:
أبوك ابن سارق عنز النبـي وأمك بنت أبي جحـــدر ونحن على رغمك الرافضون لأهل الضلالة والمنكـــر
ولكن قد جاء في الطبري، مطبعة الاستقامة ج 6 ص 498، والبداية والنهاية ج 9 ص 330، ومقدمة ابن خلدون ص 198، ومقالات الإسلاميين ج 1 ص 130، وغاية الاختصار ص 134: أن سبب تسمية الشيعة ب «الرافضة» هو أنهم عندما تركوا نصرة زيد بن علي في سنة 122 ه. قال لهم زيد: رفضتموني، رفضكم الله، وهذا كذب راج على بعض الشيعة أيضاً حيث ذكروا وذكر الطبري في نفس الصفحة المشار إليها آنفاً: أن التسمية كانت من المغيرة بن سعيد، لما رفضته الشيعة.. وكانت قضيته سنة 119 ه.
ولكن الحقيقة هي أن التسمية بالرافضة كانت قبل سنتي 122 ه و 119 ه. فقد جاء في المحاسن للبرقي ص 119 طبع النجف، باب الرافضة: أن الشيعة كانوا يشكون إلى الباقر المتوفى سنة 114 أن الولاة قد استحلوا دماءهم وأموالهم باسم: «الرافضة» الخ.
وجاء في ميزان الاعتدال طبع سنة 1963 م. ج 2 ص 584 بعد ذكره لإسناد طويل أن الشعبي المتوفى سنة 104 ه. قال لأحدهم: «ائتني بشيعي صغير، أخرج لك منه رافضياً كبيراً».
وفي كتاب: روض الأخبار المنتخب من ربيع الأبرار ص 40، أن الشعبي قال: «أحبب آل محمد ولا تكن رافضياً، وأثبت وعيد الله، ولا تكن مرجئياً.». بل لدينا ما يدل على أن تسمية الشيعة ب «الرافضة» كان قبل سنة المئة، فقد جاء في المحاسن والمساوي للبيهقي ص 212، طبع دار صادر وأمالي السيد المرتضى ج 1 ص 68 هامش: أن لما أنشد الفرزدق أبياته المشهورة في الإمام زين العابدين، المتوفى سنة 95 ه قال عبد الملك بن مروان المتوفى سنة 86 ه للفرزدق: «أرافضي أنت يا فرزدق؟!». وعلى كل حال: فإن ذلك كله قد كان قبل قضيتي زيد والمغيرة ابن سعيد بزمان بعيد.
والذي ساهم إلى حد كبير في إضعافهم، وشل حركتهم، هو اختياره الإمام (عليه السلام) بالذات، حيث إنه الرجل الذي لا يمكن لأحد كائناً من كان أن ينكر فضله، وعلمه، وتقواه، وسائر صفاته ومزاياه، التي لم تكن لأحد في زمانه على الإطلاق، فليس لهم بعد طريق للاعتراض عليه: بأن الذي اختاره لولاية عهده، والخلافة من بعده، ليس أهلاً
____________
(1) راجع: الفخري في الآداب السلطانية، ص 217، وضحى الإسلام ج 3 ص 294، والبداية والنهاية ج 10 ص 247، والطبري، وابن الأثير، والقلقشندي وأبو الفرج. والمفيد وكل من تعرض من المؤرخين لولاية العهد. بل لقد صرح نفس المأمون بذلك في وثيقة ولاية العهد، وهذا يكفي في المقام.. ولقد قال دعبل:
أيا عجباً منهم يسمونك الرضا | ويلقاك منهم كلحة وغضون |
وهناك نصوص أخرى مفادها: أنه سمي الرضا، لرضا أعدائه، وأوليائه به، وعزى الشيبي في كتابه: الصلة بين التصوف والتشيع ص 138: عزا رضا أعدائه به إلى قوة شخصيته (عليه السلام).. أما نحن فنقول: إنه ليس من اليسير أبداً، أن تنال شخصية رضا كل أحد، حتى أعدائها. اللهم إلا إذا كان هناك سر إلهي، اختصت به تلك الشخصية، دون غيرها من سائر بني الإنسان..
