الصفحة 356

1 ـ الأثر العاطفي، والقاعدة الشعبية:

فنلاحظ: أننا حتى بعد مرور اثني عشر قرنا على هذه الواقعة، لا نملك أنفسنا ونحن نقرأ وقائعها، من الانفعال والتأثر بها، فكيف إذن كانت حال أولئك الذين قدر لهم أن يشهدوا ذلك الموقف العظيم؟!.

وغني عن البيان هنا: أن شأن هذه الواقعة هو شأن واقعة نيشابور، من حيث دلالتها دلالة قاطعة على كل ما كان للرضا من عظمة وتقدير في نفوس الناس وقلوبهم، وعلى مدى اتساع القاعدة الشعبية له (عليه السلام)..

2 ـ لماذا يجازف المأمون بإرجاعه (عليه السلام):

وإذا كان هدف المأمون من الاصرار على الإمام بأن يصلي بالناس هو أن يخدع الخراسانيين والجند والشاكرية، ويجعلهم يطمئنون على دولته المباركة فإنه من الواضح أيضاً أن إرجاع المأمون للإمام (عليه السلام) في مثل تلك الحالة، وذلك التجمع الهائل، وتلك الثورة العاطفية في النفوس، كان ينطوي على مجازفة ومخاطرة لم تكن لتخفى على المأمون، وأشياعه، حيث لا بد وأن يثير تصرفه هذا حنق تلك الجماهير التي كانت في قمة الهيجان العاطفي، ويؤكد كراهيتها له.. وعلى الأقل لن تكون مرتاحة لتصرفه هذا على كل حال.

وبعد هذا.. فإنه إذا كان المأمون يخشى من مجرد إقامة الإمام للصلاة.. فلا معنى لأن يلح عليه هو بقبولها.. وكذلك لا معنى لأن يخشى ذلك الهيجان العاطفي، وتلك الحالة الروحية، التي أثارها فعل الإمام (عليه السلام) وتصرفه في هذا الموقف.. فذلك إذن ما لم يكن يخافه ويخشاه.. فمن أي شيء خاف المأمون إذن؟! إنه كان يخشى ما هو أعظم

الصفحة 357
وأبعد أثراً، وأشد خطراً.. إنه خشي من أن الرضا إذا ما صعد المنبر، وخطب الناس، بعد أن هيأهم نفسيا، وأثارهم عاطفيا إلى هذا الحد ـ خشي ـ أن يأتي بمتمم لكلامه الذي أورده في نيشابور: «وأنا من شروطها..» وأنه ظهر إليهم على الهيئة التي كان يخرج عليها النبي محمد (صلى الله عليه وآله)، ووصيه علي (عليه السلام) وهو أمر جديد عليهم.. ما من شأنه أن يجعل المأمون وأشياعه لا يأمنون بعد على أنفسهم، كما ذكر الفضل بن سهل.. ولسوف يحول الإمام مرواً من معقل للعباسيين والمأمون، وعاصمة، وحصن قوي لهم ضد أعدائهم ـ من العرب وغيرهم ـ سوف يحولها إلى حصن لأعداء العباسيين والمأمون، حصن لأئمة أهل البيت. ففضل المأمون: أن يختار إرجاعه (عليه السلام) عن الصلاة، لأنه رأى أن ذلك هو أهون الشرين، وأقل الضررين..

ولقد جرب المأمون الرضا أكثر من مرة، وأصبح يعرف أنه مستعد لأن يعلن رأيه صراحة في أي موقف تؤاتيه فيه الفرصة، ويقتضي الأمر فيه ذلك. ولم ينس بعد موقفه في نيشابور، ولا ما كتبه في وثيقة العهد، ولا غير ذلك من مواقفه (عليه السلام) وتصريحاته في مختلف الأحوال والظروف..

الموقف الحادي عشر:

وأخيراً.. فقد كان سلوك الإمام (عليه السلام) العام، سواء بعد عقد ولاية العهد له، أو قبلها. يمثل ضربة لكل خطط المأمون ومؤامراته، ذلك السلوك المثالي، الذي لم يتأثر بزبارج الحكم وبهارجه..

ويكفي أن نذكر هنا ما وضعه به إبراهيم بن العباس، كاتب القوم وعاملهم، حيث قال: «ما رأيت أبا الحسن جفا أحداً بكلامه قط، وما رأيته قطع على

الصفحة 358
أحد كلامه حتى يفرغ منه. وما رد أحداً عن حاجة يقدر عليها، ولا مد رجليه بين يدي جليس له قط. ولا اتكأ بن يدي جليس له قط، ولا شتم أحداً من مواليه ومماليكه قط، ولا رأيته تفل قط، ولا رأيته يقهقه في ضحكه قط، بل كان ضحكه التبسم. وكان إذا خلا، ونصبت مائدته أجلس معه على مائدته مماليكه، حتى البواب والسائس.

وكان قليل النوم بالليل، يحيى أكثر لياليه من أولها إلى الصبح. وكان كثير الصيام، فلا يفوته صيام ثلاثة أيام في الشهر، ويقول: ذلك صوم الدهر. وكان كثير المعروف والصدقة في السر، وأكثر ذلك يكون منه في الليالي المظلمة، فمن زعم أنه رأى مثله في فضله، فلا تصدقوه..»(1).

