ومن أجل ذلك ـ بكل تأكيد ـ أخذ يجمع العلماء(1) ويجلبهم من أقاصي البلدان، ويأمرهم بتهيئة أشكل المسائل وأصعبها، وطرحها على الإمام (عليه السلام) عله يقطعه عن الحجة. ولو مرة واحدة. ليحط بذلك من كرامته، ويشوه سمعته، ويظهر عجزه وعيه، ويرى الناس أن ما يدعيه من العلم والمعرفة بآثار رسول الله وعلومه لا حقيقة له، ولا واقع وراءه.
قال الصدوق عليه الرحمة: «.. كان المأمون يجلب على الإمام (عليه السلام) من متكلمي الفرق، وأهل الأهواء المضلة كل من سمع به، حرصاً على انقطاع الرضا (عليه السلام) عن الحجة مع واحد منهم إلخ.»(2).
وقال إبراهيم بن العباس: «سمعت العباس يقول:.. وكان المأمون يمتحنه [أي يمتحن الإمام (عليه السلام) بالسؤال عن كل شيء]، فيجيبه الجواب الشافي..»(3).
وقال أبو الصلت: «.. فلما لم يظهر منه للناس إلا ما ازداد به فضلاً عندهم، ومحلاً في نفوسهم،. حلب عليه المتكلمين من البلدان، طمعاً في أن يقطعه واحد منهم، فيسقط محله عند العلماء، وبسببهم يشتهر نقصه عند العامة، فكان لا يكلمه خصم من اليهود، والنصارى، والمجوس، والصائبين، والبراهمة، والملحدين، والدهرية، ولا خصم
____________
(1) مع أنه هو نفسه قد فرق عن الإمام تلامذته، عندما أخبروه أنه يقوم بمهمة التدريس، كما أشرنا إليه!.
(2) مسند الإمام الرضا ج 2 ص 105، والبحار ج 49 ص 179، وعيون أخبار الرضا ج 1 ص 191.
(3) الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص 237، وإعلام الورى ص 314، وأعيان الشيعة ج 4 قسم 2 ص 107، ويراجع أيضاً: مناقب ابن شهرآشوب ج 4 ص 350، وغير ذلك.
وقال المأمون لسليمان المروزي: «.. إنما وجهت إليك لمعرفتي بقوتك، وليس مرادي إلا أن تقطعه عن حجة واحدة فقط..»(2).
وتقدم قوله لحميد بن مهران، عندما طلب منه هذا أن يوليه مجادلته، لينزله منزلته: «ما من شيء أحب إلي من هذا..».
بل لقد صرح المأمون نفسه: بأنه كان يريد أن يجعل من جهل الإمام ـ نعوذ بالله ـ ذريعة ووسيلة إلى خلعه، ليشتهر بين الناس أنه قد خلع بسبب جهله، وقلة معرفته، فقد ورد أنه عندما أخبره الرضا بصفات حمل جاريته، قال المأمون: «فقلت في نفسي هذه والله فرصة، إن لم يكن الأمر على ما ذكر، خلعته، فلم أزل أتوقع أمرها إلخ..»(3).
إلى غير ذلك مما قد امتلأت به كتب الأخبار والسير.
وحتى مع الإمام الجواد قد حاول ذلك:
لا نستبعد أيضاً: أن يكون قد حاول أن يلعب نفس هذه اللعبة مع
____________
(1) عيون أخبار الرضا ج 2 ص 239، ومثير الأحزان ص 263، والبحار ج 49 ص 290، ومسند الإمام الرضا ج 1 ص 128، وشرح ميمية أبي فراس ص 204.
(2) البحار ج 49 ص 178، وعيون أخبار الرضا ج 1 ص 179، ومسند الإمام الرضا ج 1 ص 97.
(3) الغيبة للشيخ الطوسي ص 49، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 224، والبحار ج 49 ص 307، ومناقب آل أبي طالب ج 4 ص 333 عن الجلاء والشفاء.
هذا.. ولا بأس بملاحظة قوله: إنها والله فرصة!.. الدالة على أنه كان يتحين الفرص لذلك.