فذلكة لا بد منها:
هذا.. ولا يسعنا هنا إلا أن نشير إلى أن المأمون، لم يخترع أسلوباً جديداً للتصدي للزيدية، والحد من نفوذهم، وكسر شوكتهم، ببيعته للرضا (عليه السلام)، إذ أنه كان قد استوحى هذه الفكرة من سلفة المهدي، الذي كان قد استوزر يعقوب بن داوود الزيدي، ليحد من نشاط الزيدية، ويكسر شوكتهم. وكان قد نجح في ذلك إلى حد ما: إذ لا يحدثنا التاريخ عن تحركات زيدية خطيرة ضد المهدي، بعد استيزاره ليعقوب، وتقريبه للزيدية، كتلك الأحداث التي حدثت ضد المنصور، وخصوصاً ثورة محمد وإبراهيم ابني عبد الله.
كما يلاحظ أن تقريب العباسيين للزيدية في عصر المهدي، وتسليطهم على شؤون الدولة وإداراتها، لم يؤثر في الوضع العام أثراً يخشاه العباسيون، وذلك بلا شك مما يشجع المأمون على الإقدام على ما كان قد عقد العزم عليه، بجنان ثابت وإرادة راسخة.
يضاف إلى ذلك:
أن سهولة إبعاد العباسيين لهم عن مراكز القوة، ومناصب الحكم على يد المهدي نفسه، الذي نكب يعقوب بن داوود، الوزير الزيدي، حيث لم تصاحبه ردة فعل، ولا نتج عنه أية حادثة تذكر ضد العباسيين، لا حقيرة، ولا خطيرة.. هو الذي شجع المأمون على أن يستوحي نفس الفكرة، ويلعب نفس اللعبة، ويتبع نفس طريقة المهدي. في مواجهتهم، وكسر شوكتهم، بالبيعة للرضا (عليه السلام) بولاية العهد بعده.
ثم كانت النتيجة هي ما يعلمه كل أحد، حيث انقلبوا عليهم يوسعونهم قتلاً وعسفاً، وتشريداً عندما خافوهم. فلم يعودوا بحاجة إليهم.
ه ـ: أضف إلى ذلك ما تقدم أن المأمون كان يعلم قبل أي شخص آخر بطبيعة العلاقات التي كانت قائمة بين الأئمة (عليهم السلام)، وبين الزيدية، حيث إنها كانت على درجة من السوء والتدهور. وكان عدم التفاهم، والانسجام فيما بينهم واضحاً للعيان..
حتى لقد شكى الأئمة (عليهم السلام) منهم، وصرحوا: بأن الناس قد نصبوا العداوة لشيعتهم، أما الزيدية فقد نصبوا العداوة لهم أنفسهم(1)، وفي الكافي رواية مفادها: إنه (عليه السلام) قال إنهم قبل أن يصلوا إلى الحكم كانوا لا يطيعونهم فكيف تكون حالهم معهم لو أنهم وصلوا إلى الحكم وتبوءوا كرسي الرئاسة.
____________
(1) راجع: الوافي للفيض ج 1 ص 143، باب: الناصب ومجالسته.
هذا. ولا يمنع ذلك ما ورد عنهم (عليهم السلام) من أن خروج الزيدية وغيرهم على الحكام يدرؤا به عنهم، وعن شيعتهم: فقد جاء في السرائر قسم المستطرفات ص 476 أنه: «ذكر بين يدي أبي عبد الله من خرج من آل محمد (صلى الله عليه وآله)، فقال (عليه السلام): لا أزال أنا وشيعتي بخير ما خرج الخارجي من آل محمد إلخ..» وذلك لأن اصطدامهم مع الحكام كان يصرف أنظار الحكام إليهم، ويفسح المجال أمام أهل البيت وشيعتهم إلى حد ما. ولم يكن هناك مجال لاتهام الأئمة وشيعتهم بالتواطؤ معهم، مع ما كان يراه الحكام من عدم الانسجام الظاهر بين الأئمة وبين الزيدية، وغيرهم من الثائرين وسلبية كل فريق منهما تجاه الآخر..
