كاد المريب أن يقول: خذوني
ومع غض النظر عن كل ما تقدم:
لسوف نغض النظر هنا عن تصريحات المأمون الدالة على أنه سوف يدبر في الإمام بما يحسم عنه مواد بلائه، وعن تأكيدات الإمام وتصريحاته بأنه سوف يموت شهيداً بسم المأمون، حتى لقد واجه نفس المأمون بذلك، لكنه تجاهل الأمر، وغير الحديث(1).
ولسوف نغض النظر أيضاً عن اعتراف المأمون نفسه بأن الإمام (عليه السلام) لم يمت حتف أنفه، وإنما مات مقتولاً بالسم، وأن قتلته هما عبيد الله، والحمزة، ابنا الحسن(2) واللذان لم يكن بينهما وبين الإمام (عليه السلام) ما يوجب ذلك.. بل إن كان لهما دور ما، فإنما هو بإشارة من يهمه مثل هذا الأمر..
بل لقد ورد أن المأمون رمى بنفسه على الأرض، وجعل يخور كما يخور الثور، ويقول: «ويلك يا مأمون، ما حالك، وعلى ما
____________
(1) راجع: عيون أخبار الرضا ج 2 ص 140، والبحار ج 49 ص 149، وعلل الشرايع ج 1 ص 237، وأمالي الصدوق ص 42، 43، وغير ذلك.
(2) راجع: غيبة الشيخ الطوسي ص 49، والبحار ج 49. ص 306.
لسوف نغض النظر عن كل ما تقدم، وحتى عن رسالته للسري، عامله على مصر، والتي أشرنا إليها غير مرة..
والذي نريده هنا:
ولا نريد هنا إلا أن نضع بعض علامات استفهام على بعض تصرفات المأمون، وأقواله حين وفاة الإمام (عليه السلام)، حيث رأيناه: قد ارتبك في أمر وفاة الرضا (عليه السلام) أشد ما يكون الارتباك..
الأسئلة التي لن تجد جوابا:
فأول ما يطالعنا من الأسئلة هو أنه: لماذا يستر موت الرضا (عليه السلام) يوماً وليلة؟!(2).
ولماذا يقول للإمام، وهو بعد لم يمت: «.. ما أدري أي المصيبتين علي أعظم، فقدي إياك، أو تهمة الناس لي: أني اغتلتك وقتلتك»(3)؟!.
____________
(1) إثبات الوصية للمسعودي ص 209.
(2) مقاتل الطالبيين ص 567، وكشف الغمة ج 3 ص 72، وروضة الواعظين ج 1 ص 277، والبحار ج 49 ص 309، وإرشاد المفيد ص 316.
(3) مقاتل الطالبيين ص 572، وإرشاد المفيد ص 316، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 241، والبحار ج 49 ص 299. وعبارة مقاتل الطالبيين: «وأغلظ من ذلك علي، وأشد: أن الناس يقولون: إني سقيتك سماً».
ولماذا يحضر محمد بن جعفر، وجماعة من آل أبي طالب، ويشهدهم على أن الرضا مات حتف أنفه، لا مسموماً(2)؟!.
ولماذا يبقى على قبره ثلاثة أيام!! يؤتى! كل يوم برغيف واحد وملح ليأكله!. الأمر الذي لم يفعله حتى عندما مات أبوه الذي ولد منه، وأخوه الذي قتله، وفعل برأسه ما فعل؟!.
وهل يمكن أن نصدقه حينما نسمعه يقول: «وقد كنت أؤمل أن أموت قبلك»(3)!. هذا مع علمه بأن الإمام (عليه السلام) كان يكبره ب «22» سنة؟! أم أن وقع المصيبة جعله يتكلم بما لا معنى له، ولا واقع وراءه؟!.
ولماذا أيضاً: يجبره على أكل العنب بعد امتناع الإمام (عليه السلام) من أكله، ثم يقول له: «لا بد من ذلك، وما يمنعك منه، لعلك تتهمنا بشيء؟! «وبعد أن أكل منه الإمام (عليه السلام) قام، فقال له المأمون: إلى أين؟ قال (عليه السلام): إلى حيث وجهتني..»(4)؟!
ولماذا؟ ولماذا؟ إلى آخر ما هنالك مما يضيق عنه المقام..