وهذه الصفات بلا شك قد أسهمت إسهاماً كبيراً في أن يكون الإمام (عليه السلام) هو الأرضى في الخاصة والعامة، وأن تنفذ كتبه في المشرق والمغرب، إلى غير ذلك مما تقدم..

الحكم ليس امتيازاً وإنما هو مسؤولية:

وقد اعترض عليه بعض أصحابه، عندما رآه يأكل مع خدمه وغلمانه، حتى البواب والسائس، فأجابه (عليه السلام): «مه، إن الرب تبارك وتعالى واحد، والأم واحدة، والأب واحد، والجزاء بالأعمال..»(2).

وقال له أحدهم: أنت والله خير الناس، فقال له الإمام: «لا تحلف يا هذا، خير مني من كان أتقى لله تعالى. وأطوع له، والله ما

____________

(1) كلام إبراهيم بن العباس هذا معروف ومشهور، تجده في كثير من كتب التاريخ والرواية، ولذا فلا نرى أننا بحاجة إلى تعداد مصادره.

(2) البحار ج 49 ص 101، والكافي الكليني، ومسند الإمام الرضا ج 1 قسم 1 ص 46.


الصفحة 359
نسخت هذه الآية:(وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم..)(1).

وقال لإبراهيم العباسي: إنه لا يرى أن قرابته من رسول الله (صلى الله عليه وآله) تجعله خيراً من عبد أسود، إلا أن يكون له عمل صالح فيفضله به(2).

وقال رجل له: ما على وجه الأرض أشرف منك آباء. فقال: التقوى شرفهم، وطاعة الله أحظتهم(3).

وما نريد أن نشير إليه ونؤكد عليه هنا، هو أنه (عليه السلام) يريد بذلك أن يفهم الملأ: أن الحكم لا يعطي للشخص ـ من كان، ومهما كان ـ امتيازاً، ولا يجعل له من الحقوق ما ليس لغيره، وإنما الامتياز ـ فقط ـ بالتقوى والفضائل الأخلاقية.. وكل شخص حتى الحاكم سوف يلقى جزاء أعماله: إن خيراً فخير، وإن شرا فشر، وعليه فما يراه الناس من سلوك الحكام، ليس هو السلوك الذي يريده الله، وتحكم به النواميس الأخلاقية، والإنسانية. والامتيازات التي يجعلونها لأنفسهم، ويستبيحون بها ما ليس من حقهم لا يقرها شرع، ولا يحكم بها قانون..

وبكلمة مختصرة: إن الإمام (عليه السلام) يرى: أن الحكم ليس امتيازاً، وإنما هو مسؤولية.

وعلى كل حال.. فإن سلوك الإمام (عليه السلام)، لخير دليل على ما كان يتمتع به من المزايا الأخلاقية، والفضائل النفسية.. ويكفي أنه لم يظهر منه (عليه السلام) طيلة الفترة التي عاشها في الحكم إلا ما ازداد به فضلاً بينهم، ومحلاً في نفوسهم، على حد تعبير أبي الصلت. وعلى حد تعبير شخص

____________

(1) عيون أخبار الرضا ج 2 ص 236، ومسند الإمام الرضا ج 1 قسم 1 ص 46.

(2) عيون أخبار الرضا ج 2 ص 237.

(3) عيون أخبار الرضا ج 2 ص 236. ومسند الإمام الرضا ج 1 قسم 1 ص 46.


الصفحة 360
آخر: أقام بينهم لا يشركهم في مأثم من مآثم الحكم.. بل لقد كان لوجوده أثر كبير في تصحيح جملة من الأخطاء والانحرافات التي اعتادها الحكام آنئذٍ.. حتى لقد استطاع أن يؤثر على نفس المأمون، ويمنعه من الشراب والغناء، طيلة الفترة التي عاشها معه، إلى آخر ما هنالك، مما لسنا هنا في صدد تتبعه واستقصائه.

وفي نهاية المطاف نقول:

وحسبنا هنا ما ذكرنا من الأمثلة، التي نحسب أنها تكفي لأن تلقي ضوءاً كاشفاً على الخطة التي اتبعها الإمام (عليه السلام) في مواجهة خطط المأمون ومؤامراته.. تلك الخطة التي كانت تكفي لأن لا تبقى الصورة التي أرادها المأمون في أذهان الناس، ولا مبرر للشكوك لأن تبقى تراود نفوسهم.

ولقد نجحت تلك الخطة نجاحا أذهل المأمون، وأعوانه، وجعلهم يتصرفون بلا روية، ويقعون بالمتناقضات.. حتى لقد أشرف المأمون منه على الهلاك. حسبما صرح به المأمون نفسه. وكانت النتيجة أن دبر فيه المأمون بما يحسم عنه مواد بلائه، كما وعد حميد بن مهران، وجماعة من العباسيين.


الصفحة 361


القسم الرابع


من خلال الأحداث



1 ـ مع بعض خطط المأمون..

2 ـ كاد المريب أن يقول خذوني.

3 ـ ما يقال حول وفاة الإمام..

4 ـ دعبل والمأمون.

5 ـ كلمة ختامية.