وأخيراً.. فلا بد لنا هنا من الإشارة إلى أن ثورات العلويين، سواء على الحكم الأموي، أو الحكم العباسي، قد ساهمت في أن يبقى حق العلويين في الحكم متحفظاً بقوته وحيويته في ضمير الأمة، ووجدانها. ولم تؤثر عليه حملات القمع والتضليل، التي كان الحكم القائم آنذاك يمارسها ضدهم، وضد هذا الحق الثابت لأهل البيت (عليهم السلام) بالنص.
«والله، ما يمنعك من ذلك إلا الحسد إلخ.» وقد انصرف عبد الله آخر الأمر مغضباً(1).
ورأينا أيضاً أنه في موقف آخر له مع الإمام الصادق (عليه السلام) يتهمه بنفس هذه التهمة، ويصمه بعين هذه الوصمة، وذلك عندما أرادوا البيعة لولده محمد، وأبدى الإمام (عليه السلام) رأيه في ذلك. ذلك الرأي الذي كشفت الأيام عن صحته وسداده(2).
بل لقد كان عيسى بن زيد يقول لمحمد بن عبد الله: «.. من خالفك من آل أبي طالب، فأمكني أضرب عنقه.»(3) وقد تجرأ عيسى هذا أيضاً على الإمام الصادق بكلام لا نحب ذكره.
وأما موقف محمد بن عبد الله نفسه مع الإمام الصادق (عليه السلام)، فأشهر من أن يذكر، حيث إنه سجن الإمام (عليه السلام)، واستصفى أمواله، وأسمعه كلاماً قاسياً، لا يليق بمقام الإمام وسنه(4).
____________
(1) راجع: مروج الذهب ج 3 ص 354، 355، وغيره من المصادر.
(2) الصواعق المحرقة ص 121، وينابيع المودة للحنفي ص 332، 361، ومقاتل الطالبيين ص 255، 256، 270، وغير ذلك.. وفي هذا الأخير: أن عبد الله ابن الحسن لم يرض باستدعاء الإمام، ولا وافق عليه، عندما أرادوا البيعة لولده محمد، وبعد أن أقنعوه، وحضر الإمام، جرى بينهما ما جرى.
(3) قاموس الرجال ج 7 ص 270.
(4) قاموس الرجال ج 7 ص 270، و ج 8 ص 242، 243 والبحار ج 47 ص 284، 258.
والمأمون.. كان يعلم بذلك كله، ويدركه كل الادراك، ولهذا فإننا لا نستبعد أنه ـ وهو الداهية الدهياء ـ قد أراد أيضاً في جملة ما أراد: أن يوقع الفتنة بين آل علي أنفسهم. أي: بين الأئمة، والمتشيعين لهم، وبين الزيدية، ويقف هو في موقف المتفرج المتربص حتى إذا أضعف كل واحد من الفريقين الفريق الآخر، ولم يعد فيهما بقية.. انقض هو عليهما، وقضى عليهما بأهون سبيل.
بل إن بعض الباحثين يرى: أنه أراد من لعبته هذه: «.. ضرباً للثائرين العلويين من إخوة علي بن موسى بأخيهم.»(1).
ولو أننا استبعدنا كل ذلك، فلا أقل ـ كما قلنا ـ من أن حجته أصبحت قوية على الزيدية، وعلى كل من يدعو إلى «الرضا من آل محمد»، ولم يعد يخشى أحداً منهم، بعد أن أصبح «الرضا من آل محمد» موجوداً.