ويلاحظ: أنه قام بهذه اللعبة قبل أن يسلم إليه ابنته، التي كان قد عقد له عليها في حياة أبيه الرضا (عليه السلام)، وجعل شرط تسليمها أن يغلب يحيى بن أكثم ويجيبه على مسائله! ومعنى ذلك: أنه لو توقف ولو في مسألة واحد لامتنع عن إعطائه زوجته، وكانت النتيجة أن يشتهر ذلك بين الناس كلهم، ويصبح حديث كل الندوات والمحافل أن سبب عدم تسليمه زوجته هو جهله وعيُّه..
لكن الإمام الجواد كان كأبيه قد أعاد على المأمون كيده ومكره، ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله.. ولقد سبقه إلى ذلك المنصور مع الإمام الصادق، حيث أمر أبا حنيفة بتهيئة مسائل صعبة يلقيها على الإمام، لأنه رأى الناس قد فتنوا به(1).. وجرى على منواله في ذلك المعتصم مع الجواد أيضاً، وغيره مع غيره.. وكان الله هو المؤيد والناصر والمسدد.
ملاحظة لا بد منها:
ومما يلاحظ هنا: أننا لا نجد أثراً لهذه المجالس العلمية للمأمون!، والمناظرات الكلامية! بعد موت الإمام (عليه السلام)، فبعد أن مات (عليه السلام) بسم المأمون، وهدأت ثائرة العلويين والشيعة أو صد الباب كليا تقريباً،
____________
(1) راجع: البحار ج 47 ص 217.
الإمام يقول: إن المأمون سوف يندم:
هذا.. ولم يكن من الغريب: أن يعلم الرضا (عليه السلام) بمقاصد المأمون، وحقيقة نواياه من مثل هذه التصرفات، وكان (عليه السلام) يقول: «.. إذا سمع احتجاجي على أهل التوراة بتوارتهم، وعلى أهل الإنجيل بإنجيلهم، وعلى أهل الزبور بزبورهم، وعلى الصابئين بعبرانيتهم، وعلى أهل الهرابدة بفارسيتهم، وعلى أهل الروم بروميتهم، وعلى أصحاب المقالات بلغاتهم، فإذا قطعت كل صنف، ودحضت حجته، وترك مقالته، ورجع إلى قولي، علم المأمون أن الموضع الذي هو بسبيله ليس بمستحق له، فعند ذلك تكون الندامة منه..»(1).
نعم.. إنه سوف يندم كثيراً عندما يرى: أن كل ما كان يدبره ينقلب عليه، ويؤدي إلى عكس النتيجة التي كان يرجوها منه.. حتى إن الناس كانوا يقولون: «والله، إنه أولى بالخلافة من المأمون، فكان أصحاب الأخبار يرفعون ذلك إليه، فيغتاظ ويشتد حسده..»(2).
وهكذا.. فإن هذا القول يعتبر تحقيقا لنبوءة الإمام: من أن المأمون سوف يندم. إذا علم أن الموضع الذي هو بسبيله ليس بمستحق له. ولقد علم المأمون، ولكن بعد فوات الأوان بذلك، وبأنه قد ساعد بأعماله تلك على اتساع القاعدة الشعبية للإمام (عليه السلام) وإظهار مزاياه
____________
(1) مسند الإمام الرضا ج 2 ص 75، والبحار ج 49 ص 175، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 156.
(2) كشف الغمة ج 3 ص 87، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 239.
وكان على المأمون أن يتبع أسلوباً جديداً، يضمن له تحقيق غاياته في التخلص من الإمام (عليه السلام)، والقضاء عليه إجتماعياً، ونفسياً، بل وحتى جسدياً أيضاً.
وبقي في كنانته سهم آخر، ظن أن سوف يحقق له ما عجز كل ما سواه عن تحقيقه.. ألا وهو:
الاقتراح العجيب:
وكل قضايا المأمون تثير عجباً، وهو أن يذهب الإمام إلى بغداد، وقبل أن نتكلم عن هذا الاقتراح العجيب.. يحسن بنا أن نتكلم عن بغداد أولاً، وعن موقفها من البيعة للرضا (عليه السلام)، وعن ردة الفعل فيها تجاه هذا الفعل الذي أقدم عليه المأمون من دون رضا منها.. فنقول:
موقف بغداد من المأمون والبيعة للرضا (عليه السلام):
تعتبر بغداد أهم معقل للعباسيين على الإطلاق وهي عاصمتهم، وحصنهم، الذي يلوذون به، ويلجأون إليه.
