الصفحة 246

وقد رأينا الكثيرين يمتنعون على تولي المناصب للحكام، لما يرونه من المنافاة المشار إليها.

ولعل سر فهمهم هذا: هو أنهم كانوا قد اعتادوا من الحكام التجاوز على الحقوق، والدماء، والأموال، وعلى أحكام الدين، والنواميس الإنسانية، بشكل عام. والزهد والورع لا يتلائم مع ذلك كله، ولا ينسجم معه.

ولكن الحقيقة هي: أن لا منافاة بينهما أبداً، فإن الحكم إذا كان وسيلة لا يصال الخير إلى الآخرين، ورفع الظلم عنهم، وإشاعة العدل، إقامة شريعة الله تعالى، فيجب السعي إليه، والعمل من أجله، وفي سبيله.. بل إذا لزم من ترك السعي إليه، تضييع الحقوق، وانهيار صرح العدل، والخروج على أحكام الدين، فإن ترك السعي هذا، يكون هو المنافي للزهد والورع والتقوى..

ولقد قاد النبي (عليه السلام) الأمة، وقبله قادها سليمان بن داوود، وغيره، وبعده الإمام علي بن أبي طالب، وولده الحسن، ثم الحسين، وهكذا..

وحال هؤلاء في الزهد والورع، لا يحتاج إلى مزيد بيان، وإقامة برهان، بل لم يكن على ظهرها أزهد، ولا أتقى، ولا أفضل، ولا أورع منهم، عدوهم يعرف منهم ذلك تماماً كما يعرفه منهم صديقهم. فعدا عن الأنبياء الذين كانوا القمة في الورع والزهد والتقوى، نرى الإمام علي (عليه السلام) قمة في ذلك أيضاً، وقد رقع مدرعته حتى استحيا من راقعها، وكان راقعها هو ولده «الإمام الحسن (عليه السلام)»(1). وكان

____________

(1) راجع: الدرة النجفية ص 303، طبعة حجرية.


الصفحة 247
يصلي في بيت المال ركعتين شكراً لله، بعد فراغ المال منه. وكان يقول: «إليك عني يا دنيا غري غيري، أبي تعرضت؟! الخ..» وهو الذي قال فيه عدوه معاوية: «لو كان له بيتان: بيت من تبر، وآخر من تبن، لأنفق تبره قبل تبنه.». إلى غير ذلك مما لا مجال لنا لتتبعه واستقصائه..

العلويون يدركون نوايا المأمون:

إن نوايا المأمون تجاه العلويين، ومحاولاته لإسقاطهم إجتماعياً، وابتزازهم سياسياً.. حتى إذا أخفق في ذلك راح يختلهم واحداً فواحداً، كلما واتاه الظرف، وسنحت له الفرصة.. لم يكن العلويون يجهلونها، بل كانوا يدركونها كل الادراك، ولم تكن تخدعهم تلك الشعارات والأساليب المبهرجة. وحسبنا هنا أن نذكر في مقام التدليل على هذا: أن المأمون كتب لعبد الله بن موسى، بعد وفاة الرضا، يعده بأنه يجعله ولي عهده، ويقول له: «ما ظننت أن أحداً من آل أبي طالب يخافني بعد ما عملته بالرضا».

فأجابه عبد الله يقول: «وصل إلي كتابك، وفهمته، تختلني فيه عن نفسي مثل القانص، وتحتال علي حيلة المغتال، القاصد لسفك دمي. وعجبت من بذلك العهد، ولايته لي بعدك، كأنك تظن: أنه لم يبلغني ما فعلته بالرضا؟! ففي أي شيء ظننت أني أرغب من ذلك؟ أفي الملك الذي غرتك حلاوته؟!.

إلى أن يقول: أم في العنب المسموم الذي قتلت به الرضا؟!».

ويقول له أيضاً ـ والظاهر أنه نص آخر للرسالة ـ: «هبني لا ثأر لي عندك، وعند آبائك المستحلين لدمائنا الآخذين حقنا، الذين جاهروا في أمرنا، فحذرناهم. وكنت ألطف حيلة منهم، بما استعملته من الرضا بنا، والتستر لمحننا، تختل واحداً،

____________

(1) ترجمة الإمام علي (عليه السلام) من تاريخ ابن عساكر بتحقيق المحمودي ج 3 ص 58 ـ 60.


الصفحة 248
فواحداً منا الخ..»(1).

ولا بد من ملاحظة: منافاة وعده هذا لعبد الله بن موسى بأن يجعل له ولاية العهد.. للرسالة التي أرسلها إلى العباسيين في بغداد، فور وفاة الرضا (عليه السلام)، ويعدهم فيها بأن يجعل ولاية العهد فيهم، وسنشير إلى رسالته لهم في فصل: مع بعض خطط المأمون إن شاء الله وعلى كل حال.. فإننا نستطيع أن نفهم من هذه الرسالة التي لعبد الله بن موسى أموراً، نشير إلى بعضها:

أولاً: إن المأمون كان قد جعل ولاية العهد وسيلة لختل الشخصيات التي كان يخشاها، والغدر بها، إذ إن من المقبول والطبيعي ـ كما يرى البعض ـ أن يكون ولي العهد هو الذي يتآمر، ويدبر للتخلص من الخليفة الفعلي، ليختصر المسافة، ويصل إلى الحكم، الذي ينتظر الوصول إليه، والحصول عليه بفارغ الصبر. وليس من الطبيعي، ولا من المقبول أن يتآمر الخليفة على ولي عهده، إلا إذا كان يريد أن يجعل الخلافة لمن هو أعز عليه منه، وهذا ما نفاه المأمون عن نفسه في أكثر من مناسبة.