الهدف التاسع:
كما أنه ببيعته للإمام الرضا (عليه السلام) بولاية العهد، وقبول الإمام (عليه السلام) بذلك.. يكون قد حصل على اعتراف من العلويين، على أعلى مستوى بشرعية الخلافة العباسية، ولقد صرح المأمون بأن ذلك، كان من جملة أهدافه، حيث قال: «.. فأردنا أن نجعله ولي عهدنا، ليكون دعاؤه لنا، وليعترف بالملك والخلافة لنا..» وسنتكلم حول تصريحات المأمون
____________
(1) هو الدكتور كامل مصطفى الشيبي في كتابه: الصلاة بين التصوف والتشيع ص 219.
نعود إلى القول: إن تصريح المأمون هذا يعطينا: أن قبول الإمام بأن يكون ولي عهد المأمون، إنما يعني بالنسبة للمأمون: أن الإمام يكون قد أقر بأن الخلافة ليست له دون غيره، ولا في العلويين دون غيرهم، وأنه كما يمكن أن يكون هو جديراً بها، وأهلا لها، وكذلك غيره يمكن أن يكون كذلك. وليتمكن المأمون بذلك من محاربة العلويين بنفس السلاح الذي بأيديهم، وليصير ـ من ثم ـ من الصعب استجابة الناس لهم، إذا دعوا لأية ثورة ضد حكم اعترفوا هم بشرعيته، وأيدوه، وتعاونوا معه من قبل، وعلى أعلى مستوى ومن أعظم شخصية فيهم.
بل لقد كان يريد أن يحصل من العلويين على اعتراف بأن الحكم حق للعباسيين فقط. أما هم، فليس لهم فيه أدنى نصيب، وما فعله المأمون ـ من إسناد ولاية العهد لواحد منهم، ما كان إلا تفضلاً وكرماً، ومن أجل أن يجمع شمل البيتين العلوي والعباسي، وتصفو القلوب ويمحو ما كان من أمر الرشيد وغيره من أسلافه مع العلويين.
ولقد حاول المأمون أن ينتزع من الإمام اعترافا بأن الخلافة حق للعباسيين، شفاهاً أيضاً فكانت النتيجة عكس ما أراد المأمون، وذلك عندما عرض بالمن على الإمام بأن جعله ولي عهده، فأجابه الإمام (عليه السلام): بأن هذا الأمر لم يزده في النعمة شيئاً، وأنه وهو في المدينة كانت كتبه تنفذ في المشرق والمغرب.
كما أن المأمون قد قال لحميد بن مهران، وجمع من العباسيين: «.. وليعتقد فيه المفتونون به، بأنه ليس مما ادعى في قليل، ولا
وبعد.. فإنه لا يكون من المبالغة في شيء لو قلنا: إن حصول المأمون على اعتراف من العلويين، ومن الإمام الرضا (عليه السلام) خاصة، بشرعية خلافته، وخلافة، بني أبيه أخطر على العلويين من الأسلوب الذي انتهجه أسلافه من أمويين وعباسيين ضدهم،: من قتلهم، وتشريدهم، وسلب أموالهم، إلى غير ذلك مما هو معروف ومشهور.
الهدف العاشر:
يضاف إلى ذلك، أنه يكون قد حصل على اعتراف ضمني من الإمام بشرعية تصرفاته، طيلة فترة ولاية العهد، وليعطي الناس ـ من ثم ـ الصورة التي يريدها عن الحكم والحاكم، وليؤكد للملأ أجمع: أن الحاكم هذا هو سلوكه، وهذه هي تصرفاته: من كان، ومهما كان، وإذن فليس لهم بعد حق في أن يتطلعوا إلى حكومة أحد على أن بها شيئاً جديداً، ولا أن ينظروا إلى جهة على أنها يمكن أن يكون بها المنقذ لهم، والمخرج من الظلمات إلى النور، حتى ولو كانت تلك الجهة هي آل بيت نبيهم، فإنه من الطبيعي أن يتبع السياسيون أساليب، ويتكلموا بأشياء كثيرة، ينسبونها بمجرد وصولهم إلى الحكم، وتسلمهم لازمة السلطة، فإن تلك لا تعدو كونها تكتيكات، ووعودا انتخابية، يحتاجون إليها في ظروف معينة، ثم يستغنون عنها.. كما كانت الحال في وعود المأمون، التي أشرنا إليها فيما تقدم.