الصفحة 362

الصفحة 363

مع بعض خطط المأمون

التوجيهات الراضية غير مقبولة:

كل ما تقدم يلقي لنا ضوءاً على بعض نوايا المأمون مع الإمام (عليه السلام)، وعلى كثير من الأحداث التي اكتنفت ذلك الحدث التاريخي الهام.

وإننا حتى لو سلمنا جدلاً، وغضضنا النظر عن كل تلك الأسئلة، وعلامات الاستفهام التي يمكن استخلاصها مما تقدم.. فإننا لا نستطيع ـ مع ذلك ـ أن نعتبر البيعة صادرة عن حسن نية، وسلامة طوية.

ولا أن نقبل بالتوجيهات الراضية عن تصرفاته، طيلة فترة ولاية العهد، وبعدها تجاه الإمام، الذي كان يكبر المأمون ب‍ «22» سنة، والذي كان مجبراً على قبول هذا الأمر، ومهددا بالقتل إن لم يقبل. ولم يتركه وشأنه ما دام أنه لا يريد أن يتقلد هذا الشرف الذي تتهافت النفوس عليه، وتزهق الأرواح من أجله.

نعم.. إننا لا نستطيع أن نسلم بذلك، ونحن نرى منه تلك التصرفات والمواقف المشبوهة، بل والمفضوحة تجاه الإمام (عليه السلام)، والتي لا تبقي مجالاً للشك في حقيقة نواياه وأهدافه من كل ما أقدم وما كان عاقداً العزم على الإقدام عليه..


الصفحة 364
وهذا الفصل معقود للحديث عن بعض تلك التصرفات، ومن أجل بيان تلك الخطط.

المأمون يفضح نفسه:

وقد تعجب إذا قلنا لك: إن المأمون نفسه يصرح ببعض خططه، التي كانت تصرفاته تدور في فلكها، ويعلن بعض الدوافع، ويبوح ببعض النوايا تجاه الإمام، وبالنسبة لقضية ولاية العهد فإليك ما أجاب به حميد بن مهران، وجمعاً من العباسيين، عندما عاتبوه ولاموه على ما أقدم عليه، من البيعة للرضا (عليه السلام) يقول المأمون:

«.. قد كان هذا الرجل مستتراً عنا، يدعو إلى نفسه، فأردنا أن نجعله ولي عهدنا، ليكون دعاؤه لنا، وليعترف بالملك والخلافة لنا، وليعتقد فيه المفتونون به بأنه ليس مما ادعى في قليل ولا كثير، وأن هذا الأمر لنا دونه.

وقد خشينا إن تركناه على تلك الحال: أن ينفتق علينا منه ما لا نسده، ويأتي علينا ما لا نطيقه..

والآن.. فإذ قد فعلنا به ما فعلنا، وأخطأنا في أمره بما أخطأنا. وأشرفنا من الهلاك بالتنويه باسمه على ما أشرفنا، فليس يجوز التهاون في أمره. ولكننا نحتاج إلى أن نضع منه قليلاً، قليلاً، حتى نصوره عند الرعية بصورة من لا يستحق هذا الأمر، ثم ندبر فيه بما يحسم عنا مواد بلائه..».

ثم طلب منه حميد بن مهران: أن يسمح له بمجادلة الإمام (عليه السلام)، ليفحمه، وينزله منزلته، ويبين للناس قصوره، وعجزه، فقال المأمون: «لا شيء أحب إلي من هذا».


الصفحة 365
ثم كانت النتيجة عكس ما كان يتوقعه المأمون والعباسيون، وأشياعهم وباءوا كلهم بالفشل الذريع، والخيبة القاتلة(1).

والذي يعنينا الحديث عنه هنا:

هو قوله: وقد خشينا إن تركناه على تلك الحال.. إلى آخر ما نقلناه عنه آنفاً، فإنها أوضحت أن المأمون الذي كان يخشى الإمام خشية شديدة، كان يخطط أولاً إلى أخذ زمام المبادرة من الإمام، وتحاشي الاصطدام معه ثم كان يخطط بعد ذلك إلى الوضع منه (عليه السلام) قليلاً قليلاً إلى آخر ما تقدم..

ولا يرد: أن كلام المأمون مع حميد بن مهران ظاهره: أنه لم يكن يريد في بادئ الأمر الحط من الإمام (عليه السلام)، وإنما بدا له ذلك حين قوي مركز الإمام (عليه السلام)، واستحكم أمره.. لا يرد ذلك..

لأن كلامه هذا لا ينفي أنه كان يريد من أول الأمر ذلك. بل هو يؤكد ذلك. لأنه يصرح فيه: أنه إنما قدم على ما أقدم عليه، عندما رأى افتتان الناس به (عليه السلام)، فأراد أن يعمل عملا يفقد الإمام (عليه السلام) مركزه، ويقضي على كل نشاطاته، ويذهب بماله من القدرة والنفوذ نهائياً، وإلى الأبد.

ولقد تحدثنا فيما سبق عن بعض تصرفاته التي تدور في فلك خطط تلك مثل: فرضه للرقابة على الإمام (عليه السلام)، والتضييق عليه، فلا يصل إليه إلا من أحب، وعزله عن شيعته ومواليه، وأيضاً تفريقه الناس عنه، عندما أخبر أنه يقوم بمهمة التدريس، وكذلك قضية صلاة العيد، وغير ذلك ما تقدم.