وهكذا.. فإن النتيجة تكون: أن الخليفة الفعلي يكون آخر من يتهم في ولي العهد، إذا ما راح ضحية التآمر والاغتيال، وعرف الناس ذلك. وهذا بلا شك من جملة ما كان يريده المأمون، ويسعى إليه.

ثانياً: إن المأمون رغم الصعوبات التي واجهها في فترة تولية الرضا (عليه السلام) العهد.. يبدو أنه كان يعتبر نفسه منتصراً وناجحاً في لعبته تلك، ولذلك نرى أنه قد حاول تكرار نفس اللعبة مع عبد الله بن

____________

(1) مقاتل الطالبيين للأصفهاني ص 628، إلى ص 631، وسنورد الرسالة في أواخر هذا الكتاب إن شاء الله.


الصفحة 249
موسى. ولكن يقظة هذا الأخير، الذي كانت ظروفه تختلف عن ظروف الإمام (عليه السلام) قد فوتت عليه الفرصة، وأعادته. بخفي حنين.

كما أننا لا نستبعد أن المأمون قد أراد بالإضافة إلى ذلك التستر على غدره بالرضا (عليه السلام)، بعد أن كان قد افتضح واشتهر، رغم محاولاته الجادة للتستر والكتمان.

ثالثاً: ما تقدمت الإشارة إليه من أن إكرامه للعلويين، والرضا بهم، والتستر لمحنهم، ما كان منه إلا ضمن خطة مرسومة، وإلا سياسة منه ودهاء، من أجل أن يأمن العلويون جانبه، ويطمئنوا إليه، كما يدل عليه قوله لعبد الله بن موسى: «ما ظننت أحداً من آل أبي طالب يخافني بعد ما عملته بالرضا» وقد قدمنا أنه أشار إلى ذلك أيضاً في كتابه للعباسيين، فلا نعيد..

رابعاً: أنه لم يستطع أن يخفي عن العلويين ـ كما لم يستطع أن يخفي عن غيرهم ـ غدره بالإمام الرضا (عليه السلام)، وسمه له بالعنب، وكذلك غدره بغيره من العلويين. وسر ذلك واضح، فإن جميع الدلائل والشواهد كانت متوفرة على ذلك، كما سيأتي بيان جانب من ذلك في فصول هذا الكتاب بنوع من التفصيل.

موقف الإمام في مواجهة مؤامرات المأمون:

لقد رأينا كيف أن المأمون أراد من لعبته تلك، التغلب على المشاكل التي كان يواجهها، والاستفادة في تقوية دعائم خلافته، وخلافة العباسيين بشكل عام.. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما هو موقف الإمام (عليه السلام) نفسه من لعبة المأمون تلك، وخططه، وأهدافه؟، وهل أفسح المجال للمأمون ليحقق كل ما يريد تحقيقه، ويصل إلى ما

الصفحة 250
كان يريد الوصول إليه؟.. وهل كانت لديه خطط من نوع معين، وأهداف معينة كان يسعى من أجل الوصول إليها، والحصول عليها؟!.

الحقيقة هي: أن الإمام (عليه السلام) قد استطاع، بما اتبعه من خطة حكيمة، وسلوك مثالي: أن يضيع على المأمون كافة الفرص، ويجعله يبوء بالخيبة والخسران، ويمنى بالفشل الذريع، حتى لقد أشرف المأمون منه على الهلاك، وبدا الارتباك واضحاً في كل تصرفاته، وأقواله، وأفعاله..

وسيأتي في الفصول الآتية في القسمين: الثالث، والرابع بيان بعض ما يتعلق بذلك إن شاء الله.

المأمون في قفص الاتهام:

وهكذا.. وبعد أن اتضحت الأسباب الحقيقية للبيعة، وبعد أن عرفنا بعض الظروف والملابسات، التي أحاطت بهذا الحدث الهام، فإننا نستطيع أن نضع المأمون، ونواياه، وأهدافه، في قفص الاتهام، ولا يمكن أن نصدق ـ بعد هذا ـ أبداً، أي ادعاء سطحي، يحاول أن يصور لنا حسن نية المأمون من البيعة، وسلامة طويته، سيما ونحن نرى كتابه للعباسيين في بغداد فور وفاة الرضا، وكذلك سلوكه المشبوه مع الرضا (عليه السلام) من أول يوم طلب منه فيه الدخول في هذا الأمر، وحتى إلى ما بعد وفاته، كما سيأتي بيانه في الفصول الآتية. وكذلك كتابه لعبد الله بن موسى المتقدم.

والأدهى من ذلك كله رسالته للسري، عامله على مصر، التي «يخبره فيها بوفاة الرضا، ويأمره بأن تغسل المنابر، التي دعي عليها لعلي بن موسى، فغسلت.»(1).

____________

(1) الولاة والقضاة للكندي ص 170.


الصفحة 251
وكذلك لا يمكن أن نصدق بحسن نيته بالنسبة لأي واحد من العلويين، الآخرين.. كما أشرنا إليه في رسالته لعبد الله بن موسى، التي يذكر فيها: أنه راح يختلهم واحداً فواحداً.. وأيضاً عندما نرى أنه يمنعهم من الدخول عليه، بعد وفاة الرضا، ويأخذهم بلبس السواد(1).. بل ويأمر ولاته وأمراءه بملاحقتهم، والقضاء عليهم، كما سيأتي.