وهكذا.. فيكون سكوت الإمام في فترة ولاية العهد، عن تصرفات الهيئة الحاكمة، دالا على رضاه بها، ويعتبر إمضاء لها.. وبعد هذا.
وإذا كانت الصورة واحدة، والجوهر واحد، والاختلاف إنما هو فقط في الاسم والعنوان، فليس لهم بعد حق، أو على الأقل ما الداعي لهم، لأن يطلبوا حكماً أفضل، أو حكاماً أعدل، فإنه طلب لغير موجود، وسعي وراء مفقود.
الهدف الحادي عشر:
هذا.. وبعد أن يكون المأمون قد حصل على كل ما قدمناه، وحقن دماء العباسيين، واستوثقت له الممالك، ولم يعد هناك ما يعكر صفو حياته(1)، وقوي مركزه، وارتفع بالخلافة من الحضيض المهين، الذي أوصلها إليه أسلافه إلى أوج العظمة، والتمكن والمجد. وأعطاها من القوة والمنعة، ووهبها من الحياة في ضمير الأمة ووجدانها ما هي بأمس الحاجة إليه.. ولتتمكن من ثم من الصمود في وجه أية عاصفة، وإخماد أية ثورة، ومقاومة كل الأنواء، وذلك هو حلمه الكبير، الذي طالما جهد في تحقيقه ـ إنه بعد أن يكون قد حصل على كل ذلك وسواه مما قدمناه:
____________
(1) لقد صرح الذهبي في الجزء الأول من كتابه «العبر» بأنه في سنة 200 ه. استوثقت الممالك للمأمون. وهذه هي نفس السنة التي أتي فيها بالإمام (عليه السلام) من المدينة إلى مرو.. ولكن اليافعي في مرآة الجنان ج 2 ص 8: قد جعل ذلك في سنة 203: أي في السنة التي تخلص فيها المأمون من الإمام الرضا (عليه السلام) بواسطة السم الذي دسه إليه.. وفي اليعقوبي ج 2 ص 452 طبع صادر: أنه في السنة التي غادر فيها المأمون خراسان: «لم تبق ناحية من نواحي خراسان يخاف خلافها».
كما أنه يكون قد مهد الطريق لتنفيذ الجزء الثاني ـ ولعله الأهم ـ من خطته الجهنمية، بعيداً عن الشبهات، ودون أن يتعرض لتهمة أحد، أو شك من أحد..
ألا وهو: القضاء على العلويين بالقضاء على أعظم شخصية فيهم. وليكون بذلك قد قضى نهائياً، وإلى الأبد، على أكبر مصدر للخطر، يمكن أن يتهدده، ويتهدد خلافته ومركزه.
إنه يريد زعزعة ثقة الناس بهم، واستئصال تعاطفهم معهم، وليحوله ـ إن استطاع ـ إلى كره ومقت، بالطرق التي لا تمس العواطف والمشاعر، ولا تثير الكثير من الشكوك والشبهات.
يظهر ذلك في محاولاته إسقاط الإمام إجتماعياً، والوضع منه قليلاً قليلاً، حتى يصوره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر، وليدبر فيه في نهاية الأمر بما يحسم عنه مواد بلائه.. كما صرح لحميد بن مهران، وجمع من العباسيين، وسنتكلم بنوع من التفصيل عن محاولات المأمون هذه، التي باءت كلها بالفشل الذريع، وعادت عليه بالخسران، لأن الإمام (عليه السلام) كان قد أحبطها عليه، بل لقد كان لها من النتائج العكسية بالنسبة إليه ما جعله يتعجل بتصفية الإمام جسديا، بعد أن أشرف هو منه (عليه السلام) على الهلاك.. بالطريقة التي حسب أنها سوف لا تثير الكثير من الشكوك والشبهات.