____________

(1) راجع: شرح ميمية أبي فراس ص 196، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 170، والبحار ج 49 ص 183، ومسند الإمام الرضا ج 2 ص 96.


الصفحة 366
نزيد هنا بعض الأمور الأخرى، التي وإن كان قد سبق الحديث عن بعضها، ولكنه كان حديثا من زاوية أخرى، ومن أجل استفادة أمور غير الأمور التي نحاول استفادتها منها هنا. وذلك أمر طبيعي، ولا يكون تكراراً ما دام أن الواقعة الواحدة قد يكون لها دلالات متعددة، وإفادات مختلفة.. ولذا فإننا نقول:

لماذا على البصرة فالأهواز:

إن من جملة الأمور التي كانت من جملة خطط المأمون للتأثير على مكانة الإمام (عليه السلام) وحتى على معنوياته النفسية.. الطريق الذي أمر رجاء ابن أبي الضحاك(1) قرابة الفضل بن سهل، والذي كان من قواد المأمون، وولاته ـ أمره ـ بسلوكه، عندما أرسله ليأتي بالإمام (عليه السلام) من المدينة إلى مرو مهما كلفه الأمر..

فقد أمره: أن يجعل طريقه بالإمام «على البصرة، والأهواز، ففارس. وحذره كثيراً من المرور على طريق الكوفة، والجبل، وقم»(2).

____________

(1) وذكر أبو الفرج، والمفيد: أن المرسل هو الجلودي، ولكن الصحيح هو الذي ذكرناه.. إذ من الخطأ أن يرسله المأمون لإحضار الرضا (عليه السلام)، لأن ذلك يضر بقضيته، ويفسد عليه ما كان دبره، لأنه موجب لسوء ظن الرضا (عليه السلام)، والعلويين، وسائر الناس، وتنبههم مبكرا لحقيقة الأمر، وواقع القضية.

وذلك لأن الجلودي هو الذي أمره الرشيد: أن يغير على دور آل أبي طالب، ويسلب نساءهم إلخ ما تقدم.. كما أنه كان عدواً متجاهراً للإمام (عليه السلام)، وقد سجنه المأمون بسبب معارضته للبيعة للرضا (عليه السلام) بولاية العهد! ولعل سر خطأهم هو أن الجلودي كان والياً على المدينة من قبل المأمون، حين استقدام المأمون للإمام إلى مرو، حسبما جاء في كتاب: الإمام الرضا ولي عهد المأمون ص 35.

(2) تهذيب التهذيب ج 7 ص 387، وتاريخ اليعقوبي ج 3 ص 176، وينابيع المودة ص 384، والخرائج والجرائح طبعة حجرية ص 236. وإثبات الوصية ص 205.

=>


الصفحة 367
بل لقد ورد: أن المأمون قد كتب إلى الرضا نفسه، يقول له: «لا تأخذ على طريق الجبل وقم. وخذ على طريق البصرة، فالأهواز، ففارس..»(1).

وسر ذلك واضح، فإن أهل الكوفة، وقم، كانوا معروفين بالتشيع للعلويين(2) وأهل البيت، ومرور الإمام (عليه السلام) من هذين البلدين، وخصوصاً الكوفة، التي كانت تعتبر من المراكز الحساسة جداً في الدولة.. سوف

____________

<=

وإعلام الورى ص 320، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 149، 180، والكافي ج 1 ص 486، ومسند الإمام الرضا ج 1 ص 40 والبحار ج 49 ص 91، 92 118 و 134، وكشف الغمة ج 3 ص 65، وغير ذلك كثير.

(1) أصول الكافي ج 1 ص 489، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 149 و 180، وشرح ميمية أبي فراس ص 165، ومعادن الحكمة ص 180، وإثبات الوصية للمسعودي ص 204، ومسند الإمام الرضا ج 1 ص 73، والبحار ج 49 ص 134.

(2) تشيع أهل الكوفة وقم أشهر من أن يحتاج إلى بيان، أو إقامة برهان.. لكننا نورد ـ مع ذلك ـ بعض الشواهد، تبصرة للقارئ، فنقول: أما الكوفة: فقد تقدم قول محمد بن علي العباسي أنها وسوادها شيعة علي وولده.. وفي الطبري، وابن الأثير، وغيرهما تجد قول عبد الله بن علي للمنصور، عندما استشاره في أمر محمد بن عبد الله بن الحسن: «.. ارتحل الساعة حتى تأتي الكوفة، فاجثم على أكتافهم، فإنهم شيعة أهل هذا البيت، وأنصاره الخ»، وفي قضية وفاة السيد الحميري، التي ذكرها المرزباني في كتابه أخبار السيد الحميري دلالة واضحة على تشيع الكوفيين، وانحراف البصريين..

ولأجل ذلك نرى المأمون يستقبل وفدا من أهل الكوفة في منتهى الغلظة والجفاء، فراجع مروج الذهب ج 3 ص 421. وفي البداية والنهاية ج 10 ص 93: أن المنصور قد اعترف بأن لإبراهيم بن عبد الله بن الحسن في الكوفة مئة ألف سيف مغمدة، وأعرب عن مخاوفه من تشيع أهل الكوفة للعلويين، وولائهم لهم.. بل إننا لا نستبعد أن يكون بناء

=>


الصفحة 368
يكون من نتيجته: أن يستقبله أهلها بما يليق بشأنه: من الإجلال، والإعزاز والتكريم.