مع المأمون في وثيقة العهد:

ويحسن بنا هنا: أن نقف قليلاً مع وثيقة العهد، التي كتبها المأمون للإمام (عليه السلام) بخط يده، فلقد ضمنها المأمون إشارات هامة، رأى أنها تخدم أهدافه السياسية من البيعة وحيث إننا قد تحدثنا، ولسوف نتحدث في مطاوي هذا الكتاب عن بعض فقراتها.. فلسوف نقتصر هنا على:

أولاً: إننا نلاحظ: أنه يؤكد كثيراً على نقطتين:

الأولى: أنه منطلق في هذه البيعة من طاعة الله، وإيثاره لمرضاته.

الثانية: أنه لا يريد بذلك إلا مصلحة الأمة، والخير لها.

وسر ذلك واضح: فهو يريد أن يذهب باستغراب واستهجان الناس، الذين يرون الرجل الذي قتل حتى أخاه من أجل الحكم ـ يرونه الآن ـ يتخلى عن هذا الحكم لرجل غريب، ولمن يعتبر زعيماً لأخطر المنافسين للعباسيين.. كما أنه يريد بذلك أن يكتسب ثقة الناس به، وبنظام حكمه.

وعدا من ذلك فهو يريد أن يطمئن العلويين والناس إلى أن ذلك لا ينطوي على لعبة من أي نوع، بل هو أمر طبيعي فرضته طاعة الله ومرضاته، ومصلحة الأمة، والصالح العام.

____________

(1) الكامل لابن الأثير، طبع دار الكتاب العربي ج 5 ص 204.


الصفحة 252
وثانياً: نراه يجعل العباسيين والعلويين في مرتبة واحدة، وذلك لكي يضمن لأهل بيته حقاً في الخلافة كآل علي.

وثالثاً: يلاحظ: أنه يعطي خلافته صفة الشرعية، حيث يربطها بالمصدر الأعلى [الله] وعلى حسب منطق الناس هذا تام وصحيح، لأنهم بمجرد أن يعمل أحد عملا يؤدي إلى المناداة بواحد على أنه خليفة، ويصير مقبولا لدى الناس.. إنهم بمجرد ذلك يصيرون يعتبرونه خليفة الله في أرضه، وحجته على عباده..

وهو أيضاً تام وصحيح حسب منطق العباسيين، الذين يدعون الخلافة بالإرث عن طريق العباس بن عبد المطلب، حسبما تقدم بيانه..

ولهذا نلاحظ أنه يقدم عبد الله بن العباس على علي بن أبي طالب! مع أن عبد الله تلميذ علي. وليس ذلك إلا من أجل إثبات هذه النقطة، وجعل حق له بالخلافة، بل وجعل نفسه الأحق بها. هذه الخلافة التي هي منصب إلهي، وصل إليه بالطريق الشرعي، سواء على حسب منطق الناس في تلك الفترة، أو على حسب منطق العباسيين.

وفي هذا إرضاء للعباسيين، وتطمين لهم، كما أنه في نفس الوقت تطمين لسائر الناس، الذين كانوا غالباً ـ يرون الخلافة بالكيفية التي أشرنا إليها وقد أكد لهم هذا التطمين باستشهاده بقول عمر، حيث أثبت لهم: أنه لا يزال على مذهبه، وعلى نفس الخط الذي هم عليه.

ورابعاً: إننا نراه في نفس الوقت الذي يؤكد فيه مذهبه، ووجهة نظره بتلك الأساليب المتعددة والمختلفة المشار إليها آنفاً ـ نراه في نفس الوقت ـ يدعي: أنه إنما يجعل الخلافة للرضا (عليه السلام) لا من جهة أنها حق له، ولا من جهة النص عليه، حسبما يدعيه الرضا، بل من جهة أنه أفضل من قدر عليه. وهذا أمر طبيعي جداً، وليس إقراراً بمقالة

الصفحة 253
الرضا.. وكما ينطبق الآن على الرضا، يمكن أن ينطبق غداً على غيره، عندما يوجد من له فضل، وأهلية.. وهذا دون شك ضربة لما يدعيه الرضا ويدعيه آباؤه من الحق في الخلافة، ومن النص، وغير ذلك..

هذا.. ولسوف يأتي في فصل: خطة الإمام، شرح ما كتبه الإمام (عليه السلام) على ظهر الوثيقة، ولنرى من ثم كيف نسف الإمام كل ما بناه المأمون، وصيره هباء اشتدت به الريح في يوم عاصف.

كلمة أخيرة:

وأخيراً: فإننا مهما شككنا في شيء، فلسنا نشك في أن المأمون كان قد درس الوضع دراسة دقيقة، وقبل أن يقدم على ما أقدم عليه. وأخذ في اعتباره كافة الاحتمالات، ومختلف النتائج، سواء مما قدمناه، أو من غيره، مما أخفته عنا الأيدي الأثيمة، والأهواء الرخيصة.. وإن كانت لعبته تلك لم تؤت كل ثمارها، التي كان يرجوها منها، وذلك بسبب الخطة الحكيمة التي كان الإمام (عليه السلام) قد اتبعها.

ولعمري: «.. إن بيعته للإمام لم تكن بيعة محاباة، إذ لو كانت كذلك لكان العباس ابنه، وسائر ولده، أحب إلى قلبه، وأجلى في عينه.» على حد تعبير المأمون في رسالته للعباسيين، التي سوف نوردها في أواخر هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.