____________
(1) إعلام الورى ص 325، وإرشاد المفيد ص 316، ومقاتل الطالبيين ص 566، والخرائج والجرائح طبعة حجرية ص 258، وغير ذلك..
(2) روضة الواعظين ج 1 ص 277، ومقاتل الطالبيين ص 567، وإرشاد المفيد ص 316، وكشف الغمة ج 3 ص 72 و 123. والبحار ج 49 ص 309، وإعلام الورى ص 329.
(3) نفس المصادر السابقة باستثناء كشف الغمة.
(4) أمالي الصدوق ص 393، وروضة الواعظين ج 1 ص 274، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 243، وإعلام الورى ص 226، والبحار ج 49 ص 301، وغير ذلك.
كاد المريب أن يقول: خذوني:
وبعد.. فهذه بعض الأسئلة، التي تدور حول تصرفات المأمون عند استشهاد الإمام (عليه السلام).. تحتاج إلى جواب.. وأنى لها من المأمون الجواب الصحيح، والصريح. ولكن مواقفه وتصرفاته هذه، هي الجواب الكافي والشافي، فلقد قيل، وما أصدق ما قيل: «كاد المريب أن يقول: خذوني.. كما أن المؤرخين بدورهم قد أجابوا عنها بكل صراحة أحياناً، وباللف والدوران ـ لأسباب مختلفة ـ أحياناً أخرى..
فإلى الفصل التالي، لنقف على بعض أقوال ومواقف المؤرخين، بالنسبة لسبب وفاة الإمام (عليه السلام)..
ما يقال حول وفاة الإمام (عليه السلام)
ماذا ترى بعض الفرق في الحكام:
قبل كل شيء نود أن نشير إلى أمر مهم، كنا قد أشرنا إليه من قبل، وله ـ إلى حد ما ـ صلة فيما نحن بصدده.. وهو: أن بعض فرق المسلمين ترى: أن الحكام تجب طاعتهم، ولا تجوز مخالفتهم، والقيام ضدهم، والوقوف في وجههم بحال من الأحوال.. مهما كانت هويتهم، وأيا كان سلوكهم، حتى ولو أنهم ارتكبوا أعظم المحرمات، وانتهكوا جميع الحرمات..
أي.. أنهم حتى لو قتلوا الأبرياء ـ ولو كانوا أبناء محمد ـ، وهدموا الكعبة.. مع ذلك كله ـ تجب طاعتهم، ولا تجوز مخالفتهم، ولا الوقوف في وجههم..
هكذا.. تعتقد الفرق الإسلامية ـ كما قلنا ـ.. ومن المؤسف جداً أن من هؤلاء الفرق: أهل الحديث، وعامة أهل السنة، قبل الإمام الأشعري، وبعده. وهو أيضاً قائل بهذه المقالة ومعتقد بهذه العقيدة..
ولقد أيدوا هذه العقيدة بمختلف أنواع التأييد، حتى لقد وضعوا في
انعكاسات هذه العقيدة على التراث:
وطبيعي أن ينعكس ذلك إلى حد كبير على كتابهم ومؤرخيهم(1)، وحتى على علمائهم، وفقهائهم أيضاً، حيث كان لا بد لهم من التستر على كل هفوات أولئك الحكام. وكل مخازيهم وموبقاتهم، مما كان من نتيجته ـ بطبيعة الحال ـ إخفاء كثير من الحقائق، وطمسها، حتى إذا لم يتمكنوا من ذلك، تراهم يحاولون اللف والدوران، وتوجيهها بما لا يسمن ولا يغني من جوع.. هذا إن لم تخولهم غيرتهم، وتدفعهم حميتهم إلى تشويهها، والتغيير والتبديل فيها، بحيث تبدو مستهجنة، وغريبة. ولتسقط من ثم عن الاعتبار.. وقد يختلقون في كثير من الأحيان في مقابلها، ما ينسجم مع نظرتهم الضيقة، وتعصبهم المقيت، أو يوافق هوى نفوسهم، ويرضي حكامهم، الذين كانوا يرون أنهم يقربونهم من الله زلفى.