ولا شك أن الإمام (عليه السلام) سوف يستطيع أن يستقطب المزيد من الناس،

____________

<=

المنصور لبغداد هو من أجل أن يبتعد عن الكوفة، وأهلها، ويأمن على نفسه، قال البلاذري في فتوح البلدان ص 405: «أخذ المنصور أهل الكوفة بحفر خندقها. وألزم كل امرئ للنفقة عليه أربعين درهما. وكان ذاما لهم. لميلهم إلى الطالبيين، وإرجافهم بالسلطان..» وقد تقدم أنه عندما ذهب إليهم العباس بن موسى، أخو الإمام الرضا (عليه السلام) يدعوهم للبيعة، لم يجبه إلا البعض منهم، وقال له آخرون: «إن كنت تدعو للمأمون، ثم من بعده لأخيك، فلا حاجة لنا في دعوتك. وإن كنت تدعو إلى أخيك، أو بعض أهل بيتك، أو إلى نفسك أجبناك..».

وعلى كل حال.. فقد كانت الكوفة مصدرا لثورات كثيرة على الأمويين والعباسيين على حد سواء، تلك الثورات التي كانت كلها تقريباً بقيادة علوي، أو داعية إلى علوي..

ولم ينس المأمون بعد ثورة أبي السرايا التي كادت تغير الموازين، وتقلب مجريات الأحداث.. إلى غير ذلك مما لا مجال لتتبعه واستقصائه.

وأما تشيع القميين، فذلك أعرف وأشهر. وقضيتهم مع جبة دعبل التي أهداه إياه الإمام لا يكاد يجهلها أحد. وعندما طلب المأمون من الريان أن يحدث بفضائل علي (عليه السلام)، وأجاب بأنه لا يحسن شيئاً، قال المأمون: «سبحان الله! ما أجد أحداً يعينني على هذا الأمر لقد هممت أن أجعل أهل قم شعاري ودثاري».

ولعل تشيع أهل قم هذا هو الذي دفع بالمأمون لأن يوجه إليهم عامله علي بن هشام، لينكل بهم، ويحاربهم حتى يهزمهم، ويدخل البلد، ويهدم سورها، ويجعل على أهلها مبلغ سبعة ملايين درهم، بدلا من مليونين، وهو ما لم يكن يدفعه أي بلد آخر يضاهي بلدهم في عدد السكان وغير ذلك من المميزات، فكيف بالسبعة.. ومع أنه كان قد خفض الخراج عن السواد، وبعد البلدان الأخرى، فلما سمعوا بذلك طالبوا بتخفيض الخراج عنهم أيضاً، ففعل ذلك.. وكان تخفيضه عنهم بزيادة المليونين إلى سبعة، كما قلنا.. راجع في تفصيل ذلك: الطبري ج 11 ص 1093، والكامل لابن الأثير ج 5 ص 212، وتاريخ ابن خلدون ج 3 ص 255، والنجوم الزاهرة ج 2 ص، 190 وتاريخ التمدن الإسلامي مجلد 1 جزء 2 ص 337، وفتوح البلدان للبلاذري ص 440، وتجارب الأمم ج 6 ص 460.


الصفحة 369
ويؤثر عليهم بما حباه الله من الفضائل والكمالات الأخلاقية، وبما آتاه الله من العلم والحكمة، والورع والتقوى، الذي سار ذكره في الآفاق، حتى لا يكاد يجهله أحد.. وإذا كان أهل نيشابور، بل وحتى أهل مرو، معقل العباسيين والمأمون، قد كان منهم تجاه الإمام ما لا يجهله أحد. حتى إنهم كانوا بين صارخ، وباك ومتمرغ في التراب إلخ.. وحتى لقد خاف المأمون وأشياعه على دمائهم ـ إذا كان هؤلاء هكذا ـ فكيف ترى سوف تكون حالة أهل الكوفة وقم، معقلي العلويين، والمحبين لأهل البيت، والمتفانين فيهم، لو أنهم رأوا الإمام (عليه السلام) بينهم، وبالقرب منهم..

يقول الراوندي في ذلك: «إن المأمون أمر رجاء بن أبي الضحاك: أن لا يمر بالإمام عن طريق الكوفة، لئلا يفتتن به أهلها..»(1)!.

والمأمون لا يريد أن يفتتن الناس بالإمام، وإنما الذي يريده هو عكس ذلك تماماً.. إنه يريد أن يضع من الإمام لا أن يرفع.

أما أهل البصرة: فعثمانية، يدينون بالكف، ويقولون: كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل.. بل لقد كانت البصرة معقلاً مهما للعباسيين، الذين حرق دورهم زيد النار، ابن الإمام الكاظم (عليه السلام)، كما قدمنا، ولهذا نلاحظ: أن دور البصريين في التشيع لم يكن يضارع دور غيرهم، لا روائياً، ولا كلامياً..