والعباسيون هم الذين نقموا على المأمون بسبب جعل ولاية العهد للرضا (عليه السلام)، وخلعوا المأمون بمجرد سماعهم لذلك النبأ الذي نزل عليهم نزول
وموقف بغداد هذا لم يكن ليخفى على أحد، فكيف يخفى على المأمون، وقد رأينا: أن الإمام نفسه يخبر المأمون: بأن الناس ـ يعني العباسيين، ومواليهم(2) ـ ينقمون عليه مكان الإمام منه، ومكان بيعته له بولاية العهد(3).
والفضل بن سهل أيضاً قال للمأمون: «.. ثم أحدثت هذا الحدث الثاني إنك جعلت ولاية العهد لأبي الحسن، وأخرجتها من بني أبيك. والعامة والعلماء، والفقهاء، وآل عباس، لا يرضون بذلك. وقلوبهم
____________
(1) مشاكلة الناس لزمانهم لليعقوبي ص 28.
(2) لأنهم هم فقط الذين كانوا ينقمون ذلك عليه، كما تدل عليه النصوص التاريخية، ولم يشر التاريخ، ولو من بعيد إلى شيء من ذلك من غيرهم على الإطلاق، بل نص على عكس ذلك كما عرفت، حتى من أهل بغداد أنفسهم..
(3) الطبري ج 11 ص 1025، وابن خلدون ج 3 ص 249، والكامل لابن الأثير ج 5، وغير ذلك.
وقال في النجوم الزاهرة ج 2 ص 174: «أنه بسبب ولاية العهد للرضا قامت الفتن، واضطربت البلاد» وقريب منه ما في مقدمة ابن خلدون ص 211، وواضح: أن ذلك قول مبالغ فيه. حيث لم يحدث بسبب البيعة شيء أصلاً إلا في بغداد، وأما سائر البلاد، فقد خمدت الثورات فيها، واستوسقت للمأمون كما نص عليه الذهبي، وغيره حسبما تقدم، وحتى في بغداد نفسها كان أكثرها يؤيد المأمون في ذلك باستثناء العباسيين، ومن لف لفهم، قال في تاريخ أبي الفداء ج 2 ص 22: «وامتنع بعض أهل بغداد عن البيعة».. ويتفق المؤرخون: على أن بغداد انقسمت إلى قسمين: قسم يقول: نلبس الخضرة، ونبايع وقسم يأبى ذلك. إلى أن غلب الممتنعون، لأن من بينهم رجال الدولة، وبايعوا لإبراهيم بن المهدي..
وسيأتي أن المأمون قد كتب للعباسيين، بعد وفاة الإمام: أن الأشياء التي كانوا ينقمونها عليه قد زالت.. إلى غير ذلك مما ليس في تتبعه كثير فائدة..
وأما نصب ابن شكلة:
لقد رضي العباسيون بابن شكلة حاكماً عليهم، مع علمهم بانحرافه عن علي، ونصبه، بل لعل هذا هو أحد المرجحات لاختيارهم له.
ويكفي دلالة على انحرافه عن علي (عليه السلام) وولده ما تقدم: من أن المأمون كان يظهر التشيع، وابن شكلة يظهر التسنن(2)، وأنه عير المأمون بتشيعه فقال:
إذا الشيعي جمجم في مقال | فسرك أن يبوح بذات نفسه |
فصل على النبي وصاحبيه | وزيريه وجاريه برمســه |
وعيره المأمون بنصبه، فقال:
إذا المرجي سرك أن تراه | يموت لحينه من قبل موته |
فجدد عنده ذكرى علي (ع) | وصل على النبي وأهل بيته(3). |
وقال إبراهيم هذا مرة للمأمون: إن علياً ليس من البلاغة في شيء،
____________
(1) عيون أخبار الرضا ج 2 ص 160، والبحار ج 49 ص 166. وواضح أن من مصلحة الفضل: أن يضخم الأمر ويهول به على المأمون، لأنه يريد أن يردعه عن الذهاب إلى بغداد، التي يعرف أنه سوف يتعرض فيها لأهوال وأخطار قد لا يكون له القدرة على تحملها.
(2) استعمال المسعودي لكلمة «التسنن» هنا يفند ما ادعاه أحمد أمين المصري: من أنه هو المصطنع لهذه الكلمة، وأول من استعملها. والظاهر أنه قرأها فيه أو في النجوم الزاهرة، أو وفيات الأعيان ترجمة علي بن الجهم أو غيرها.. ثم نسي.