الصفحة 254

أسباب البيعة لدى الآخرين

أحمد أمين المصري، وأسباب البيعة:

وعلى ضوء ما تقدم، نستطيع أن نلقي نظرة على ما ذكره بعض المؤرخين، والباحثين، مما جعلوه أسباباً لأخذ البيعة للإمام (عليه السلام) بولاية العهد، ولنرى ـ من ثم ـ أنها لا تقوى على الصمود أمام النقد التاريخي الواعي والدقيق، إذ أنها على الغالب: إما أنها لا تعتمد على سند تاريخي أصلاً، أو أنها تعتمد على ما لا يصلح للاعتماد عليه. ولعل الدكتور أحمد أمين المصري، قد جمع كلا الناحيتين فيما جعله ـ بنظره ـ أسباباً للبيعة، حيث نلاحظ: أن بعض ما ذكره ليس له أي سند تاريخي، بل التاريخ على اختلاف أهوائه، واتجاهاته يدحضه، ويكذبه. والبعض الآخر قد اعتمد فيه على ما لا يصح الاعتماد عليه، ولذا فلا يكون من التجني عليه القول: إن ما ذكره كان سطحيا، أو بوحي من تعصب مذهبي رخيص..

وما ذكره يرجع إلى أسباب أربعة، رأى أنها صالحة، كلاً أو بعضاً، لأن تكون سبباً لأخذ البيعة للرضا بولاية العهد.. ونلخصها بما يلي:


الصفحة 255
1 ـ إن المأمون قد أراد بذلك: أن يصلح بين البيتين، العلوي، والعباسي، ويجمع شملهما، ليتعاونا على ما فيه خير الأمة، وصلاحها. وتنقطع الفتن، وتصفو القلوب.

2 ـ إنه كان معتزلياً، على مذهب معتزلة بغداد، يرى أحقية علي (عليه السلام) وذريته بالخلافة، فأراد أن يحقق مذهبه.

3 ـ إنه كان تحت تأثير الفضل والحسن بني سهل الفارسيين. والفرس يجري في عروقهم التشيع، فما زالا يلقنانه آراءهما، حتى أقرها، ونفذها.

4 ـ «إنه رأى أن عدم تولي العلويين للخلافة، يكسب أئمتهم شيئاً من التقديس، فإذا ولوا الحكم ظهروا للناس، وبان خطؤهم، وصوابهم، فزال عنهم هذا التقديس.»(1).

هذا.. وقد ادعى في كتابه: «المهدي والمهدوية»: أن هؤلاء الأئمة كانوا يرتكبون الآثام في الخفاء، فأراد المأمون: أن يظهرهم، ليعرفهم الناس على حقيقتهم..

كان ذلك ما يراه أحمد أمين يصلح ـ كلاً أو بعضاً ـ سبباً للبيعة..

آراء أحمد أمين في الميزان:

ونحن بدورنا، وإن كنا نعتقد أن فيما قدمناه، وما سيأتي كفاية في تفنيد هذه المزاعم وإسقاطها، إلا أننا نرى لزاماً علينا أن نشير بإيجاز إلى بعض ما يشير إلى ضعفها ووهنها، معتمدين في بقية ما يرد عليها على ذكاء القارئ، وتنبهه، ووعيه. فنقول:

____________

(1) ضحى الإسلام ج 3 ص 295.


الصفحة 256

أما ما ذكر أولاً:

فقد كفانا هو نفسه مؤونة الكلام فيه، حيث قد اعترف بأن المأمون لو كان يرمي إليه لكان في منتهى السطحية والسذاجة.

وأما ما جعله سبباً ثانياً:

فلعله لا يقل عن سابقه في الضعف والوهن، سيما بملاحظة ما قدمناه في الفصلين السابقين، من الظروف التي كان المأمون يعاني منها، وأيضاً ملاحظة ما سيأتي من سلوك المأمون المشبوه، مع الإمام (عليه السلام)، ومعالمته السيئة للعلويين، وكل من يتشيع معهم، ويتعاطف معهم. وعلى الأخص إذا لاحظنا: أن المأمون لم تكن عقيدته هي المنطلق له في موافقه السياسية، بل كان ينطلق مما يراه يخدم مصالحه الخاصة، ويؤكد وجوده في الحكم. وقد قدمنا أنه كان تارة يتحرج من تنقص الحجاج بن يوسف، وتارة يصف الصحابة، ما عدا الإمام علي (عليه السلام) ب‍ «الملحدين»، ويصف الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ب‍ «جعل» إلى آخر ما هنالك من الشواهد والأدلة، مما لا نرى ضرورة لإعادته، ولعل الأهم من ذلك كله: أن تفضيل المعتزلة ـ معتزلة بغداد ـ علياً (عليه السلام) على جميع الصحابة، لم يكن واضحاً بعد في تلك الفترة، وإنما بدأه بشر بن المعتمر حسبما سيأتي بيانه في فصل خطة الإمام. وعليه فهذا الوجه لا يستقيم، على جميع الوجوه والتقادير.

وأما ما جعله سبباً ثالثاً:

فسيأتي الكلام عليه بنوع من التفصيل.. ولكننا نستغرب منه جداً، بل ونأسف كل الأسف، لما طلع به علينا.

بما جعله سبباً رابعاً: من أن عدم تولي الأئمة للحكم يكسبهم شيئاً من التقديس، فأراد أن يولي الإمام الرضا العهد، ليزول عنهم ذلك التقديس ـ وقد أشرنا سابقا إلى أنه استوحى هذه الفكرة من ابن القفطي في تاريخ الحكماء.