وأما ما ربما يحتمله البعض: من أن المأمون كان يأمل أن يخرج من البصرة، أو غيرها من يخلصه من الإمام (عليه السلام) نهائياً.. فلا أرى أنه يتفق مع أهداف وأغراض المأمون، التي كان يرمي إليها من وراء لعبته تلك..

____________

(1) الخرائج والجرائح، طبعة حجرية ص 236.


الصفحة 370

الإمام يرفض كل مشاركة تعرض عليه:

إنه برغم شروط الإمام على المأمون، والتي أشرنا إليها فيما سبق، فإننا نرى المأمون كل مدة يحاول أن يجري اختبارا للإمام، ليعرف حقيقة نواياه، وأنه هل أصبح له طمع بالخلافة، وطموح لها(1)، ليعجل عليه بما يحسم عنه مواد بلائه.. أم لا. فكان يأتي كل مدة إليه، يطلب منه أن يولي فلانا، أو أن يعزل فلاناً، أو أن يصلي بالناس.. بل لقد طلب منه بعد مقتل الفضل أن يساعده في إدارة شؤون الخلافة(2) بحجة أنه يعجز وحده أن يقوم بأعباء الحكم. ويدير دفة السلطان!

هذا.. إن لم نقل: أنه كان يريد من وراء ذلك: أن يجعل ذلك ذريعة للقضاء على الإمام، بحجة أنه نقض الشرط، وليكون بذلك قد قضى على العلويين جميعاً، وإلى الأبد.

أو على الأقل كان يريد بذلك: أن يوجد للإمام أعداء في الأوساط ذات القوة والنفوذ..

وأياً ما كانت نوايا المأمون وأهدافه، فإن الإمام (عليه السلام) كان يرفض ذلك كله بكل عزم وإصرار، ويذكره بالشروط تلك، ويقول له: «إن وفيت لي وفيت لك». وهذا تهديد صريح له من الإمام (عليه السلام). ولا نعجب كثيراً ـ بعد أن اتضحت لنا نوايا المأمون وأهدافه ـ إذا رأينا المأمون يتحمل هذا التهديد، بل ويخضع له، ويقول: «بل أفي لك»!.

____________

(1) وما أشبه الليلة بالبارحة، فقد رأينا الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، يسأل ابن عباس عن علي (عليه السلام): إن كان لا يزال يطمح إلى الخلافة، ويأمل فيها.. أم لا!.

(2) الكافي ج 8 ص 151، وكشف الغمة ج 3 ص 68 و 87، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 164 و 166 و 167 والبحار ج 49 ص 144 و 155 و 171، وغير ذلك.


الصفحة 371
وهكذا.. فقد كان الإمام (عليه السلام) يضيع على المأمون ما كان يحسب أنه فرصة مؤاتية له، ولا يمكنه من معرفة ما يريد معرفته، ولا من تنفيذ ما يريد تنفيذه.

الاختبار لشعبية الإمام (عليه السلام):

كما أنه كان كل مدة يقوم بعملية اختبار لشعبية الإمام (عليه السلام)، ولمدى ما يتمتع به من تأييد في الأوساط الشعبية، ليعرف إن كان أصبح (عليه السلام) يشكل خطراً حقيقياً، ليعجل بالقضاء عليه أم لا.. فكان كل مدة يكلفه بأن يؤم الناس بالصلاة للعيد. أو ما شاكل.. وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على مدى ما يعتمر قلب المأمون من الخوف والخشية منه (عليه السلام). [راجع: السبب الثالث من فصل البيعة، والموقف العاشر في فصل: خطة الإمام (عليه السلام)].

سؤال.. وجوابه:

ولعلك تقول: إذا كان المأمون يخشى الإمام (عليه السلام) إلى هذا الحد، لما يعلمه من نفوذه ومكانته، فلماذا لا يتخلص منه بذلك الأسلوب التقليدي الذي انتهجه أسلافه من الأمويين، والعباسيين، وتبعهم عليه هو فيما بعد، وكذلك من أتى بعده.. وذلك بأن يدس إليه شربة من السم، وهو في المدينة، من دون أن يحتاج إلى إشخاصه إلى مرو، والبيعة له بولاية العهد، وتزويجه ابنته، إلى غير ذلك من الأمور التي من شأنها أن تعزز من مركز الإمام، وترفع من شأنه، وتوجه إليه الأنظار والقلوب، حتى يضطر في نهاية الأمر لأن يعود إلى ما جرت عليه عادة أسلافه، وأتباعه..


الصفحة 372
ولكن الجواب على هذا قد اتضح مما قدمناه، فإن المأمون لم يكن يريد في بادئ الأمر موت الإمام، ولا كان يستطيع أن يفعل ذلك.

ولو أن ذلك كان قد حدث لوقع المأمون في ورطة، لها أول وليس لها آخر، حيث إنه كان بأمس الحاجة إلى حياة الإمام (عليه السلام)، وذلك لما قدمناه من الأسباب والظروف التي كانت تحتم على المأمون أن يلعب لعبته تلك، التي وإن كانت تنطوي على مخاطرة جريئة، إلا أنه كان ـ كما قدمنا ـ قد رسم الخطة، وأحكم التدبير للتخلص من الإمام (عليه السلام) بمجرد أن يحقق مآربه، وأهدافه، بالطريقة التي لا تثير شك أحد، ولا توجب تهمة أحد، وقد حدث ذلك بالفعل، كما سيمر علينا..