(3) مروج الذهب ج 3 ص 417 وراجع: ص 231 ـ 232 من هذا الكتاب.
وعن صلاح الدين الصفدي في شرح الجهورية: أنه لما مات إبراهيم ابن المهدي سأل الواثق عن وصيته، فوجده قد أمر بمال عظيم: أن يفرق على أولاد الصحابة، إلا أولاد علي (عليه السلام)، فقال الواثق: «والله، لولا إطاعة أمير المؤمنين لما وقفت عليه، ولا انتظرت دفنه» ثم انصرف الواثق وهو يقول: «منحرف عن شرفه، وخير أهله، والله، لقد أدليته في قبره كافراً.»(2).
إلى غير ذلك من الدلائل والشواهد التي يطول بذكرها المقام.
المأمون: هو الذي ينقل لنا اقتراحه العجيب:
ولكن رغم موقف بغداد ذاك، ورغم أنه كان يعلم به، ويعلم بكل ما جرى في بغداد بسبب جعله ولاية العهد للرضا نرى المأمون يحاول أن يرسل الإمام إلى بغداد، ليكون وجها لوجه مع ألد أعدائه العباسيين، وفي نفس معقلهم، ومحل قوتهم، وحيث لهم كل النفوذ والسيطرة، يرسله ـ وحده! ـ ويبقى هو خليفته في خراسان. ويرفض الإمام، ويصر على الرفض، حتى يئس المأمون من قبوله.
يقول المأمون: «رحم الله الرضا (عليه السلام)، ما كان أعلمه، لقد
____________
(1) مناقب ابن شهرآشوب ج 3 ص 271، ونزهة الجليس ج 1 ص 403.
(2) نزهة الجليس ج 1 ص 404.
ولماذا هذا العرض:
عجيب إذن!.. هكذا أصبحت الخلافة رخيصة إلى هذا الحد! الخلافة. التي لم يكن يعدلها عنده في الدنيا شيء!. الخلافة.. التي قتل من أجلها المئات والألوف!، وخرب المدن ودك الحصون!!. التي قتل من أجلها أخاه، ومن معه، وقواده، ووزراءه!.. الخلافة هذه.. أصبحت رخيصة إلى حد أنه يبذلها ـ حسب منطقه ـ لرجل غريب!، وفي مقابل أي شيء؟! في مقابل أن يذهب إلى العراق!.!.
ولقد عرفنا الخلافة التي بذلها، لكن ما سواها لم نستطع أن نعرفه بالتحديد!.
ولماذا يجهد الجهد كله؟! ولماذا يبذل الخلافة؟! ولماذا يبذل ما سواها؟! لماذا كل ذلك؟!. أليس هو ذا القوة والسلطان؟!، فلم لا يجبر الإمام (عليه السلام) على ذلك، كما أجبره على قبول ولاية العهد؟!.
ألم يكن باستطاعته أن يرسله مقيدا مصفدا بالحديد؟!. ولماذا يسمح له بأن يعصيه ويخالف أمره؟!. أفلا يعتبر ذلك جريمة يستحق عليها أقسى العقوبات، باعتبار أنه يعرض الخليفة والخلافة، وهيبتهما للخطر؟!.
____________
(1) الغيبة للطوسي ص 48، ومناقب ابن شهرآشوب ج 4 ص 337، والبحار ج 49 ص 58 و 145.
كما أن بذله للخلافة لم يكن مجازفة بها، لأنه كان مطمئناً إلى أن ما يبذله اليوم سوف يعود إليه غداً.. وبالشكل الأفضل والأكمل، لو أن الإمام (عليه السلام) قبل منه ما كان عرضه عليه.
نعم.. إنه يريد أن يرسله إلى العراق ـ بغداد ـ وطلب منه أن يذهب وحده، ويبقى هو خليفة له في خراسان، ليواجه المحنة، التي لن يكون له القدرة على تحملها، والصمود في وجهها.. ويتخلص المأمون منه بذلك من أهون سبيل.