الصفحة 257
وليس واضحاً تماماً من هم «الأئمة» الذين يقصدهم أحمد أمين في عبارته تلك. وإذا ما كان يقصد الأئمة الاثني عشر، حيث إنه في معرض الحديث عن أحدهم، وهو الإمام الرضا.. بل أعلن ذلك صراحة في عبارته الأخرى، التي أوردها في كتابه: «المهدي والمهدوية» ـ إذا كان كذلك ـ، فإننا نرى: أن لنا كل الحق في أن نتسأل:

هل عثر أحمد أمين لهؤلاء الأئمة، أو لواحد منهم على ما يتنافى مع التقديس، على مدى تاريخهم الطويل؟!

وهل يستطيع أن يثبت عليهم أدنى شيء يمس كرامتهم، ويتنافى مع مروءتهم، ويخالف دينهم ورسالتهم؟!.

ولماذا تظهر تفاهات غيرهم، وأخطاؤهم، رغم اجتهادهم وتفانيهم في سترها، وإخفائها.. ولا تظهر أخطاء هؤلاء الأئمة، رغم اجتهاد الناس في الافتراء عليهم، والتعرف على أية نقيصة أو خطأ منهم إن كان؟!.

ومتى كان هؤلاء الأئمة مستورين عن الناس، منفصلين عنهم، حتى استطاعوا أن يحصلوا على هذا التقديس؟!.

وهل كل شخصية لا تصل إلى الحكم يقدسها الناس؟!.

وهل كل شخصية تصل إلى الحكم لا يقدسها الناس؟!.

وهل التقديس مقصور على الشخصية المستورة، ولاحظ للشخصية الظاهرة منه؟!.

وهل أثر وصول الإمام علي (عليه السلام) للحكم طيلة أكثر من أربعة أعوام على تقديس الناس له؟!.


الصفحة 258
وهل يستطيع أحمد أمين أن يذكر لنا خطأ واحداً، ارتكبه الإمام علي (عليه السلام)، طيلة فترة حكمه؟! رغم أن معاوية وسواه، ممن كانوا معادين للإمام (عليه السلام)، ما كانوا يألون جهداً في الصاق التهم به، والافتراء عليه؟!.

وأما عن الإمام الرضا (عليه السلام):

فمتى كان مستوراً عن الناس، بعيداً عنهم؟!.

وهل تتفق دعواه باستتار الأئمة ـ والرضا منهم ـ عن الناس، مع ما اعترف به المأمون نفسه للإمام الرضا (عليه السلام)، فيما كتبه بخط يده في وثيقة العهد، حيث يقول: «.. وقد استبان له [أي للمأمون] ما لم تزل الأخبار عليه متواطية، والألسن عليه متفقة، والكلمة فيه جامعة، ولما لم يزل يعرفه به من الفضل: يافعاً، وناشئاً، وحدثاً، ومكتهلاً الخ.».

فهل يعقل: أن إنساناً من هذا النوع يكون مستتراً عن الناس، بعيداً عنهم، ولا يعيش فيما بينهم، منذ حداثة سنه إلى أوان اكتهاله؟!.

ومع ذلك.. فأي خطأ يستطيع أحمد أمين، أن يسجله على الإمام الرضا (عليه السلام) طيلة الفترة التي عاشها مع المأمون، رغم محاولاته الجادة ـ وهو الحاكم المطلق ـ من أجل أن يضع من الإمام (عليه السلام) قليلاً قليلاً، ويصوره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر، على حد تعبير نفس المأمون؟!.

وهل لم يقرأ أحمد أمين أقوال كبار علماء أهل السنة. وأئمتهم، وتصريحاتهم الكثيرة جداً حول أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، والإمام الرضا منهم بالذات، ليعرف مقدار عظمتهم، وطهارتهم، ونزاهتهم التي لا يشك، ولا يرتاب، ولا يناقش فيها أحد؟!.


الصفحة 259
وأخيراً.. هل زال ذلك التقديس عن الإمام الرضا، عندما ظهر للناس؟! أم أن الأمر كان على عكس ذلك تماماً؟!.

هذه بعض الأسئلة التي نوجهها للأستاذ: «أحمد أمين»، ولكل من يرى رأيه، ويذهب مذهبه،. وإننا لعلى يقين من أنها سوف لن تجد لدى هؤلاء الجواب المقنع والمفيد.. وإنما ستواجه عنتاً وعناداً صاعقين، يبتزان منهم كل غريبة، ويظهران الكثير الكثير من الترهات العجيبة.. ولكن ليطمئن بالهم، وتهدأ ثائرتهم، فإننا سوف لن نستغرب عليهم مثل هذه الترهات، ولن نعجب لمثل تلك الافتراءات، فما تلك إلا: «شنشنة أعرفها من أخزم».

رأي غريب آخر في البيعة:

هذا.. ويرى بعض المؤلفين: أن المأمون كان في بيعته للرضا (عليه السلام) واقعاً تحت تأثير القوات المسلحة، وأنها هي التي أجبرته على ذلك، حيث كان القسم الكبير من قوادها، وزعماء فرقها يميلون إلى العلويين، وقد شرطوا عليه: أنهم لا يفتحون نار الحرب ضد الأمين إلا إذا جعل الرضا ولي عهده، فأجابهم إلى ذلك(1).