وأما كتمه لفضائل الإمام (عليه السلام):

ومن جملة الأمور التي كانت تدور في فلك خطة المأمون، التي لخصها بأنه يريد الوضع من الإمام قليلاً قليلا، حتى يصوره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر ـ محاولاته كتم فضائل الإمام (عليه السلام) ومزاياه عن الناس ما استطاع إلى ذلك سبيلاً..

وقد تقدم: أنه عندما سأل رجاء بن أبي الضحاك، الذي تولي إشخاص الرضا (عليه السلام) من المدينة إلى مرو، عن حال الرضا (عليه السلام) في الطريق، فأخبره عما شاهده من عبادته (عليه السلام)، وزهده وتقواه، وما ظهر له من الدلائل والبراهين، قال له المأمون: «.. بلى يا ابن أبي الضحاك، هذا خير أهل الأرض، وأعلمهم، وأعبدهم، فلا تخبر أحداً بما شهدت منه، لئلا يظهر فضله إلا على لساني..»!.

وهكذا: فإن المأمون وإن استطاع أن يمرر الكثير، إلا أنه لم يكن يجد بداً في كثير من الأحيان من أن يظهر على حقيقته وواقعه. وهذا هو أحد تلك المواقف التي مرت وسيمر معنا بعضها، والتي اضطر فيها

الصفحة 373
المأمون لأن يكشف عن وجهه الحقيقي،.. وإن كان قد حاول ـ مع ذلك ـ أن يتستر بما لا يسمن ولا يغني من جوع.

ولا أعتقد أن المأمون كان يجهل: أن ما يأتي به لم يكن لينطلي كله على أعين الناس، بل كان يعلم ذلك حق العلم، ولكن كما يقولون: «الغريق يتشبث بالطحلب».

ولكن.. بالرغم من محاولات المأمون تلك.. فإننا نرى أن فضائل الإمام ومزاياه كانت كالعرف الطيب، لم تزل تظهر، وتنتشر وتذاع.. بل ولعل محاولات المأمون تلك التي كانت ترمي للحط من الإمام وإسقاطه، قد أسهمت كثيراً وساعدت على إظهار فضائله، وشيوعها، كما سيتضح.

الشائعات الكاذبة!

وكان بالإضافة إلى ما تقدم يحاول ترويج شائعات كاذبة، من شأنها أن تنفر الناس من العلويين عامة، ومن الإمام (عليه السلام)، وسائر الأئمة (عليهم السلام) خاصة.

فهذا أبو الصلت يسأل الإمام (عليه السلام) فيقول: «يا ابن رسول الله، ما شيء يحكيه الناس عنكم؟!.

قال (عليه السلام): ما هو؟!.

قال: يقولون: إنكم تدعون: أن الناس لكم عبيد!.

قال (عليه السلام): يا عبد السلام، إذا كان الناس كلهم عبيدنا ـ على ما حكوه ـ فممن نبيعهم؟!» إلخ(1).

____________

(1) مسند الإمام الرضا ج 1 قسم 1 ص 45، والبحار ج 49 ص 170، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 184.


الصفحة 374
ونرى أنه (عليه السلام) يقول ـ وعنده جماعة من بني هاشم، فيهم إسحاق ابن عيسى العباسي ـ: «يا إسحاق بلغني أن الناس يقولون: إنا نزعم: أن الناس عبيد لنا. لا.. وقرابتي من رسول الله ما قلته قط، ولا سمعته من آبائي قاله، ولا بلغني عن أحد من آبائي قاله الخ..». وقد تقدمت هذه الرواية في فصل: خطة الإمام.

كما أن هشام بن إبراهيم العباسي، الذي وضعه الفضل بن سهل ليراقب الرضا (عليه السلام)، ويضيق عليه، كان يشيع عن الرضا (عليه السلام): أنه أحل له الغناء، فلما سئل (عليه السلام) عن ذلك قال: «كذب الزنديق الخ..»(1).

بهذه الشائعات الكاذبة، وأمثالها أراد المأمون الحط من كرامة الإمام وتضعيف مركزه، وزعزعة ثقة الناس به، وبالعلويين بصورة عامة.

ولكن كما يقولون: حبل الكذب قصير، إذ إن أقوال الإمام (عليه السلام) وأفعاله وجميع جهات سلوكه، سواء قبل توليته للعهد أو بعدها.. كانت تناقض هذه الشائعات، وتدحضها(2). الأمر الذي كان من شأنه

____________

(1) رجال المامقاني ج 3 ص 291، وقاموس الرجال ج 9 ص 309، ووسائل الشيعة ج 12 ص 227، ومسند الإمام الرضا ج 2 ص 452، عن رجال الكشي ص 422. والبحار ج 49 ص 263، عن قرب الإسناد ص 198.

وكان هشام بن إبراهيم هذا جريئا على المأمون، لأنه هو الذي رباه، وشخص إلى خراسان في فتنة إبراهيم بن المهدي، راجع الأغاني ط ساسي ج 9 ص 31. ويسمى: العباسي مع أنه لم يكن عباسياً: إما لأن المأمون ولاه تربية ولده العباس، أو لأنه ألف كتاباً في إمامة العباس نص على ذلك الكشي ط النجف ص 223 وغيره.