المأمون يتحرك نحو بغداد بنفسه:
لكن رفض الإمام القاطع جعله يفكر في الأمر بنحو آخر، فلقد تحرك هو بنفسه نحو بغداد، مصطحبا معه وزيره الفضل بن سهل وولي عهده الإمام الرضا (عليه السلام)، الذي كان هو الشجا المعترض في حلق المأمون.
ولقد كان من الممكن: أن يحتفظ بهما حتى يدخلوا بغداد، فتقوم قائمة بني العباس، ويثورون، ويعصفون، وتعم الفوضى، ويختل النظام.. وقد يتخلص المأمون حينئذٍ من الإمام (عليه السلام) على يد من يرتفع به حقده، ويخرجه غضبه عن طوره.
وإن لم يكن ذلك، وجبنوا على الإقدام عليه.. وبعد أن يكون الناس قد رأوا أن وجود الإمام ـ وليس قتل الأمين ـ هو المانع والعائق
لكن المأمون لم يكن يثق بالعباسيين:
لقد كان من الممكن ذلك.. ولكن المأمون لم يكن يثق بالعباسيين، الذين في بغداد، أن يتفهموا حقيقة موقفه، ويدركوا ما ترمي إليه مخططاته.. فقد يثورون ضده هو، ويوصلون إليه ما يسوءه ويزعجه، كما حدث ذلك من قبل.. فهو مع أنه لم يبايع للرضا بولاية العهد، إلا من أجل أن يحقن دماءهم، ومع أنه كان يدبر الأمر ليدوم لهم، ولعقبهم من بعدهم.. إلا أنهم لم يدركوا ذلك رغم أنه كتب إليهم به صراحة.. واستمروا على مناوأته ومحاربته.
ولا كان واثقاً من سكوت الإمام (عليه السلام):
كما أنه كان يخشى أن الإما م، الذي رأى المأمون منه العجائب، والذي أصبح قريباً من العباسيين، وأشياعهم، وقريبا، من محبيه ومواليه أيضاً ـ كان يخشى أن يتمكن ـ من قلب ما يدبره، ويخططه، وجعله وبالاً عليه. وقد تقدم إن أباه موسى (عليه السلام) قد أفسد على الرشيد قلوب شيعته، رغم أنه كان في سجونه وتحت نظره ومراقبته الدقيقة.
وقد يكون الإمام مستعداً لقبول اقتراح من المأمون بالتنحي عن ولاية العهد. ولكن ذلك ولا شك سوف يعيد الأمور إلى سيرتها الأولى. بل سوف يزيد الأمر تعقيدا، والوضع خطورة عما كان عليه قبل البيعة له (عليه السلام) بولاية العهد. ولن يسكت العلويون ولا الخراسانيون، بل حتى ولا العرب عن أمر كهذا. ولن يعيد الأمور إلى سيرتها الأولى بيعة أو مناورة أخرى من أي نوع كانت، وعلى أي مستوى كانت.
كيف يخرج المأمون من المأزق إذن؟!
وهكذا.. وبعد أن رأى المأمون نفسه قد فشل في تحقيق الجزء الأهم من خطته، ألا وهو أن يضع منه (عليه السلام) قليلاً قليلا، حتى يصوره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر.. بل لقد رأى نفسه يحصد غير ما يزرع، وأن النتائج التي كان يحصل عليها هي تماماً عكس ما كان ينتظر ويؤمل، وذلك بسبب وعي الإمام وحنكته، ويقظته..
ورأى أنه قد حارب الإمام بجميع الأسلحة التي كان يمتلكها، من المكر والخديعة، والدهاء إلخ.. لكن أسلحة الإمام كانت أمضى وأقوى من كل ما كان يمتلكه المأمون. ومن أين للمأمون علم الإمام وزهده، وتقواه وفضله، وفضائله النفسية، وشخصيته الفذة، وسائر صفاته وخصاله الحميدة، صلوات الله وسلامه عليه؟..
وإذا كان قد تأكد لديه أن محاولاته تلك لم تكن تثمر إلا أن يزداد الإمام رفعة بين الناس، ومحلا في نفوسهم، وإلا اتساع قاعدته الشعبية
ويلاحظ هنا: أن قول حميد بن مهران: «ما أخوفني أن يخرج هذا الأمر عن ولد العباس إلى ولد علي» قد كان بعد البيعة للرضا (عليه السلام) بولاية العهد، فكأنه كان على علم بخطة المأمون، وأهدافه من البيعة..