وأقول: ليت هذا المؤلف ذكر لنا اسم ذلك المؤرخ، الذي نقل له هذا الاشتراط من أولئك القواد على المأمون، والذي تنافيه تصريحات المأمون نفسه، وسلوكه مع الإمام (عليه السلام)، حتى قبل أن يصل إلى مرو، وكذلك سائر مواقفه معه، والتي تكشف عن حقيقة دوافعه ونواياه إلى آخر ما هنالك مما قدمنا وسيأتي شطر منه.

____________

(1) هذا ما ذكره الشيخ القرشي في كتابه: حياة الإمام موسى بن جعفر ج 2 ص 387.


الصفحة 260
وأحسب أن هذا المؤلف يشير بما ذكره هنا إلى ما ذكره جرجي زيدان في روايته: «الأمين والمأمون» ص 203، طبع دار الأندلس، فقد ذكر أن الفضل بن سهل قد اشترط على المأمون ذلك. واحتمل ذلك أيضاً في كتابه: تاريخ التمدن الإسلامي، المجلد الثاني جزء 4 ص 439. وكأن مؤلفنا يريد أن يقول: إن المأمون كان مضطراً إلى إجابتهم: إما خوفاً من انتفاضتهم عليه، أو رغبة في القضاء على أخيه الأمين، أو للسببين معاً.. ولكن هذا الاشتراط كما قلنا، ليس له أي سند تاريخي يدعمه، بل الشواهد التاريخية كلها على خلافه، سيما ونحن نرى الفضل بن سهل وأخوه يمانعان في عقد البيعة للرضا. وما ذكره «زيدان» لا يصلح شاهداً تاريخياً، بعد أن كان روائياً، لا يلتزم بالحقائق التاريخية. وبعد أن لاحظنا: أنه يعتمد التضليل في كتابه: تاريخ التمدن الإسلامي.

وأحسب أن هذا هو عين الاتهام الموجه للفضل بن سهل في أمر البيعة، بأنه هو المدبر لها، والقائم بها. لكنه صيغ بنحو آخر فيه الكثير من الايهام والإبهام.

وفريق آخر يرى:

وهناك بعض الباحثين يرى: أن من جملة الأسباب الهامة للبيعة: هو أن المأمون أراد أن يحذر العباسيين من مغبة المخالفة له، والاستمرار في گلك. وأن يرغمهم، ويدفعهم إلى الوقوف إلى جانبه، بدافع من خوفهم من انتقال الخلافة عنهم إلى خصومهم العلويين. وأن ينتقم منهم بسبب خلعهم له من ولاية العهد، وتأييدهم أخاه الأمين عليه، وتشجيعهم له

الصفحة 261
ضده. كما أنه يكون بذلك قد جمع المزيد من المؤيدين له، ليستطيع مقابلتهم، والوقوف في وجههم، وينتقم منهم(1).

ولكنه رأي لا تمكن المساعدة عليه:

لأن منطق الأحداث، وواقع ظروف المأمون يأبيان كل الإباء أن يكون هذا سبباً منطقياً للبيعة.. وقد قدمنا في الفصلين السابقين البيان الكافي والوافي لما يتعلق بهذا الموضوع. هذا بالإضافة إلى أن ذلك لا يتلائم مع ما هو معروف عن المأمون، من الدهاء والسياسة، وهل يمكن أن يقدم المأمون على خلق وإثارة مشاكل هو في غنى عنها؟ وعلى الأخص في تلك الفترة من الزمن، التي كانت طافحة بالمشاكل، وكان العصيان فيها معلناً في أكثر مناطق الدولة، ومهددا به من كل جانب ومكان؟!.

إن الحقيقة هي:

أن المأمون في تلك الفترة بالذات، وكان بحاجة إلى أن يكتسب ثقة وحب أي إنسان كان. فضلاً عن ثقة وحب أهل بيته، وعشيرته: العباسيين.

ثم.. وهل يمكن أن يلجأ المأمون للانتقام منهم، إلى هذا الأسلوب بالعاجز، بعد أن خضعوا له وانقادوا لأمره، وسلموا بالأمر الواقع، بعد مقتل الأمين؟!

ولماذا لا يقدر: أنهم سوف يقابلونه بالمثل، ويقومون في وجهه، ثأراً لكرامتهم، ودفاعاً عن وجودهم؟!.

ولماذا يعطيهم الفرصة لإبراز عضلاتهم ضده، ويجعلهم يفكرون في

____________

(1) الصلة بين التصوف والتشيع ص 219، والإمام الصادق والمذاهب الأربعة ج 2 جزء 4 ص 492، والتربية الدينية للفضلي ص 100، الطبعة الخامسة، وغير ذلك.


الصفحة 262
تحدي سلطته، وهتك حرمته؟!. حيث رأيناهم قد خلعوا المأمون، بسبب بيعته للإمام (عليه السلام)، وبايعوا لإبراهيم بن المهدي، في أواخر ذي الحجة، من نفس السنة التي بويع فيها للإمام (عليه السلام) بولاية العهد.

وأخيراً.. ألم يكن باستطاعة المأمون أن يصفي حساباته مع خصومه الضعفاء جداً، الذين كاد يلتهمهم المد العلوي ويقضي عليهم، بأساليب أخرى، أقل إثارة، وأشد نكاية؟!.