إخفاء كل الحقائق عن الأئمة (عليهم السلام):
ولقد أراد الحكام ـ لسبب أو لآخر ـ إخفاء كل الحقائق التي ترتبط بالأئمة الأطهار (عليهم السلام)، أو تشويهها، فكان لهم ما أرادوا، ووجدوا من العلماء، والكتاب، والمؤرخين، من لا يألوا جهداً، ولا يدخر وسعاً من أجل تنفيذ إرادتهم تلك، التي يرون: أنها إرادة الله
____________
(1) راجع تمهيد الكتاب..
وليس ذلك لأنهم (عليهم السلام) كانوا غير مشهورين، ولا معروفين.. أو لأنهم ممن لا يعتنى بشأنهم، ولا يلتفت إليهم.. لا.. أبداً.. فقد كان ذكرهم يسري في جميع الآفاق في الدولة الإسلامية المترامية الأطراف: إما حباً وتشيعاً، وأما عداءاً ونصباً..
وقذ ذكر الجاحظ في رسالته: «فضل هاشم على عبد شمس» ـ وهو الكاتب المعروف في عصره، وبعد عصره.. وحتى الآن، والذي تعرض في كتبه لمختلف الموضوعات التي شاع التكلم بها في زمانه، ومنها موضوع رسالته المشار إليها. والذي كان يظهر الحياد في كتاباته، وإن كان المعتزلة ـ أهل نحلته ـ مثل الإسكافي وغيره يتهمونه بالنصب والعداء لأهل البيت (عليهم السلام). ومما يدل على نصبه وتعصبه: أنه قد ألف كتاباً في نقض فضائل الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)(1) ـ الجاحظ هذا ـ يقول في رسالته المشار إليها: «.. ومن الذين يعد من قريش، أو من غيرهم، ما بعد الطالبيون في نسق واحد، كل واحد منهم: عالم، زاهد، ناسك، شجاع، جواد، طاهر، زاك، فمنهم خلفاء، ومنهم مرشحون: ابن، ابن، ابن، ابن. هكذا إلى عشرة.. وهم: الحسن بن علي، بن محمد، ابن علي، بن موسى، بن جعفر، بن محمد، بن علي، بن الحسين، ابن علي. وهذا لم يتفق لبيت من بيوت العرب، ولا من العجم إلخ..»(2).
____________
(1) مروج الذهب ج 3 ص 237.
(2) آثار الجاحظ ص 235.
وتوفي الجاحظ قبل وفاة العسكري بخمس سنين.
وقد كان عمره (عليه السلام) عندما ألف الجاحظ رسالته في حدود اثنتين وعشرين سنة، لو فرض أن الجاحظ كان قد ألفها في آخر يوم من أيام حياته..
ولم يكن الإمام العسكري أنبه. ولا أشهر من آبائه الطاهرين (عليه السلام)، سيما الإمام علي، والحسن، والصادق، والرضا (عليهم السلام). بل كان الأئمة (عليهم السلام)، بعد الرضا (عليه السلام) ـ مع نباهة شأنهم، وعلو أمرهم ـ يسمون: ب «ابن الرضا»، وذلك يدل على أنه (عليه السلام) كان أنبه من أبنائه الطاهرين، فكان يقال ذلك ـ يعني: ابن الرضا ـ للجواد، والهادي بعده، بل وللعسكري أيضاً(1)، ويؤيد ذلك قول أبي الغوث، أسلم بن مهوز المنبجي في داليته المعروفة، التي يمدح فيها أئمة سامراء (عليهم السلام):
إذا ما بلغت الصادقين بني الرضا | فحسبك من هاد يشير إلى هاد(2) |
نعم.. إن هؤلاء الأئمة، الذين كان يسري ذكرهم في الآفاق، قد لا تجد حتى أسماءهم في كثير من الكتب التاريخية.. مع أنك تجد ما شاء الله. من قصص المغنين، والجواري، والأعراب، بل وحتى قطاع الطرق، مما لا يسمن، ولا يغني من جوع.
____________
(1) راجع: قاموس الرجال ج 10 ص 248. والرسالة التي في آخر ج 11 من قاموس الرجال ص 58.
(2) سفينة البحار ج 2 ص 529، والكنى والألقاب ج 1 ص 133.