نعود فنقول: إنه كما أصبح يرى نفسه مستحقاً لذلك التأنيب القاسي أصبح أيضاً يرى أن من الضروري العثور على وسيلة تسهل عليه الخروج من ذلك المأزق الحرج الذي أوقع نفسه فيه. حتى لا ينتهي به الأمر إلى تلك النهاية المرعبة، التي كان يخشاها كل الخشية، وتمتلئ نفسه فرقاً ورعباً منها..
فما هي تلك الوسيلة؟!، وأين يجدها؟! وهل يستطيع أن يحصل عليها؟! وكيف؟.
ولقد وجد الوسيلة وهي سهلة جداً، ولكنها غير مأمونة العواقب، وهذه الوسيلة هي:
تصفية الإمام (عليه السلام) جسدياً:
والتدبير فيه ـ وبسرعة ـ بما يحسم عنه مواد بلائه.. وواضح:
وإذن.. فلا بد للقضاء على الإمام من إعمال الحيلة، وإحكام الخطة. ودراستها دراسة كافية ووافية.
قضية حمام سرخس:
وحاول أن يقضي على الإمام (عليه السلام)، والفضل معاً، مرة واحدة في حمام سرخس. ولكن يقظة الإمام (عليه السلام)، ووعيه قد حال دون ذلك، حيث إنه رفض الذهاب إلى الحمام. وأصر المأمون بدوره على ذلك، وأعاد عليه الرقعة مرتين!. لكن الإمام قد بين له بياناً قاطعاً: أنه لن يدخل الحمام بأي وجه من الوجوه.. كما أنه (عليه السلام) قد حاول أن يدفع المكيدة عن الفضل، فقال للمأمون: «ولا أرى للفضل أن يدخل الحمام غداً» لكن المأمون يصر على أن يدخل الفضل الحمام، ويمتنع من تحذيره، حيث قال للإمام: «وأما الفضل فهو أعلم وما يفعله..»(1).
مقتل الفضل بن سهل:
ونجح المأمون في تنفيذ أحد جزئي مهمته، وفشل في تنفيذ الجزء
____________
(1) قد تقدم بعض مصادر هذا النص في فصل: شخصية الإمام الرضا، عند ذكر التجاء المأمون إلى الرضا (عليه السلام) عندما شغب عليه الجند، بسبب مقتل الفضل.
ومجمل قضية قتل الفضل هنا: «أن المأمون لما رأى إنكار الناس ببغداد لما فعله من نقل الخلافة إلى بني علي، وأنهم نسبوا ذلك إلى الفضل بن سهل، ورأى الفتنة قائمة ولا يستطيع أن يقتل الفضل جهاراً لمكان أخيه الحسن بن سهل، وكثرة من معه من الرجال(1) فأعمل الفكرة في ذلك، ودس جماعة لقتل الفضل..
والذين قتلوا الفضل كانوا خمسة أشخاص من حشم المأمون، أحدهم: خاله غالب، فأخذوا وجيء بهم إليه، فقالوا: أنت أمرتنا بقتله!.
فقال لهم: أنا أقتلكم بإقراركم، وأما ما ادعيتموه: من أني أنا أمرتكم بذلك، فدعوى ليس لها بينة، ثم أمر بهم فضربت أعناقهم، وحمل رؤوسهم إلى الحسن أخي الفضل، وأظهر الحزن عليه..»(2)! كما أنه قد أقصى قوما من قواده سماهم الشامتة، وأظهر عليه أشد الجزع كما نص عليه اليعقوبي، وواضح أن قتله لقتلة الفضل، ثم إرساله رؤوسهم إلى الحسن، ثم إظهاره للحزن عليه لخير دليل على دهائه وحنكته السياسية.
بل ذكر المسعودي، ويظهر ذلك من غيره أيضاً: أن المأمون قتل
____________
(1) راجع لطف التدبير ص 164 ـ 166.
(2) راجع في ذلك: الآداب السلطانية ص 218، وتاريخ ابن خلدون ج 3 ص 249، ولطف التدبير ص 164 ـ 166 ومآثر الإنافة ج 1 ص 211، والكامل لابن الأثير ج 5 ص 191 و 192، والطبري ج 11 ص 1027، ووفيات الأعيان، طبع سنة 1310 ج 1 ص 414، ومرآة الجنان ج 2 ص 7، وإثبات الوصية ص 207، وليراجع تجارب الأمم ج 6 ص 443.