ولقد أشرنا، ولسوف نشير إلى ما قاله المأمون لحميد بن مهران، وجمع من العباسيين. بل ويكفينا هنا: أن نلقي نظرة على ما قاله المأمون للعباسيين في كتابه المعروف لهم، يقول المأمون: «.. فإن تزعموا أني أردت أن يؤول إليهم [يعني للعلويين] عاقبة ومنفعة، فإني في تدبيركم، والنظر لكم، ولعقبكم، وأبنائكم من بعدكم..» وكذلك ما كتبه بخط يده في وثيقة العهد..

إلى آخر ما هنالك مما لا مجال لنا هنا لتتبعه..

فتلخص أن ما ذكر هنا، لا يمكن أن ينسجم مع ما يقال عن حنكة المأمون، ودهائه السياسي.

الفضل في قفص الاتهام:

وأخيراً.. فإن بعض المؤلفين، كأحمد أمين في كلامه المتقدم، وجرجي زيدان(1) وأحمد شلبي(2)، وغيرهم. وبعض المؤرخين كابن الأثير في الكامل، طبعة ثالثة ج 5 ص 123، وابن الطقطقي في:

____________

(1) تاريخ التمدن الإسلامي، المجلد الثاني جزء 4 ص 439.

(2) التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية ج 3 ص 320.


الصفحة 263
الفخري في الآداب السلطانية ص 217، وغيرهما.. يرون أن الفضل بن سهل كان العامل الرئيسي في لعبة «ولاية العهد» هذه، وأن المأمون كان في ذلك واقعا تحت تأثير الفضل، الذي كان يتشيع.

ويرى آخر: أن سبب إشارة الفضل على المأمون بذلك، هو أنه أراد أن يمحو ما كان من أمر الرشيد في العلويين(1).

الفضل بريء من كل ما نسب إليه:

أما نحن فإننا بدورنا نستطيع أن نؤكد على ما يلي: إن ما بأيدينا من النصوص التاريخية يأبى عن نسبة التشيع للفضل، بل وحتى عن نسبة إشارته على المأمون بهذا الأمر، فضلاً عن كونه المدبر له، والقائم به.. اللهم إلا أن تكون مؤامرة اشترك الرجلان معاً في وضع خطوطها العريضة، آخذان في اعتبارهما ظروفهما، ومصالحهما الشخصية، ليس إلا..

بل إن بعض النصوص تفيد أن الفضل كان عدواً للإمام (عليه السلام)، حيث إنه كان من صنائع البرامكة(2)، أعداء أهل البيت (عليهم السلام). وأنه لم يكن حتى راغباً في البيعة للرضا (عليه السلام)، وأنه وأخاه قد مانعاً في عقد العهد للرضا(3)، فكيف يكون هو المشير على المأمون بالبيعة له.. بل لم يكن

____________

(1) البحار 49 ص 132، وعيون أخبار الرضا ص 147، نقلاً عن: البيهقي عن الصولي.

(2) البحار ج 49 ص 143، 113، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 166، و ص 226 (3) مقاتل الطالبيين ص 562، والفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص 270، ونور الأبصار للشبلنجي ص 142، وكشف الغمة ج 3 ص 66، وروضة الواعظين ج 1 ص 269، والبحار ج 49، ص 145، وإرشاد المفيد ص 310، 311، وغير ذلك.


الصفحة 264
يعلم أن المأمون يريد عقد البيعة له إلا بعد وصوله إلى خراسان وإحضار المأمون له، وإعلامه بأنه يريد عقد البيعة له على ما في مقاتل الطالبيين ص 562 والطبري وغيرهما. وإن كان ربما يناقش في ذلك بمنافاته لرسالة الفضل التي أرسلها إلى الإمام وهو في المدينة والتي أوردها الرافعي في التدوين.

وذلك ما يقوي أنه كان متآمرا على الإمام مع المأمون كما نصت عليه تلك الرسالة بأن ذلك عن اتفاق بينه وبين المأمون فراجعها.

ولو أنه كان ممن يتشيع للإمام (عليه السلام)، فكيف يمكن أن يتآمر عليه، ويحاول أن يجعل للمأمون ذريعة للإقدام على التخلص منه (عليه السلام)، وذلك عندما ذهب إلى الرضا، وحلف له بأغلظ الأيمان، ثم عرض عليه قتل المأمون، وجعل الأمر إليه.(1) لكن الإمام بسبب وعيه وتيقظه قد ضيع عليه وعلى سيده هذه الفرصة، حيث أدرك للتو أنها دسيسة ومؤامرة، فزجر الفضل وطرده، ثم دخل من فوره على المأمون، وأخبره بما كان من الفضل، وأوصاه أن لا يأمن له.

وبذلك يكون الإمام (عليه السلام) قد ضيع على المأمون والفضل فرصة تنظيم اتهام له بما لم يكن. وعاد الفضل من مهمته تلك بخفي حنين، يجر هو وسيده أذيال الخيبة، والخزي، والخسران.

أما إذا كان الفضل قد أقدم على ذلك من دون علم المأمون ـ كما

____________

(1) وإن كنا لا نستبعد أن يكون قد أقدم على ذلك من دون علم المأمون، وبدافع من حقده الدفين على الإمام (عليه السلام)، وحسده له، يريد بذلك تمهيد السبيل لقتله ليخلو له الجو، وليفعل من ثم ما يشاء وحسبما يريد.


الصفحة 265
هو غير بعيد ـ فليس ذلك إلا بدافع من حقده الدفين على الإمام (عليه السلام)، وحسده له، يريد بذلك تمهيد الطريق لمقتله، ليخلو له الجو، وليفعل من ثم ما يشاء، وحسبما يريد.