هذا.. ولم يكن المجال مفسوحا أمام شيعة أهل البيت (عليهم السلام)، ليتمكنوا من إظهار الحقائق كاملة، وذلك بسبب ملاحقة الحكام لهم. ومحاولات القضاء عليهم أينما كانوا، وحيثما وجدوا، وبأي ثمن كان.. ومن قبلهم القضاء على أئمتهم أئمة الهدى، وقادتهم، القادة إلى الحق.
ويبقى هنا سؤال:
لماذا إذن كان يهتم الخلفاء بالعلماء، ويرسلون إليهم يستدعونهم من مختلف الأقطار والأمصار؟!.. وكيف لا يتنافى ذلك مع اضطهادهم الأئمة، أئمة أهل البيت، وشيعتهم ومواليهم؟!، ومحاولاتهم تصغير شأنهم، وطمس ذكرهم؟!.
سر اهتمام الخلفاء بأهل العلم:
وللإجابة على هذا السؤال نقول: إن سر اضطهادهم لأهل البيت (عليهم السلام) يعود: أولاً: إلى أن الحق في الحكم كان لأهل البيت، من كل جهة، فالقضاء معناه القضاء على ذلك الحق، وتكريس الأمور لهم. وفي صالحهم..
وثانياً: إلى أن الأئمة (عليهم السلام) ما كانوا يؤيدون أولئك الحكام، ولا يرضون عن أعمالهم، وسلوكهم الذي كان يتنافى مع مبادئ الإسلام وتعاليمه..
إلى غير ذلك من أمور يمكن استخلاصها من الفصول الأولى من الكتاب..
وأما السبب في تشجيعهم ـ في تلك الحقبة من الزمن للعلم والعلماء فإنه يعود إلى أهداف سياسية معينة. وفي الحدود التي كانت لا تشكل عليهم خطراً في الحكم، لأن الحكم كان في نظرهم هو كل شيء، وليس قبله ولا بعده شيء، وكل ما في الوجود يجب أن يكون من أجله، وفي خدمته، حتى العلماء والمفكرون.
ولم يكن جمعهم للعلماء من حولهم. والإتيان بهم من كل حدب وصوب، إلا:
1 ـ ليكون أولئك العلماء، الذين يمثلون الطليعة الواعية في الأمة تحت نظرهم، وسيطرتهم.
2 ـ ليتمكنوا بواسطتهم من تنفيذ الكثير من مخططاتهم، والوصول إلى كثير من مأربهم، كما تشهد به الأحداث التاريخية الكثيرة..
3 ـ ليظهروا للناس بمظهر المحبين للعلم والعلماء، ليقوى مركزهم في نفوسهم، وتتأكد ثقتهم بهم، إذ كان لا بد لهم، بعد أن تركوا أهل البيت (عليهم السلام). من الاستعاضة عنهم بغيرهم، ودفع شكوك وشبهات الناس عن أنفسهم..
4 ـ محاولة التشويش بذلك على أهل البيت (عليهم السلام)، وطمس ذكرهم، وإخفاء أمرهم، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.. ولكن.. يأبى الله إلا أن يتم نوره.
ويتفرع على ما سبق:
وإذا تحقق لدينا أنهم إنما كانوا يقدرون العلم والعلماء لأهداف سياسة معينة كما أوضحنا.. فلسوف لا نستغرب إذا رأينا: أنهم كانوا إذا شعروا بالخطر يتهددهم من قبل أية شخصية، ولو كانت علمية، لا يترددون في القضاء عليها، والتخلص منها، بأي وسيلة كانت.
قال أحمد أمين: إن المنصور كان «يقرب المعتزلة إذا شاء، ويقرب المحدثين والفقهاء، ما لم تقض تعاليم أحدهم بشيء يمس سلطانه، فهناك التنكيل..»(1).
وقال السيد أمير علي: «.. كان خلفاء بني العباس يسحقون كل اختلاف معهم في الرأي بصرامة. وحتى الفقهاء المعاصرون كانوا عرضة للعقاب، إذا تجرأوا على الافصاح عن رأي لا يتفق ومصلحة الحاكمين»(2).