وتحسن الإشارة هنا إلى ما قدمناه من عرض المأمون على الفضل أن يزوجه ابنته ـ على الرغم من استهجان تزويج بنات الخلفاء من غير ذوي قرباهم. فرفض الفضل العرض، وشكر المأمون، وجهد المأمون الجهد كله في إقناعه، فلم يفلح!. وقال له: لو صلبتني ما فعلته(2) فإن عرضه هذا، وجهده في إقناعه ما كان إلا شركاً منه للتجسس والإيقاع بالفضل على يدها، كما فعل بالجواد والرضا (عليه السلام).. وعندما لم يفلح في إقناع الفضل، وفشلت مؤامرته، دبر قضية حمام سرخس، ونحج في تدبيره ذاك كما عرفنا..
وقبل أن نمضي في الحديث يحسن بنا أن نشير إلى ما ذكره الأصفهاني في أغانيه، فيما يتعلق بمقتل الفضل، حيث قال ما ملخصه: إن إبراهيم ابن العباس الشاعر كان من خواص الفضل بن سهل. وجعله كاتباً لعبد العزيز بن عمران، فلما دبر المأمون قتل الفضل، وندب إليه عبد العزيز ابن عمران. علم إبراهيم بذلك، فأخبر به الفضل، فأظهره للمأمون، وعاتبه عليه.. وبعد قتل المأمون للفضل ولقتلته سأل من أين سقط الخبر للفضل، فعرف أنه من جهة إبراهيم، فطلبه، فاستتر، وتحمل إبراهيم بالناس على المأمون. وجرد في أمره هشام الخطيب المعروف بالعباسي،
____________
(1) مروج الذهب ج 3 ص 417، ويظهر أيضاً من: الفخري في الآداب السلطانية ص 218.
(2) الوزراء والكتاب ص 307.
ظاهرة قتل الوزراء:
وتحسن الإشارة هنا: إلى أن قتل الوزراء كان ظاهرة شائعة في حياة الخلفاء العباسيين، حتى إن أحمد بن أبي خالد الأحول امتنع بعد مقتل الفضل عن قبول اسم «وزير» مع قبوله بالقيام بكل أعمال الوزير ووظائفه.
وهنا لطائف وظرائف تتعلق بهذا المطلب، ليس هنا محل ذكرها.. ولنعد الآن للحديث عن موقف المأمون فنقول:
لا بد من العودة إلى سنة معاوية:
إنه رغم فشل المأمون في قضية حمام سرخس، لم ييأس، ولم يهن في الوصول إلى ما كان يطمح إلى الوصول إليه، فاستمر يعمل الحيلة ويدبر المكيدة للإمام (عليه السلام).
وكان عليه: أن لا يعرض نفسه للخطأ الذي وقع فيه في قضية الفضل، حيث أعلن القتلة في وجهه بأنه هو الذي أمرهم بقتله، مما كان سبباً في ثورة الجند عليه، تعرض لخطر عظيم جداً، لو لم يلتجئ إلى الإمام، الذي أنقذ موقفه، وفرق الناس عنه، كما تقدم..
ولم ير وسيلة أسهل وأسلم من تلك التي سنها سلفه معاوية، الذي
____________
(1) الأغاني ط الساسي ج 9 ص 31.
ودس إليه السم في العنب، أو في ماء الرمان، ومضى الإمام (عليه السلام) شهيداً، صابراً محتسباً.. وهذه هي نفس الطريقة التي تخلص بواسطتها، من قبل: محمد بن محمد، صاحب أبي السرايا، ولا نستبعد أنه قد دبر مثل ذلك في محمد بن جعفر، الذي مات هو الآخر ـ كالرضا (عليه السلام) والفضل بن سهل ـ في طريق بغداد(1).
كما ويلاحظ: أنه لما مات محمد بن جعفر نادى منادي المأمون: «ألا لا تسيئن الظن بأمير المؤمنين؛ فإن محمد بن جعفر جمع بين أشياء في يوم واحد. وكان سبب موته أنه جامع وافتصد، ودخل الحمام فمات»(2) وهكذا.. مات اللذان تكرههما بغداد، في نفس طريق بغداد.. ولم يعد هناك ما يعكر صفو العلاقات بينه، وبين بني أبيه العباسيين وأشياعهم، وأصبح باستطاعته أن يكتب إليهم:
«.. إن الأشياء التي كانوا ينقمونها عليه قد زالت، وأنهم ما نقموا عليه إلا بيعته لعلي بن موسى الرضا (عليه السلام) وقد مات، فارجعوا إلى السمع والطاعة، وإنه يجعل ولاية العهد في ولد العباس..»(3).