(2) وكيف يمكن أن نصدق مثل هذا الذي لا يقره العقل، ولا يقبل به القرآن، على الإمام الذي كان يتخذ لنفسه أسلم، وأروع منهج، ألا وهو منهج القرآن، حتى إنه عندما أنكر رؤية النبي لله تعالى، واستدل على ذلك بالآيات، وقال له أبو قرة: فتكذب بالروايات؟!

قال الإمام (عليه السلام): إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذبتها. وما أجمع المسلمون

=>


الصفحة 375
أن يثير شكوك الناس، وظنونهم في المأمون نفسه، فلم ير بداً من أن يضرب عن هذا الأسلوب صفحا. ويتجه إلى غيره بتخيل أنه أجدى وأكثر نفعاً وأقل ضرراً!.

وبقي في كنانته سهم أخير، كان يحسب أنه سوف يصيب الهدف، ويحقق الغاية: التي هي تشويه سمعة الإمام (عليه السلام)، والحط من كرامته. ألا وهو:

التركيز على إفحام الإمام (عليه السلام):

فبدأ يجمع العلماء. وأهل الكلام من المعتزلة، وهم أصحاب جدل، وكلام، واستدلال، وتنبه للدقائق من الأمور، ليحدق هؤلاء بالرضا (عليه السلام) وتجري فيما بينهم وبينه محاورات، ومجادلات، من أجل أن ينقصوا منه مجلساً بعد مجلس، وأن يكسروه في أعظم ما يدعيه هو وآباؤه (عليه السلام): من العلم والمعرفة بآثار رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وعلومه.. والذي هو الشرط الأعظم لإمامة الإمام، على ما يدعيه الشيعة المفتونون بالرضا (عليه السلام)، وبسائر آبائه وأبنائه الأئمة الطاهرين..

ولا يبقى من ثم مجال لأبي نؤاس لأن يقول فيه عندما رآه خارجاً من عند المأمون:


مطهرون نقيات ثيابهـــمتجري الصلاة عليهم أينما ذكروا
من لم يكن علوياً حين تنسبهفما له في قديم الدهر مفتخــر

____________

<=

عليه: أنه لا يحاط به علماً، ولا تدركه الأبصار، وليس كمثله شيء. راجع: تفسير البرهان طبعة حجرية ص 1057، 1058. نقلاً عن الكافي.. ومثل ذلك كثير لا مجال لاستقصائه..


الصفحة 376

الله لما برى خلقاً فأتقنـــهصفاكم واصطفاكم أيها البشــر
فأنتم الملأ الأعلى وعندكــمعلم الكتاب وما جاءت به السور(1)

هذه الأبيات التي سارت بها الركبان والتي هي تعبير صادق عن هذه الحقيقة التي أشرنا إليها، والتي كانت تقض على المأمون وكل أسلافه وأتباعه مضاجعهم، وتنغص عليهم حياتهم.. وعليه: وإذا استطاع المأمون أن يظهر للملأ أن الإمام (عليه السلام) صفر اليدين مما يدعيه، ويدعيه آباؤه من قبل، فإنه يكون قد قضى على المصدر والأساس لكل المشاكل، والأخطار، وينهار المذهب الشيعي حينئذٍ بانهيار فكرة الإمامة فيه، التي هي المحور، والأساس له، ويتحقق من ثم ـ حلمه الكبير، الذي طالما جهد وشقي من أجل تحقيقه.

وأعتقد: أنه لو كان تم له ما أراد، فلسوف لا يتعرض بعد هذا للإمام (عليه السلام) بسوء، وأنه كان سوف يبقى على حياته (عليه السلام) إبقاء لحجته، وأنه خال من شرائط الإمامة، وليأفل من ثم.. نجمه، ونجم العلويين من بعده.. وإلى الأبد.

____________

(1) شهرة هذه الأبيات تغنينا عن ذكر مصادرها، وقد أعطاه (عليه السلام) ما كان معه، وهو مئة دينار، والبغلة التي كان يركبها.. لكن بعض الباحثين يرى أن أبا نؤاس لم يعش إلى زمان تولي الرضا العهد، بل مات قبل ذلك بثلاث سنوات أي في سنة 198 ه‍. ومن ثم هو ينكر الحادثة الأخرى، التي تقول: إن البعض لام أبا نؤاس حيث لم يمدح الإمام (عليه السلام)، فقال أبياته المشهورة: «قيل لي أنت أشعر الناس طرا في فنون إلخ..».

ولكن الظاهر أن هذا الباحث لم يطلع على عبارة ابن خلكان في وفيات الأعيان، طبع سنة 1310 ج 1 ص 457، فإنه قال: «وفيه [أي في الرضا (عليه السلام)] يقول أيضاً ـ وله ذكر في شذور العقود سنة إحدى أو اثنتين وماءتين ـ: مطهرون نقيات إلخ..».

بل يكفي دلالة على أنه عاش إلى ما بعد ولاية العهد ذكر هذه الأبيات، وتلك له والنص على أنه قد قالها فيه (عليه السلام).