ولقد رأينا المنصور يدس السم لأبي حنيفة، ويضيق على الإمام الصادق ـ الذي لم يبايع لمحمد بن عبد الله العلوي ـ، وضيق على من تلاه من ذريته، ولاحق تلامذته ومحبيه. لكنه لم يقتل عمرو بن عبيد، ولا أهانه بل مدحه بقوله:
كلكم يطلب صيد | غير عمرو بن عبيد. |
رغم أن عمراً هذا قد بايع لمحمد بن عبد الله العلوي، ورغم أن مذهبه يفرض عليه الخروج على النظام، لأن من أصول المعتزلة الخمسة،
____________
(1) ضحى الإسلام ج 3 ص 202، ولا بأس أيضاً بمراجعة ج 2 ص 46 و 47.
(2) روح الإسلام ص 302.
عودة على بدء:
قلنا: إن الحكام كانوا يريدون ـ لسبب أو لآخر ـ إخفاء كل الحقائق التي ترتبط بالأئمة (عليهم السلام)، أو تشويهها، فكان لهم ما أرادوا على أيدي حفنة ممن يطلق عليهم اسم: «علماء»، فتلاعبوا، ودسوا، وشوهوا ما شاءت لهم قرائحهم، وأوحاه لهم تعصبهم المذهبي المقيت..
ولعلنا لا نعدو الحقيقة إذا قلنا: إن ابن الأثير، والطبري،
____________
(1) يرى البعض: أن الخلفاء كانوا يحاولون إلقاء أسباب النزاع بين العلماء، بهدف صرفهم عن واقع الأمة، وعما يجري ويحدث في مخادع الخلفاء، وداخل قصورهم. ولعل ذلك هو السر في عنايتهم بالترجمة، وإدخال الثقافات الغربية إلى البلاد الإسلامية.. ولذا رأينا الكثيرين من المؤرخين غير راضين عن أعمال الترجمة تلك كالمقريزي في النزاع والتخاصم ص 55، وغيره.. ولكل ما ذكرنا شواهد تاريخية كثيرة، ليس هنا محل ذكرها، ولعلنا نوفق ذلك في مجال آخر..
ولعل من جملة سقطات هؤلاء الشنيعة، التي لم يخف على أحد تعصبهم فيها، وانقيادهم للحكام، والهوى الأعمى في بيانها، قضية: «كيفية وفاة الإمام الرضا (عليه السلام)..»، حيث ذكروا: أن سبب وفاته (عليه السلام) هو أنه: «أكل عنباً، فأكثر منه، فمات..»(1).
وكان ابن خلدون، الأموي النزعة، يريد أن يتابعهم في ذلك، حيث قال في تاريخه: «ولما نزل المأمون مدينة طوس، مات علي الرضا فجأة، آخر صفر من سنة ثلاث ومائتين، من عنب أكله»(2).
ولعله نسي ما ذكره هو نفسه من ثورة إبراهيم بن موسى على المأمون لاتهامه إياه بقتل أخيه. كما سيأتي.
ما عشت أراك الدهر عجبا:
وهو كلام عجيب حقاً:
فهل يعقل ويتصور أن يصدر هذا العمل من أي إنسان عادي، فضلاً عن الإمام، الذي شهد بعلمه، وحكمته، وزهده، كل من عرفه، وكل من أتى من المؤرخين على ذكره؟!.
____________
(1) الكامل ج 5 ص 150، والطبري ج 11 ص 1030، وتاريخ أبو الفداء ج 2 ص 23، ومختصر تاريخ الدول ص 134، ومرآة الجنان ج 2 ص 12، ووفيات الأعيان طبع سنة 1310 ه ج 1 ص 321. لكن بعضهم قد حكى سمه بلفظ: قيل..
(2) تاريخ ابن خلدون ج 3 ص 250.
وهل عرف عن الإمام في سابق عهده: أنه كان أكولاً، أو نهماً إلى هذا الحد؟!، أي إلى حد أنه ينتهي به ذلك إلى قتل نفسه؟!.
أم أن الزهد والتقوى والعلم، فضلاً عن العقل والحكمة. تقضي وتحتم عليه أن يأكل هذا المقدار الهائل، الذي من شأنه أن يودي بحياته؟!.
أم أن الإمام (عليه السلام) قد نسي ما كتبه في رسالته الذهبية، التي كتبها للمأمون، والتي هي من أشهر وأجل الوثائق المأثورة عنه؟!.