____________
(1) ولعل ابن قتيبة يشير إلى هذا في معارفه طبع سنة 1300 ص 133 حيث يقول: «وظفر بمحمد بن جعفر، فحمله إلى المأمون مع عدة من أهل بيته، فلم يرجع منهم أحد..»!!.
ولكننا نراه مع ذلك، عندما يؤتى بجنازة محمد بن جعفر قد نزل بين العمودين، وحمله! وقال: هذه رحم مجفوة منذ مأتي سنة، وصلى عليه وقضى دينه!!.. بل إننا لا نستبعد أن يكون هو المدبر لشائعة عقليه السوداء على الحسن بن سهل أخي الفضل. وهكذا.. فيكون قد قضى على كل أولئك الذين تكرههم بغداد وتخشاهم، وتخلص منهم واحداً بعد الآخر.
(2) تاريخ جرجان ص 404 (3) راجع في ذلك: الطبري ج 11 ص 1030، والبداية والنهاية ج 1 ص 249،
=>
رجع إلى بغداد، فأطاعته، وانقادت له، لأنه قضى على من كانت تخافهم، وتخشاهم، وحقق لها ما كانت ترجوه، وتصبو إليه، وغفرت له قتله أخاه، ونسيته حتى كأنه أمر لم يكن!.. بل لقد أصبحت ترى أنه أفضل من أخيه الأمين، لأنه استطاع أن يثبت أقدام بني أبيه في الحكم والسلطان إلى ما شاء الله..
رجع إلى بغداد، إلى بني أبيه، لأن رجوعه إليهم كان ضرورياً، من أجل أن يرجع إليهم اعتبارهم من جهة.. ولأنهم هم الدرع الواقي له، والحصن الحصين من جهة أخرى.. هذا بالإضافة إلى أن خلافة لا تكون بغداد مقراً لها ليست في الحقيقة بخلافة. إلى غير ذلك من أمور واعتبارات.
نبوءة الإمام (عليه السلام) قد تحققت:
هذا.. وكما تنبأ الإمام (عليه السلام) من قبل بأن أمر البيعة لا يتم، وتنبأ أيضاً بأنه يموت ويدفن بخراسان.. لم يكن ليصعب عليه أن يتنبأ بأن المأمون سوف يقدم في النهاية على ما أقدم عليه: من الاعتداء على حياته (عليه السلام) سيما وأنه كان على علم أكثر من أي إنسان آخر بحقيقة نوايا المأمون وأهدافه.. وبالفعل نرى الإمام (عليه السلام) يصرح بذلك في أكثر من مورد، وأكثر من مناسبة، حتى للمأمون نفسه، كما تقدم..
____________
<=
وتاريخ الخلفاء ص 307، وابن الأثير ج 5 ص 193، والفخري الآداب السلطانية ص 218، وتاريخ أبي الفداء ج 2 ص 24، وتاريخ ابن خلدون ج 3 ص 250، والنجوم الزاهرة ج 2 ص 173، وغير ذلك، وتجارب الأمم ج 6 ص 444.
الحقد الدفين:
وأخيراً.. فإن ما أقدم عليه المأمون من الغدر بالإمام (عليه السلام) ودس السم له لخير دليل على فشل المأمون في سياسته، الفضل المزري والمهين.. حتى إنه عندما عجز عن أن ينال من الإمام (عليه السلام) حياً أراد أن ينال منه ميتاً، بدافع من حقده الدفين، الذي لم يعد يستطيع أن يتحمل مضاعفاته، فكتب إلى السري عامله على مصر، يخبره بوفاة الرضا، ويأمره بغسل المنابر، التي دعي له عليها، فغسلت.. كما تقدم.. وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على أن الحقد كان قد أكل قلبه، وأعمت البغضاء بصره وبصيرته..
كما أنه يدل على خسة في النفس، وإسفاف في التفكير، وشعور بالعجز، وبالنقص أيضاً..