ملاحظة لا بد منها:
ومن الأمور الجديرة بالملاحظة هنا: أن المأمون كان يقدر أن مجرد
____________
(1) ولكنا، مع ذلك نجد: أن قسما من أصحاب الرضا (عليه السلام)، ممن كانوا يراقبون الأحداث بوعي ودراية، كانوا يدركون نوايا المأمون وأهدافه هذه ففي البحار ج 49 ص 290، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 239: أنه قد سئل أبو الصلت: «كيف طابت نفس المأمون بقتل الرضا مع إكرامه ومحبته له، وما جعل له من ولاية العهد بعده؟! فقال: إن المأمون كان يكرمه ويحبه لمعرفته بفضله، وجعل له ولاية العهد من بعده، ليري الناس أنه راغب في الدنيا، فلما لم يظهر منه إلا ما ازداد به فضلاً عندهم، ومحلاً في نفوسهم، جلب عليه إلخ.».
وعن الريان قال: «دخلت على الرضا، فقلت: يا ابن رسول الله، إن الناس يقولون: إنك قبلت ولاية العهد، مع إظهارك الزهد في الدنيا؟!، فقال (عليه السلام): قد علم الله كراهتي..»(1) وقد أشرنا إلى سؤال محمد بن عرفة، وكلام الريان فيما تقدم.
وعلى أي شيء يبكي المأمون، ومن أجل أي شيء يشقى ويتعب، ويسهر الليالي، ويتحمل المشاق.. إلا على هذا.. إن هذا هو أجل أمنياته وأغلاها.
سؤال وجوابه:
قد يدور بخلد القارئ أن ما ذكرناه هنا: فيما يتعلق بالفارق الكبير بالسن، ينافي ما تقدم من أن المأمون كان يريد الحصول على قاعدة شعبية، والارتفاع بالخلافة من الحضيض الخ.
ولكن الحقيقة هي:
أنه لا منافاة هناك.. ويمكن للمأمون أن يقصد كل ذلك من البيعة، لأن مقدار التفاوت بالسن بين الإمام (عليه السلام) والمأمون، لم يكن مما يعرفه الكثيرون، ولا مما يلتفت إليه عوام الناس في بادئ
____________
(1) علل الشرايع ص 238، والبحار ج 49 ص 130، وأمالي الصدوق ص 44، 45.
ثم.. وبعد أن يجند المأمون أجهزة إعلامه، من أجل تسميم الأفكار، يجد أن نفوس الناس مهيأة ومستعدة لتقبل ما يلقى إليها. ويكون لديه ـ باعتقاده ـ من الحجج ما يكفي لإسقاط الإمام، وزعزعة ثقة الناس به. ولا يؤثر ذلك بعد ذلك على الحكم، فإن الحكم يكون قد استنفذ أغراضه من البيعة. وحصل على ما يريد الحصول عليه منها.. هذا ولا بد لنا هنا من ملاحظة أن المأمون وأجهزة إعلامه كانوا في مقابل وصم الإمام بالرغبة بالدنيا والتفاني في سبيلها.. يشيعون بين الناس عن المأمون عكس ذلك تمام، فيطلب المأمون من وزيره أن يشيع عنه الزهد، والورع والتقوى(1).. وأنه لا يريد مما أقدم عليه الأخير الأمة ومصلحتها، حيث قد اختار لولاية عهده أفضل رجل قدر عليه، رغم أن ذلك الرجل هو من ذلك البيت الذي لا يجهل أحد موقفه من حكم العباسيين، وموقف العباسيين منه كما يتضح ذلك من وثيقة ولاية العهد، وغيرها.
رأي الناس فيمن يتصدى للحكم:
لعل من الواضح أن كثيراً من الناس كانوا يرون ـ في تلك الفترة من الزمن ـ لقصر نظرهم، وقلة معرفتهم: أن هناك منافاة بين الزهد والورع، والتقوى، وبين المنصب، وأنهما لا يتفقان، ولا يجتمعان.
____________
(1) تاريخ التمدن الإسلامي ج 4 ص 261.