أم أنه (عليه السلام) لم يكن قد رأى العنب في حياته، فأراد أن يغتنم هذه الفرصة الذهبية، لينال أكبر قدر تصل إليه يده؟!.
لا.. لا هذا، ولا ذاك. ولا ذلك. وإنما العصبية المذهبية، والهوى الأعمى.. هما اللذان فرضا على الإمام (عليه السلام) أن يأكل العنب، ويكثر منه، ويموت هذه الميتة.. حتى ولو لم يقبل بها العقل، ويصدق بها الوجدان..
إن الإمام (عليه السلام) لو كان هو الحاكم، والمتسلط لم يمت هذه الميتة، بل كان مات على حسب ما اشتهى، وبالكيفية التي أراد..
دعك من هؤلاء وأمثالهم، فإنني لا أرى: أن كلاماً كهذا يستحق من العناية أكثر من ذلك.. بل لا رأى أنه يستحق شيئاً من العناية على الإطلاق..
دعك منه.. وذره لأهله في سنبله!.
وتعال معي لننظر إلى ما يقوله الآخرون، ممن أرخوا للأمة، وتحدثوا عن ماضيها، فقد نجد في كلامهم ما ينقع الغلة، ويشفي الغليل..
قول فريق آخر من المؤرخين:
وإننا بعد إلقاء نظرة سريعة وعابرة على أقوال المؤرخين في هذا المجال، نستطيع أن نلاحظ: إلى أي حد اضطربت كلماتهم في هذه القضية، وتباينت اتجاهاتهم.
فعدا عن أولئك القلة الذين تحدثنا عنهم آنفاً نرى: فريقا ثانياً قد أوردوا خبر وفاته مجرداً عن بيان السبب، ثم سكتوا، أو عقبوا ذلك بقولهم: «وقيل: إنه مات مسموماً» ومن هؤلاء اليعقوبي في تاريخه ج 3 ص 80، وإن كان يظهر من عبارته اختيار مسموميته، وابن العماد في شذرات الذهب، وغيرهم.
ولعل هؤلاء ممن جازت عليهم لعبة المأمون، وانطلت عليهم حيلته، وأقنعتهم الحجج الواهية الآتية التي يسوقها الفريق القائل ببراءة المأمون من دم الرضا (عليه السلام).. أو لعلهم لم يكونوا بصدد بحث هذا الأمر وتمحيصه..
أو لأنهم لم يستطيعوا أن يصدعوا بالحقيقة، لما كانوا يخشونه من سطوة الحكام، وبطشهم، ولم يريدوا أن يحرفوا الكلم عن مواضعه، فآثروا السكوت، وإهمال ذلك، على أمل أن يقيض الله من يصدع بالحق ويكشف عن الواقع.. إلى غير ذلك من الاحتمالات، التي قد يجد بعضها شواهد تاريخية كثيرة.
رأي فريق ثالث في ذلك:
وهناك فريق آخر يرى أنه (عليه السلام) مات مسموماً، وأن الذي دس إليه السم هم العباسيون. وهذا هو رأي السيد أمير علي، وأشار إليه
وهذا الرأي ليس له أي شاهد أو سند تاريخي إلا ما نقل عن الإربلي أنه قال: «فلما رأوا أن الخلافة قد خرجت إلى أولاد علي، سقوا علي بن موسى سماً، فتوفي بطوس في رمضان»(2). وهو عدا عن أنه كلام مبهم، فإن، الشواهد كلها على خلافه.. كما قدمنا وسيأتي. ولذا فهو لا يحتاج إلى كبير عناء في رده وتفنيده.
ورأي آخر يقول:
إنه (عليه السلام) مات مسموماً من قبل المأمون، ولكن بإشارة الفضل، وإغرائه.
ونرى نحن بدورنا: أن المأمون لم يكن بحاجة إلى حث وإغراء، بعد أن كان يرى أن وجود الإمام (عليه السلام) يشكل خطراً محققاً عليه، وعلى كل بني أبيه من بعده. ونحن ـ وإن كنا لا نستبعد أن يكون هذا الرأي قد جاء بدافع من حب تبرئة المأمون ـ السلطة ـ إلا أننا لا نضايق في أن الفضل، الذي قتل قبل الإمام (عليه السلام) بمدة!! كان من الراغبين في التخلص من الإمام، سيما إذا لاحظنا: أنه كان يشكل عقبة كبرى في طريق نفوذه وقوته وسلطانه.. ولكننا لا نوافق على أن المأمون كان لا يريد ذلك، وإنما فعله استجابة لرغبة الفضل، الذي كان قد قتل قبل ذلك بزمان!!.