وأياً ما كانت الحقيقة، فإن النتيجة ليست سوى الخزي والعار، والخيبة القاتلة بالنسبة للفضل في هذه القضية.

ويا ليته كان قد قنع بذلك.. ولكنه استمر في تحريض المأمون على التخلص من الإمام (عليه السلام) حتى إن بعض المؤرخين يرى: أن المأمون لم يقتل الإمام إلا بتحريض من الفضل بن سهل!!.

وبعد.. فهل يمكن أن تنسجم دعوى تشيعه مع إشارته على المأمون بإرجاع الإمام عن صلاة العيد، وذلك حتى لا تخرج الخلافة منه؟!. كما سنشير إليه إن شاء الله.

وأيضاً.. مع إظهاره العداوة الشديدة للإمام (عليه السلام) وحسده له على ما كان المأمون يفضله به، على حد تعبير الريان بن الصلت؟!(1).

وكذلك مع اصطناعه هشام بن إبراهيم الراشدي. وجعله عيناً للمأمون على الإمام، ينقل إليه حركاته وسكناته، ويمنع الناس من الوصول إليه حسبما تقدم؟!.

ولو أن الفضل كان ممن يتشيع للإمام، لكان يجب أن يعد من أعظم البلهاء، إذ كيف لا يلتفت لأمر المأمون المؤكد لرسله: أن لا يمروا بالإمام عن طريق الكوفة وقم، لئلا يفتتن به الناس. ثم إلى تهديداته له بالقتل، إن لم يقبل ما يعرضه عليه، ثم إلى جلبه العلماء والمتكلمين

____________

(1) مسند الإمام الرضا ج 1 ص 78، والبحار ج 49 ص 139. وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 153.


الصفحة 266
من أقاصي البلاد، من أجل إفحام الإمام. وإظهار جهله وعجزه، إلى آخر ما هنالك، من صفحات تاريخ المأمون السوداء.

ثم نرى أنه هو بنفسه يشارك في ذلك كله، وسواه، ويعمل من أجله حتى لقد شارك في التهديد للإمام، إن لم يقبل ما يعرضه عليه المأمون..

وإذا كان نفوذه قد بلغ حدا يجعل المأمون ينازل عن عرشه ـ الذي قتل من أجله أخاه ـ لرجل غريب، فلماذا لا يعمل هذا النفوذ من أجل أن يمنع المأمون عن ذلك السلوك اللاإنساني، الذي انتهجه مع الإمام، ابتداء من حين وجود الإمام في المدينة، وإلى آخر لحظة عاشها معه، وبعد ذلك إلى ما شاء الله.

هذا كله من جهة.

موقف الإمام من الفضل ينفي نسبة التشيع له:

ومن جهة ثانية.. لو كان للفضل فضل في مسألة البيعة للإمام (عليه السلام)، أو كان ممن يتشيع له، لم يكن من اللائق من الرضا (عليه السلام) أن يخبر المأمون بما عرضه عليه الفضل من قتل المأمون، وجعل الأمر إليه. ولا من المناسب أن يوصيه بأن لا يأمن له، ويخبره بغشه وكذبه، وأنه يخفي عنه حقيقة ما يجري في بغداد، وغيرها(1).

ولا من اللائق منه أيضاً: أن يعامله تلك المعاملة، التي لا يعامل بها المحبون المخلصون. والتي كان فيها الكثير من الخشونة، والاحتقار والامتهان، فقد قدمنا أنه عندما ذهب إليه الفضل يطلب منه كتاب

____________

(1) تاريخ الطبري، طبع ليدن ج 11 ص 1025.


الصفحة 267
الأمان، لم يسأله عن حاجته إلا بعد ساعة من وقوفه، ثم أمره بقراءة الكتاب، فقرأه ـ وكان كتاباً في أكبر جلد ـ وهو واقف، لم يأذن له بالجلوس.

وكذلك لم يكن من اللائق منه: أن يزري عليه عند المأمون، فقد ذكر المؤرخون: أنه «.. كان يذكر ابني سهل عند المأمون، ويزري عليهما، مما دفعهما إلى السعاية به، وكان يوصيه أن لا يأمن لهما»(1).

إلى آخر ما هنالك مما لا يصدر في حق أي إنسان عادي آخر في حق من يتشيع له، فضلاً عمن يتسبب في جعله ولياً لعهد الخلافة الإسلامية للأمة بأسرها.

والمأمون نفسه يستنكر ذلك:

ومن جهة ثالثة.. فقد كفانا المأمون نفسه مؤونة الحديث عن دور الفضل بن سهل في هذه القضية.. ولا شك أن «عند جهينة الخبر اليقين».

فقد قدمنا في الفصل السابق: أن الريان بن الصلت ـ وكان من رجال الحسن بن سهل(2)! ـ عندما رأى أن القواد والعامة قد أكثروا في بيعة الرضا، وأنهم يقولون: «إن هذا من تدبير الفضل». قال للمأمون ذلك، فأجابه المأمون: «.. ويحك يا ريان! أيجسر أحد أن يجيء إلى خليفة قد استقامت له الرعية، والقواد، واستوت الخلافة، فيقول

____________

(1) مقاتل الطالبيين ص 565، 566، وإعلام الورى ص 325، وكشف الغمة ج 3 ص 71، وروضة الواعظين ج 1 ص 276، والبحار ج 49، وإرشاد المفيد، وأعيان الشيعة، وغير ذلك.

(2) صرح بأنه من رجاله في كتاب: البحار ج 49 ص 133، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 149.