____________
(1) روح الإسلام للسيد أمير علي ص 311، 312. وأما أحمد أمين فقد أشار إليه في عبارته الآتية عما قريب بقوله: «فإن كان حقاً قد سم، يكون سمه أحد غير المأمون، من دعاة البيت العباسي».
(2) الإمام الرضا ولي عهد المأمون ص 102، عن خلاصة الذهب المسبوك ص 142.
ورأي فريق خامس يقول:
إنه (عليه السلام) قد مات حتف أنفه، ولا يقبل أبداً بأنه (عليه السلام) مات مسموماً، ويورد لذلك الحجج والبراهين التي رأى أنها كافية للدلالة على أنه (عليه السلام) لم يمت مسموماً.
ونذكر من هؤلاء ابن الجوزي، حيث قال ـ بعد أن أورد خبر وفاته، وحكى القيل بأنه دخل الحمام ثم خرج، فقدم له طبق فيه عنب قد أدخلت فيه الإبر المسمومة، من غير أن يظهر أثرها، فأكله، فمات ـ قال بعد ذلك: «وزعم قوم: أن المأمون سمه، وليس بصحيح. فإنه لما مات علي توجع له المأمون، وأظهر الحزن عليه، وبقي أياماً لا يأكل طعاماً، ولا يشرب شراباً(1)، وهجر اللذات إلخ..»(2).
لكن عبارة سبط ابن الجوزي هذه تقتضي أنه ينكر أن يكون المأمون هو الذي سمه، ولا ينكر أن يكون (عليه السلام) قد مات بسم غير المأمون.
وقد تابعه الإربلي في كشف الغمة على ذلك، محتجاً بعين ما احتج به، وأضاف إلى ذلك: أن سمه إياه يتنافى مع إكرامه له، وأنه كان ينبه على علم الرضا، وشرف نفسه وبيته إلخ..
____________
(1) في تاريخ اليعقوبي ج 3 ص 81: أن المأمون بقي ثلاثة أيام مقيما عند قبر الرضا (عليه السلام)، يؤتى كل يوم برغيف وملح، فيأكله. ثم انصرف في اليوم الرابع.
(2) تذكرة الخواص ص 355.
ثم استشهد لذلك أيضاً بمناظرة المأمون للعلماء في تفضيل الإمام علي (عليه السلام)، والتي ذكرها ابن عبد ربه في العقد الفريد، وبأنه ظل يظهر العطف على العلويين، رغم كثرة خروجهم عليه(1).
وصاحب كتاب عصر المأمون يستند في استبعاده لذلك إلى تلك الرعاية، التي أظهرها المأمون له، وذلك الاحترام والتقدير، الذي كان يحيطه به، وخصوصاً بعد أن توثقت عرى المودة بينهما بالمصاهرة، ويضيف إلى ذلك أيضاً: أن نفسية المأمون، وخلقه، يأبيان ـ على زعمه ـ عليه ذلك.
وعقد ولاية العهد له من بعده هو عند هؤلاء الدليل القاطع على حسن نية المأمون، وسلامة طويته.
والدكتور أحمد محمود صبحي يرى: أن قضية مسمومية الرضا (عليه السلام) هي من مختلقات الشيعة «الذين لم يجدوا تناقضاً بين الحظوة التي كان ينالها من المأمون، ثم مبايعته له بولاية العهد، وتزويجه أخته(2)، وبين أن يدس له المأمون السم في العنب، ثم يصلي عليه، ويدفنه بجوار قبر أبيه الرشيد، فقد أصبح مقدرا على الأئمة منذ الحسن: أن يكون قاتلوهم هم: الخلفاء، أو بإيعاز منهم»(3).
____________
(1) ضحى الإسلام ج 3 ص 295، 296.
(2) قد اتفق المؤرخون تقريباً على أن المأمون قد زوج للرضا (عليه السلام) «ابنته» وليس أخته. ولم يذكر أنها أخته إلا شاذ منهم لا يعتد به، وهو الذي يتشبث به الدكتور هنا، ولعله لأنهم رأوا عدم انسجام سن الإمام مع سن ابنته آثروا أن يجعلوها أخته.. وأياً كانت الحقيقة فإن مقصود المأمون هنا حاصل..
(3) نظرية الإمامة ص 387.
ملخص ما سبق:
ومن أجل التسهيل على القارئ نعود فنوجز ما ذكروه من الأدلة في النقاط التالية:
1 ـ عقده له ولاية العهد من بعده..
2 ـ إكرامه وتقديره له، وتنبيهه على شرفه، وعلمه وفضله، وبيته.
3 ـ تزويجه ابنته، الأمر الذي كان سبباً في توثيق عرى المودة بينهما.
4 ـ احتجاجه على العلماء في تفضيل علي (عليه السلام) على جميع الخلق..
5 ـ إظهاره الحزن والتوجع لوفاته، وهجره الطعام والشراب، واللذات لذلك.
6 ـ دفنه له بجوار أبيه الرشيد، وصلاته عليه.
7 ـ بقاؤه بعد وفاته على لباس الخضرة حتى دخل بغداد.
8 ـ إنه ظل يظهر العطف على العلويين، رغم كثرة خروجهم عليه..
9 ـ إن نفسية المأمون وخلقه يأبيان عليه ذلك.
10 ـ إن ذلك من مختلقات الشيعة. حيث كتب على أئمتهم بعد الحسن أن يموتوا بسم الخلفاء، أو بإيعاز منهم.
آفة ذلك: هل هو الجهل، أم التعصب:
هذا ملخص أدلة ما ذهبوا إليه من عدم دس المأمون السم للإمام (عليه السلام)، ونحسب أن هؤلاء: إما أنهم لم يطلعوا على الحقائق اطلاعاً كافياً، يخولهم
وإما أنهم جروا على ديدن أسلافهم في التعصب على الأئمة (عليهم السلام)، والمجاراة لأهوائهم، ولخلفائهم في طمس معالم الحقيقة، التي كان يضر أولئك الخلفاء أكثر من غيرهم إظهارها، ومعرفة الناس لها..
نحن.. وما يقوله هؤلاء:
إن كان ما ذكره هؤلاء لا يمكن أن يمنع المأمون من التدبير في الإمام بما يحسم عنه مواد بلائه.. كما دبر من قبل بوزيره الفضل بن سهل، الذي أراد أن يزوجه ابنته، وكما دبر في قائده الكبير هرثمة بن أعين، الذي قتله فور وصوله إلى مرو، دون أن يستمع لشكواه، أو يصغي إلى دفاعه عن نفسه(1) وكما دبر فيما بعد بطاهر وأبنائه(2) وغيرهم،
____________
(1) هكذا ذكر بعض المؤرخين، وقال ابن خلدون في تاريخه ج 3 ص 245، و 249: إنه حبس، ثم دس عليه المأمون من قتله.. وفي معارف ابن قتيبة ص 133 طبع سنة 1300 ه.
قال: «.. فلما سمع حاتم بن هرثمة ما صنع أبوه كاتب الأحرار هناك. والملوك، ودعاهم إلى الخلافة، فبينما هو على ذلك أتاه الموت، فيقال: إن سبب خروج بابك كان ذلك..».
ومن يدري فلعل المأمون قد دبر بحاتم بما يحسم عنه مواد بلائه.. كما دبر في الكثيرين قبله وبعده..
وفي البداية والنهاية ج 10 ص 246: أن أهل بغداد ثاروا. وأعلنوا العصيان بسبب قتل هرثمة. هذا.. ويقال: إن الفضل بن سهل قد عمل على قتل هرثمة. ولا بأس بمراجعة تاريخ ابن الوردي ج 1 ص 289، وغيره.
(2) في البداية والنهاية ج 10 ص 260، ومرآة الجنان ج 2 ص 36، ووفيات الأعيان ج 1 ص 237، طبع سنة 1310: إن سبب وفاة طاهر هو أن المأمون عندما ولاه
=>